الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

"أمير الدموع": أنشودة عذبة عن الحب والصداقة والخيانة في زمن القهر

يعتبر فيلم "أمير الدموع" للمخرج يونفان، وهو فيلم من الإنتاج التايواني المشترك مع هونج كونج، من أفضل وأهم الأفلام التي شهدتها مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة السادسة والستين من مهرجان فينيسيا السينمائي.
لماذ نعتبر هذا الفيلم عملا متميزا؟
الأسباب هي أولا توفر سيناريو جيد شخصياته مرسومة ببراعة والعلاقات المتداخلة المركبة فيما بينها، تتطور بشكل سلس ومقنع، والعلاقة بين الخاص والعام في هذا السيناريو منسوجة ببراعة، وبدون إقحام أو خطابة.
ثانيا: الإخراج المتميز بلمسات شاعرية رقيقة كالنسيم، مما يجعل الفيلم رغم قتامة موضوعه وقسوته، يبدو كالقصيدة الجميلة التي تخاطب العقل والقلب والوجدان، كما أن الأداء التمثيلي يتميز كثيرا من جانب جميع الممثلين الذين اشتركوا في الفيلم، من الأطفال إلى الكبار.
ثالثا: التصوير السينمائي البديع الذي يجعل الإنسان يتماهى مع الطبيعة، ويجعل الطبيعة شاهدا على ما يحدث من قهر للإنسان، كما أن المخرج يعرف أين ومتى يتوقف عن الاستمرار في السرد وتطوير الحبكة، لكي يتيح لأبطاله وجمهوره بالتالي، لحظات من الأمل وطرح التساؤلات التي لا نسمعها وإنما نشعر بها تحت جلد الصورة.
رابعا: الموسيقى المصاحبة المتميزة بكلاسيكيتها ورونقها الخاص، والتي تضفي جوا من السحر على الصورة فتساهم في تكثيفها، كما تتناسب مع أجواء العلاقة البارزة في الفيلم بين عالمي الأطفال والكبار.
موضوع الفيلم يدور في تايوان الخمسينيات أي في الفترة التي شهدت أجواء سياسية محمومة، حينما كانت السلطة السياسية تشم رائحة الخيانة والتسلل الشيوعي في كل مكان، وكان لابد في تلك الأجواء المشوبة بالتوتر والقلق وانعدام الثقة، أن تكثر الوشايات ويسقط الكثير من الضحايا الأبرياء أو يدفع الكثيرون ثمنا باهظا لغير ذنب ارتكبوه. وكانت جزيرة "فورموزا" التي أصبحت "تايوان"، قد أصبحت محورا لنزاع سياسي لايزال قائما حتى اليوم، منذ أن لجأ إليها الزعيم الصيني القومي تشانج كاي تشيك بعد خلافه مع حلفائه الشيوعيين بزعامة ماوتسي تونج وبعد انتصار الشيوعيين وسيطرتهم على السلطة عام 1949، ثم ما أعقب ذلك من إعلان الأمريكيين ضمانهم لنظام تايوان (الرأسمالية) ولبقائها بعيدة عن خطر الزحف الأحمر، مع استمرار الصين في التلويح بضرورة ضمها إليها باعتبارها كما تقول، جزءا لا يتجزأ من أراضيها.
وعلى العكس تماما من معظم الأفلام التي شاهدناها من قبل حول الصراع بين الصين وتايوان، خصوصا في تلك الفترة المشحونة من أوائل الخمسينيات، يدور فيلم "أمير الدموع" حول "القمع الأبيض" في مقابل "القمع الأحمر" المعهود. فنحن هنا أمام تصفيات تقوم بها أجهزة الأمن في تايوان (الديمقراطية) ضد كل من تتصور أنه قد يكون لديه أي نوع من التعاطف مع نظام بكين، بل وتستخدم هذه الذريعة، من أجل تصفية حسابات شخصية.
محور الفيلم قصة حب بين طيار شاب مخلص لبلاده، وزوجته الحسناء المخلصة التي تربي ابنتيه.
لكن هناك من يحيك لهما المؤامرات هو صديق الزوج ورفيقه في الماضي الذي أصبح الآن عميلا للشرطة السرية، والذي يرغب في الاستيلاء على قلب الزوجة، لذا فإنه يدبر مؤامرة تبعد الزوج لكي يتم إعدامه رميا بالرصاص، وتبعد أيضا الزوجة لبعض الوقت إلى السجن لكي يبدو الأمر مقنعا، إلى أن يتم اخراجها لكي يتزوجها الصديق الواشي (الذي سقا الخمر بيديه لصديقه قبل إعدامه مباشرة).

الذريعة هنا أن الزوج الطيار عاد إلى منطقة يسيطر عليها الشيوعيون في الصين لأنه جاسوس، بينما الحقيقة أنه اضطر للعودة لانقاذ ابنته الكبرى.
الأم تتنكر في لحظة ما لابنتها لأنها السبب في اعدام الأب، والإبنة لا يمكنها أن تغفر للأم أن صديق العائلة، تخلص من والدها رغبة في الاستيلاء على الأم، بل والأم أيضا توافق وتقرر العيش معه.. أي مأساة!
إنه فيلم عن الصداقة والحب والخيانة والتآمر، وعن الجنرال الذي يملك قلب شاعر، وزوجته الحسناء التي تقع ضحية لتناقضاتها بين الرغبة في امتلاك الأشياء الثمينة وتذوق طعم الأشياء، وقناعاتها بالوقوف مع النظام الجديد في الصين الأم.. النظام الذي يتحدث باسم الفقراء والمطحونين، وعن التضحية الكبرى عندما تكون مطلوبة من أجل النجاة في زمن الموت الذي قد يأتي بدون ميعاد ولا مبرر، أو التجويع والتشريد لأصغر الأسباب.
أسلوب إخراج موضوع من هذا النوع يغري بالوقوع في التبسيط واتخاذ موقف أحادي هنا أو هناك، كما يغوي بالوقوع في الميلودراما الأخلاقية المباشرة.
أما الفيلم الذي شاهدناه، فينجح مخرجه يونفان بعبقرية، في تقديم عمل يفيض بالمشاعر دون أن يصبح ميلودراميا عالي النبرة، يبتز المشاعر بدون حساب، كما يفلت من توجيه الإدانة أو الشطب على شخصية لحساب أخرى.
إن كل شخصياته تبدو ضحايا تلك الفترة بأحداثها الصاخبة، ضحايا الصراع السياسي الذي لا أخلاق له ورغم أن هناك من يدفع الثمن بشكل مباشر إلا أن الجميع يدفعون، على نحو أو آخر.
وأسلوب الإخراج ينجح تماما في التحرر من الحبكة التقليدية، ويترك لنفسه العنان في التحليق بالموضوع فوق الماضي والحاضر، والانتقال من العالم الصغير، إلى العالم الكبير، كما يجيد استخدام الرمز الكامن في قصة "أمير الدموع" التي تروى في احدى كتب الأطفال المصورة، عن ذلك الأمير الذي جمدت دموعه وتحول هو نفسه إلى تمثال من الجماد احتجاجا على الشر المحيط به في العالم.
هذه الفكرة الرومانسية هي التي تغلف الفيلم وتروى من وجهات نظر مختلفة، وتتخذ أيضا طابعا فلسفيا إنسانيا عندما ترويها زوجة الجنرال قبل أن تقرر العودة إلى الصين الأم.
هناك دفء كبير يربط أيضا بين الشخصيات النسائية في هذا الفيلم على نحو لم يسبق أن شاهدناه في أي فيلم صيني، وهناك وجود قوي ومؤثر للأطفال، مع تمتع الفيلم بطاقم شديد الموهبة من الممثلين والممثلات.
إنه سباحة في التيار العكسي لفيلم "العيش" لجانج ييمو الشهير الذي كان يروي مأساة أسرة في زمن "القمع الأحمر". وهو أيضا مثله يستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية يكشف عنها الستار في نهايته عندما يشير إلى مصائرها التي امتدت طويلا. ورغم أنه يعتبر فيلما سياسيا إلا أنه مصنوع لكي يلقى قبولا لدى الجمهور العام في اطار موضوعه الانساني.
وهو أخيرا، درس في الاستفادة من ذكريات الطفولة، مما حدث في الواقع، لتقديم "رؤية" خاصة شديدة السحر والجمال.. أليس هذا هو جوهر السينما كفن!

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger