لا أعرف لماذا يصر بعض الصحفيين في مصر على كتابة اسم المخرج خالد يوسف مقرونا دائما بصفته "تلميذ يوسف شاهين". إنها تلك العادات الصحفية الرديئة التي تنتقل بالعدوى من جيل إلى آخر دون فهم أو معرفة بل ودون أي معنى في معظم الأحيان كأن تطلق مثلا على الممثل في كل برامج التليفزيون كلمة فنان، وكأن من العيب أن يقال إن عمر الشريف ممثل أو إن فاتن حمامة ممثلة، وكلها آفات إعلام اصبحت لغته شبيهة بلغة الكباريهات.
أما خالد يوسف فلم يعد تلميذا ولا مخرجا شابا بل أصبح سينمائيا راسخا، وراءه رصيد لا بأس به من الأفلام، له لغته وأسلوبه الخاص، وأفلامه المتميزة أيضا التي تعكس تطوره تطورا كبيرا. وقد شاهدت فيلمه الأخير (الريس عمر حرب) وقبله فيلم (حين ميسرة) وهما فيلمان يشهدان له بالتمكن الحرفي العالي والقدرة على التعامل مع الممثلين بمهارة، وخلق الجو العام، والإيقاع الخاص لكل مشهد على حدة، واقتحام مناطق صعبة في الفكر السينمائي السائد - وهو يتناول مثلا في فيلم (حين ميسرة) وبوعي شديد، اجتماعيا وفنيا، مأساة العيش على هامش المجتمع أي في العشوائيات، دون أي قدرة حتى على الحلم. وقد رسم بمهارة وفي تصاعد درامي مؤثر العلاقة بين التطرف والعشوائيات، وكيف يتغذى الفكر المتطرف على الكارثة ويتعيش عليها ثم ينتج أنماطه الخاصة في القهر.
ربما كان ما يعيب تفكير خالد يوسف أنه لم يتخلص بعد من بعض ملامح "المراهقة السينمائية" بسبب ولعه الخاص في استخدام إحالات بصرية يتصور أنها ترضي الجمهور وتثير مشاعره، وقد اتضحت هذه الإحالات أو الخطابات السياسية المباشرة مبكرا منذ فيلمه الأول (العاصفة)، فلعل أسوأ ما في فيلم (حين ميسرة) مثلا، تلك المقارنات والإحالات البصرية البدائية إلى موضوع حرب العراق والغزو الأمريكي وما شابه. والمقابلة بين اغتصاب البطلة وبين الاعتداء على بغداد في الفيلم أو هجوم الشرطة على الحي العشوائي في النهاية وبين قصف العراق، هي مقارنات فظة وساذجة تجعل الفيلم يبدو في عيون مشاهدي العالم غير الناطق بالعربية فيلما مضحكا، وهو ما تخلص منه خالد يوسف تماما في فيلمه التالي (الريس عمر حرب).
هنا، ربما بفضل السيناريو المكتوب بمهارة شديدة وبحنكة هاني فوزي، والذي يتركز حول عدد قليل من الشخصيات، ويقتحم منطقة جديدة في السينما المصرية تماما وبلغة سينمائية راقية ومتطورة، يطرح خالد موضوعا أو فكرة ذات أبعاد فلسفية (وهو أمر نادر في السينما المصرية والعربية عموما المشغولة أكثر ولأسباب مفهومة بالواقع السياسي والاجتماعي ومشاكله) حول مفهوم الشر، وهل هناك استعداد فطري كامن لدى الإنسان للوقوع في حبائله، وكيف يبدو ارتباط الشر بالاستبداد والسيطرة ثم كيف يتجلى في انعكاسات وأشكال عديدة.. كل هذا في إطار اللعب حول جوهر فكرة "فاوست" الذي يبيع روحه للشيطان بشروط الأخير بالطبع حاى يمكنه الاحتفاظ بالشباب إلى الأبد، لكنه هنا يحاول طيلة الوقت، الإفلات من قبضة الشيطان والاحتفاظ بحريته، بل إنه يبدأ في تحديه سرا، محاولا التمسك حتى بقدرته على تحقيق الكسب وبطرق غير قانونية وبأي طريقة دون أن يفقد براءته، فهو في الوقت نفسه يحب ويتعذب ويريد أن يساعد حبيبته ويقف إلى جوارها.
فكر جديد
هذا الفيلم يعكس محاولة جادة للتعبير عن "فكر" جديد بلغة حديثة. ربما كان ما يعيبه اعتماد خالد يوسف على ممثلين من درجة أدنى مما كان مطلوبا، وأقصد محدودية قدراتهم على الحركة والتعبير بشكل طبيعي، خصوصا سمية الخشاب التي يتعين عليها- بالمناسبة أيضا- أن تنقص وزنها كثيرا قبل أن تتكلم عن نفسها باعتبارها (ممثلة إغراء)، وغادة عبد الرازق التي تتشنج وتمط في كلامها وتبالغ كثيرا في الأداء والحركة، لكي تقنعنا انها ليست شريرة عادية بل ضحية أيضا يتعين علينا أن نتعاطف مع أزمتها الإنسانية. أما الأخ هاني سلامة فلم يكن مقنعا في الدور بل جامدا لا يتحرك ويكتفي بالحملقة في الفراغ إما في دهشة أو فزع.. لا ندري. وعلى أي حال فالدور لا يناسبه أصلا بسبب مكوناته الشكلية وملامحه الطفولية وإمكانياته المحدودة في الأداء. ولولا الأداء الفذ لخالد صالح في دور الريس عمر حرب مدير كازينو القمار الذي يستولي على أرواح جميع العاملين بالكازينو ويريد أن يطوع هاني سلامة ويجعله خليفة له، ويمنحه سره، وهو دور مركب يتراوح بين البراءة والقسوة الشديدة، الذوق الرفيع والخسة، الغموض والسحر والعنف الشديد. ولولا خالد صالح ما كان الفيلم قد جاء على ما هو عليه من مستوى ممتاز، بفضل أدائه الساحر الذي يستولي عليك.
تشابه ظاهري
وإذا كان هناك في بداية الفيلم تشابه ظاهري مع فيلم "كازينو" الأمريكي، إلا أن الفيلم سرعان ما يبتعد تماما عن ذلك المسار ويتخذ لنفسه أبعادا أخرى وتضاريس أكثر تجريدية تتبدى من وقت إلى آخر في لقطات الكوابيس والأحلام التي تطارد البطل: عن أمه وعن الموت الذي لا يستطيع أن يعبر إليه من بواية حديدية ضخمة. إنه أيضا هاجس الخوف من الموت الذي يحركه ويجعله يرغب في تحقيق السيطرة الكاملة على اللعبة ولكنه يبدأ في تسخيرها في الاتجاه المضاد، أي لافساد لعبة الشيطان التي لا تؤدي إلا إلى الخسارة دائما. أما لعبة "خالد" البطل الشريف فتتجه إلى مساعدة الضعفاء على تحقيق الكسب.
الجنس ومفهومه
لا أفهم أبدا أولئك الذين يتباكون على ما يعتبرونه انحدارا للسينما المصرية في أوحال الجنس الفاضح، وتحديدا في الفيلمين الأخيرين لخالد يوسف.. أين هذا الجنس الفاضح الذي يتحدثون عنه؟ وهل يعرفون هم شيئا عن الجنس في السينما الأوروبية أو حتى الأمريكية الحديثة المستقلة الذي تتوارى السينما المصرية تواضعا وخجلا أمامه، بل إن مشاهد الجنس في أفلامنا تبدو لي شخصيا مضحكة ولا أتعامل معها على محمل الجد، ليس فقط مقارنة مع سينما العالم بل مع السينما المصرية نفسها في الخمسنيات والستينيات. أنظر مثلا إلى المشهد الذي تجلس فيه سمية الخشاب على ركبتي هاني سلامة داخل سيارة تقف فوق ربوة في فيلم "الريس عمر حرب" ثم تتراجع الكاميرا لكي تركز على أسفل جسم السيارة وهي تهتز صعودا وهبوطا. فمعنى هذا أن السيارة ربما هي التي تمارس الجنس! واتصور أن هذا "الديكوباج" البدائي في حد ذاته لو شاهده مشاهد أوروبي لمات على نفسه من الضحك!
جنس إيحائي
ما أريد أن أقوله هنا أن الجنس على الطريقة السينمائية المصرية والعربية هو جنس إيحائي، بل أكاد أجزم أن البطل يتحاشى بوضوح في مشاهد عديدة عدم الاقتراب كثيرا من جسد البطلة حتى وهو يقبلها، وحتى مشهد الاغتصاب التي اثارت الدنيا ولم تقعدها في فيلم (حين ميسرة) فهو مشهد به من الإيحاء أكثر مما فيه من واقعية أو محاكاة للواقع، وأين هذا مثلا من مشهد اغتصاب سوزان جورج في فيلم (كلاب القش) الأمريكي لسام بكنباه. هذه الاتهامات التي تأتي من نقاد أيديولوجية (السينما النظيفة وسينما الأسرة وكل الناس والناس الحلوة) وكل تلك التعبيرات البلهاء، قد تكون طبيعية ومتسقة مع المناخ العام المصاب بـ"اللوثة الدينية الظاهرية الشكلية الجوفاء.. (واللوثة الدينية حالة مرضية غير سوية) إلا أن هؤلاء يتغاضون عن كل أشكال التدهور الاجتماعي والاقتصادي (طالما أنها توفر الفرصة لتحقيق شعارهم المفضل: دعه يعمل.. دعه يمر) الذي يعتبرونه من أحل الحلال في أعرافهم.أما أن تأتي هذه الدعوة أو هذه التعليقات من كتاب ونقاد يفترض أنهم من المطلعين على النماذج الحديثة في السينما، يعرفون أن الفنون الإنسانية من فجر التاريخ تستخدم التعبير بالحركة والجسد، وعلى رأسها الفنون التشكيلية ونماذجها متمثلة في عظام الرسامين الذين يدعي هؤلاء وهاته النقاد والناقدات الإلمام بأعمالهم، هنا يصبح هذا الكلام هنا مجرد لغو فارع، ويجسد خضوعا ممجوجا للمقولات الأخلاقية التافهة الساذجة التي تريد إرهابنا.
سينما محجبة
لا أحد من المنتقدين الناقدين يناقش الجوانب الفنية والدرامية في فيلم مثل (حين ميسرة) أو (الريس عمر حرب) أو (كباريه) لكنهم يهيلون عليها التراب، تارة بدعوى استغلال الأطفال، واستخدام لغة الشارع، وتارة اخرى بتصوير الجنس ((المقزز)).. دون أن يقولوا لنا ما هو الجنس غير المقزز في نظرهم حتى يمكننا أن نتعلم منهم على أي حال..إن هذه النعرات المتخلفة تبدأ من طرف ما، يتباكى على "تشويه صورة مصر" كشعار يخيفون به كل من يسعى لتصوير الواقع بدون تزويق أو تلميع، وسرعان ما تنتشر كالوباء في الصحف الصفراء والبيضاء وكل ألوان الطيف.. بهدف ترويع السينمائيين، وخلق مناخ يستند ظاهريا على الأخلاق الحميدة، بينما يخفي في حقيقة الأمر (أجندة) أخرى سياسية فاسدة ربما تريد أن تجعل السينما المصرية (سينما محجبة) على نمط السينما الإيرانية.
1 comments:
ا اجد غضاضه فى ان اطلق على خالد يوسف تلميذ ليوسف شاهين فهو شرف قبل ان يكون فبركه اعلاميه و هذا امر لا يهم سوى خالد اما عن افلام خالد فحين ميسرة اكثر ما ضايقنى بالفليم حقا هى هذه التللميحات البعيدة لللغايه ولا علاقه لها باحداث الفليم فى محاوله منه لربط الفليم و الماساه التى يعرضها بالماساه السياسه لم اشاهد الريس عنمر حرب و لكنى على يقين من ان الممثلين الذين يستعملهم خالد لابد من تغييرهم او تجديدهم لان معظم غير مناسب سوى لعدة ادوار مثل هانى سلامه الذى لم يقنعنى فى فيلم واحد انه غير مفتعل .امنيتى ان اكون مخرجه و اذاذا اتاتنى الفرصه لتصوير فيلم لن اخجل من تصوير الجنس و لكن ليس بمفهوم التلميح (و الجمهور فاهم الباقى)فمن يعتقد انه رقيب علينا اقول له نحن لسنا اطفالا!
إرسال تعليق