الثلاثاء، 26 مايو 2009

حول جوائز مهرجان كان: لماذا لم يحصل "الزمن الباقي" على السعفة الذهبية

انتظرت أن تهدأ الضجة، وتنقشع العاصفة التي أثارها إعلان جوائز مهرجان كان الثاني والستين من لجنة التحكيم برئاسة الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير، قبيل أن أكتب رأيي في نتائج المهرجان.
كان رأيي المعلن، ولايزال – في يومياتي التي كتبتها من كان- أن فيلم إيليا سليمان "الزمن الباقي" هو الفيلم الأفضل بكل المقاييس بين كل أفلام المسابقة الرسمية، فهذا عمل أصيل، ممتع، متكامل تكامل اللوحة التشكيلية التي تعبر عن مبدعها، لا توجد فيه لقطة زائدة ولا لقطة ناقصة، أمتع كل ما شاهده بعين محايدة غير متعصبة. هنا نحن أمام "رؤية" بصرية هائلة لفنان، يتوقف أمام التاريخ ليعابثه، وأمام الجغرافيا، لكي يتشكك فيما تفرضه من "حتميات" تبدو وكأنها تكرس للتناقض المزري في منطقة شديدة الخصوصية، تفرض نوعا من "التعايش" بالسلاح، والبقاء للأفضل، ومن دون أي شعارات أو بيانات سياسية.
لقد جعل إيليا سليمان من الاحتلال "مسخرة"، دون أن يغفل نقد الوضع الفلسطيني بقسوة، ولكن بحب.
هذا هو الفيلم المتكامل المتماسك في بنائه، صاحب الصورة البديعة وشريط الصوت المبهر، الذي كان يستحق، بعيدا عن أي حسابات سياسية "السعفة الذهبية" أو في أدنى الأحوال، جائزة الإخراج. غير أن منح الفيلم السعفة الذهبية كان سيفسر على أنه "تأييد" لموقفه السياسي، وكل موقف سياسي في العالم مقبول حاليا: ضد إيران (كما في فيلم "القطط الفارسية التافه الشأن وأنا أعني كلمة"تافه" هنا، وضد الصين، وضد باكستان والعرب وحتى ضد الولايات المتحدة، أما موقف سياسي ينتقد "إسرائيل" فهذا رجز من عمل الشيطان، يستعيذ منه الأوروبيون والآسيويون، بل وأتذكر أيضا أن زميلي في عضوية لجنة تحكيم النقاد هذا العام أحمد جمال (ينطقونه أحمد زامال!) كان عضوا معي أيضا في اللجنة نفسها في 2002. وعندما منحنا (بالعافية) جائزتنا لفيلم ايليا سليمان السابق "يد إلهية"، وأثناء حفل توزيع الجوائز أسر لي أحمد جمال أنه لاحظ غضب الإسرائيليين الموجودين بالحفل، وكان يرتعد فزعا وخوفا، فقلت له إن الأمر لا يعنيني ولا شأن لهم بجوائزنا، وماذا تخشى أنت، وماذا سيفعلون لنا.. إلى هذا الحد بلغ الذعر من إسرائيل والاسرائيليين حتى في أوساط نقاد السينما، وحتى لو كان الناقد من بنجلاديش (المسلمة)!.

دور السياسة
إيزابيل أوبير صرحت قبل المهرجان بأنها لن تخضع الاعتبارات السياسية للجوائز منتقدة أداء سلفها شون بن رئيس لجنة التحكيم العام الماضي.
إلا أنني أستطيع القول إن السياسة طغت على نتائج لجنة ايزابيل أوبير بل والمقاييس الشخصية أيضا لأن فيلم "الشريط الأبيض" أولا فيلم سياسي تماما، بل إن فيه نوعا من الشطط عندما يعود ليدمغ ثقافة شعب كامل هو الشعب الألماني بالعنف والقسوة والميل إلى الصدام. وهو ليس أفضل أفلام مخرجه الكبير مايكل هانيكه، وأنا شخصيا من المعجبين بأفلامه السابقة مثل "مخفي" Hidden و"الشفرة مجهولة" Code Unknown و"ألعاب طريفة" Funny Games وغيرها.

وقد كتبت انطباعي عن فيلمه الجديد "الشريط الأبيض" The White Ribbon في يومياتي من المهرجان وقلت إنه عمل ثقيل الوطأة، تقليدي، يمتليء بالحوار الطويل المرهق. ولكن المفاجأة تمثلت في أن يحصل هذا الفيلم تحديدا، الذي لم يرشحه سوى ناقد واحد على السعفة الذهبية. ويبدو أن ايزابيل أوبير ردت الجميل لأستاذها هانيكه الذي منحها الفرصة في دور البطولة في فيلم "معلمة البيانو" The Piano Teacher الذي حصلت عنه على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان كان 2001.
أما أن يحصل فيلم ضعيف ومفتعل وسخيف من كل النواحي هو فيلم "عطش" مناصفة على جائزة لجنة التحكيم مع فيلم متميز مثل البريطاني "حوض الأسماك" Fish Tank فهذا ليس سوى إرضاء أو ترضية لعضو اللجنة الكاتب والمخرج من كوريا الجنوبية لي تشانج جونج.
ويعد حصول فيلم "كيناتاي" Kinatay الفلبيني على جائزة أحسن إخراج ترضية ثانية للآسيويين الموجودين في اللجنة وليس أهمية الفيلم أو تميزه في الإخراج، وأين هذا الفيلم من أفلام آلان رينيه أو ألمودوفار أو كن لوتش!
ويعد ذهاب جائزة أفضل سيناريو لفيلم "حمى الربيع" The Spring Fever الفرنسي (الصيني) قمة المهزلة، فهذا عمل ضعيف مفكك لا يتمتع بأي قيمة خاصة، بل كل ما أثار اهتمام المهرجان به أن مخرجه ممنوع من العمل في الصين، وأنه صور فيلمه سرا على ما يبدو بكاميرا صغيرة، وفي أجواء معتمة قاتمة، ولأنه يخترق المحظور، حين يتناول علاقة عاطفية ملتهبة بين شابين من الشواذ جنسيا (يسمونهم المثليين). ومرة أخرى فهذه جائزة سياسية في المقام الأول.
فيلم "خريطة أصوات طوكيو" The Map of THe Sounds of Tokyo لا يستحق جائزة التميز الفني بل يستحقها عن جدارة فيلم "الانتصار" Vincere لبيللوكيو الذي كان يستحق أيضا أحسن إخراج أو الجائزة الكبرى للجنة التحكيم التي ذهبت إلى فيلم أقل في مستواه من "الانتصار" وإن كان ضمن الأفلام الجيدة هو الفيلم الفرنسي "نبي" A Prophet لجاك أوديار.
التمثيل
وفي رأيي أن أفضل أداء تمثيلي نسائي في كل أفلام المسابقة كان أداء الممثلة الإيطالية جيوفانا ميزوجيورنو في فيلم "الانتصار"، لكن الجائزة ذهبت للفرنسية شارلوت جينسبرج عن دورها في الفيلم الفضائحي "نقيض المسيح" Antichrist ربما لأنها كانت الممثلة التي وافقت على القيام بذلك الدور الذي يتضمن مشاهد جنسية عنيفة مقززة، بعد أن رفضه عدد من الممثلات.
ولعل جائزة أحسن ممثل هي الوحيدة التي أجدها في مكانها تماما هنا، فقد حصل عليها الممثل النمساوي العظيم كريستوف فالتز عن دوره في فيلم "أوغاد مجهولون" Inglorious Baserds لتارانتينو.
أما جائزة الكاميرا الذهبية فحصل عليها فيلم متواضع المستوى تماما هو "شمشون ودليلة" Samson and Dalila في حين أنه كانت هناك أفلام أكثر أهمية وقوة منه مثل الفيلم الكولومبي "رحلات الريح" Voyages of the Wind مثلا.
ومن العار أن يمنح المهرجان جائزة خاصة للإسهام الفني للمخرج آلان رينيه ولا يمنحه السعفة الذهبية عن فيلمه البديع "الحشائش البرية" الذي يتفوق بلا أدنى شك على فيلم "الشريط الأبيض" القاتم السوداوي الذي لا يضيف أي جديد، سواء على صعيد النص السينمائي، أم لغة الإخراج، بل إن كل شيء فيه تقليدي تماما.
توضيح حول جوائز النقاد
بخصوص جوائز النقاد التي كنت طرفا مباشرا فيها أود أو أوضح التالي:
أولا أنني لم أكن من الذين صوتوا لمنح أحسن فيلم من أفلام المسابقة إلى "الشريط الأبيض" بل عارضت ذلك وقلت بوضوح مستنكرا الفيلم "إن مهمة المتابع للفيلم من الذين لا يعرفون الألمانية تنحصر في متابعة الترجمة المصاحبة التي لا تتوقف، وأنه عمل ممل بسبب بطء إيقاعه، وغموض موضوعه، وطوله المفرط، وأساسا لأنه لا يتمتع بنفس اللغة السينمائية العالية والحساسية التي تميزت بها أفلام مخرجه السابقة. غير أن النتائج لا تصدر عن لجنة النقاد بإجماع الأصوات بل بالأغلبية، وبالتالي لم أستطع تغيير الاتجاه، خاصة وأنني كنت من أنصار منح فيلم "الزمن الباقي" الجائزة. وعندما اتفق على حصول الفيلم الفلسطيني (الأمريكي) الآخر "أمريكا" لشرين دعبس، وهو فيلم جيد، على جائزة أحسن فيلم في قسم "نصف شهر المخرجين" اعتبر هذا توازنا مقبولا.
أما فيلم "الشرطة: صفة" Police, Adjective الذي حصل على جائزة النقاد عن أفلام "نظرة خاصة" فهو عمل بديع غير مسبوق في لغته وبنائه وموضوعه أيضا، ولم يكن هناك أي خلاف عليه.
وقد كتبت رأيي فيما عرف بـ"أفلام العمالقة" في دورة كان الـ62، وانتقدت فيلم "الشريط الأبيض" حتى قبل أن نتوصل إلى الجوائز، وأرسلت بمقالي (بالإنجليزية) إلى الناشر المسؤول في اتحاد النقاد الدولي (فيبريسي) تمهيدا لنشره في موقع فيبريسي حسبما هو مطلوب من كل عضو من أعضاء لجنة تحكيم النقاد. ويتضمن مقالي (الذي لم ينشر بعد) انتقادا لأفلام المخرجين الكبار في المسابقة التي أرى أنها، بشكل أو بآخر، لم ترق إلى مستوى أفلامهم السابقة ربما باستثناء فيلم آلان رينيه "الحشائش البرية".

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger