الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

الفيلم الإسرائيلي "لبنان" الفائز بالأسد الذهبي في فينيسيا


بقلم: أمير العمري

أعترف بداية أنني لم أنبهر بالفيلم الإسرائيلي "لبنان" Levanon الذي عرض في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي وحصل على جائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم.
صحيح أن زاوية الرؤية جديدة، إذا جاز التعبير، إلا ان الفيلم لا يقدم موضوعا جديدا، بل يدور داخل نفس الدائرة "الذاتية" التي يدور فيها كثير من الأفلام الإسرائيلية منذ سنوات طويلة قد ترجع إلى عام 1982 عندما قدم آموس جيتاي فيلم "يوميات حملة" الذي يعد حتى الآن أفضل تلك الأفلام وأقواها وأكثرها إدانة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، رغم أن جيتاي عاد بعد سنوات من فيلمه هذا وأفلام أخرى كانت تشي على الأقل، بموقف متوازن في تناول موضوع الصراع العربي الاسرائيلي أو تقديم الجانب "الآخر" منه مثل "بيت" و"وادي" وغيرهما، عاد لكي يأخذ بدوره دفة التبرير والتباكي بعد أن كان قد أعلن بوضوح "موت الحلم الصهيوني والحاجة إلى تجاوزه"!
أما فيلم "لبنان" فيقترب أكثر من فيلم السيرة التبريرية- إذا جاز التعبير المسمى "الرقص مع بشير"، وهو فيلم الرسوم الذي حقق أصداء كبيرة قبل أقل من عامين، وكان يسترجع تجربة صانعه ومخرجه آري فولمان، خلال الحملة العسكرية الإسرائيلية على لبنان في 1982 وخصوصا الجريمة الكبرى التي وقعت في صابرا وشاتيلا والتي تولى الفيلم تبرئة صانعه وزملائه منها والقائها بالكامل على عاتق ميليشيات حزب الكتائب اللبناني.
كان "الرقص مع بشير" مبتكرا في طريقة صنعه وأسلوب صانعه في التعبير عن ذكرياته بل وفي روايته لكيف نشأت الفكرة في ذهنه أصلا، فكرة عمل الفيلم. وكان أهم عنصر في هذا الفيلم يتعلق بفكرة "السينما العلاجية" أو الفيلم كوسيلة للعلاج therapeutical عن طريق استرجاع الذكريات ومواجهتها وبالتالي التخلص من كوابيسها للأبد.
فيلم " لبنان" بدوره مستمد من ذاكرة مخرجه وصانعه شاموئيل ماعوز Samuel Maoz الذي وجد نفسه داخل دبابة إسرائيلية مع ثلاثة من زملائه الشباب وهم في أوائل العشرينيات من عمرهم، في السادس من يونيو 1982، مطلوب منهم التوجه إلى بلدة لبنانية في الجنوب لمواجهة فصيل من المقاتلين الفلسطينيين.
تفاصيل المشاهد واللقطات ليست مهمة كثيرا لأنها عبارة عن تناسخ من بعضها البعض، أو عزف على النغمة نفسها، أي نغمة الحرب القاسية اللعينة التي تنتهك براءة هؤلاء الفتيان في عمر الزهور، وكيف أن القيادة مجرمة بينما الجنود ضحاياها فهم عاجزون عن التعامل مع الواقع الميداني بالعنف المطلوب لأنهم مجرد أولاد لم يشبوا عن الطوق بعد، لا يعرفون القتل، ولم يمارسونه من قبل، بل ويحجمون الآن عن ممارسته في مواجهة الطرف الآخر "العدو"، مما يتسبب في مقتل أحد زملائهم.
ويصورالفيلم كيف أصبح المدنيون اللبنانيون ضحايا لقوات المقاومة الفلسطينية التي تستولي على منازلهم وتحولها إلى مواقع قتالية مما يجعل الإسرائيليين يضطرون إلى قصفها على مضض، مع التأكيد على "تفادي المدنيين"، وكيف يسارع جندي اسرائيلي إلى إنقاذ امرأة لبنانية بعد أن اشتعلت النيران بثوبها، ثم كيف يدفعها دفعا بعيدا عن مرمى النيران.
في مقابل الواقع الذكوري الخشن، القاسي، العنيف، في ساحة حرب يصورها الفيلم باعتبارها حربا "عبثية لا هدف لها، يتذكر أحد أفراد طاقم الدبابة الإسرائيلية كيف يمكن أن تكون أمه الآن واقفة أمام صورته وهو طفل، تتأملها في يأس وتمزق، قبل أن تتناول حبة الفاليوم (دواء مهديء) لكي يساعدها على النوم بينما هو بعيد عنها لا تدري أي مصير ينتظره.
جندي آخر يتذكر كيف أن أمه كانت تحتضنه وهو صغير فيشعر بالرغبة الجنسية، وكيف أنها من فرط حبها له وإحساسها بلوعته، كانت تساعده على التخلص من الرغبة عن طريق حك جسده بجسدها إلى أن تنقضي فورة الرغبة عنده!
لقد أصبح طاقم الدبابة التي توغلت في منطقة سكنية ثم بدا لبعض الوقت أنها أيضا تعطلت، سجناء داخل تلك الدبابة وقد انقطعت بهم السبل، فلا هم يستطيعون التحرك للخروج من المأزق، ولا تستطيع قيادتهم الاستجابة لهم بارسال طائرة مروحية لانقاذهم. لأن "هناك بعض السوريين في المنطقة" كما يقولون.
أحد هؤلاء الجنود السوريين يتم أسره بعد أن يطلق قذيفة تصيب الدبابة دون أن تعطبها تماما. يمسكون به ويضعونه معهم داخل الدبابة. يهدأون من روعه، يحاولون التحدث إليه، لكنه لا يستطيع فهم العبرية، وهم لا يمكنهم الحديث بالعربية.
وعلى غرار ما نراه على نطاق أوسع في فيلم "الرقص مع بشير" تتكرر الفكرة هنا أيضا عندما يأتي أحد مقاتلي الكتائب، يهبط إلى الدبابة الإسرائيلية هكذا بكل بساطة، ويأمر الإسرائيليين بالخروج فورا من هذه المنطقة، ويصر على أن يتحدث إلى الأسير السوري موهما الاسرائيليين أنه عقد صفقة مع السوريين على تسليمهم إياه مقابل السماح لهم بالخروج.
وينفرد الكتائبي بالسجين السوري وهنا يتحدث إليه بالعربية، يهدده ويتوعده ببئس المصير: سأربط ساقيك إلى عربتين ثم أمزق جسدك تمزيقا، سأتبول عليك قبل أن أحرق جثتك..إلخ
يرفض الإسرائيليون تسليم السوري له، وينصرف اللبناني على وعد بانتظارهم عند نقطة ما. أحدهم يحاول أن يعطي الجندي السوري سيجارة، لكنه يرفض بل ويأخذ في الدق برأسه على جسم الدبابة مرددا كلمات تعكس هلعه وفزعه من المصير المنتظر، إلا أن الجنود يهدئون من روعه بل ويحقنونه بمادة مهدئة تساعده على الاسترخاء والنوم.
هذه هي الصورة التي يريد الفيلم توصيلها إلى جمهوره في الغرب عن الجندي الإسرائيلي: إنه ضحية قياداته التي تستخدم أسلحة محظورة مثل قنابل الفسفور رغم معارضته، وهو لا يريد سوى النجاة والعودة إلى أسرته، معاملته للعدو تتصف بالإنسانية والرقة والرفق، بل ويصور الفيلم في أحد مشاهده الرئيسية نوعا من "التمرد" من جانب الجنود على رئيسهم الضابط عندما يصر على ضرورة تحرك الدبابة فيما الفزع وانعدام الخبرة يجعل الجنود يعتقدون أن الدبابة لم تعد قادرة على التحرك.
ولاشك أن الفيلم مصنوع بشكل مؤثر: التصوير المتميز داخل ديكور دبابة بكل تفاصيلها الذي صنع خصيصا من أجل الفيلم، وفكرة تحويل الجنود إلى سجناء داخل الديكور الحديدي الضخم، حتى يصبحوا منعزلين تماما عما يجري خارج الدبابة، بل إن كل المناظر التي تحدث في الخارج نراها من خلال منظار الرؤية في الدبابة، أحيانا باستخدام الأشعة تحت الحمراء التي تتيح القدرة على الرؤية الليلية.
ولاشك أن هناك قدرة واضحة لدى المخرج على التحكم الكبير في أداء الممثلين، الذين تدربوا طويلا على الأداء، كما سمح لهم بنوع من الارتجال المحسوب خصوصا في المشاهد التي تنفجر بالصياح والمشاجرات والسباب، بعد أن حبسهم المخرج داخل الديكور لفترة طويلة، وأخذ يمارس عليهم نوعا من الضغوط العنيفة كما كشف خلال المؤتمر الصحفي للفيلم.

لكنه خلال نفس المؤتمر الصحفي لمناقشة فيلمه في فينيسيا فشل في تقديم إجابة مقنعة ردا على سؤال بشأن المشهد الخاص بالأسير السوري مع رجل الكتائب: هل ستترجم ما يقوله جندي الكتائب للجندي السوري في الفيلم عند عرضه في إسرائيل، إلى العبرية أم سيبقى بالإنجليزية.
مغزي السؤال واضح تماما وهو هل تريد للجمهور الإسرائيلي أن يعرف ما يقوله الكتائبي للسوري وما يوجهه له من إهانات بشعة وما يمثله المشهد من تحالف بين هؤلاء "القتلة"- من الكتائب- وهؤلاء "الأبرار" من الإسرائيليين؟!

صاموئيل ماعوز أجاب عن هذا السؤال قائلا إنه لا يعرف، وإن هذا الجانب يمثل مأزقا بالنسبة له ولصناع الفيلم. أي مأزق.. لا نعرف!
أما بعد فوزه بجائزة فينيسيا الكبرى فلم يذكر ماعوز في الكلمة التي ألقاها أي شيء يشير من أي زاوية، إلى معارضته الغزو والحروب التي يشنها الجيش الإسرائيلي، أو معارضة قتل المدنيين، والدعوة إلى السلام في رد واضح على الذين روجوا للفيلم باعتباره من الأفلام التي تدعو للسلام وتدين الحرب الإسرائيلية.
بدلا من ذلك قال ماعوز التالي: "لقد كنت في وضع لا مخرج منه. لكني مازلت أحمل مسؤولية التعامل مع ما حدث. بالنسبة لي، كان صنع الفيلم خطوة مؤلمة في التعامل مع المشكلة بدلا من إخفائها تحت البساط". لقد كان إذن يحاول حل مشكلة ذاتية تتعلق بجرح كائن في ذاكرته.
ثم يقول: "إنني أهدي هذا الفيلم إلى كل الذين اشتركوا في الحروب في العالم وعادوا منها سالمين". هذه رسالة إلى كل المحاربين في العالم الذين عادون سالمين، فالنجاة هي ما يهم!
وفي تصريح للقناة الأولى في التليفزيون الإسرائيلي قال ماعوز: "أتمنى أن يفهم الناس بلدنا أكثر، ويفهمون مجتمعنا أكثر، وتعقيد مجتمعنا أكثر". إذن الفيلم سيساهم في "تجميل" صورة إسرائيل وفهم أن المجتمع الإسرائيلي معقد أي أن فيه الكثير من الضحايا وليس كما يتصور البعض، مجرد معتدين!
ولعل تقرير مارتن نيلمان الذي نشرته مجلة "سكرين" كان متسقا تماما مع هذا التفسير حينما قال "ربما تظن أن الحكومة الإسرائيلية لن تدعم كثيرا فيلما يقدم بيانا مرعبا كهذا لما حدث في لبنان عام 1982، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار بعض الإشارات إلى أن إسرائيل ترغب في استخدام الثقافة كوسيلة لتبييض ماضيها".
ويمضي التقرير قائلا: "لكن الحقيقة أن الحكومة الإسرائيلية دعمت هذا الفيلم، تماما كما دعمت فيلم "الرقص مع بشير" لآري فولمان العام الماضي عندما عرض في مهرجان تورنتو قبل أن يرشح لجوائز جولدن جلوب".
((تحذير: يحظر إعادة نشرهذا المقال دون إذن مسبق من الناشر، جميع الحقوق محفوظة))

2 comments:

Yousry Mansour يقول...

عزيزي أمير
بالرغم من تصريحك في مطلع المقال: "أعترف بداية أنني لم أنبهر بالفيلم الإسرائيلي "لبنان" Levanon الذي عرض في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي وحصل على جائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم." إلا أنك تعاود التأكيد، و في مرارة واضحة: "ولاشك أن الفيلم مصنوع بشكل مؤثر،التصوير المتميز داخل ديكور دبابة بكل تفاصيلها الذي صنع خصيصا من أجل الفيلم، وفكرة تحويل الجنود إلى سجناء داخل الديكور الحديدي الضخم، حتى يصبحوا منعزلين تماما عما يجري خارج الدبابة، بل إن كل المناظر التي تحدث في الخارج نراها من خلال منظار الرؤية في الدبابة، أحيانا باستخدام الأشعة تحت الحمراء التي تتيح القدرة على الرؤية الليلية.
ولاشك أن هناك قدرة واضحة لدى المخرج على التحكم الكبير في أداء الممثلين، الذين تدربوا طويلا على الأداء، كما سمح لهم بنوع من الارتجال المحسوب خصوصا في المشاهد التي تنفجر بالصياح والمشاجرات والسباب، بعد أن حبسهم المخرج داخل الديكور لفترة طويلة، وأخذ يمارس عليهم نوعا من الضغوط العنيفة كما كشف خلال المؤتمر الصحفي للفيلم."
عزيزي أمير،
دعنا نتصارح بأن لديهم (الإسرائيليون) هماً جماعياً و قدرات تعبيرية خلاقة في التعبير عن هذا الهم.
أما نحن ، على الجانب الآخر، فلا نعرف على وجه التحديد، ماهو الهم الجماعي الذي يوحدنا، و بالتالي فلا يوجد لدينا أي حركة فنية مؤثرة ، وبخاصة في السينما. إنشغلنا و شُغلنا بمعارك وهمية و أحياناً صراعات غير حقيقة. إنشغلنا و شُغلنا بالتصارع على الفوز بمناصب أو الظفر بتعاقدات و أموال لترويج الغث و الرديء من الفنون، فسقطنا و سقط إنتاجنا السينمائي في معظمه، فكان شعورك بالمرارة لفوز الإسرائيلي و تفوقه سواء كان آموس جيتاي أو آري فولمان أو شموئيل ماعوز.
عزيزي أمير،
خفف عن نفسك، فمازال السينمائيون المصريون منشغلون في الصراع حول كيفية الحصول على أموال الفضائيات العربية قبل أن ينضب النفط. و حسب الرأي السائد في الوسط السينمائي بمصر : الفن سبوبة، و يا سعده اللي يطولها ...

مع تحياتي من سنغافورة
يسري منصور 

Amir Emary يقول...

عزيزي يسري:

اين كنت يامولانا!!!
جميل أن أسمع منك اخيرا.. وكنت أتطلع إلى هذا التواصل من زمن لكنك آثرت الاستمتاع بعزلتك الجميلة في سنغافورة..
بينما قلت أن الفيلم مصنوع بشكل جيد، إلا أنني قلت في بداية كلامي بالحرف
"ان الفيلم لا يقدم موضوعا جديدا، بل يدور داخل نفس الدائرة "الذاتية" التي يدور فيها كثير من الأفلام الإسرائيلية منذ سنوات طويلة قد ترجع إلى عام 1982 عندما قدم آموس جيتاي فيلم "يوميات حملة" الذي يعد حتى الآن أفضل تلك الأفلام وأقواها وأكثرها إدانة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، رغم أن جيتاي عاد بعد سنوات من فيلمه هذا وأفلام أخرى كانت تشي على الأقل، بموقف متوازن في تناول موضوع الصراع العربي الاسرائيلي أو تقديم الجانب "الآخر" منه مثل "بيت" و"وادي" وغيرهما، عاد لكي يأخذ بدوره دفة التبرير والتباكي بعد أن كان قد أعلن بوضوح "موت الحلم الصهيوني والحاجة إلى تجاوزه"!
والحقيقة أن "الصنعة" أو التقنية الممتازة لا تصنع وحدها فيلما عظيما يرقى لمستوة الفوز بجائزة مهرجان كبير.. ومخرج الفيلم رجل لا يتمتع باللمسات الفنية الجميلة والقدة على خلق لحظات عذبة بل حتى عندما يستخدم فكرة العلاقة الأوديبية بين الابن (الذي يتذكر) والأم، فإنه يقدمها في سياق جنسي فج يخلو من الشاعرية وينحو في اتجاه البورنو اللفظي.. خاصة وأن المشهد ينتهي عندما يقول له زميله (لقد جعلت عضوي الذكري ينتصب بقصتك هذه)!
فهم لا يستطيعون التخلي عن الفجاجة والمباشرة الوقحة في افلامهم.. ولعل السؤال الذي كان يشغلني وانا اشاهد هذا الفيلم هو: اذا كان الاسرائيليون على كل هذا النحو من الرقة والرغبة في تفادي الحرب فلماذا يقتلون الابرياء والاطفال بكل هذه الوحشية السادية عند دخوا غزة ولبنان والضفة بل وسيناء!!
ألا شيفعنا هذا السؤال إلى التشكك في الرواية بأسرها وفي القصد من وراءها واخراجها للعالم.. ألا يعكس دعم الحكومة للفيلم امكانية استخدامه في الترويج لصورة اسرائيل المسالمة!
أما حكاية السينمائيين المصريين فلا ينبغي التعميم لأن هناك الذين يكافحون من اجل اخراج فيلم جيد.. وليس من اجل المال.. منهم يسري نصر الله وابراهيم البطوط وداود عبد السيد واسامة فوزي وغيرهم.. وسنشاهد أفلاما جديدة لهؤلاء قريبا جدا.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger