السبت، 2 أغسطس 2008

عالم وعصر يوسف شاهين كما عرفته


أمير العمري مع الراحل الكبير يوسف شاهين في مهرجان فالنسيا 1992


كان يوسف شاهين في السينما المصرية عصرا بأكمله. أبناء جيلي لم يعرفوا السينما المصرية قبل يوسف شاهين، فقد تفتح وعينا على السينما كفن ومتعة وتسلية وثقافة، مع أفلام يوسف شاهين.
كنت أتفق مع الكثير من أفلامه التي كنت أعتقد، ولا أزال، أنها لعبت دورا مباشرا في تطوير السينما والنقد السينمائي في الوقت نفسه، ويكفي دليلا على ذلك أن نراجع مستوى ونوع ما نشر من كتابات عن فيلم واحد مثل "اسكندرية ليه" ليوسف شاهين في الصحافة المصرية أو حتى على المستوى العالمي، لنعرف كيف يمكن أن يلعب الإبداع دورا مباشرا في تطوير العملية النقدية.
كنا قد أعجبنا في طفولتنا بأفلام شاهين الكلاسيكية مثل "باب الجديد" و"الناصر صلاح الدين" ثم "الأرض". لكن المرحلة التي تلت ذلك كانت المرحلة التي شدتني بوجه خاص بحكم أنها صادفت مرحلة تفتح الوعي الفكري والسياسي عندي أيضا وبداية الاحتكاك الجاد بمذاهب التجديد في الفن.

التمرد الجاد

كانت تلك المرحلة عند شاهين هي مرحلة التمرد الجاد على السينما الكلاسيكية وعلى سينما الواقع الموضوعي بأسرها، والدخول إلى عالم سينما الحداثة والرؤية الذاتية والموقف السياسي. وكان فيلم "الاختيار" هو حجر الأساس لتلك المرحلة.
وكنت طالبا يافعا في بدايات الدراسة الجامعية عندما عرض الفيلم. وقد نظمت "رحلة" لنخبة من زملائي الطلاب إلى دار السينما التي كانت تعرضه، ثم عدنا في اليوم التالي لمناقشة الفيلم تفصيلا في الكلية التي كنا ندرس بها والتي كانت أبعد ما يكون عن السينما والفنون، لكني أزعم أن اهتمام تلك النخبة من طلابها بالسينما كانت أسبق وأرقى وأرفع من كل ما عرفت فيما بعد في التجمعات السينمائية في مصر.
وكانت تجربة عرض ومناقشة فيلم "الاختيار" على هذا المستوى دافعا لي لتأسيس ناد لسينما في تلك الكلية استقطب وقتها عشرات الطلاب من كل كليات جامعة عين شمس.
وبعد "الاختيار" جاء فيلم "العصفور" الذي صرح بعده شاهين بأنه يعتبره بداية القطيعة مع سينما التسلية البورجوازية. وكان "العصفور" يمتلئ بالتحديات والطموحات على مستوى الشكل، وعلى مستوى صياغة الموضوع نفسه في سياق سردي غير تقليدي استمرارا لمنحى شاهين في "الاختيار".
وقد يكون فيلم "عودة الإبن الضال" هو العمل الذي أطلق فيه شاهين كل قدراته الإبداعية لكي يمزج بين الدراما العاطفية والاستعرض الغنائي والفيلم السياسي.
عصر الكلمة
وقد كتبت، وأنا لاأزال طالبا صغيرا في الجامعة، مقالا تحليليا شاملا نشر في مجلة "الطليعة" اليسارية الشهرية (نوفمبر 1976)، وكانت في ذلك الوقت من المجلات الراسخة ذات السمعة الجيدة، سرعات ما يصبح ما ينشر فيها حديث المدينة خاصة في أوساط الطلاب والمثقفين، وكان ذلك بالطبع قبل زمن الفضائيات، وكانت المجلة توزع عدة آلاف من النسخ في العراق والسودان إضافة إلى السوق المصرية. وقد تشرفت في هذه المرحلة المبكرة بالكتابة لها بدعوة وتشجيع من الناقد الكبير الأستاذ فاروق عبد القادر الذي كان يعمل مشرفا على ملحق الأدب والفن فيها. ولم تكن تربطني علاقة شخصية بفاروق، بل أرسل إلي من يستدعيني لمقابله وطب أن أكتب للطليعة إعجابا منه بما كنت أنشره في جريدة "المساء" ونشرة نادي السينما. ورغم جرأة المقال فقد نشره فاروق دون استبعاد أي كلمة فيه.
وعلى إثر نشر المقال، علمت أن شاهين اتصل بالمجلة يسأل: من هو أمير العمري ويطلب أن أزوره في مكتبه بشارع شامبليون.
وذهبت إلى مكتب شاهين في الموعد المحدد لقاء وجلا مترددا لا أعرف تحديدا ماذا يريد، وعندما طرقت الباب وجدت شاهين بنفسه أمامي يتأمل في وجهي بدهشة عبر عنها بقوله: "أنت صغير جدا.. أنا كنت فاكرك رجل كبير". لم أعرف هل كان هذا إطراء أم استنكار، ودخلت وقضيت ساعة أتناقش مع شاهين في فيلمه. كان هو سعيد من ناحية بالمقال الذي تعامل مع فيلمه تعاملا جادا باعتباره أحد الأعمال الكبيرة في الفن، لكنه لم يكن سعيدا ببعض ما ورد في المقال من "أحكام" سياسية على مواقفه في الفيلم، كأن أكتب مثلا أنه "نتيجة لعدم تبلور رؤية علمية متماسكة لدى يوسف شاهين فإن تشتته الفكري ينعكس في أركان كثيرة من فيلمه، حيث نرى كيف يبدو "علي" (البطل) في بعض المواقف وكأنه لا يزال يحتفظ بصدقه وطهارته ورغبته في مساعدة "ابراهيم" رغم الإدانة القوية التي يوجهها له في الفيلم".
ومضيت أكتب "وفي الوقت نفسه يعقد شاهين في نهاية فيلمه، مصالحة طبقية لا تتسق تاريخيا أو دراميا، عندما يوفق بين "تفيدة" ابنة العائلة العمالية الكادحة، وابراهيم، الذي هو- رغم كل شئ- نتاج نفس التركيبة الفاسدة التي حكم عليها الفيلم بالفناء- ويرحل الإثنان في النهاية مع حسونة وزوجته لكي يصنعا المستقبل"!
لكن شاهين أثناء مناقشتي معه التي تمسكت فيها بآرائي تمسكا تاما بكل حدة جيل السبعينيات من طلاب الجامعة، لم يغضب أو ينفعل، بل كان رقيقا يسوق ملاحظاته بذكاء واحترام.
كان هذا اللقاء بداية علاقتنا التي استمرت سنوات طويلة بعد ذلك، وهي علاقة تقوم على الود والتقدير والاحترام. ولا أذكر أبدا أنه غضب من مقال كتبته عن فيلم من أفلامه، فقد كان شاهين يدرك جيدا الفرق بين الذين يكتبون خدمة لمأرب خاصة، والذين يعبرون عن أنفسهم بصدق

لقاء في لندن
وقد جمعني به بعد ذلك لقاء في لندن، حيث كنت قد انتقلت للإقامة والعمل، عندما جاء لعرض فيلمه "اسكندرية كمان وكمان" في مهرجان لندن السينمائي في نوفمبر 1990.
وقد وجدته يجلس بمفرده شاردا بينما كان فيلمه يعرض في القاعة الرئيسية في مركز الفيلم البريطاني على الضفة الجنوبية لنهر التايمز. وكان يرتشف رشفات سريعة من فنجان قهوة جالسا بالقرب من مدخل قاعة الضيوف والصحفيين، فجذبته من يده إلى مكان آخر أكثر دفئا في الداخل.
وكانت فرصة نادرة لتجاذب أطراف الحديث مع شاهين الذي قلما وجدته هادئا مسترخيا في أي مهرجان أقابله به، بل كان دائما يبدو في حالة حركة ونشاط، ينتقل من هنا إلى هناك، يتحدث إلى هذا، ويداعب ذاك، ويلقي بتعليقاته اللاذعة على الجميع ثم يختفي فجأة كما ظهر فجأة.
وكان شاهين يتظاهر في البدية بأنه لا يتذكرك جيدا، ثم يستخدم حركة يده الشهيرة، يقربها من أذنه، مدعيا أنه لا يسمعك أيضا جيدا، ثم سرعان ما تكتشف أنه يتذكر جيدا ويعرف ويسمع ويهتم.
وقد قضيت مع شاهين في ذلك اليوم أكثر من سبع ساعات، من بعد الظهر حتى وقت متأخر في المساء إلى حين انتهاء العرض الثاني لفيلمه.
كانت تلك الفترة من الفترات العصيبة المشوبة بالقلق والتوتر في الشرق الأوسط، وسط الحشود العسكرية الهائلة التي تتدفق على منطقة الخليج عقب اجتياح القوات العراقية الكويت في أغسطس. وكانت أجواء الحرب تلوح في المنطقة، وقد تطرقنا في مناقشتنا معا إلى الأوضاع السياسية الساخنة، وموقف شاهين مما يحدث، بل تطرقنا إلى أوضاع السينما المصرية، ومغزى فيلمه "اسكندرية كما وكمان" في هذا الوقت تحديدا، وعدنا إلى الماضي، إلى وقت اكتشاف شاهين لموهبة عمر الشريف، وإلى أيام "باب الحديد"، ثم علاقات وخلافات شاهين مع المسؤولين عن الثقافة في مصر بل ومع رؤساء الجمهورية، وحاولنا مناقشة مستقبل السينما المصرية.

