الجمعة، 7 يناير 2011

فيلم "127 ساعة": الإنسان والقدر الإنساني

لاشك أن فيلم "127 ساعة" للمخرج البريطاني داني بويل (رصد القطارات، المليونير المتشرد) أحد أفضل الأفلام التي عرضت عام 2010. والسبب ليس فقط أنه يصل إلى درجة مدهشة من الإتقان في الصنعة، وهو أمر لم يعد ولا يجب أن يدهشنا، خاصة عندما تكون قد توفرت للفيلم الإمكانيات الفنية والإنتاجية الضرورية بسخاء، وبعد أن أصبح "إتقان الصنعة" أي التقنيات السينمائية في هوليوود، أمرا مفروغا منه دون أن يعد في حد ذاته "ميزة خارقة" كما يعتقد البعض، فالتقنية غير الأسلوب، والأدوات، غير الرؤية. والفيلم بدون أسلوب أو رؤية هو عمل آلي يمكن لاي "صنايعي" أن يصنعه.
أما السبب الأكثر أهمية فيعود في رأيي، إلى قدرة داني بويل على التعامل مع موضوع إنساني غير عادي بكل هذه الدرجة من الشفافية التي تقترب من الحس الصوفي المعذب أحيانا، خلال تأمله في طبيعة المأزق الإنساني، مأزق الوجود ومعنى الخلاص، وهل هو خلاص روحي أم جسدي، أم كلاهما.
هذه المعاني والأفكار لا تطرح هنا على صعيد مباشر بل يمكن أن نستشفها فقط إذا تمكنا من الوصول إلى هذا المستوى الثاني الأكثر عمقا عند مشاهدة الفيلم ولم نتوقف فقط عند المستوى الأول، الذي يبدو على السطح الخارجي للصورة.
إنسان أمريكي شاب، من هواة المغامرة، أكثر قليلا من مجرد تسلق الجبال، بل الغوص في المنحنيات والدروب القائمة بين المرتفعات الجبلية في الغرب الأمريكي، التي تعرف بالـ canyons
هذا الشاب، الذي انقطعت صلته تماما بأسرته، لأنه ببساطة، لم يخبرها بما يعتزم القيام به، وبعالمه الآخر في المدينة، يجد نفسه فجأة حبيسا بفعل قوة خارقة لا يمكنه أن يقاومها، هي قوة الطبيعة القاهرة، فقد سقط في هوة عميقة وأصبح معلقا في فراغ قائم بين جبلين، بعد أن تحركت صخرة كبيرة وأطبقت على ذراعه الأيمن، وأصبح بالتالي عاجزا تماما عن الحركة. كل ما معه كاميرا فيديو صغيرة ومطواة وقنينة ماء وأشياء أخرى عادية تماما يخرجها كلها من حقيبته ويضعها أمامه، الكاميرا تسجل ما يحدث له، بينما يحاول هو بالمطواة الصغيرة أن يحفر في الصخر حول ذراعه لكي يخلصها ويحرر نفسه، ولكن دون القدرة على تحقيق أي تقدم يوحي بأي أمل.

ويظل بطلنا هذا.. آرون رالستون (وهي شخصية حقيقية كما أن الحادثة حقيقية) معلقا في هذا المأزق المكاني والزماني، لمدة خمسة أيام أو 127 ساعة تحديدا.
ولا يجد في النهاية حلا بعد أن ينفذ الماء الذي كان معه ويضطر لشرب بوله، وتتلوى أمعاؤه من الألم جوعا، سوى أن يستخدم المطواة في قطع ذراعه لكي يفصله بالكامل عن جسده، وهو ما يقوم به في أحد أكثر المشاهد رعبا في تاريخ السينما.
هذا الانتحار
هذا الموضوع كان يعد من وجهة النظر الدرامية البحتة "انتحارا". لماذا؟ لأنه يخلو أصلا من معظم العناصر المعتادة التي تتشكل منها الدر اما: الحركة، الشخصيات، الصراع، العقدة.. إلخ
غير أن مخرجا بوزن داني بويل يتمكن بعبقريته من تحويل هذه الحالة "الاستاتيكيية" او الساكنة، إلى فيلم مثير، من خلال تصويره المكثف لتلك الحالة من زواياها المختلفة: ماضي الشخصية وتاريخها الشخصي الذي يعود إليه في لقطات سريعة قصيرة، هواجسه وأحلامه في تلك اللحظة الممتدة: هل يحلم بشرب مياه مثلجة مثلا أم مشروب رائع وهو يجلس على شاطيء البحر مثلا، وبكل بأجواء العيش اللذيذ التي تليق بشاب في مقتبل العمر مثله، إلى طفولته، وإلى نفسه التي نراها وهي تشاهده في تلك الحالة وتتأمل ذراعه ومأزقه. إنها تلك الحالة السيريالية المخيفة التي تدور في تلك المساحة الغامضة بين الحلم والواقع، أو بين الكابوس والحقيقة، تغلفها موسيقى شديدة القوة والتعبير لا تتوقف دقيقة واحدة عن الضغط بشدة على أعصابنا نحن المشاهدين.
واقعية مشهد البتر الذي يصل إلى مستوى من الإقناع غير مسبوق على الشاشة، أدى إلى تسجيل عدد من حالات الإغماء بين المتفرجين داخل دور العرض. وقد شهد العرض الخاص الذي حضرته في لندن للفيلم قبيل عرضه في مهرجان لندن السينمائي (قبل أن يذهب إلى مهرجان دبي أيضا) الكثير من حالات "المغادرة" أي أولئك الذين غادروا قاعة السينما في ذعر، وتردد أن إحدى الصحفيات أغمى عليها أيضا.
ولعل الفيلم من خلال كل هذه القوة التي تتغلغل في الأحشاء، أي تنفذ داخل أكثر المناطق وعورة في النفس البشرية (عبر فكرة الحرية بأي ثمن ورفض القهر) وتجسيدها بهذا الشكل المباشر بلا رحمة، عامل أساسي في فكرة "العلاج بالصدمة" وفي مسرح السيكودراما مثلا بوجه خاص.
كان اليخاندرو خودوروفسكي العظيم مثلا يذبح الدجاج ويلقي به من فوق خشبة المسرح أثناء الرقص عاريا مع زملائه في العرض، في أواخر الستينيات في باريس، في ذروة ما عرف باسم مسرح البانيك panic theatre .. غير أننا لسنا هنا أمام سيريالية بونويل أو جموح خودوروفسكي المتجاوز لكل الحدود، بل أمام تجسيد "واقعي" تماما للحقيقة، لما حدث، لتلك الرغبة العنيفة لدى الإنسان في تجاوز مأزقه، والعبور عليه بأي ثمن وبأي طريقة، حتى لو كانت قطع ذراعه والتخلي عنها ثم التطلع إليها في فزع، ومحاولة تضميد الجرح الهائل أو وقف النزيف الحاد الذي ينتج بعد ذلك، ثم السقوط من هذا الوضع المعلق، من على ارتفاع أكثر من عشرين مترا، وقطع مسافة 12 كيلومترا قبل يصل إلى بر النجاة
إيقاع الفيلم سريع، رغم تلك الحالة الساكنة كما أشرت، ولقطاته متعددة داخل ذلك الإطار الزمني المحدد (السحري) أي الـ90 دقيقة.

والأداء التمثيلي يرقى هنا إلى أفضل مستويات التمثيل السينمائي، أساسا بفضل مخرج يعرف كيف يختار الممثل، وكيف يدربه ويؤهله نفسيا للقيام بهذا الدور الشاق، ثم ذلك الممثل (جيمس فرانكو) الذي يمتلك القدرة والشجاعة والاقدام على أداء دور صعب مع توحد تام مع الشخصية.
فيلم أساسي
إن فيلم "127 ساعة" ليس واحدا من تلك الأفلام التي تراها ثم تنساها بسرعة بعد أن تغادر دار العرض، فهو ليس فيلما من أفلام الميلوداما المشغوفة عادة بالعقدة، أي بمجرد فكرة وجود رجل وحيد في مأزق، بل يتجاوز هذا كثيرا ليصبح فيلما قاعديا، أساسيا، يعود بنا إلى جوهر سنيما الفن الأول وأصولها، تلك السينما "الأساسية" التي عاد إليها أيضا في 2010، وياللدهشة، مخرج كبير مثل البولندي يرزي سكوليموفسكي في فيلمه البديع "القتل الضروري" The Necessary killing الذي يتناول موضوعا قد يكون مشابها، عن إنسان يحاول النجاة من مصيره، وكأننا أيضا نعود إلى بدء الخليقة، إلى جوهر فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة، ورغبته الدائمة في الإفلات من مصيره حتى لو ارتكب فعل القتل، أول ما ارتكبه الإنسان على سطح كوكبنا، وهنا في فيلمنا هذا، حتى لو قطع ذراعه بيده.
وهذه الرؤية الخاصة عن الإنسان في عزلته، وفي علاقته بالقدر ومحاولته الإفلات منه، وارتداده إلى السحيق، إلى الطبيعة البكر الأولى، وإلى نفسه أيضا، هي أساسا، ما يميز فيلم "127 ساعة" ويجعل منه بالتالي أحد أعمال الفن الرفيع في زماننا.

1 comments:

فداء .... يقول...

يبدو الفيلم مشوق جدا بالاخص عندما تكون قصة حقيقية و واقعية شاساهده عن قريب اسجل اعجابي بالمدونة رائعة و اتابعها دوما

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger