هل تصنع المعارضة السياسية سينما عظيمة؟
أمير العمري
جاء فيلم "وداعا" للإيراني محمد رسولوف إلى مهرجان كان، مفاجأة لم تكن متوقعة، فمخرجه يقضي عقوبة بالسجن لمدة ست سنوات رغم أنه أعلن أنه سيستأنف الحكم، كما صدر قرار من السلطات الإيرانية بمنعه من الإخراج السينمائي لمدة عشرين عاما هو وزميله جعفر بناهي (الذي يعرض له فيلم جديد في المهرجان أيضا، يقال إنه أخرجه من وراء القضبان بمساعدة مخرجة إيرانية على طريقة الفيلم الأخير للمخرج التركي الراحل يلماظ جوني"، وكان أيضا معارضا سياسيا في تركيا، ولكن شتان بين الحالتين).
المفاجأة الأولى التي جاءت قبل بدء عرض فيلم المخرج محمد رسولوف (والمقصود محمد رسول ويكتبه الإيرانيون كما يظهر على شريط الفيلم "محمد رسول اف".. بينما تميل الصحافة العربية إلى ترجمته عن اللغات الأوروبية خطأ "راسولوف". وعموما الإسم ليس هو المفاجأة ولا تلك النغمة "الروسية" التي تصبغ الاسم، إلا إذا كانت كلمة "اف" لها معنى ما ديني أو على الأقل- حميد- في هذا السياق، في اللغة الفارسية التي لا ندعي أننا نعرفها!
أما المفاجأة أو ما اعتبرته شخضيا مفاجأة (ولا يبدو أن معظم الحاضرين،وكانت القاعة تغص بهم، اعتبروه كذلك) هو أن يتقدم وفد إيراني مكون من رجل ومجموعة من النساء الايرانيات بينهن بطلة الفيلم وصاحبة الدور الرئيسي فيه وغيرها أيضا، وجميعهن يرتدين الشادور أي الزي الايراني الاسلامي التقليدي ويغطين رءوسهن. والمعنى الواضح وراء ذلك أن هذا وفد "رسمي" جاء من إيران رأسا (ولم يأت مثلا من أمريكا)، بموافقة السلطات الإيرانية ومباركتها، فكيف يكون هذا الفيلم فيلما معارضا وتبارك السلطات عرضه، بل وترسل معه وفدا رسميا. ولو كان الفيلم ممنوعا بسبب معارضته للنظام، أو صور سرا كما أشيع، لكانت إيران قد اعترضت رسميا، كما سبق أن فعلت، على عرضه ضمن البرنامج الرسمي في مهرجان كان (يعرض الفيلم في تظاهرة نظرة خاصة أي يتسابق على نيل الجائزة المخصصة لأفضل الأفلام في هذا القسم وهو أمر غير مستبعد بعد سابقة حصول فيلم ايراني سياسي آخر ضعيف قيل أيضا أنه صور سرا على هذه الجائزة قبل سنتين، وهو فيلم بهمن قبادي "لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية)!
ولا أفهم كيف يكون الفيلم معارضا، وتأتي ممثلاته وقد وضعن على رءوسهن علم النظام "القمعي" أو "ساتر الرأس" الذي تفرضه شرطة الأخلاق والتهذيب الايرانية، وهي جهاز قمع النظام الايراني الشبيه بنظام المطوعين في السعودية!
رسولوف |
أما الفيلم نفسه، كعمل فني، وليس كعمل سياسي، فقد جاء ضعيفا إلى حد يثير الرثاء حقا. بناء تقليدي، وايقاع ميت بمعنى الكلمة، قد تستغرق فيه لقطة واحدة نحو سبع دقائق مع كاميرا ثابتة تصور امرأتين من الجانب (البروفيل) تتبادلان الحديث الممل، المعاد، المكرر، دون توقف، فما هو الإبداع الاعجازي الذي يشهق له البعض في كان وغير كان، والذي يمكن أن يكون موجودا في فيلم متهافت رديء ممل من هذا النوع!
موضوع الفيلم أن محامية شابة متزوجة من رجل يفترض أن يكون في السجن، كمعتقل سياسي، ترغب في الحصول على تأشيرة للخروج من ايران، ولكننا أيضا لسنا متأكدين من حقيقة اعتقال زوجها، فهو يظهر في مشهد من المشاهد معها في البيت، يناقشها في موضوع السفر للخارج ويرفضه. وهي في الوقت نفسه تقول لكل من يسألها عنه (مثل صاحب المنزل الذي تستأجره وتريد أن تتركه لتحصل على مبلغ التأمين الذي دفعه زوجها) إنه يعمل في الجنوب، في منطقة صحراوية لا توجد فيها تغطية للهواتف المحمولة. بل انها تكرر هذا القول أيضا لرجال الشرطة السرية، وهو ما يحدث اختلاطا في الفهم لدى المشاهدين للفيلم، فكيف لا تعرف الشرطة أنه مسجون!
وليس في الفيلم شيء آخر عدا أن هناك زوجا "غائبا"، وزوجة تسعى في طرق تحت أرضية، للحصول على تأشيرات لدخول دولة أجنبية لها ولزوجها، وهي في الوقت نفسه حامل، ترغب أولا في الاحتفاظ بالطفل، ثم تحاول التخلص منه لكنها تواجه مصاعب في هذا السبيل. وهو جانب سبق تناوله كثيرا في الافلام الايرانية وغير الايرانية دون أن يكون له معنى خاص. وبعد مشاهد طويلة تمتليء بالحوارات المملة والتي تدور كلها في أماكن داخلية، كان قد ينتهي الأمر باعتقال المرأة ومنعها من السفر. فما هي العظمة الفنية وراء موضوع ممل ساذج، أحادي الجانب مثل هذا، وماذا يغري في فيلم تقليدي لو صنع في اندونيسيا مثلا لما لفت نظر أحد من القائمين على أمر مهرجان كان أو غيره من المهرجانات في الغرب.
جعفر بناهي |
المسألة بوضوح أن إيران حلت سياسيا محل الاتحاد السوفيتي. وبعد أن ظلت الأوساط السينمائية في الغرب، وخصوصا في مهرجانات السينما الغربية مثل كان تحديدا، تذرف الدموع وتصدر بيانات الشجب والادانة طوال الستينيات والسبعينيات، ضد السياسة السوفيتية، وتطالب بالافراج عن الأفلام"الممنوعة" هناك وتتلقف ما يهرب منها سرا وتقرع له الطبول، أصبحت الأن تستبدل الاتحاد السوفيتي بإيران، وتعلي كثيرا من شأن أفلام إيرانية لا قيمة لها ولا يمكن أن تصمد في أي اختبار حقيقي يعتمد فقط على تحكيم المستوى الفني وحده، وبعيدا عن تلك المبالغات الاعلامية التي تدور حول المنع والقمع والاضطهاد، ووضع كراسي فارغة للمخرجين الغائبين، بينما تصادر الأفلام وتمنع يوميا هنا وهناك دون أن يلتفت أحد، بل واحيانا يقتل أيضا السينمائيون وتدفن جثثهم، دون أن ينبري السيد تيري فيرمو أو جيل جاكوب، للتباكي على ما يحدث لهم من قمع وقتل على الهوية. ولعل أمامنا مثل واضح لما يحدث يوميا من انتهاكات من أبشع ما يكون، تجري على أرض فلسطين. بل وماذا عما يحدث للسينمائيين السوريين؟ ولماذا لم يخصص مهرجان كان مثلا يوما للتضامن مع هؤلاء السينمائيين الممنوعين من العمل والذين يتساقطون واحدا وراء الآخر أو يضطرون للعيش في المنافي أو الصمت في الداخل!
إن السينما العظيمة لا تصنعها بيانات التنديد والتأييد، ولا ادعاءات أنها سينما معارضة سياسية، فأي معارضة تلك التي ترتدي أعلام النظام، وتأتي بأوامر منه، وأي معارضة تلك التي تستخدم فكرة المعارضة للمتاجرة بها في الغرب وتحقيق مكاسب لسينما ضعيفة، مفككة، تقليدية تمتليء بالحوارات المملة التي لا تنتهي، والمواقف الميلودرامية التي تتوقف الكاميرا أمامها لا تريد أن تتحرك ابدا؟ وما هذه السينما المتجهمة المنفرة التي لا تعرف أي نوع من الدعابة وكأن الشخصية الايرانية (المعارضة أو المضطهدة) لا تبتسم، ولا تضحك، ولا تملك أي قدرة على التفاؤل والأمل.
إنني لا أنسى عندما جاء المخرج الروسي المرموق اليم كليموف الى دار الفيلم البريطانية ودار معه نقاش مفتوح صريح عام 1987، وكان قد تولى أخيرا منصب الأمين العام لاتحاد السينمائيين السوفيت، ففاجأ الجميع ممن يسألونه عن الأفلام "الممنوعة" بأنه عندما تولى منصبه، أمر بإعداد قائمة بالأفلام الممنوهة او الموضوعة "فوق الرف"، واستدعي مخرجيها وسألهم إذا كانوا لايزالون يرغبون في عرضها هروضا عامة، فكانت المفاجاة أن معظمهم رفض عرضها لرداءة مستواها، وحتى لا تحسب عليهم أو بالأحرى، ضدهم، فنيا!
وأنا أكاد اثق أنه سيأتي يوم يعاد فيه فتح ملفات السينما الإيرانية، لنعرف حقيقة ذلك "المنع" المزعوم، والاضطهاد، والنضال الايراني ضد القمع السينمائي. والفيلم الجيد يظل في النهاية هو الفيلم الجيد، وليس الفيلم المؤيد أو المعارض.
0 comments:
إرسال تعليق