من الأفلام الممتعة التي تناولت العلاقة بين الأديان البلغاري "العيون المسروقة" Stolen Eyes من إخراج رادوسلاف سباسوف Spassov.
هذا ليس فيلما كسائر الأفلام، ليس فقط لأنه يتجرأ فيناقش قضية كانت تعد، حتى وقت قريب، من الممنوعات في بلغاريا، بل لأنه يعرض لموضوعه بكثير من الرونق، ويبرز فيه الحس الجمالي العالي، ويتميز الأداء التمثلي الذي يستولي على المشاعر.
فيلم "العيون المسروقة" (2005) لا يتوقف عند حدود الرؤية الاجتماعية بل يثير – وإن على نحو خافت يجري تحت جلد الصورة- تساؤلات فلسفية حول معنى الوجود من خلال العقيدة والعلاقة مع الآخر، وما هو أصل الأشياء كما خلقها الله.
وإضافة إلى هذه التساؤلات، يثير الفيلم قضية العلاقة بين الدولة والأقليات العرقية، وبين الفكر الشمولي وتعامله مع الموروث الديني حتى لو لم يكن يمثل أدنى خطورة على وجود الدولة.
ولكي نلم بأبعاد الموضوع علينا أن نعود قليلا إلى الوراء، إلى التاريخ الحديث القريب، لنرى ماذا حدث في بلغاريا.
الخروج القسري
مع تداعي ثم انهيار الإمبراطورية العثمانية، ظلت هناك أقليات مسلمة من أصول تركية، تعيش في بعض البلدان التي كانت تحت هيمنة تلك الإمبراطورية الغابرة. ومن أكبر هذه الأقليات تلك التي كانت – وربما لا تزال – تعيش في بلغاريا.
ورغم هجرة الملايين من بلغاريا إلى تركيا خلال القرن العشرين فقد ظلت هناك أقلية مسلمة في بلغاريا كانت تقدر بنحو مليون شخص في ثمانينيات القرن العشرين.
وفي بداية الثمانينيات بدأت في بلغاريا أكبر عملية لتبديل هوية الأقلية المسلمة. فقد صدرت قوانين تحظر ارتداء الأزياء الإسلامية، كما تفرض على البلغاريين من أصول تركية اتخاذ أسماء بلغارية لهم، وإعادة تسجيل أنفسهم ونقلهم من أماكن إقامتهم قرب الحدود مع تركيا إلى أماكن أخرى.
وفي عام 1989، دعا الزعيم البلغاري الشيوعي تيودور جيفكوف تركيا إلى فتح حدودها كما فعلت بلغاريا أمام البلغاريين المسلمين، بعد أن كانت قد بدأت أكبر عملية ترحيل قسري شملت 350 ألف بلغاري من أصول تركية لدفعهم للهجرة إلى تركيا. في أجواء تلك الفترة تحديدا تدور أحداث هذا الفيلم البلغاري المدهش.
حفظ الأختام
هناك أولا الشاب البلغاري "إيفان" الذي يجند في الجيش، ونظرا لإجادته لعبة الشطرنج يتم تكليفه بمهمة حفظ الأختام الجديدة التي تحمل أسماء الأماكن الجديدة التي يتم نقل الأتراك البلغار إليها.
ويصور الفيلم كيف كانت السلطات ترغم الناس على التخلي عن أسمائهم وتمنحهم أسماء جديدة، وتقوم بإزالة عشرات القرى الجبلية من الوجود أو تغيير أسمائها ونقل سكانها وترحيل من يرفض الانصياع إلى الجنب الآخر من الحدود التركية.
وسط هذا كله تبرز من بين الأقلية المسلمة المعلمة الشابة الأرملة "آيتان" التي ترفض تحت كل الظروف التخلي عن هويتها، وتقود أهالي قريتها لاستعادة المسجد الذي دمرت القوات الحكومية جزءا منه، وتحاول سرقة الأختام الرسمية التي تستخدمها الجهة الإدارية لختم أوراق الهوية الجديدة للسكان الأتراك. وهنا يقع احتكاكها الأول بالمجند الشاب إيفان الذي تعجبه شجاعتها وتمسكها بقضيتها.
وفي مواجهة بين قوات الجيش وأهالي قرية مسلمة – ومن بينهم آيتان- يقع حادث بشع عندما يقود إيفان عربة مدرعة استجابة لأوامر قائده، مباشرة في اتجاه تجمع احتجاجي لنساء القرية مما يؤدي إلى مقتل ابنة آيتان الصغيرة. ويتسبب الحادث في أزمة نفسية عميقة لدى كل من إيفان والأم الشابة، ويُلحق كلاهما بمستشفى للعلاج النفسي.
ولا يكف إيفان منذ تلك اللحظة عن متابعة آيتان، يريد أن يكفر بكل طريقة ممكنة عن خطيئته، بينما لا تستطيع هي رغم انجذابها الواضح له، أن تسامحه أو تغفر له، فقد حرمها من أعز ما تملك في لحظة انصياع أحمق لبطش السلطة.
ويسعى شقيق الفتاة إلى إقناعها بمغادرة بلغاريا إلى تركيا، حيث يرى أنها ستصبح بمأمن هناك. إلا أنها تفضل البقاء في بيت قديم بالقرية. يطاردها إيفان ويبوح لها بالحب، ويقول بأنه متمسك بها وأنه يحترم عقيدتها بل ويعرض على جدها الشيخ، أن يصبح واحدا من الأسرة، ينتمي إلى عقيدتها.
التمسك بالهوية
وفي مشاهد تشيع فيها الشاعرية والرقة، يتغنى الفيلم بتمسك المرء بهويته، فالدين هنا جزء من الهوية، وليس مرادفا للتعصب الفكري.
ويعد "العيون المسروقة" الفيلم الروائي الثاني للمخرج سباسوف، الذي درس التصوير السينمائي وعمل مصورا في أكثر من 20 فيلما بلغاريا، قبل أن يتحول للإخراج.
ولا شك أن تجربته في التصوير تنعكس هنا كأفضل ما يكون، وتتبدى في اهتمامه الكبير بالتكوين والتشكيل والاستفادة الكبيرة من مواقع التصوير التي اختارها بعناية كبيرة، ونجح في استغلالها في تأكيد العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الماضي والحاضر، تأكيدا على فكرة التمسك بالهوية.
ولا شك أيضا أن من أكثر الجوانب بروزا في هذا الفيلم، الأداء الرفيع المتميز للممثلة فاسيلا كازاكوفا في دور آيتان (التي ترفض تغيير اسمها إلى آن)، بتعبيرها الدقيق عن التطور الذي يطرأ تدريجيا على الشخصية. فهي تبدو في البداية شديدة التمسك بجذورها، أقرب إلى العناد الطفولي في مواقفها ورفضها للآخر والتشكك فيه لمجرد انتمائه للطرف الثاني. وبعد وقوع الحادث وفقدانها ابنتها تمر بمرحلة صعبة، بين الجنون والعقل، وهنا تتألق الممثلة كثيرا وتجيد التعبير بالعينين والحركة الرصينة والصمت.
هذا ليس فيلما كسائر الأفلام، ليس فقط لأنه يتجرأ فيناقش قضية كانت تعد، حتى وقت قريب، من الممنوعات في بلغاريا، بل لأنه يعرض لموضوعه بكثير من الرونق، ويبرز فيه الحس الجمالي العالي، ويتميز الأداء التمثلي الذي يستولي على المشاعر.
فيلم "العيون المسروقة" (2005) لا يتوقف عند حدود الرؤية الاجتماعية بل يثير – وإن على نحو خافت يجري تحت جلد الصورة- تساؤلات فلسفية حول معنى الوجود من خلال العقيدة والعلاقة مع الآخر، وما هو أصل الأشياء كما خلقها الله.
وإضافة إلى هذه التساؤلات، يثير الفيلم قضية العلاقة بين الدولة والأقليات العرقية، وبين الفكر الشمولي وتعامله مع الموروث الديني حتى لو لم يكن يمثل أدنى خطورة على وجود الدولة.
ولكي نلم بأبعاد الموضوع علينا أن نعود قليلا إلى الوراء، إلى التاريخ الحديث القريب، لنرى ماذا حدث في بلغاريا.
الخروج القسري
مع تداعي ثم انهيار الإمبراطورية العثمانية، ظلت هناك أقليات مسلمة من أصول تركية، تعيش في بعض البلدان التي كانت تحت هيمنة تلك الإمبراطورية الغابرة. ومن أكبر هذه الأقليات تلك التي كانت – وربما لا تزال – تعيش في بلغاريا.
ورغم هجرة الملايين من بلغاريا إلى تركيا خلال القرن العشرين فقد ظلت هناك أقلية مسلمة في بلغاريا كانت تقدر بنحو مليون شخص في ثمانينيات القرن العشرين.
وفي بداية الثمانينيات بدأت في بلغاريا أكبر عملية لتبديل هوية الأقلية المسلمة. فقد صدرت قوانين تحظر ارتداء الأزياء الإسلامية، كما تفرض على البلغاريين من أصول تركية اتخاذ أسماء بلغارية لهم، وإعادة تسجيل أنفسهم ونقلهم من أماكن إقامتهم قرب الحدود مع تركيا إلى أماكن أخرى.
وفي عام 1989، دعا الزعيم البلغاري الشيوعي تيودور جيفكوف تركيا إلى فتح حدودها كما فعلت بلغاريا أمام البلغاريين المسلمين، بعد أن كانت قد بدأت أكبر عملية ترحيل قسري شملت 350 ألف بلغاري من أصول تركية لدفعهم للهجرة إلى تركيا. في أجواء تلك الفترة تحديدا تدور أحداث هذا الفيلم البلغاري المدهش.
حفظ الأختام
هناك أولا الشاب البلغاري "إيفان" الذي يجند في الجيش، ونظرا لإجادته لعبة الشطرنج يتم تكليفه بمهمة حفظ الأختام الجديدة التي تحمل أسماء الأماكن الجديدة التي يتم نقل الأتراك البلغار إليها.
ويصور الفيلم كيف كانت السلطات ترغم الناس على التخلي عن أسمائهم وتمنحهم أسماء جديدة، وتقوم بإزالة عشرات القرى الجبلية من الوجود أو تغيير أسمائها ونقل سكانها وترحيل من يرفض الانصياع إلى الجنب الآخر من الحدود التركية.
وسط هذا كله تبرز من بين الأقلية المسلمة المعلمة الشابة الأرملة "آيتان" التي ترفض تحت كل الظروف التخلي عن هويتها، وتقود أهالي قريتها لاستعادة المسجد الذي دمرت القوات الحكومية جزءا منه، وتحاول سرقة الأختام الرسمية التي تستخدمها الجهة الإدارية لختم أوراق الهوية الجديدة للسكان الأتراك. وهنا يقع احتكاكها الأول بالمجند الشاب إيفان الذي تعجبه شجاعتها وتمسكها بقضيتها.
وفي مواجهة بين قوات الجيش وأهالي قرية مسلمة – ومن بينهم آيتان- يقع حادث بشع عندما يقود إيفان عربة مدرعة استجابة لأوامر قائده، مباشرة في اتجاه تجمع احتجاجي لنساء القرية مما يؤدي إلى مقتل ابنة آيتان الصغيرة. ويتسبب الحادث في أزمة نفسية عميقة لدى كل من إيفان والأم الشابة، ويُلحق كلاهما بمستشفى للعلاج النفسي.
ولا يكف إيفان منذ تلك اللحظة عن متابعة آيتان، يريد أن يكفر بكل طريقة ممكنة عن خطيئته، بينما لا تستطيع هي رغم انجذابها الواضح له، أن تسامحه أو تغفر له، فقد حرمها من أعز ما تملك في لحظة انصياع أحمق لبطش السلطة.
ويسعى شقيق الفتاة إلى إقناعها بمغادرة بلغاريا إلى تركيا، حيث يرى أنها ستصبح بمأمن هناك. إلا أنها تفضل البقاء في بيت قديم بالقرية. يطاردها إيفان ويبوح لها بالحب، ويقول بأنه متمسك بها وأنه يحترم عقيدتها بل ويعرض على جدها الشيخ، أن يصبح واحدا من الأسرة، ينتمي إلى عقيدتها.
التمسك بالهوية
وفي مشاهد تشيع فيها الشاعرية والرقة، يتغنى الفيلم بتمسك المرء بهويته، فالدين هنا جزء من الهوية، وليس مرادفا للتعصب الفكري.
ويعد "العيون المسروقة" الفيلم الروائي الثاني للمخرج سباسوف، الذي درس التصوير السينمائي وعمل مصورا في أكثر من 20 فيلما بلغاريا، قبل أن يتحول للإخراج.
ولا شك أن تجربته في التصوير تنعكس هنا كأفضل ما يكون، وتتبدى في اهتمامه الكبير بالتكوين والتشكيل والاستفادة الكبيرة من مواقع التصوير التي اختارها بعناية كبيرة، ونجح في استغلالها في تأكيد العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الماضي والحاضر، تأكيدا على فكرة التمسك بالهوية.
ولا شك أيضا أن من أكثر الجوانب بروزا في هذا الفيلم، الأداء الرفيع المتميز للممثلة فاسيلا كازاكوفا في دور آيتان (التي ترفض تغيير اسمها إلى آن)، بتعبيرها الدقيق عن التطور الذي يطرأ تدريجيا على الشخصية. فهي تبدو في البداية شديدة التمسك بجذورها، أقرب إلى العناد الطفولي في مواقفها ورفضها للآخر والتشكك فيه لمجرد انتمائه للطرف الثاني. وبعد وقوع الحادث وفقدانها ابنتها تمر بمرحلة صعبة، بين الجنون والعقل، وهنا تتألق الممثلة كثيرا وتجيد التعبير بالعينين والحركة الرصينة والصمت.
نهاية سعيدة
ولا يتخذ الفيلم مسارا منطقيا في خط صاعد نحو الذروة ثم الهبوط نحو الانفراجة الأخيرة، بل يبدأ من حيث تأزم الموقف بين أبناء الأقلية المسلمة والسلطات، ثم يعود إلى متابعة نمو العلاقة بين الشاب والفتاة، قبل أن يعود أخيرا إلى تأكيد فكرة الارتباط القدري بين الطرفين: آيتان وإيفان.
تمر فترة اختبار طويلة وشاقة، لتهيئة إيفان للانضمام إلى الأسرة المسلمة، وتحت رعاية ومراقبة الجد الشيخ، ينجح إيفان أخيرا في كل ما تعرض له من اختبارات، فهو يتخلى عن شرب الخمر، وينصاع لفكرة الانتظار لممارسة الحب بعد الزواج، ويبذل كل ما يمكنه من جهد في ترميم المسجد، وأخيرا يتزوج الاثنان ويقوم إيفان بترميم المنزل القديم في البلدة الحدودية المدمرة التي يقرر الاثنان البقاء فيها رغم كل ما يحدث.
هذه النهاية السعيدة التي يختتم بها الفيلم تحمل هنا معنى رمزيا: فهي ترمز إلى إمكانية التعايش بين البشر، وانتصار إرادة التسامح على روح التعصب والبغضاء.
وتعبر اللقطة المتكررة في الفيلم لدقات جرس الكنيسة القديمة في القرية التي تختلط – على شريط الصوت- بصوت المؤذن أعلى مئذنة المسجد، عن التعايش بين الأديان والعقائد، وعن الروح المشتركة التي تواجه معا الظلم.
ولعل من أكثر ما يؤكد تلك الروح التي يشيع فيها الحس بالتسامح والرغبة في التكفير عن الماضي، والتطلع المشترك إلى المستقبل، أن هذا الفيلم جاء ثمرة للإنتاج المشترك بين بلغاريا وتركيا، وإن كانت الفكرة والنص والإخراج لمخرجه البلغاري.
0 comments:
إرسال تعليق