فيلم"678" ومشاكل الأسلوب
من الأفلام المصرية التي احتفى بها مهرجان دبي السينمائي في دورته السابعة، الفيلم الجديد "678" الذي خصص له المهرجان عرضا كبيرا مميزا جاء في افتتاح البرامج العربية للمهرجان، وأقام ندوة صحفية واسعة لأبطاله ومخرجه قبيل عرضه مباشرة، كما حظى بتغطية واسعة عبر النشرة اليومية للمهرجان. وجدير بالذكر أن عرض الفيلم في دبي كان العرض العالمي الأول له قبل أن تبدأ عروضه في مصر في اليوم التالي أي في الخامس عشر من ديسمبر الجاري.
الفيلم لمخرج جديد قادم من عالم كتابة السيناريو هو محمد دياب. ومن إنتاج شركة "دولار فيلم" التي عادت أخيرا إلى مجال الإنتاج، وهي الشركة التي أنتجت عشرات الأفلام منذ نهاية الأربعينيات.
ويقوم بالأدوار الرئيسية في الفيلم بشرى ونيللي كريم وأحمد الفيشاوي وناهد السباعي وباسم سمرة وماجد الكدواني وسوسن بدر.
يرسم محمد دياب ببراعة شخصيات فيلمه المتعددة، التي يطرح من خلالها موضوعه الجريء، أو بالأحرى، يقدم بانوراما مكثفة مرعبة لما يقع يوميا في وسائل النقل العام في مصر بل وفي الشوارع والمدارس وغيرها أيضا، من تحرش جنسي تتعرض له النساء من جانب شريحة من الرجال، نتيجة للكثير من الأسباب الاجتماعية المرتبطة بحالة التدهور الاقتصادي وما يخلفه من عجز عن التحقق والإشباع من خلال الزواج، ونتيجة شيوع ثقافة التفوق الذكوري على "الأنثوية" التي تعد ضعيفة بالضرورة، وفي إطار هذه الثقافة تعتبر المرأة عموما "هدفا"، مشروعا للمعاكسات والمضايققات اللفظية والجسدية التي تصل في الكثير من الأحيان أيضا، إلى الاغتصاب، كما يعرض الفيلم بشكل صادم تماما.
إننا نحن أمام سبع شخصيات رئيسية تتداخل حياتها معا، وتتفرع وتتناقض لتنسج لنا تعقيدات الوضع الذي يفرز تلك الظاهرة، في حين أغمضت السلطات الرسمية عيونها عنها بل، ويتم تجاهل مناقشتها في الإعلام الرسمي بدعوى أنها إما تعد ظاهرة فردية محدودة، أو قد تسيء إلى سمعة مصر، وهي الذريعة نفسها التي تتخذ أيضا في مواجهة هذا النوع من الأفلام الاجتماعية.
بناء الشخصيات
شخصيات الفيلم هي أولا الشخصيات النسائية الرئيسية الثلاث: فايزة (بشرى) المرأة المحجبة الفقيرة التي تعاني من أجل تدبير نفقات الحياة مع زوجها وضمان تعليم طفليهما في المدارس الحكومية بمشقة بالغة. و"نيللي" (ناهد السباعي) التي تنتمي للطبقة الوسطى وتبو متحررة متماسكة تتمتع بقوة الشخصية والاستقلالية، و"صبا" (نيللي كريم" وهي امرأة ثرية حققت استقلالها الاقتصادي من خلال المشروع الخاص.
تتعرض النساء الثلاث للتحرش الجنسي في مواقف مختلفة، في حين تستمر معاناة "فايزة" بصورة يومية بسبب اضطرارها لاستخدام وسائل المواصلات العامة.
وفي مشهد من أفضل مشاهد الفيلم نرى كيف تتعرض "نيللي" للتحرش في عرض الطريق من سائق شاحنة يقبض على جسدها بقوة ويجذبها من داخل الشاحنة غير عابيء بما يمكن أن ينتج عن معابثته المستهترة لها من كارثة قد تودي بحياتها. لكن بسبب وعيها باستقلاليتها وعدم خوفها من مواجهة المعتدي، تقاوم نيللي بجرأة وشجاعة، بل وتطارد الرجل في مشهد شديد التعقيد من الناحية الفنية، لاشك أن محمد دياب ينجح بمساعدة المونتير، في تكثيفه وتجسيده واستخراج أكثر شحنة نفسية منه تصدم المتفرج وتضعه مباشرة في قلب المشكلة.
لا تخجل نيللي من مواجهة الموقف، بل وتصر على مقاضاة الرجل الذي اعتدى عليها في أول حدث من نوعه في مصر، وتتعرض خلال هذا للكثير من الضغوط من جانب أسرتها ومن جانب أسرة خطيبها الشاب الذي يبدو رغم قناعته بقضيتها وتفهمه لها، من النوع الذي يفضل الانحناء أمام العاصفة.
أما "صبا" فهي تتعرض لتحرش جنسي جماعي من جانب مجموعة من الشباب عقب مباراة مصر والجزائر في كرة القدم، فتلجأ بعد ذلك إلى توعية النساء من مخاطر التحرش وكيفية مواجهته، وتلتقي بالتالي بالضحيتين السابقتين، ومن هنا ينطلق الجميع لمعاقبة المتحرشين بالعنف المضاد.
ويدخل دور ضابط المباحث إلى الفيلم من خلال تعقبه لموضوع الاعتداء الجسدي على رجلين من المتحرشين، وتعقب الفتيات الى أن يتوصل لحقيقة ما حدث بل والى الأداة التي تستخدم في إصابة المتحرشين في مواضع حساسة من أجسادهم. ولكن هذه الشخصية تحديدا يمدها المخرج- الكاتب على استقامتها لكي يتعمق في نسيج حياتها الخاصة، في علاقته مع زوجته التي لا تنجب سوى الذكور، ثم كيف تموت بعد ولادة أول أنثى، وما ينتج عن ذلك من تطور مفترض في شخصيته وفي نظرته للحياة.
من الشخصيات الذكورية في الفيلم هناك أيضا شخصية زوج فايزة (باسم سمرة) الذي يشكو من اعراضها عنه بسبب نفورها المتولد عن الاعتداءات المتكررة التي تتعرض لها من جانب الرجال يوميا. وينتهي به الأمر إلى ممارسة العادة السرية.
وهناك أيضا الزوج السابق لصبا (أحمد الفيشاوي) وهو طبيب، ولكنه رغم ثقافته واطلاعه، عجز عن فهم أزمتها والتعامل معها بعد تعرضها للاغتصاب الجماعي أمام عينيه، وكأنه يلقي باللوم على الضحية، وهذا المفهوم سائد في الثقافة الشعبية المصرية والعربية عموما.
ولاشك أن الفيلم يطرح موضوعا جريئا لم يسبق طرحه في السينما المصرية والعربية من قبل بمثل هذه القوة والوضوح والتفصيل.
الأسلوب
ولاشك أن الأسلوب الواقعي في الإخراج الذي يصل أحيانا إلى محاكاة أسلوب الفيلم التسجيلي، باستخدام التصوير في الشوارع وفي ووسائل المواصلات العامة، ووسط الحشود خارج استاد القاهرة الرياضي، مع استخدام الكاميرا المحمولة المتحركة في الكثير من تلك المشاهد، يضفي الحيوية والواقعية على الفيلم، ويحقق هدفه في توصيل الفكرة إلى الجمهور، وتحقيق الصدمة المطلوبة التي تجعل المشاهدين يفتحون عيونهم على حقيقة ما يجري في المجتمع وانعكاساته وأسبابه.
وخلال الحبكة بتعقيداتها الدرامية والنفسية، يطرح الفيلم سؤالا كبيرا خلال هذا الطرح حول مدى مشروعية التصدي للعنف بالعنف، وحول العلاقة المعقدة (داخل البيوت والأسر) بين الرجل وزوجته، وهل يمكن أن تكون هناك أسباب أخرى (غير البرود الجنسي والإعراض بسبب عدم التوافق) من جانب الزوجة تجاه زوجها.. كما يطرح الكثير من الأسئلة حول مسؤولية الفرد ودور الدولة في التصدي للظاهرة، وحول مدى فهم رجل الشرطة لطبيعة المشكلة، ونظرة امجتمع للمرأة التي تتعرض للاغتصاب، وغير ذلك.
وكان يمكن أن يسجل لمحمد دياب أنه تمكن من تقديم عمل سينمائي شديد القوة والتميز، وأيضا التماسك والانسجام. فهو أولا عثر على موضوع جديد مثير للاهتمام، قريب من الجمهور.
ثانيا: نجح في تقديم عدد من الشخصيات الإنسانية التي يناقش من خلالها تلك القضية المعقدة الحرجة من القضايا المسكوت عنها في المجتمع.
وثالثا: لجأ إلى أسلوب سينمائي واقعي يعتمد على اقتناص اللقطات الموحية من زوايا صعبة، وربط مشاهد فيلمه ولقطاته بالإيقاع المتدفق السريع، وضبط الانتقال بين الشخصيات المتعددة، دون أن ينسى متابعة أحدها، وبحيث يستولي على اهتمام المتفرج طيلة الوقت.
إلا أن هذه السيطرة على الإخراج وعلى الأداء الجيد من معظم الممثلين المشاركين في الفيلم، وهو ما يميز الفيلم في ثلثيه الأولين، لا يستمر ويمتد بكل أسف إلى الثلث الأخير من الفيلم. هنا نجد الكثير من الحشو، ومن الخطابة المباشرة، والضغط بدون أي ضرورة فنية أو درامية، على "المعنى" و"الرسالة" وكأننا أمام عمل من أعمال التوجيه التعليمي النظري التربوي.
في الثلث الأخير من الفيلم الذي كان يجب أن يجمع فيه المخرج المؤلف خيوط فيلمه وينتهي بشخصياته إلى نهاياتها الطبيعية التي قد تكون أيضا نهايات مفتوحة، يحكم انفعالاتها، ويكتفي بالشحنة العاطفية الهائلة التي ولدتها المشاهد المتدفقة في الثلثين الأولين، إذا به يكشف عن تشوش فكري كبير، فهو حائر بين التفسير الواقعي العلمي للظاهرة، وبين التفسير الأخلاقي المبسط الساذج لها، بين ضرورة مواجهة الظاهرة بالعقل وبالوعي وبما تتركه من ندوب وآثار، والانحياز للمرأة ولحريتها في أن تخرج وتعمل وترتدي الملابس العصرية، وبين الخضوع للقيم الاقطاعية المتخلفة السائدة التي ترى أن المرأة قد تكون مسؤولة عما يحدث لها أيضا بسبب طريقتها في التزين والملبس.
ولعل جعل شخصية "فايزة" لامرأة ترتدي الحجاب والجلباب الطويل الذي يغطي جسدها بالكامل، ومع ذلك تتعرض يوميا لشتى أنواع التحرش، من أهم ما يصوره هذا الفيلم. وكان المرء يتخيل أنه بهذا الاختيار يريد أن يؤكد على أن ملابس المرأة ليست السبب فيما تتعرض له من اعتداءات من جانب رجال لا يردعهم حتى ما يسمى بالزي الإسلامي الذي يستر الجسد كله.
إلا أن الفيلم لا يثبت على موقفه هذا بل ينحرف في اتجاه خطاب شديد التزمت والرجعية عندما تقف فايزة، تلقي محاضرة على كل من نيللي وصبا، حول ضرورة ارتداء الملابس المحتشمة، وتتهمم الاثنتين بالتبرج والمبالغة والخروج على قيم المجتمع.. والتسبب بالتالي فيما جرى لهما. وينتهي هذا المشهد بصمت الاثنتين دلالة على عجزهن عن مواجهة منطق فايزة، ثم صعودها السلم إلى أعلى والتطلع إليهن بينما نراهن في أسفل السلم دلالة على هزيمة منطقهن. وفي مشهد تال نرى صبا وهي تقص شعرها أمام المرآة، وتتخلى عن التجميل. وهي تعود لكي تطلب مباركة فائزة لها بعد قص شعرها. وقد توقف المخرج قليلا عن جعلها ترتدي الحجاب أيضا بعد ادراكه أن شخصية المرأة المحجبة في فيلمه تتعرض للمضايقات ربما أكثر من غيرها، في نطاق الدراما التي كتبها على الأقل!
تناقضات
يتناقض هذا المشهد برؤيته الأخلاقية الساذجة، مع الطرح الواقعي القوي في البداية، ولذلك يمكن القول إن الفيلم يعاني من التشوش الفكري، بل ويرتد إلى السينما التقليدية ذات الرسالة المبسطة بسبب اللجوء إلى الخطاب المباشر، وإلى الوعظ والتصعيد الدرامي العنيف دون أي حاجة لذلك، خاصة وأنه يفرط أيضا في استخدام التعليقات اللفظية التي تصل إلى مستوى "النكات" رغبة في مغازلة الجمهور. وهذه هي آفة السينما التي يضع صاحبها دائما عينا على الفن، أي يرغب في الاخلاص لفنه، وعينا أخرى على الشباك، أي أنه مع ادراكه أنه يصنع فيلمه في إطار سوق لها مواصفاتها القاسية، يرغب في الوصول إلى الجمهور العريض الذي أدمن النمطية والتعليقات المضحكة وهو ما يتناقض تناقضا تاما مع طبيعة الموضوع الجاد الذي يناقشه الفيلم.
من زاوية الأداء التمثيلي يجب أن أشير هنا إلى أنه يمكن اعتبار "678" الفيلم الأول الحقيقي لبشرى كممثلة، فقد نجحت كثيرا في أداء شخصية فايزة بكل أبعادها، كما تفوقت ناهد السباعي كثيرا بل وبرزت بأدائها القوي الواثق، كممثلة جديدة لابد أن يكون لها شأن كبير في سينما المستقبل، وأضفي أداء ماجد الكدواني الطبيعي والمنساب في سلاسة ويسر وخفة كظل أيضا، في دور الضابط، الكثير من الرونق والجمال على المشاهد التي يظهر فيها. لكن من الضروري القول أيضا إن اختيار نيللي كريم في دور "صبا" لم يكن موفقا، فالدور غير ملائم لها من جميع الجوانب، رغم اجتهادها في التعبير، مع بعض المبالغات في الأداء التي ترمي إلى تأكيد شخصيتها.
مطلوب من محمد دياب أن يخفف من خطابه الأخلاقي، ومن سينما الوعظ والميلودراما المباشرة الثقيلة، وأن يتعلم قليلا، كيف يتحكم أكثر في الشحنة الدرامية بحيث يجعلها أكثر برودا، وأكثر مخاطبة للعقل والوجدان، وأن يتيح مساحات أكبر للتأمل وللاستيعاب. لكن التجربة، في المحصلة الأخيرة، إيجابية وكانت تستحق، دون شك، المخاطرة.
0 comments:
إرسال تعليق