يتلاعب يسري بالشكل في هذ الفيلم كما يحلو له، وكما لم يفعل في أي من أفلامه السابقة باستثناء العشرين دقيقة الأولى من فيلم (مرسيدس). فهو يحطم الزاوية التقليدية ذات القدسية الخاصة لدى المخرجين، التي ينظر منها المتفرج إلى الممثل ويخاطب بها الممثل الكاميرا حتى لو كان لا ينظر صوبها أو وهو يتخاطب مع ممثل آخر.
هنا يجعل يسري عددا من الممثلين في فيلمه، في الجزء الأخير من الفيلم، يوجهون حديثهم إلينا نحن الجمهور، في حين يمكن أن يتناقض حديثهم مع جوهر أحاسيسهم الحقيقية أو يبررون ما يفعلونه تبريرات ساذجة أو غير مقنعة مفضلين الاستمرار في ممارسة خداع الذات أو تبريرها. هذا الأسلوب الذي يكسر الإيهام ليس جديدا بالطبع على السينما، وقد سبق أن استخدمه مثلا المخرج الإسرائيلي الشهير آموس جيتاي في فيلمه "إستر" (1986) ببراعة تامة من خلال لقطات طويلة مع كاميرا تتحرك باستمرار مع الممثل في الجزء الأخير من الفيلم.
أما يسري فقد وجد أن هذا الأسلوب ضروري لكي يجسد التناقض أو الشرخ الكامن داخل هذه الشخصيات، ويجعل حديثها عن نفسها أفضل تعليق على تناقضها وأزمتها.
التلاعب في الشكل
ولكن التلاعب في الشكل ليس فقط كسر الإيهام بالتمثيل أو تحطيم التمثيل من حيث هي فكرة أساسها عدم احساس الجمهور بأنك توجه له أي حديث مباشر من خلال الممثل، بل يتلاعب بالأسلوب وبالشكل في عموم فيلمه من بدايته إلى نهايته، من خلال طريقته في السرد التي لا تتبع خطا واحدا متصاعدا تدفع من خلاله الأحداث نحو ذروة تنفك بعدها العقدة وتصل إلى الحل. وهو يرسم ببراعة ملامح الشخصيات بأقل قدر من التفاصيل ويستغني عن التمهيد والتقديم والشرح، بل يقتصد كثيرا بجمال وأناقة في لغة السرد كما في الزمن (ومعروف أن الاقتصاد هو أساس بلاغة السينما) ويصوغ التداخل بين الشخصيات وينتقل بينها في سلاسة ومتعة بايقاع يشبه ايقاع التانجو.
لاشك أن يسري نصر الله اشترك في رسم الشخصيات ووضع ملامحها في سياق سينمائي مع كاتب السيناريو ناصر عبد الرحمن الذي أصبح في السنوات القليلة الماضية القاسم المشترك الأعظم لعدد كبير من الأفلام المصرية الجيدة، بشرط أن يعرف المخرج بالطبع كيف يتعامل مع نصه السينمائي، ولا يشوهه بنزقه ومراهقته الدرامية والبصرية.
ولكن عن ماذا يدور الفيلم وماذا يحكي أو يتكلم أو يريد أن يقول لنا؟ هذه التساءؤلات التقليدية ليست هناك بالطبع "وصفة" خاصة سهلة يقدمها الناقد للجمهور، بل يتعين على جمهور مثل هذه الأفلام أن يبذل بعضا من الجهد، وان يعيد قراءة الفيلم في ذهنه ولكن بإحساسه وعقله وليس بعقله فقط، وأن يتخلص ولو إلى حين، من تأثير الدراما التليفزيونية الرديئة السائدة التي تشرح وتمهد وتعلق وتلف وتدور وتمتد إلى ما لانهاية، تريد أن تفسر كل شئ، وتجعل شخوصها يقفون متراصين أمام الكاميرا، قد يتحدث بعضهم إلى البعض الآخر، ولكنهم في الحقيقة يوجهون الحديث للجمهور في شكل مواعظ وآهات وأنات وتعليقات مباشرة على الحدث.
اختلاف التلقي
إن "جنينية الأسماك" قد يختلف أيضا في معناه ومغزاه وما يقوله أو بالأحرى، يصوره، من شخص إلى آخر، حسب ثقافة كل منا واهتماماته وخبرته الذهنية ومخزونه البصري أيضا. لكنه في مستواه الأولي البسيط يدورعن الزيف الذي يغلف حياتنا، ولكن من خلال اللفتة والهمسة والنظرات واللقاءات والافتراقات التي تكشف لنا مكنون الشخصيات وأزمتها.
وفيلم يسري من نوعية يمكن أن نطلق عليها (السينما الفنية الأرستقراطية) إذا جاز التعبير: سينما اللمحة، واللفتة والعبارة الموحية، والإيماءة، سينما استحالة التواصل بين البشر وانعدام الاحساس بالأمان، الداخلي قبل الخارجي، وربما بفعل القمع الخارجي الذي يضع الناس داخل صناديق زجاجية ويحاصرهم، ليس فقط بالنظرات مثلما نحاصر نحن أسماك حديقة الأسماك، بل بالهراوات وبالسياط والرصاصات ايضا إذا اقتضى الأمر. والهدف ليس قمعهم في عين المكان فقط، بل ردع فكرة التمرد في داخلهم حتى قبل أن تتسع وتمتد.
دلالات الصورة والكلمة إذن تتخذ عند يسري معان أخرى، وتولد أفكارا أخرى وثيقة الصلة بثقافة يسري نفسه وبتكوينه السياسي والفكري، وأساسا السينمائي: مثقف يساري يحب كلا من فاسبندر وجان ماري- شتراوب الألمانيين، وكلاهما كان يساريا متمردا. فاسبندر كان مولعا بالتأمل في ضحايا المجتمع بنوع من التعاطف الواضح مع جرعة لابأس بها من المشاعر في اطار ميلودراماته الرصينة. أما شتراوب فقد كان ماركسيا شكلانيا إذا جاز التعبير، يميل في لغته إلى اللقطات الطويلة الثابتة التي تبدو تلقائية، وإخفاء الكثير من الأحداث والدوافع لدى شخصياته.
كان هذا اختيار يسري في الوقت الذي كان مثقفو اليسار مهووسين بجودار المختلف تماما، فالسياسة عند جودار تحولت في ذلك الوقت من أوائل السبعينيات (وقت بدايات النضج السياسي عند يسري) إلى نماذج تفتقد للديناميكية والجاذبية والإيقاع الخاص المستمد من الأوبرا والباليه. فقد صنع مثلا فيلمه القصير (45 دقيقة) "رسالة إلى جين" الذي تظهر فيه جين فوندا في لقطة فوتوغرافية ثابتة وهي تتطلع إلى جثث ضحايا القصف الأمريكي من الفيتناميين. وكان جودار مدفوعا بدرجة أساسية بالأيدلوجية وحدها مع رغبة في "تدمير السينما" أي نفي نموذج السينما "البورجوازية" نفيا تاما، قد بدأ في إخراج "مقالاته" السينمائية. وقد تعاون مع الناشط السياسي وقتذاك جان بيير جوران، وشكل الإثنان معا وحدة سينمائية أطلقا عليها وحدة سينما دزيجا فيرتوف نسبة إلى الرائد السينمائي الروسي صاحب اسلوب الجريدة السينمائية، أول اتجاه صوب ما أصبح يعرف فيما بعد بـ (سينما الحقيقة)، وقال جودار وقتذاك إن هذه الوحدة بين ناشط سياسي لا يعرف السينما، وسينمائي لا يعرف كثيرا عن "المنهج السياسي"، مقصود منها أن يتعلم السينمائي (أي جودار) السياسة من الناشط، وأن يتعلم الناشط السينما من السينمائي.
أما يسري فقد آثر أن يتعلم السينما من يوسف شاهين مثلا، الذي كان مثله، سينمائي أرستقراطي محب للناس ومغرم بالغوص في مشاكل الناس حقا، لكنه يعبر عنها بلغة خاصة- أرستقراطية إذا جاز التعبير أو "فنية جدا". ولم يذهب يسري مثلا إلى صلاح أبو سيف الذي كان يعد من أكثر أبناء جيله اهتماما بالسياسة في السينما وبالبعد الاجتماعي الواقعي.
وربما بسبب أرستقراطية يسري أو لغته التي تبدو "أوروبية" في فيلم "جنينة الأسماك" وقع كل ذلك اللغط مع عدد من النقاد والصحفيين الذين قالوا إنهم لم يفهموا الفيلم رغم أنه في رأيي أكثر أفلام يسري وضوحا.
وقد أتيح لي قبل حوالي شهرين، وكنت وقتها في القاهرة، تقديم فيلم "جنينة الأسماك" في جمعية نقاد السينما المصريين، أمام حشد من النقاد والسينمائيين والمهتمين. وبعد أن انتهى عرض الفيلم وبدأت في تقديم المخرج والفيلم مع الحرص على عدم إبداء رأيي مباشرة في الفيلم، فوجئت بمخرج كبير يطلب مني أمام الحاضرين ضرورة (شرح الفيلم) لأنه لم يفهم منه شيئا!
إن جزءا من مشكلة هؤلاء الذين يقولون إنهم لا يفهمون بينما يفهون جيدا أفلاما أجنبية أكثر تعقيدا، هي أنهم يقبلون من الأوروبي ما لا يقبلونه من العربي، فمطلوب من العربي تقديم حكاية واضحة بسيطة بدعوى أن الجمهور محدود الثقافة.
هذا الخطاب الشعبوي الذي يتحدث نيابة عن الناس، قد يصدر عن أصوات محدودة في بريطانيا تعقيبا على أفلام المخرج بيتر جريناواي (بطن المعماري، الغرق بالأرقام، كتب بروسبيرو، طفل من ماكون..) ولكن دون أن يعني هذا رفض أفلام جريناوي، بل إن هذا المخرج (المتهم أيضا بالنخبوية، وهو يختلف في اسلوبه مائة بالمائة عن يسري) يحيا ويستمر في إخراج أفلامه ويجد لها هامشا يعرضها فيه، وهو يحصل على تمويل لها من خارج بريطانيا عادة، من هولندا وفرنسا، تماما كما في حالة يسري نصر الله.
أما الفرق بيننا وبينهم فيكمن في أننا لا نرحب عادة بمشاهدة الجديد والمختلف والطموح بدعوى أنه (فوق ثقافة الشعب) بل نميل إلى الفكر المحافظ، في الحياة كما في الفن، دون أن نسأل أنفسنا أبدا: ومن الذي جعل الشعب على ما هو عليه؟ أليس المثقفون مسؤولين بدرجة ما.
أما في مجتمع كالمجتمع البريطاني فأنهم قد يعترضون على عدم وضوح عمل ما لكنهم أبدا لا يصادرون على حق صاحبه أن يصنعه بالطريقة التي يشاء وأن يتوجه به إلى جمهور الذي ينتظره في قاعات صغيرة وليس بالضرورة في دور العرض الرئيسية التي تخصص عادة لمستهلكي أفلام التسالي والوجبات السريعة، ولذا لاغرابة في انتشار ما يمكن أن نطلق عليه (ثقافة المول) حيث توجد محلات تقدم الوجبات السريعة مثل البيتزا وقطع الدجاج المحمر جنبا إلى جنب مع دور السينما التي تعرض أفلاما استهلاكية أيضا تتوجه عادة إلى شريحة معينة بمواصفات اجتماعية وقدرات اقتصادية خاصة من الشباب. وهذا ما سبق أن أطلقت عليه في سياق آخر "ماكدلة السينما" نسبة إلى مطاعم ماكدونالد.. وهو موضوع طويل على أي حال قد يقتضي وقفة أخرى.
2 comments:
الاسف لم يتسنى لى ان اشاهد فيلم جنينه الاسماك لانه عرض فى فترة دراستى الغقيمة التى حرمتنى من الافم كثيرة بسسب الدروس الا ان المال شدنى الى مشاهدة الفليم فانا احب هذا النوع من الافلام .امام عن الذين يرفضون هذه الافلام العميقه لانها فوق مستوى الشعب اريد ان اقول لهم لن يرتفع مستوى ثقافه الشعب الا اذا ارتقى فنانيه و مثقفيه فليتركوا لهم البااب ليبدعوا بعيدا عن التعليقات السخيفه و ليجعلونا نتفنفس السينما الجميله
ساحاول تحميله و مشاهدته و لى راى بعد الفليم يقول...
الاسف لم يتسنى لى ان اشاهد فيلم جنينه الاسماك لانه عرض فى فترة دراستى الغقيمة التى حرمتنى من الافم كثيرة بسسب الدروس الا ان المال شدنى الى مشاهدة الفليم فانا احب هذا النوع من الافلام .امام عن الذين يرفضون هذه الافلام العميقه لانها فوق مستوى الشعب اريد ان اقول لهم لن يرتفع مستوى ثقافه الشعب الا اذا ارتقى فنانيه و مثقفيه فليتركوا لهم البااب ليبدعوا بعيدا عن التعليقات السخيفه و ليجعلونا نتفنفس السينما الجميله
إرسال تعليق