بقلم: أميرالعمري
حملة دعائية كبيرة سبقت إطلاق الفيلم الإسرائيلي "الرقص مع بشير" في بداية صيف العام الجاري ثم انتقاله إلي عدد كبير من المهرجانات السينمائية في العالم، صورته باعتباره دليلا آخر علي "يقظة" الضمير الإسرائيلي، والقدرة علي انتقاد المؤسسة الحاكمة وفي مقدمتها بالطبع الجيش الإسرائيلي، وإدانة ما وقع في صبرا وشاتيلا، ومحاسبة النفس علي ما جري من مذابح في حق الفلسطينيين من النساء والأطفال. وقد جاء هذا الفيلم أخيرا للعرض في مهرجان لندن السينمائي وأحيط باهتمام كبير وعرض في احتفالية خاصة في منتصف المهرجان بمناسبة الاحتفال بمرور 60 سنة علي قيام إسرائيل.
إلا أن تأمل الفيلم بشكل دقيق، بعيدا عن المبالغات الإعلامية التي وصلت إلي حد قول صحفي عربي إن ما يصوره "لا يجرؤ مخرج عربي علي تقديمه"، يكشف طبيعته الحقيقية ونواياه وأغراضه وحدوده السينمائية أيضا.مخرج الفيلم «أري فولمان» كان جنديا شابا في الجيش وقت الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية واقتحام بيروت عام 1982 فيما أصبح يعرف حتي الآن باسم "حرب لبنان"، وقد فقد أي أثر لأي ذكريات عن تلك الحرب التي انتهت كما هو معروف بمذابح صبرا وشاتيلا التي قتل خلالها مئات الفلسطينيين معظمهم من النساء والأطفال.
يبدأ الفيلم بزميل سابق في الجيش للمخرج يطرق عليه باب منزله في وقت متأخر من الليل لكي يقول له إنه يعاني من مطاردة كابوس ليلي له يطارده خلاله 26 كلبا متوحشا، وإن هذا الكابوس يعود إلي فترة اشتراكهما معا في "حرب لبنان" أي غزو عام 1982.
ويروي الجندي كيف أنه كلف وقتها بمهمة قتل عدد من الكلاب بلغ 26 كلبا في قرية لبنانية كانت تهاجم الجنود الإسرائيليين عند محاولتهم اقتحام القرية لاصطياد المسلحين. ويحاول زميل فولمان تذكيره بما حدث في صبرا وشاتيلا من مذابح رهيبة كان الجيش الإسرائيلي شاهدا عليها، لكن المشكلة أن فولمان لا يتذكر أي شيء من تلك الفترة وإن كان يشعر بقلق غامض كلما فكر فيها. ولذا يقرر العودة للبحث فيما حدث.
ولأنه لم يشأ تصوير فيلم تسجيلي بدون توفر وثائق علي تجربته الشخصية مع زملائه في تلك الحملة، فقد اختار صنع فيلم من أفلام الرسوم يستعيد خلاله أحداث الفترة من خلال شهادة 9 من زملائه.
يتردد في الفيلم حوار واضح تماما بين فولمان وزميله "بوز" الذي يعاني من "كابوس الكلاب". يسأله فولمان: لماذا أتيت إلي وأنا مجرد مخرج سينمائي ولست طبيبا نفسيا؟ فيرد قائلا: يمكنك أن تصنع فيلما عن ذلك، أليست الأفلام أيضا وسيلة للعلاج النفسي؟!
هذه العبارة تلخص فلسفة الفيلم كله، فنحن أمام جندي سابق في الجيش أصبح مخرجا سينمائيا، يريد أن يستدعي ذكريات أغلق عليها ذهنه تماما رغبة في الهرب من بشاعتها، بغرض تصفية حسابه مع الماضي، واستعادة ثقته بنفسه والخلاص مما يؤرقه في الداخل.
ومن هذه النقطة بالفعل تبدأ رحلة صنع الفيلم الذي لقي تمويلا من فرنسا وألمانيا.ويركز الفيلم بشكل أساسي علي عدة عناصر تتبدي في معظم لقطاته ومشاهده:
أولا: صغر سن الجنود، بل إنه يصورهم في لقطة تتكرر أكثر من 4 مرات عبر الفيلم، كما لو كانوا أطفالا يافعين، وهم يخرجون من البحر علي شاطئ بيروت، عراة تماما، ثم يبدأون في ارتداء ملابسهم في لقطة مصبوغة باللون الذهبي القاتم، كما لو كانوا يخرجون من بحيرة زيت تنعكس عليها أشعة شمس ما قبل الغروب فتضفي عليها جوا شديد الكآبة والرعب.
واللقطة المتكررة مصورة بالحركة البطيئة، بحيث تجعل الفتيان يبدون كما لو كانوا يسيرون نياما.هذه اللقطة تعكس براءة الفتيان وتمهد لما سيشهدون عليه من مذابح رهيبة.وتصور ما حدث باعتباره انتهاكا لبراءة الشباب اليافع، وهي فكرة متكررة في الأفلام الإسرائيلية المناهضة للحرب، أي أن ما يشغلها ليس القتل في حد ذاته بل تأثر ممارسة القتل علي نفسية شباب الجيش الإسرائيلي.
ثانيا: يصور الفيلم العنف الشديد من جانب الجنود الشباب في "جيش الدفاع" الإسرائيلي واستمرارهم في إطلاق الرصاص بشكل متواصل من الدبابات علي طول الشاطئ كما نري في مشهد متكرر، كرد فعل لشعور قوي بالخوف في داخلهم.. الخوف من الموت، هكذا بشكل "وجودي" دون الإشارة إلي أنهم يشاركون في غزو دولة، ويقتحمون أرضا غريبة عليهم لتحقيق هدف سياسي محدد ومعروف مسبقا، وليس حسب المعني الذي يتردد في الفيلم: لم أكن أعرف ماذا نفعل ولا أين نحن. كنت فقط أنفذ الأوامر!
ويعقب هذا المشهد الواضح الدلالة مشهداً آخر حين يصل الجندي إلي قاعدة جوية ويري عددا من جثث الجنود الإسرائيليين والمروحيات تستعد لنقلها، ويزداد شعوره بالخوف من الموت، أو عندما يروي أحدهم كيف أصيبت دبابته وهرب منها مع زملائه الذين قتلوا جميعا فيما عداه، وكيف تمكن من السباحة حتي عاد إلي وحدته.
ثالثا: يؤكد الفيلم من خلال كل شهادات الجنود والضباط، كيف أن القوات الإسرائيلية التي كانت مكلفة بالتمركز قرب مخيمات صابرا وشاتيلا لم تكن تعرف ماذا سيحدث بعد اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل وقبل تنصيبه، ولم تكن علي اطلاع علي ما تخطط له قوات الكتائب، فكل الشهود في الفيلم يؤكدون أنهم "سمعوا عنها ولم يشاهدوا بأنفسهم إلا بعد أن انتهت"، ويقول كثيرون منهم إن تصرفات مقاتلي الكتائب بعد اغتيال بشير الجميل أثارت الشك في نفوسهم وأنهم أبلغوا قيادتهم بذلك دون أن يتخيلوا أن الأمر مرتبط بمذبحة وشيكة.
ويروي أحد الضباط في الفيلم كيف أنه اتصل بشارون لكي يخبره بما يجري في المخيمات من مذابح، وأن شارون شكره علي لفت انتباهه للأمر، دون أن يتعهد بتحري الأمر كما هي العادة. ويتخذ المدافعون عن الفيلم هذا المشهد كدليل لا يقبل الشك، علي إدانة الفيلم للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، في حين أن شارون تحمل بالفعل مسئولية عدم التدخل لوقف المذابح بموجب ما توصلت إليه لجنة تحقيق خاص في الكنيست.
ويصور الفيلم ضابطا إسرائيليا يقود سيارته ويتوقف بها داخل المخيمات أمام عدد من مسلحي الكتائب يسوقون عددا كبيرا من النساء والشيوخ والأطفال قبل إطلاق النار عليهم، ويأمرهم بوقف الرصاص والتفرق، مرددا عليهم أن "هذا أمر". وعلي الفور يترك مسلحو الكتائب الفلسطينيين يعودون إلي المخيمات ويتفرقون. وهو ما يقول لنا إن الإسرائيليين هم الذين أوقفوا المذبحة!
ولا جديد في اللقطات التي تستعيد مظاهر الموت والخراب والدمار وتراكم الجثث بين أنقاض صابرا وشاتيلا، ولا جديد في تصوير يد ورأس لطفلة فلسطينية مدفونة تحت الأنقاض يعلق عليها ضابط إسرائيلي بقوله: إنها تشبه ابنتي!
فيالها من إنسانية كاذبة تلك التي تسعي إلي تطهير نفسها علي شاشة السينما، فتسيء استخدام السينما وتجعل منها أكثر وسيلة للتضليل في التاريخ الإنساني، بدلا من أن تصبح وسيلة للتنوير والوعي.
0 comments:
إرسال تعليق