الخميس، 16 ديسمبر 2010

مهرجان دبي السينمائي 2


بلاغة التعبير في فيلم "مطر أيلول"


في إطار مسابقة الأفلام الروائية العربية الطويلة (المهر العربي) في مهرجان دبي السينمائي عرض الفيلم الجديد للمخرج السوري الكبير عبد اللطيف عبد الحميد، في عرضه العالمي الأول بعد عرضه الوحيد في بلده في إطار الدورة الأخيرة من مهرجان دمشق السينمائي.
ويمكنني القول إن فيلم "مطر ايلول" درس حقيقي رفيع في بلاغة استخدام الصورة والصوت في الفيلم السينمائي. وفيه يعود عبد اللطيف عبد الحميد مرة أخرى إلى ملامسته العابثة المثقفة لموضوعه، وتلاعبه بالشكل وبالشخصيات المتعددة التي يستخدمها بهدف "عرض حالة" أو تصوير مناخ عام، يرتبط فيه الحب بالقمع، يغيب فيه التحقق، وينمو فيه الشعور بالخوف: الخوف من عبور الشارع، من نظرات الجيران المتلصصة، من قمع الأب والأم، من سلطة هزلية تسجل حتى ارتفاع الأشجار، لكنها تلعب على الخوف المتغلل في النفوس وإن كان يمكن هزيمتها وتهميشها.
هذا فيلم عن عدم اكتمال الأحلام، عن البحث عن الحب في ظل مناخ عام يجثم بسطوته على كل شيء، فالحب لا يكتمل أبدا، فهو إما يقطعه الموت المفاجيء، أو نفاذ الهمة والحيلة بسبب الخوف، أو العجز عن اجتياز العتبات الممنوعة.
فيلم "مطر أيلول" ليس فيلما بسيطا في تركبيه رغم ما يبدو للمتفرج من على السطح الخارجي للفيلم، من أننا أمام مجرد "كوميديا ساخرة" عن البشر في دمشق المعاصرة.
إن عبد اللطيف، المخرج الذي يكتب أفلامه بنفسه، يستخدم المبالغة للتقريب، لتقريبنا من تلك الشخصيات العادية التي قد نصادفها يوميا في حياتنا دون أن ننتبه إلى ما يكمن في حياتها من مفارقات، ومن مآس أيضا.
بطل الفيلم أو شخصيته المحورية لأب – أرمل يعول ستة من الأبناء الشباب بعد وفاة زوجته، أحدهم متيم بحب جارته الحسناء، يأخذ على عاتقه أن يغسل يوميا سيارتها ويزينها بالورود وكأنه محكوم عليه بتنفيذ عقوبة.. هي عقوبة الحب المستحيل.. فالفتاة صامتة تماما، تكتفي بالابتسامات، وفي معظم الأحيان تبدو وكأنها قد استمرأت الفكرة، فكرة استعذاب تلك العبودية التطوعية.. إلى أن يخفق قلبها فتعترف للمرة الأولى والأخيرة بالحب همسا في أذن الشاب المشدوه، لكنها تفارق الحياة بعد ثوان في حادث اصطدام.

هناك أربعة من الأبناء منهم بائع البطيخ الذي يتوجه يوميا لكي يتطلع عبر نافذة إلى الفتاة التي يحبها والتي تداعبه بالنظرات والغمزات دون أن تكتمل أبدا هذه العلاقة الغريبة على أي مستوى، بل ويفاجأ صاحبنا ذات يوم بأن نافذتها أصبحت مغلقة بطبقة كثيفة من البناء الأسمنتي. ماذا حدث؟ لا نعلم وليس مهما أن نعلم، فنحن لسنا أمام فيلم من أفلام الشروحات، والمقدمات والتوالي، والدوافع النفسية للأبطال، بل أمام لوحة سينمائية يمكننا أن نستقبلها ونستمتع بها من خلال تلك اللمسات البسيطة الموحية، والإشارات الدالة، والرموز التي ترتبط معا بشيفرة ما تحت جلد الصورة.
أما الأبناء الأربعة الآخرون فهم متشابهون في اهتمامهم الكبير بل عشقهم للموسيقى، يكونون معا فرقة لا تكف طوال الفيلم عن عزف أجمل الألحان العربية لأغاني الحب الرومانسية من عصر مضى.. عندما كان للموسيقى والأغاني، معنى ومغزى ودلالات وحلاوة خاصة أيضا. وكأن الاحتفال بالموسيقى يمكنه أن يهزم الخوف أو أن هذا هو الانطباع الذي يرغب عبد اللطيف في ترسيخه.
يرتبط هؤلاء العازفون الأربعة بالخطوبة بأربع فتيات من أسرة من أسر الطبقة الوسطى، ولكن غير مسموح للفتيات بالخروج مع خطابهن، فقط يجتمعن معهم في منزل الأسرة بين حين وآخر، حيث يشرف الأب والأم على "الجلسة" التي قد تدور خلالها محاولات للتلامس من تحت مائدة الطعام، أو غمزات الحب، وهمسات الشوق والاشتياق، أو مناجاة عن طريق العزف الموسيقي البديع!
أما الأب فهو عاشق الموسيقى الأصيلة والطرب، يحاول أيضا موزانة حياته الرتيبة بعد تقاعده، باحثا أيضا عن الحب، عن التحقق الذاتي، وعن نوع من الاشباع العاطفي الذي فقده منذ دهر، لكنه يختار اقامة علاقة حب مع المرأة الخادمة التي تتولى نظيف مسكنه. وهو يضرب لها مواعيد في أماكن خلوية: في الغابة خارج المدينة، حيث يجلسان في سيارته القديمة يتناجيان ويغمضان عيونهما ويختلسان قبلات بريئة. وتعبيرا عن ولعه بالمرأة التي تبدو نموذجا جميلا للعاشقة التي تتمتع بذوق موسيقي رفيع، يستأجر من يستطيع أن يجعل الدنيا تمطر في أيلول ولو بطريقة صناعية، ورغم انكشاف الحيلة الطفولية، لا تغضب المرأة بل تبدو وقد راقت لها الفكرة وفهمت مغزاها الجميل.
هناك بين طيات هذا الفيلم احساس، ليس فقط بالعجز عن اقامة علاقات مكتملة، بل وبنوع من العجز عن التواصل أيضا بين الأبناء والأب من خلال الكلام، فهناك الموسيقى التي تتردد طوال الفيلم، وهناك ذلك الابن الذي يتابع قصة الحب التي يعيشها والده لكنه يتحدث معه بالهاتف المحمول قائلا إنه لا يستطيع أن يتكلم معه في مثل هذه الأمور ويتطلع إلى عينيه مباشرة.
الجيران تحولوا إلى جمهور للنظارة، مجموعة من المتفرجين الذين يتجمعون يوميا في الشرفات لمشاهدة الشاب الذي يغسل سيارة حبيبته، ويتابعون مسار القصة، ويعلقون على الأحداث، وهناك مجموعة الموظفين الحكوميين ورئيسهم المتسلط، وهو رغم تكونيه الهزلي، قاس، متجبر، يحاول أن يفرض حتى على صاحب الملهى تغيير الفرقة الموسيقية التي تتغنى بأغاني الحب، فهو معاد للحب، لا هم له سوى اشاعة الخوف. وعبد اللطيف باستخدام هذا النموذج لرجل السلطة يهزأ منه ويسخر، بل ويتمادى ايضا في إظهار غبائه، وجبنه وعدم قدرته على المواجهة.
إن فيلم "مطر أيلول" يقع في المسافة القائمة بين الوعي واللاوعي، بين الواقع وما ورء الواقع، وبين الحلم والحقيقة. وهو ينتمي إلى مدرسة سينما الحداثة التي تخاطب العقل والعاطفة معا، تعرض أكثر مما تشرح، وتدعوك للبحث في مغزى الأشياء من خلال الربط بين الصور واللقطات والاشارات والرموز الظاهرة والكامنة.
إن عبد اللطيف عبد الحميد، يستخدم الصورة السينمائية في سياق قريب من بناء القصيدة: صور تعقبها صور، تفيض بالمشاعر والاسقاطات، التي يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، السياسي بالاجتماعي بالإنساني عموما.
وفي هذا النوع من السينما يصبح إغواء الوقوع في غرام المشهد السينمائي في حد ذاته أحيانا، أمرا واردا من جانب المخرج، فهو يتوقف أكثر مما ينبغي أحيانا أمام مشهد معين، ويبالغ في الضغط على الفكرة التي يمكن استنباطها منه كما في المشهد الذي يقوم فيه الأب بتنظيف الجروح والقرح المنتشرة في قدمي ابنه الذي يذرع طرق دمشق جريا كل يوم لكي يصل الى شباك الحبيبة المجهولة.
ورغم الاهتمام الكبير بضبط الإيقاع، هناك أيضا بعض التكرار واللعب على الفكرة الواحدة، والانتقالات المفاجئة بين عدد من المشاهد.
  لكن أي ملاحظات سلبية لا تفقد هذا الفيلم البديع رونقه وسحره وقدرته على أن يشدك إلى داخل عالمه، بكل عنفوانه وسخريته ونماذجه الإنسانية التي لا تتعاطف فقط، معها وتفهم سر أزمتها رغم ما فيها من جموح وسذاجة، أو بالأحرى، سذاجة الجموح، بل وتضحك من قلبك على المآزق العديدة الفكرية والبصرية التي يورط فيها عبد اللطيف تلك الشخصيات ويورطنا معها.
ويهتم عبد اللطيف كثيرا في فيلمه بفكرة "السيميترية" من الزاوية البصرية، أو التماثل بين الجانبين، ما هو مرأي على اليمين وعلى اليسار، خاصة في المشاهد التي يصور فيها اجتماع الخاطبين والخطيبات، وهو اهتمام نابع من اهتماماته التشكيلية الكبيرة بتفاصيل الصورة، بالاكسسوارات حتى أكثرها دقة، وبالضوء والمحافظة على مصادره الطبيعية طوال الفيلم، ومنح الصورة جمالا يأتي من تفاصيل المكان، ومن طريقة توزيع الممثلين واختيار زاوية التصوير، كما يتبدى مثلا في المشاهد التي تدور في الشارع أسفل العمارة السكنية المميزة بشرفاتها التي يتحلق فيها السكان يتطلعون على ما يجري في الأسفل، ويبدون التعليقات الطريفة. وهو أسلوب أيضا يسير في اتجاه كسر الاندماج أحيانا، بل ويصل التحرر في الأسلوب في أكثر من مشهد، الى ذروته خاصة عندما نرى الشباب الأربعة يتحدثون من خلال التليفونات المحمولة مع فتياتهم الأربع من جهة أخرى، وهن تحملن ايضا الهواتف المحمولة.. والجميع يتحركون في اطار المكان، سواء في مسكن الشباب، أوفي مسكن الفتيات، ونحن نسمع همهمات الأحاديث الحميمية الدائرة بين مختلف الأطراف دون أن نتبين على وجه التحديد ما يقال، إلى أن ينتهي المشهد مع ظهور الأم المتسلطة، والدة الفتيات الأربع، حيث تمتزج الصورتان معا وتتداخلان بحيث ينتهي المشهد والأم واقفة وسط الشباب الأربع كما لو كانت قد خرجت من المكان الآخر، من مسكنها وانتقلت عبر المكان إلى مسكن الشباب، وهو تلاعب فريد بالمكان في السينما، وتحطيم لقيوده ربما يكون غير مسبوق في السينما السورية.
ولعل فيلم "مطر أيلول" يستحق وحده أيضا دراسة أكثر عمقا في شريط الصوت الذي يتسع للكثير من الإشارات والمعاني التي تنبع من الأعاني والموسيقى البديعة التي يحفل بها، وقد تم اختيارها كلها بدقة وإحساس رفيع بقيمتها الفنية، ولكني أعترف بأنني لم أر علاقة ما بين هذا الشريط البديع وبين المقدمة التي تسبق نزول عناوين الفيلم التي نرى فيها الموسيقار السوري أو عازف البزق الشهير الراحل محمد عبد الكريم.

عبد اللطيف عبد الحميد

وربما يكون عبد اللطيف قد أراد أن يهدي الفيلم إلى تلك الشخصية الموسيقية التي تنتمي إلى العصر الذهبي في الموسيقى العربية في نوع من "النوستالجيا" الخاصة.
ولابد هنا من الإشارة إلى قدرة عبد اللطيف على قيادة هذه المجموعة الكبيرة من الممثلين والممثلات، وتقديم وجوه جديدة شديدة الجاذبية ربما يكون للكثير منها مستقبل واعد، وهم يبرع، ولو في أداء مشهد أو أكثر، أمام عملاق مثل أيمن زيدان في الدور الرئيسي، بقدرته الخاصة على الاستحواذ على أنظار المتفرج، حتى وهو في لحظات الهمس الرقيق، والتعبيرالتلقائي الرفيع عن الحب. ولابد أيضا من الإشادة بالأداء الكبير الفذ للممثلة سمر سامي، التي قامت بدور المرأة الخادمة العاشقة المثقفة.. وكان يكفي أن تعبر بجملة أو جملتين، وبنظرة من عينيها، وبصوتها المميز ذي النبرة الرخيمة المنومة، وتعبيرات وجهها، لكي نتوحد كمشاهدين مع هذا العمل، ونعيش في تلك المنطقة بين الحلم والواقع، التي منها تظهر عادة الأعمال الكبيرة في الفن.

1 comments:

وائل الحمصي يقول...

مرحبا .
قصة الفيلم جميله وغريبة وفعلا موجوده في المشتمعات العربية

لاكن مع الاسف لا يوجد ولا شخص سوري قد شاهد الفيلم
1 - لم يتم عرض الفيلم في صالات العرض السورية ولم يسمع عنه احد
2- لقد بحثت في الانترنت كله ولم اجد رابط لتحميل الفيلم قراة مات المقالات حول الفيلم ولاكن لم استطيع من مشاهده انا وكثير من الناس
3- اتمنا لو احد ما يستطيع تامين الفيلم ويخبرنا به لو حتى مقابل مبلغ مالي
4- اتمنا من السيلما السورية عندما تخرج فيلم ان يتم عمل حمله اعلانية للفيلم ولو بسورية على الاقلى وان يتم بيع نسخ من هذا الافلام لدور العرض او شركات السيديات

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger