السبت، 4 أبريل 2009

"طرفاية" نداء السفر إلى البلاد البعيدة القريبة


من أهم وأفضل ما أنتجته السينما المغربية من أفلام خلال السنوات الأخيرة فيلم "طرفاية" (أو "باب البحر) ثالث الأفلام الروائية الطويلة للمخرج داود أولاد السيد. وقد لقي هذا الفيلم اهتماما نقديا وجماهيريا كبيرا حيثما عرض، وفاز بجائزة النقاد في مهرجان تطوان السينمائي 2005، وكان كاتب هذا المقال عضوا في لجنة التحكيم التي منحت الجائزة للفيلم.
ويستمد الفيلم مادته الرئيسية من إحدى القضايا التي تتناولها، بشكل شبه يومي، عناوين الأحداث الجارية، وهي قضية تتعلق بالعلاقة المعقدة بين ضفتي المتوسط، بين أوروبا الغربية وبلدان شمال أفريقيا أو المغرب العربي.
يصور الفيلم كيف يستبد الحلم بالهجرة، من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، بالشباب ويقض مضاجعهم، وينتهي عادة إلى كارثة يدفع ثمنها الفقراء الحالمون. إلا أن الفيلم لا يقتصر فقط على البعد السياسي الضيق للموضوع، بل يوسع إطاره، ويجعل من الحلم الدائم بالهجرة عند بطلته الشابة البريئة "مريم"، حلما تغذيه عشرات الإحباطات الاجتماعية المرتبطة بالفقر والتخلف والقهر والكبت: الجنسي والسياسي والاقتصادي.
الحلم والواقع
يبدو هذا الحلم - الذي يصل إلى مرتبة الهاجس القهري الذي يفرض سيطرته على الخيال والوعي - مرتبطا أيضا ومنذ زمن طويل، بأسطورة قريبة من أسطورة "النداهة" أو جنية البحر التي ترقد تحت الماء، تدغدغ مشاعر الحالمين، وتغوي الضائعين وتغريهم بقدرتها السحرية على انتشالهم من وهدة الفقر والوحدة والتشرد والضياع.
شخصيات الفيلم "الذكورية" من الرجال لا تقل ضياعا عن بطلتنا مريم: عبد السلام ضابط شرطة حراس الحدود الذي أوشك على التقاعد وبدأ يفقد توازنه بفعل ما يشاهده يوميا منذ سنوات من محاولات متكررة للفرار ينتهي معظمها بمأساة، وزميله الضابط الشاب الذي يبحث عن فرصة للتسلق الاجتماعي ولو عن طريق الارتباط مؤقتا بعاهرة، وحسن.. الصعلوك المغامر الذي أراد الإفلات من واقعه الاجتماعي القاسي بالسطو على البؤساء وحرمانهم من كل ما يملكون من مال يريدون أن يدفعونه ثمنا للحرية أي للذهاب إلى البلاد القريبة- البعيدة.
وهناك أيضا الضالعون في عمليات تهريب البشر بحرا، ومنهم "ريكي" الذي يمارس مهنته البشعة متسترا بثقوب في النظام، ويدفع ضحاياه ثمنا باهظا مقابل القيام برحلة تنتهي عادة إلى كارثة محققة، والصبي "نوح" الذي يعمل وسيطا بين الراغبين في السفر ومحترفي تهريب المسافرين.
هذه الشخصيات كلها تدور بشكل أو بآخر حول شخصية مريم.. الخادمة التي تسعى للفرار من مصيرها المحتوم، تراودها أحلام الثراء والحرية في أسبانيا، لا يستطيع أحد أن يثنيها عن المحاولة رغم أنها فقدت ثلاثة من أخوتها في محاولات مماثلة، إلا أنها تنتهي أكثر ضياعا وشعورا بالوحدة.
وهناك أيضا فاطمة: تلك المرأة المتبرجة، مخدومة مريم، التي جاءت إلى هذه المنطقة النائية للبحث عن مريم، تتهمها بسرقة بعض المال من مسكنها قبل هروبها.
وتثير "فاطمة" المطلقة اللعوب، بدلالها والحلي الذهبية التي تتدلى من ذراعيها، شهية ضابط حراس الحدود الشاب وتولد في داخله أحلامه الخاصة وتدفعه إلى رسم خططه الواهية لمستقبل قد لا يأتي أبدا.

نوح يقود مريم إلى "الحاجة" التي تمتلك منزلا غريبا في البلدة الساحلية، تؤجر غرفه للنساء الراغبات في الفرار من مصيرهن. محركها الأول كما نرى - هو المال، ورغم إلحاحها في الحصول عليه بشتى الطرق لا تعدم بعضا من طيبة قلب وإحساس خفي بالتضامن مع نزلاء منزلها.
أهمية المكان
المكان في الفيلم يكتسب أهمية خاصة. طرفاية هي تلك البلدة الساحلية في جنوب المغرب قبالة جزيرة "فيورا فنتورا" الأسبانية التي عرفت كمدخل إلى الأراضي الأسبانية والأوروبية عموما بالنسبة للكثير من الحالمين بالهجرة.
وفي البلدة التي يطلق عليها أيضا "باب البحر" تنتعش تجارة تهريب البشر، وإيواء الراغبين في أماكن هي أقرب إلى أقبية وكهوف تنعدم فيها أي وسيلة إنسانية، تمهيدا للمغامرة التي قد تنتهي بالهلاك.
مريم تتعرض للسرقة من جانب حسن مباشرة بعد أن تطأ قدماها أرض البلدة. عبد السلام الضابط ينجح في إعادة المسروقات إليها. حسن الضائع الضعيف يعاني بعد ذلك مباشرة من عقدة الإحساس بالذنب تجاه مريم، فيحاول أن يثبت لها أنه يصلح رجلا لها فيسرق أموال العصابة التي يعمل لحسابها لكي يعطيها لها علها تتراجع عن رغبتها في السفر.
الشرطي العجوز يسيطر عليه أيضا هاجس إنقاذ مريم. والحاجة تحاول أن تزين لمريم استغلال ما يبديه هو تجاهها من اهتمام دون ان تمنحه نفسها، لعله يساعدها في تحقيق حلمها بالسفر. ونكتشف أن مصدر اهتمام الشرطى العجوز بميرم لا ينبع من رغبة في مضاجعتها بل يرى فيها ابنته التي يخشى أن تلقى مصيرا مشابها.
عمل ملحمي
يصنع داود أولاد السيد عملا ملحميا كبيرا دون تزويق ودون ادعاءات، من خلال أسلوب سينمائي رقيق وحساس، وسيناريو مدروس بدقة. وهو يلمس بمبضع حاد الكثير من المناطق الحساسة: الازدواجية التي يكشف عنها التناقض بين مظاهر التدين الجوفاء وامتهان مهن أقرب إلى القوادة، ممارسة الشعوذة والاحتيال وادعاء الطهارة والرجولة والتجرؤ على إسداء النصح للآخرين، الاشتغال بمهنة حماية المجتمع (الشرطة) بينما الفساد الداخلي يعشش داخل الرؤس والقلوب، وهكذا. إنها ثنائيات يطرق عليها الفيلم دون أن ينجرف إلى الخطابة أو المباشرة الزاعقة.
مخرج الفيلم داود أولاد السيد

ويستخدم المخرج أسلوبا سينمائيا أقرب إلى الواقعية السحرية التي تميز الأدب الأمريكي اللاتيني، فهو يخفي أكثر مما يكشف، يتناول الواقع لكن بلمسة تأمل روحي عميق. وينجح في شد أنظار المشاهدين إلى فيلمه المتميز بلقطاته الموحية، من خلال الاهتمام الكبير بالتكوين وحركة الكاميرا واختيار زوايا التصوير والاستغلال البارع للمواقع الطبيعية.
ويتميز الفيلم أيضا بالمزج بين التسجيلي والروائي، فهناك رصد دقيق بالكاميرا لواقع البلدة: مظاهر الجفاف والفقر والتخلف والقهر والعزلة السرمدية والانتظار اللانهائي.
لحظات صمت
وهناك لحظات المراقبة والترقب التي تسيطر على الجميع، يتم التعبير عنها من خلال اللقطات الطويلة التي تتركز على سيارة الشرطة الكامنة في الانتظار أو على شخصيات النساء اللاتي يقبعن في منزل "الحاجة" في انتظار الخلاص، بعد أن هجرهن الأزواج أو تخلى عنهن الدهر.
وهناك أيضا التصوير الدقيق للحظات المطاردة بين المهربين والشرطة، والتواطؤ بين الشرطة الأسبانية وبعض رجال الشرطة المغربية، حيث يبدو الجميع كما لو كانوا يشتركون في لعبة مشتركة مستمرة طيلة الوقت.
في النهاية تنجح مريم في إقناع الشرطي بتقديم يد المساعدة لها، وتجد نفسها في سفينة صغيرة وسط عشرات البائسين الفارين، إلا أن مشاجرة بين الرجال تنشب في القارب بسببها، فتهرب إلى قارب صغير يتأرجح بها في عرض البحر. وينتهي الفيلم دون أن نعرف كيف يكون مصيرها.
تروي فاطمة للشرطي الشاب حكاية قصيرة ذات مغزى فتقول إنها أتت من بلدة تدعى "لاجارا" وهي مملكة ضاق ملكها ذرعا بشعبه فقرر بيعها للفرنسيين. هل يعني هذا أن شعب هذه المملكة أصبح عبيدا عند "الآخر"، أو أن شعبا بدون ملك أصبح شعبا ضائعا عليه البحث عن وطن آخر يحكمه ملك، أم أن "لاجارا" معادل مجازي للمغرب بأسره!
أخيرا ربما كانت "طرفاية" بأطلالها الباقية، تعبر بحق، كما يقول المخرج، عن قارة أفريقيا المفقودة التي يبدو أن الجميع قد أصبحوا يرغبون في الفرار منها. ولعل هذا هو مغزى المكان والزمن.. بطلا هذا الفيلم البديع حقا.

7 comments:

أحمد يقول...

مقالة تحليلة رائعة جدا منك يا استاذ ، لم اكن اعلم انك زرت المغرب من قبل ، وكذلك لم اعلم بان السينما المغربية لديها هذه القدرات الفنية ، شاهدت افلا مغربية قليلة وكان اكثر ما اعجبني هو الفيلم الجميل " الدرا السوداء " والأداء الرائع للمثلين الشابين مع انها اول تجربية سينمائية لهم ، للاسف لم اشاهد هذا الفيلم ، لكن شاهدت اعمال لهذا المخرج الرائع ، وقريبا سيكون له فيلم تلفزي على القناة المغربية الثانية اسمه " ابن امه " وهو فيلم كوميدي درامي .

ملحوظة : انا مغربي اسكن في الرباط .

أمير العمري يقول...

إلى الصديق أحمد من المغرب:
نعم زرت المغرب أكثر من عشرين مرة وشاركت في عدد من المهرجانات والتظاهرات السينمائية المغربية.. وقريبا سأكتب عن عدد من الأفلام المغربية الحديثة لعل الكتابة تساهم في التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب.

Omar Manjouneh يقول...

تحياتى أستاذ أمير و فى انتظار سلسلة مقالاتك القادمة عما قريب ان شاء الله
عمر منجونة

أمير العمري يقول...

للصديق أحمد من المغرب أود أيضا أن أذكرك بما نشرته قبل فترة عن ذكرياتي في الدار البيضاء في اطار المشاركة في ملتقى حول السينما والادب في بداية التسعينيات.. اليك هذا الرابط
http://life-in-cinema.blogspot.com/2009/02/blog-post_20.html

غير معرف يقول...

dear Mr Amir
hamdela3asalama , and i wish you to heal fast and walk for long miles again. . beautiful article that makes me eager to see the film. . all the best in every effort you make.
ibrahim el batout

نحن نستحق حياة أفضل يقول...

دكتور عبد المنعم حجازى
عزيزى أمبر
أسعدنى كثيرا الحصول بالصدفة على مدونتك
... عساك تتذكرنى
وكل عام وأنت بخير

Amir Emary يقول...

إلى الدكتور عبد العزيز حجازي:
لابد أن تكون من زملاء وأصدقاء الزمن الجميل.. زمن الجامعة.. أرجوك ذكرني لأن الغربة ابتلعتني منذ سنوات طويلة.. لا أستطيع التذكر.. اعذرني وزارجو ارسال الرئاسل عبر البريد اللكتر وني المنشور على المدونة
amarcord222@gmail.com
تحياتي

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger