الأحد، 6 سبتمبر 2009

أفلام من مهرجان فينيسيا


* باريا (أو باغيريا) Barria:
الفيلم الذي استثمر فيه الإيطاليون (من إنتاج شركة يملكها ابن رئيس الحكومة بيرلسكوني) 35 مليون دولار واعتبر أضخم إنتاج في تاريخ السينما الإيطالية، يعكس محاولة للعودة بهذه السينما إلى عصرها الذهبي عندما كانت تنتج الأفلام التاريخية المبهرة التي تدور في ديكورات ضخمة، وتستخدم مئات من الممثلين الثانويين (الكومبارس) الذين تجاوز عددهم في هذا الفيلم ألف ممثل ثانوي، وشيدت للفيلم ديكورات لقرية في ريف صقلية أهمها بالطبع الشارع الرئيسي بمبانيه التاريخية، وبنيت الديكورات في تونس حيث دار التصوير الخارجي في معظمه.
فيلم "باريا" بعكس أيضا رغبة مخرجه عاشق السينما الكبير جيوسيبي تورناتوري، في صنع "ملحمة" عن البشر وعلاقتهم بالمكان، عن الزمن، وكيف ينعكس على العلاقات وعلى البشر، عن العلاقة بين الأجيال وكيف تنتقل الأفكار وتكبر، وكيف تحبط وتصاب بالهزيمة دون أن يكف الإنسان أبدا عن التطلع إلى المستقبل، إلى الأفضل.
بطل الفيلم طفل يكبر يصبح شابا ثم رجلا ينجب عدة أطفال، وهو ينشأ في عائلة فقيرة تنتمي سياسيا إلى اليسار الشيوعي تحديدا، ويصبح من قيادات الحزب في البلدة، ويمر بفترة من التشكك أحيانا، عندما يعجز عن تقديم حل لمشاكل العمال، وبعد أن يعود من زيارة إلى موسكو، ويقول لرفيقه إنه رأى هناك أشياء سيئة مخجلة. وربما يكون هذا كما يرى بعض النقاد الإيطاليين، السبب في حماس بيرلسكوني تحديدا للفيلم، أي الجانب الذي يوجه انتقادات واضحة للتجربة الاشتراكية أو لقدرات الحزب الشيوعي.
والفيلم باختصار يروي قصة تلك الأسرة، التي محورها ذلك الشاب، ويطمح إلى تقديم صورة مكثفة في فصول متعاقبة لإيطاليا المعاصرة من خلال خصوصية تلك البلدة وأناسها، من الحقبة الفاشية إلى عصرنا الحالي، مع مزج الموضوع بقصة حب مغرقة في الرومانسية.
ولاشك أن في الفيلم الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالسيرة الذاتية لتورناتوري نفسه، الذي يبدو وهو يطرق دروبا يعرفها جيدا، ويصور اناسا خبرهم وعاش بينهم.
الصورة السينمائية للفيلم على أروع مستوى ممكن، واستخدام حركة الكاميرا للربط طيلة الوقت، بين الشخصيات والمكان، ناجحة خاصة في استخدام مدير التصوير للرافعة "الكرين"، في المشاهد الضخمة التي تستخدم فيها المجاميع. وموسيقى العبقري إنيو موريكوني (الذي يجب أن نفخر بأننا نعيش في عصره) موسيقى تعبيرية تتدرج من الطابع الشعبي (الفولك) إلى الكلاسيكية، وتتميز بنغماته الخاصة المكتوبة للناي أو الكلارنيت ثم البيانو والتشيللو.
غير أن ما يعيب الفيلم الاستطرادات الكثيرة، وهبوط الإيقاع خاصة في الثلث الأخير من الفيلم حيث تفلت الحبكة من بين يدي المخرج فلا تفهم تحديدا أين يتجه لأنه يفشل في الوصول بفيلمه إلى ذروته الطبيعية.
ومن عيوب الفيلم أيضا تعدد الشخصيات بطريقة محيرة ومربكة أحيانا، والجرعة السياسية الزائدة كثيرا عن حاجة الفيلم، وعبوره على بعض الأحداث عبورا سريعا في حين أنه يتوقف أمام غيرها طويلا بلا مبرر.
وكان مستغربا بالفعل أن كل هذه اللقطات والمشاهد الجميلة تجعل مخرجا كبيرا بحجم موهبة تورناتوري (صاحب سينما باراديزو، ومكتشف المواهب) يسقط في حبائلها بحيث جعلته يعجز عن التوقف والقطع والانتقال من مشهد إلى آخر في الوقت المناسب، بل واستبعاد الكثير من المشاهد والشخصيات الزائدة واختصار الفيلم إلى زمنه الطبيعي الذي لا يتجاوز الساعتين (في حين أنه جاء في ساعتين ونصف تماما).

* الطريق The Road
توقعنا الكثير من فيلم "الطريق" المأخوذ عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه للكاتب كورماك مكارثي تدور في المستقبل (الأمريكي تحديدا) حيث ينتهي العالم ربما بعد ضربة نووية، ويرتد الإنسان إلى الهمجية الأولى وإلى أكل بعضه بعضا.. بشكل حرفي أي تصبح هناك جماعات من أكلة اللحم البشري، وتنتشر الفوضى والخراب في الأرض، ويبحث الذين بقوا على قيد الحياة (ولم يؤكلوا بعد!) عن أي مصدر غذائي للبقاء على قيد الحياة.
المخرج الاسترالي جون هيلكوت Hillcoat تناول الموضوع بشكل تجريدي بغرض توصيل فكرة فلسفية عن التماسك الإنساني والحب بين رجل وابنه، رغم كل مظاهر الانهيار والتدهور والتفكك. إنه يبدأ بتعليم ابنه اطلاق النار من بندقية لا للدفاع عن النفس بل لكي يتمكن كلاهما من قتل بعضهما البعض عند الضرورة، وفي أحد المشاهد عندما يحاصر مجموعة من آكلي اللحم البشري الاثنين ويوشكوا على اللحاق بالإبن للفتك به وابتلاعه، ويكاد الأب أن يقتل ابنه بالفعل إلا أنه يتراجع تحت تأثير عاطفة الأبوة، لكي يواصل الإثنان معا رحلة الهروب. ولكن إلى أين؟
يتحول الفيلم بعد ذلك إلى أحد أفلام الطريق، ولكن في شكل رحلة كابوسية في عالم لم يعد قائما، يلتقيان خلالها ببشر لم يعودوا بشرا، وبضحايا لم يعد هناك أمل في إنقاذهم، بل إن رحلة الهروب نفسها تبدو عبثية، بعد أن تخلت الزوجة الحسناء (تشارليز ثيرون) عن الأسرة هربا من المصير البشع وحتى لا تضطر لقتل ابنها. ويلقى الأب مصيره بالموت، فيما تتبنى أسرة هاربة من الكارثة الإبن لينضم إليها في رحلة الهروب إلى الأمام.. لعلها تعثر على منفذ للنجاة.
المشكلة أن الفيلم يبدو خاويا، لا تطور كبير في أحداثه، والحبكة تعاني من فراغ وتكرار، بعد البداية القوية، لا نرى سوى تكرار لنفس الفكرة، واستطرادات تغذيها دون أن تضيف جديدا إليها، مع تهاوي الإيقاع العام للفيلم، وفقدانه أي قدرة على إثارة الاهتمام. ويبدو أن المشكلة الأساسية تنحصر في السيناريو الذي فشل في تقديم معادل سينمائي قوي يتمتع بالقدرة على التدفق والجاذبية، ربما أيضا بسبب القتامة الشديدة في الموضوع.

* "الحياة في زمن الحرب" Life During Wartime
فيلم أمريكي آخر من أفلام المسابقة (التي بلغت الآن 7 أفلام بعد عرض مفاجأة هيرتزوج!).
هذا الفيلم الذي أخرجه تود سولوندز، بدا أيضا أنه ضل طريقه إلى مسابقة فينيسيا، فهو يحاول التفلسف حول فكرة الغفران والسماح في مقابل النسيان ربما دون غفران، وأيهما أفضل، وهل من الممكن أن ينسى المرء دون أن يغفر لأن في هذا حلا أفضل بالنسبة لكل الأطراف، أم يغفر (ذلك الغفران المسيحي الموصى عليه في الكتاب المقدس) دون أن ينسى، وما فائدة الغفران في مثل هذه الحالة إذن إذا كنا سنظل نحمل في داخلنا ضد هذا أو ذاك أي دون أن ننسى ونسامح.
علاقات متفسخة بين ثنائيات، وعلاقات أخرى تنشأ على أمل إصلاح ما فسد في الماضي، لكنها مهددة بشبح الماضي نفسه.
شخصيات غير سوية في معظمها، منها من يعاني من الميل إلى الجنسية المثلية، ومنها من سبقت إدانته بالاعتداء على الأطفال، ومنها من فشلت في العثور على السعادة مع زوجها الذي أنجبت منه لكنها وجدت أنه لم يكن "رجلا بما فيه الكفاية" وتتخيل الآن أنها عثرت على الرجل الذي يثير كل مشاعرها بلمسة واحدة منه.
هذا الموضوع "الأدبي" أيضا يعالجه سولوندز بطريقته التي تعجب البعض، أي من خلال الحوارات الطويلة الساخرة، والمشاهد المسرحية الجامدة، إلا أنه يمزج فيما بينها، ويجعل شخصياتها تتداخل وتتقاطع، باعتبارها شخصيات متصلة ببعضها، باستثناء شخصية امرأة متقدمة في العمر (شارلوت رامبلنج بعد أن فقدت أنوثتها الطاغية القديمة!) تصطاد رجلا في أحد البارات، يتصادف أنه عاشق الأطفال الذي خرج لتوه من السجن، ويريد العودة إلى أسرته لكنه لا يعرف كيف، لكي تقضي معه ليلة من الجنس المرهق، تنتهي بمحاولته أن يستولي من حقيبة يدها على مبلغ من المال، فتضبطه متلبسا لكنها بدلا من أن تنهره، تمنحه كل ما معها من مال، وتقول له إن الذي يطلب الشفقة هو الوحيد الجدير بعدم السماح.
الكوميديا في الفيلم تنبع من خلال الحوار الطريف والتعليقات الساخرة وليس من خلال المواقف والأحداث، والأداء التمثيلي مسرحي نمطي في معظمه، باستثناء أداء الممثل الأيرلندي شياران هندز (في دور اللواطي المغرم بالأطفال) وشارلوت رامبلنج في أكثر أدوارها توحشا وعنفا بدون أي عنف!
هذا الفيلم الذي يعد استمرارا لفيلم "سعادة" Happiness للمخرج نفسه، يعاني أيضا من ثقل الإيقاع، ومن المبالغات في رسم بعض الشخصيات، ولكن هذا النوع من الدراما يبدو قريبا من جمهور الطبقة الوسطى الأمريكية، ويناسب ذوق واهتمامات تلك الشريحة العريضة من الجمهور التي تدمن على مشاهدة التليفزيون، ولذلك فمكانه الطبيعي أن يستقر في المحطات التليفزيونية.

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger