شارك فيلم "عين شمس" للمخرج المصري ابراهيم البطوط داخل مسابقة مهرجان قرطاج السينمائي، وفاز بجائز (تانيت خاص) تقديرا لمستواه الفني المتميز من لجنة تحكيم مسابقة الأفلام السينمائية الطويلة.
وتعتبر تجربة فيلم "عين شمس" تجربة غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية، وهي تؤكد أن الثوابت القديمة يمكن أن تتغير وتتعدل، بل وتتهاوى أيضا مع زحف أفكار وأشكال وطرق جديدة، سواء في الإنتاج أو في التعبير.
فيلم "عين شمس" اثار طوال عام كامل ضجيجا كبيرا في مصر، بعد أن وجدت الرقابة المصرية نفسها أمام فيلم مكتمل، أخرجه مخرجه ابراهيم البطوط بدون ميزانية تقريبا، بل اعتمادا على المبادرات الفردية التطوعية من جانب فريق العاملين والممثلين، وصوره بكاميرا الديجيتال الرقمية الصغيرة، وتمكن بدعم من المركز السينمائي المغربي من تحويله إلى شريط سينمائي من مقاس 35 ملم، وطاف به على عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، وحصل على جوائز وتقديرات عدة.
هنا أصبح الفيلم أمرا واقعا يفرض نفسه على الساحة، لكن الرقابة المصرية رأت أن مخرجه (البطوط) ومنتجه (شريف مندور) خالفا التعليمات والشروط الرقابية التي تنص على ضرورة حصول الفيلم على موافقة على السيناريو قبل التصوير، ثم على الفيلم نفسه بعد انتهاء المونتاج وقبل السماح بعرضه عروضا عامة في مصر.
إلا أن ابراهيم البطوط رفض تقديم سيناريو الفيلم بأثر رجعي، ساخرا من الفكرة، بل وضاربا عرض الحائط أساسا، بموضوع الرقابة بأسره.
وأصبح هناك بالتالي واقعا جديدا في السينما المصرية، نتج عن التطور التكنولوجي الجديد في كاميرات الفيديو الرقمية التي يمكن استخدامها بسهولة لتصوير الأفلام، بدون الاستعانة بالديكورات الضخمة أو الاستديوهات، وبذلك يتحرر السينمائي من قيود الصناعة من ناحية، ومن قيود الرقابة من ناحية أخرى، وهذا بالضبط ما فعله ابراهيم في سابقة خطيرة الدلالة، لاشك أنها تعكس تطورا كبيرا في العلاقة بين السينما والدولة، وبين الرقابة والسينما.
التطور الأخير
انتهت المعركة أخيرا بين صناع فيلم "عين شمس" والرقابة المصرية، لصالح الفيلم، بعد أن وافقت الرقابة على السماح بعرضه داخل مصر، ليس باعتباره فيلما مغربيا كما أرادت من قبل تجنبا لما نتج من حرج بعد ما حصل عليه الفيلم من جوائز في مهرجانات خارج مصر، بل كفيلم مصري.
هذه النتيجة تعكس انتصارا لاشك فيه للسينما المستقلة في مصر أي السينما التي تنتج بميزانيات محدودة للغاية، بعيدا عن قيود الصنعة التقليدية: النجوم، الديكورات، الاستديوهات، الأجهزة السينمائية المعقدة، ومع التحرر من أدوات الصنعة التقليدية يتحرر السينمائي أيضا من الخضوع للمقاييس السائدة في السوق: الصيغة الخفيفة المسلية، ذات الطابع الكوميدي غالبا، والتي تتضمن بعض المغامرات، وتمتلئ بالتعليقات اللفظية، وتعتمد على بطل- نجم، يضحك الجمهور ويدغدغ حواسه بحركاته وتعليقاته.
"عين شمس" فيلم من نوع آخر، ينتمي إلى ما يعرف بـ"سينما المؤلف"، أي أنه يعبر عن فكر وخيال ورؤية مؤلفه ومبدعه.
سينما متحررة
ومن الناحية السينمائية يعتمد الفيلم على التحرر في السرد والبناء، فالفيلم لا يقوم على "حبكة" محددة تدور من حولها "الأحداث"، وتتجسد الشخصيات، ثم يدور الصراع بينها ويتصاعد لكي تنفك "عقدة" الأحداث في النهاية، سواء في اتجاه الحل، أو التطهير، أو الهزيمة. لكننا أمام نسيج من نوع آخر مختلف، يبدأ بطبقة أو شريحة إنسانية رقيقة، سرعان ما تكشف لنا تدريجيا عن باقي الشرائح..
ولا يخرج المتفرح في النهاية بنتيجة "درامية" مؤكدة، بل بمشاعر وأفكار وتأملات تنبع من نسيج الفيلم وصلبه، ويصبح مطلوبا منه أن يعيد ترتيب نثرات الفيلم في ذهنه، ويستوحيها، لا لكي يستمتع بها فقط، بل لكي يستوعب ما تحتويه وتتضمنه، ما تكشف عنه، وما تخفيه من أفكار أو نثرات أفكار، ربما لا تكون مكتملة تماما، واضحة المعالم من البداية، بل توجد في تلك المساحة الرمادية بين الواقع والفيلم، الخيال والحقيقة، الدرامي والتسجيلي، المبتكر والحقيقي، اللمحات المقصودة والإيماءات التلقائية.
من هذا المزيج اللانهائي واللامنتهي، ينبع سحر الفيلم وحلاوة أجوائه، فهذا أساسا، فيلم أجواء ومشاعر وأفكار وليس فيلما من أفلام الدراما المصنوعة المحبوكة. ولكن ماذا يوجد داخل نسيج هذا الفيلم؟
هناك تعليق صوتي (بصوت تامر السعيد المشارك في كتابة السيناريو) يأتينا من خارج الكادر، كما لو كان صوت مراقب محايد، لكنه مطلع على كل ما يحدث، على واقع الشخصيات، وعلى ما سيحدث لها أيضا. إذن هذا الصوت- القدري، يجعلنا من البداية نستطيع أن نثق فيه وأن نتلقى منه ما يريد أن يوصله إلينا.
إنه يحدثنا عن الدكتورة مريم: التي ذهبت إلى العراق عام 2003 قبل الغزو الأمريكي، لا لكي تساعد المرضى ولا لكي تشارك في أحد الدروع البشرية، بل لكي تبحث في موضوع اليورانيوم المستنفد الذي ثبت استخدامه في حرب عام 1991، وأدى فيما بعد إلى انتشار أمراض السرطان بنسبة كبيرة عند العراقيين.
ومن بغداد إلى مستشفى البصرة، وحديث عن انتشار حالات الإسهال بسبب تلوث المياه، ثم يقول لنا صوت المعلق إن الرجل الذي نشاهده يقوم بأول رحلة صيد له بعد أن قضى 12 عاما في سجون صدام بتهمة بيع سجائر أجنبية.
ومن العراق إلى القاهرة.. ومن صائد السمك في البصرة إلى رمضان.. سائق التاكسي الذي يعمل أيضا سائقا خاصا عند سليم بك.. أحد رجال الطبقة الجديدة - القديمة في مصر.
صوت القدر الذي يأتينا من خارج الصورة ينذرنا بأن رمضان سرعان ما سيسمع خبرا يغير حياته تماما.
ابنته الوحيدة شمس التي لا تتجاوز السابعة من عمرها، هي بالنسبة له كل العالم، ولكنها مصابة بسرطان الدم. والخبر يهز حياة رمضان ويغير مسارها، ولكن سليم بك يقف إلى جواره، يساعده، ويحاول أيضا أن يساعد قريبا له على استخراج جواز سفر والهجرة إلى ايطاليا.
إلا أن سليم بك أيضا في مأزق، فيتعين عليه رد 80 مليون جنيه لأحد البنوك. وهو يصل في لحظة، إلى حالة من اليأس تكاد تدفعه إلى الانتحار. ولكنه يهرب من يأسه إلى المخدرات.
منتصف العالم
وحي عين شمس الذي تقطن فيه أسرة رمضان السائق هو "منتصف الدنيا" وقلب العالم، والتعليق الصوتي يقول لنا إن المنطقة أيضا "عائمة على بحر من الآثار، كما أن بداخلها يوجد بترول، وكانت في الماضي السحيق عاصمة للفراعنة".
ولكن كيف تبدو "عين شمس" اليوم: قمامة، وبيوت غير آدمية، وأكوام من القاذورات، وتدني في الخدمات، وأناس يعيشون على الكفاف لكنهم لم يفقدوا القدرة على الضحك واللهو والمعابثة والحلم بحياة أفضل.
هناك الكثير من النماذج التي يقدمها الفيلم في سياق الكشف التدريجي عن طبقاته وشرائحه: المرشح للبرلمان، الذي يقطن أحد أحياء الأثرياء لكنه يرشح نفسه عن حي عين شمس الفقير، ويقدم وعودا مجانية للناخبين لا يمكنه الوفاء بها.
وهناك الشباب الضائع المشغول بتركيب الأطباق اللاقطة لمشاهدة قنوات التسلية الفضائية.
وهناك المعلمة التي ترتبط بصداقة مع والدة شمس، ولكنها ترغب في الزواج حتى لو ارتدت ثياب الحداد السوداء بدلا من ثوب الفرح الأبيض.
شمس الصغيرة، تحلم برحلة إلى منطقة وسط القاهرة، كما قرأت عنها في كتاب بالإنجليزية، تتخيل أنها لاتزال تتمتع بسحرها القديم الموصوف في الكتاب، وعندما يستجيب والدها ويصطحبها مع امها في الرحلة المنشودة سرعان ما تكتشف أن الصور الموجودة في خيالها أجمل كثيرا من الحقيقة.
الغزو المسلح في العراق أنتج أمراضا اجتماعية وصحية والكثير الكثير من المعاناة، لكن المقارنات التي يعقدها الفيلم تؤكد للمشاهد أن مصر لم تكن في حاجة إلى غزو مسلح لكي تلحق بها كل أمراض الفقر والتخلف والتدهور والأمراض المستعصية.
ويشرح لنا كيف أصبحت الفاكهة والخضروات والدواجن ملوثة، وأصبح مرض جنون البقر يشكك الناس في قيمة اللحوم، ومرض انفلونزا الطيور يصرفهم عن تربية الطيور أو تناولها، وأصبح السمك مصدرا مرعبا للإصابة بأمراض السرطان بسبب الإشعاعات.
الحب والتسامح
لكن الفيلم ليس فقط عن المظاهر الحية للتدهور، بل عن قدرة الإنسان على التمسك بقيم الحب والتساند والتسامح في كل الظروف رغم افتقاد القدرة على الفعل الإيجابي.
ويصور الفيلم في مشهد يفيض بالرقة والجمال، وكما لم نر من قبل في أي فيلم مصري، كيف تقص الأم على ابنتها شمس داخل أحد الأديرة، قصة المسيح ورسالته السامية في الحب والسلام، وكيف تستمع شمس في هدوء، وتسأل في اهتمام عن السيدة مريم وابنها الذي أصبح رسولا.
ومن السلام إلى العنف: عنف الشرطة ضد المتظاهرين الذين يرغبون في التأكيد على أن الروح لم تستسلم بعد استسلامها الأبدي لما يمارس ضد الإنسان من قهر وقمع ومحو للهوية.
ويستخدم البطوط المشاهد التسجيلية، والكاميرا المحمولة على اليد في الكثير من مشاهد الفيلم، ويستفيد من آخر ما صوره من مشاهد في العراق، ومن المشهد الحي المباشر للصدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين في القاهرة، ويستغل تطور الأحداث في الواقع في تكثيف الكثير من المواقف في فيلمه كما نرى مثلا عندما يرفض سائق للتاكسي توصيل رجل أصيب في المظاهرة.
ويجعل البطوط صوت الموسيقى يطغى على صوت النائب عندما يأخذ في ترديد وعوده للناخبين الفقراء، في حين يعرف الجميع أنه يكذب.
ويمزج في لقطاته القريبة "كلوز أب" بين شخصيات الممثلين والشخصيات الحقيقية من أهالي الحي، ويجعل من الفيلم بأسره تعليقا ساخرا حزينا، على ما يحدث في مصر اليوم، دون أن يفقد الإحساس بالتعاطف مع شخصياته، ودون أن يدين أحدها أو يرفع من شأن الآخر.
ولأن الفيلم يبتعد تماما في أسلوبه عن رواية قصة درامية، أو ميلودرامية بأسلوب السينما السائدة، فهو لا ينتهي نهاية مغلقة، لكننا نعرف من خلال التعليق الصوتي الذي يعود في الجزء الأخير من الفيلم، أن شمس توفيت، وأن اسرتها انجبت بعدها طفلين، وأن سليم بك لم ينتحر كما كنا نتصور، بل هاجر إلى ايطاليا، وأن الحياة تستمر كما هي حتى إشعار آخر.
وينهي البطوط فيلمه بلقطة معبرة عن الوضع الراهن في مصر، عندما يجعل شرطيا يشير إلى رمضان وهو يقود سيارة التاكسي ويأمره بالتوقف. يتوقف التاكسي ويتوقف الفيلم، ويصبح مطلوبا منا أن نعيد ترتيب المشاهد والشخصيات حسب قراءتنا الخاصة للفيلم.
عن موقع بي بي سي العربي
وتعتبر تجربة فيلم "عين شمس" تجربة غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية، وهي تؤكد أن الثوابت القديمة يمكن أن تتغير وتتعدل، بل وتتهاوى أيضا مع زحف أفكار وأشكال وطرق جديدة، سواء في الإنتاج أو في التعبير.
فيلم "عين شمس" اثار طوال عام كامل ضجيجا كبيرا في مصر، بعد أن وجدت الرقابة المصرية نفسها أمام فيلم مكتمل، أخرجه مخرجه ابراهيم البطوط بدون ميزانية تقريبا، بل اعتمادا على المبادرات الفردية التطوعية من جانب فريق العاملين والممثلين، وصوره بكاميرا الديجيتال الرقمية الصغيرة، وتمكن بدعم من المركز السينمائي المغربي من تحويله إلى شريط سينمائي من مقاس 35 ملم، وطاف به على عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، وحصل على جوائز وتقديرات عدة.
هنا أصبح الفيلم أمرا واقعا يفرض نفسه على الساحة، لكن الرقابة المصرية رأت أن مخرجه (البطوط) ومنتجه (شريف مندور) خالفا التعليمات والشروط الرقابية التي تنص على ضرورة حصول الفيلم على موافقة على السيناريو قبل التصوير، ثم على الفيلم نفسه بعد انتهاء المونتاج وقبل السماح بعرضه عروضا عامة في مصر.
إلا أن ابراهيم البطوط رفض تقديم سيناريو الفيلم بأثر رجعي، ساخرا من الفكرة، بل وضاربا عرض الحائط أساسا، بموضوع الرقابة بأسره.
وأصبح هناك بالتالي واقعا جديدا في السينما المصرية، نتج عن التطور التكنولوجي الجديد في كاميرات الفيديو الرقمية التي يمكن استخدامها بسهولة لتصوير الأفلام، بدون الاستعانة بالديكورات الضخمة أو الاستديوهات، وبذلك يتحرر السينمائي من قيود الصناعة من ناحية، ومن قيود الرقابة من ناحية أخرى، وهذا بالضبط ما فعله ابراهيم في سابقة خطيرة الدلالة، لاشك أنها تعكس تطورا كبيرا في العلاقة بين السينما والدولة، وبين الرقابة والسينما.
التطور الأخير
انتهت المعركة أخيرا بين صناع فيلم "عين شمس" والرقابة المصرية، لصالح الفيلم، بعد أن وافقت الرقابة على السماح بعرضه داخل مصر، ليس باعتباره فيلما مغربيا كما أرادت من قبل تجنبا لما نتج من حرج بعد ما حصل عليه الفيلم من جوائز في مهرجانات خارج مصر، بل كفيلم مصري.
هذه النتيجة تعكس انتصارا لاشك فيه للسينما المستقلة في مصر أي السينما التي تنتج بميزانيات محدودة للغاية، بعيدا عن قيود الصنعة التقليدية: النجوم، الديكورات، الاستديوهات، الأجهزة السينمائية المعقدة، ومع التحرر من أدوات الصنعة التقليدية يتحرر السينمائي أيضا من الخضوع للمقاييس السائدة في السوق: الصيغة الخفيفة المسلية، ذات الطابع الكوميدي غالبا، والتي تتضمن بعض المغامرات، وتمتلئ بالتعليقات اللفظية، وتعتمد على بطل- نجم، يضحك الجمهور ويدغدغ حواسه بحركاته وتعليقاته.
"عين شمس" فيلم من نوع آخر، ينتمي إلى ما يعرف بـ"سينما المؤلف"، أي أنه يعبر عن فكر وخيال ورؤية مؤلفه ومبدعه.
سينما متحررة
ومن الناحية السينمائية يعتمد الفيلم على التحرر في السرد والبناء، فالفيلم لا يقوم على "حبكة" محددة تدور من حولها "الأحداث"، وتتجسد الشخصيات، ثم يدور الصراع بينها ويتصاعد لكي تنفك "عقدة" الأحداث في النهاية، سواء في اتجاه الحل، أو التطهير، أو الهزيمة. لكننا أمام نسيج من نوع آخر مختلف، يبدأ بطبقة أو شريحة إنسانية رقيقة، سرعان ما تكشف لنا تدريجيا عن باقي الشرائح..
ولا يخرج المتفرح في النهاية بنتيجة "درامية" مؤكدة، بل بمشاعر وأفكار وتأملات تنبع من نسيج الفيلم وصلبه، ويصبح مطلوبا منه أن يعيد ترتيب نثرات الفيلم في ذهنه، ويستوحيها، لا لكي يستمتع بها فقط، بل لكي يستوعب ما تحتويه وتتضمنه، ما تكشف عنه، وما تخفيه من أفكار أو نثرات أفكار، ربما لا تكون مكتملة تماما، واضحة المعالم من البداية، بل توجد في تلك المساحة الرمادية بين الواقع والفيلم، الخيال والحقيقة، الدرامي والتسجيلي، المبتكر والحقيقي، اللمحات المقصودة والإيماءات التلقائية.
من هذا المزيج اللانهائي واللامنتهي، ينبع سحر الفيلم وحلاوة أجوائه، فهذا أساسا، فيلم أجواء ومشاعر وأفكار وليس فيلما من أفلام الدراما المصنوعة المحبوكة. ولكن ماذا يوجد داخل نسيج هذا الفيلم؟
هناك تعليق صوتي (بصوت تامر السعيد المشارك في كتابة السيناريو) يأتينا من خارج الكادر، كما لو كان صوت مراقب محايد، لكنه مطلع على كل ما يحدث، على واقع الشخصيات، وعلى ما سيحدث لها أيضا. إذن هذا الصوت- القدري، يجعلنا من البداية نستطيع أن نثق فيه وأن نتلقى منه ما يريد أن يوصله إلينا.
إنه يحدثنا عن الدكتورة مريم: التي ذهبت إلى العراق عام 2003 قبل الغزو الأمريكي، لا لكي تساعد المرضى ولا لكي تشارك في أحد الدروع البشرية، بل لكي تبحث في موضوع اليورانيوم المستنفد الذي ثبت استخدامه في حرب عام 1991، وأدى فيما بعد إلى انتشار أمراض السرطان بنسبة كبيرة عند العراقيين.
ومن بغداد إلى مستشفى البصرة، وحديث عن انتشار حالات الإسهال بسبب تلوث المياه، ثم يقول لنا صوت المعلق إن الرجل الذي نشاهده يقوم بأول رحلة صيد له بعد أن قضى 12 عاما في سجون صدام بتهمة بيع سجائر أجنبية.
ومن العراق إلى القاهرة.. ومن صائد السمك في البصرة إلى رمضان.. سائق التاكسي الذي يعمل أيضا سائقا خاصا عند سليم بك.. أحد رجال الطبقة الجديدة - القديمة في مصر.
صوت القدر الذي يأتينا من خارج الصورة ينذرنا بأن رمضان سرعان ما سيسمع خبرا يغير حياته تماما.
ابنته الوحيدة شمس التي لا تتجاوز السابعة من عمرها، هي بالنسبة له كل العالم، ولكنها مصابة بسرطان الدم. والخبر يهز حياة رمضان ويغير مسارها، ولكن سليم بك يقف إلى جواره، يساعده، ويحاول أيضا أن يساعد قريبا له على استخراج جواز سفر والهجرة إلى ايطاليا.
إلا أن سليم بك أيضا في مأزق، فيتعين عليه رد 80 مليون جنيه لأحد البنوك. وهو يصل في لحظة، إلى حالة من اليأس تكاد تدفعه إلى الانتحار. ولكنه يهرب من يأسه إلى المخدرات.
منتصف العالم
وحي عين شمس الذي تقطن فيه أسرة رمضان السائق هو "منتصف الدنيا" وقلب العالم، والتعليق الصوتي يقول لنا إن المنطقة أيضا "عائمة على بحر من الآثار، كما أن بداخلها يوجد بترول، وكانت في الماضي السحيق عاصمة للفراعنة".
ولكن كيف تبدو "عين شمس" اليوم: قمامة، وبيوت غير آدمية، وأكوام من القاذورات، وتدني في الخدمات، وأناس يعيشون على الكفاف لكنهم لم يفقدوا القدرة على الضحك واللهو والمعابثة والحلم بحياة أفضل.
هناك الكثير من النماذج التي يقدمها الفيلم في سياق الكشف التدريجي عن طبقاته وشرائحه: المرشح للبرلمان، الذي يقطن أحد أحياء الأثرياء لكنه يرشح نفسه عن حي عين شمس الفقير، ويقدم وعودا مجانية للناخبين لا يمكنه الوفاء بها.
وهناك الشباب الضائع المشغول بتركيب الأطباق اللاقطة لمشاهدة قنوات التسلية الفضائية.
وهناك المعلمة التي ترتبط بصداقة مع والدة شمس، ولكنها ترغب في الزواج حتى لو ارتدت ثياب الحداد السوداء بدلا من ثوب الفرح الأبيض.
شمس الصغيرة، تحلم برحلة إلى منطقة وسط القاهرة، كما قرأت عنها في كتاب بالإنجليزية، تتخيل أنها لاتزال تتمتع بسحرها القديم الموصوف في الكتاب، وعندما يستجيب والدها ويصطحبها مع امها في الرحلة المنشودة سرعان ما تكتشف أن الصور الموجودة في خيالها أجمل كثيرا من الحقيقة.
الغزو المسلح في العراق أنتج أمراضا اجتماعية وصحية والكثير الكثير من المعاناة، لكن المقارنات التي يعقدها الفيلم تؤكد للمشاهد أن مصر لم تكن في حاجة إلى غزو مسلح لكي تلحق بها كل أمراض الفقر والتخلف والتدهور والأمراض المستعصية.
ويشرح لنا كيف أصبحت الفاكهة والخضروات والدواجن ملوثة، وأصبح مرض جنون البقر يشكك الناس في قيمة اللحوم، ومرض انفلونزا الطيور يصرفهم عن تربية الطيور أو تناولها، وأصبح السمك مصدرا مرعبا للإصابة بأمراض السرطان بسبب الإشعاعات.
الحب والتسامح
لكن الفيلم ليس فقط عن المظاهر الحية للتدهور، بل عن قدرة الإنسان على التمسك بقيم الحب والتساند والتسامح في كل الظروف رغم افتقاد القدرة على الفعل الإيجابي.
ويصور الفيلم في مشهد يفيض بالرقة والجمال، وكما لم نر من قبل في أي فيلم مصري، كيف تقص الأم على ابنتها شمس داخل أحد الأديرة، قصة المسيح ورسالته السامية في الحب والسلام، وكيف تستمع شمس في هدوء، وتسأل في اهتمام عن السيدة مريم وابنها الذي أصبح رسولا.
ومن السلام إلى العنف: عنف الشرطة ضد المتظاهرين الذين يرغبون في التأكيد على أن الروح لم تستسلم بعد استسلامها الأبدي لما يمارس ضد الإنسان من قهر وقمع ومحو للهوية.
ويستخدم البطوط المشاهد التسجيلية، والكاميرا المحمولة على اليد في الكثير من مشاهد الفيلم، ويستفيد من آخر ما صوره من مشاهد في العراق، ومن المشهد الحي المباشر للصدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين في القاهرة، ويستغل تطور الأحداث في الواقع في تكثيف الكثير من المواقف في فيلمه كما نرى مثلا عندما يرفض سائق للتاكسي توصيل رجل أصيب في المظاهرة.
ويجعل البطوط صوت الموسيقى يطغى على صوت النائب عندما يأخذ في ترديد وعوده للناخبين الفقراء، في حين يعرف الجميع أنه يكذب.
ويمزج في لقطاته القريبة "كلوز أب" بين شخصيات الممثلين والشخصيات الحقيقية من أهالي الحي، ويجعل من الفيلم بأسره تعليقا ساخرا حزينا، على ما يحدث في مصر اليوم، دون أن يفقد الإحساس بالتعاطف مع شخصياته، ودون أن يدين أحدها أو يرفع من شأن الآخر.
ولأن الفيلم يبتعد تماما في أسلوبه عن رواية قصة درامية، أو ميلودرامية بأسلوب السينما السائدة، فهو لا ينتهي نهاية مغلقة، لكننا نعرف من خلال التعليق الصوتي الذي يعود في الجزء الأخير من الفيلم، أن شمس توفيت، وأن اسرتها انجبت بعدها طفلين، وأن سليم بك لم ينتحر كما كنا نتصور، بل هاجر إلى ايطاليا، وأن الحياة تستمر كما هي حتى إشعار آخر.
وينهي البطوط فيلمه بلقطة معبرة عن الوضع الراهن في مصر، عندما يجعل شرطيا يشير إلى رمضان وهو يقود سيارة التاكسي ويأمره بالتوقف. يتوقف التاكسي ويتوقف الفيلم، ويصبح مطلوبا منا أن نعيد ترتيب المشاهد والشخصيات حسب قراءتنا الخاصة للفيلم.
عن موقع بي بي سي العربي
2 comments:
About time, Egyptian cinema gets rid of the bureaucracy that's been setting it back.
Sameh
dear Mr Amir
i felt humbled after reading your article about Ein Shams, it has clarified so many points and assured us all the crew and cast of the film that all our effort was worth it. and that all we have to do is WORK till we realise our dreams regardless of the conditions and circumstances. thank you.
Ibrahim El Batout
إرسال تعليق