حرارة وصدق

ولعل تلك كانت من أكثر المرات التي التقيت فيها شاهين دفئا وحرارة وصدقا، لأنني ببساطة كنت أتعامل معه معاملة الصديق الذي يقوم بواجبات الصداقة والضيافة في لندن، ولم أكن أسعى لإجراء حديث صحفي معه، بل ولم يكن هناك جهازللتسجيل أمامنا، بل كان حديثنا تلقائيا وطبيعيا. وكان الحديث يتم بالعربية أحيانا، ولكن بالإنجليزية في معظمه، فقد وجدت أن شاهين يفضل أنه عندما يستمع إلينا الغرباء من حولنا، وكانوا يعرفون شاهين، ألا يحملقون فينا كحيوانات نادرة في حديقة الحيوان!
وأتذكر أن شاهين فاجأني عندما قال لي إنه استقال منذ أيام من حزب التجع اليساري الذي كان عضوا فيه من بدايته، بسبب ما وصفه بـ "المغالطات والتهافت على المصالح الذي يسيطر على البعض في الحزب". وقال أيضا إن هناك من أصبح يطالبنا الآن بقبول الأمر الواقع وانتشار القوات الأجنبية في المنطقة بدعوى أننا نعيش مرحلة جديدة. وذكر أنه لا يعتبر نفسه سياسيا، لكنه "يتطور سياسيا" منذ 1967.


العمري في مناقشة مع شاهين في مهرجان تطوان 1995

في العام التالي التقيت بشاهين في مهرجان فالنسيا السينمائي حيث تم تكريمه هناك وعرضت مختارات من
أفلامه. وكنت قد كتبت دراسة موسعة شاملة عن أعمال شاهين كان من المقرر أن تصدر في كتاب خاص عن المهرجان، ولكن لأسباب فنية وتقنية لم يصدر الكتاب لكنهم ترجموا الدراسة إلى الإسبانية ونشرت ضمن عدد خاص عن المهرجان في دورية "ميتيماس" Metemas الثقافية التي تصدر في مدريد.
وكان شاهين يداعبني طوال الوقت أثناء المهرجان بقوله "إحنا نعمل أفلام ونعاني، وانتم تكتبوا عنها وتقبضوا بالعملة الصعبة.. المفرض إنك تقسم معايا"!

المقابلة الوحيدة

وقد أجريت مقابلة واحدة مسجلة مع يوسف شاهين. وكان ذلك في غرفته بالفندق في مدينة تطوان المغربية حيث كان يحضر تكريمه وعرض فيلمه "المهاجر" عام 1995.
وكان معه في الغرفة أثناء الحوار الممثل خالد النبوي، والممثلة (الناشئة وقتها) حنان ترك.
وعلى العكس من حوارنا التلقائي في لندن، كان شاهين عصيا على الاختراق، مراوغا، محيرا في حواره، تسأله في التاريخ، فيحدثك عن الوضع السياسي الراهن في مصر بضغوطه على المثقفين والسينمائيين. وتسأله عن شخصيات فيلمه فيهرب إلى الحديث عن تنامي المد الأصولي في مصر وخطورته.
كانت مشكلة شاهين، وربما تكون قد أثرت على عدد من أفلامه في مرحلة ما بعد سينما الرؤية الذاتية، هي ولعه بلعبة الإسقاط السياسي، فهو مثلا يستخدم قصة يوسف في "المهاجر" لكي يتكلم عن أشياء معاصرة تماما، ويستخدم أجواء الأندلس في زمن ابن رشد، لكي يتكلم عن الصراع مع الأصولية ومصادرة الفكر، كل ذلك باستخدام لغة الشارع.
هل نجح في الوصول إلى ما كان يرمي إليه من تلك الأفلام؟ لا أظن، بل أعتقد أنها المرحلة الأضعف في مسيرة شاهين، لكنه كان سعيدا بها، وكان يعتقد صادقا أن الفنان يجب أن يكون صاحب رسالة، وأن يلعب دورا مباشرا في الأحداث السياسية لبلده، وهي رؤية يشاطره فيها عدد كبير من المثقفين، أعترف أنني لست منهم.

أصنعها لنفسي
لكن شاهين بقى دائما، وسيبقى، أستاذا ومعلما من أساتذة اللغة السينمائية، لغة الإخراج. ويمكن القول إنه أثر في عدة أجيال من الناحية السينمائية: حركة الممثل داخل اللقطة، واختيار زوايا الكاميرا، وطريقة بناء المشهد وتقيطعه، والانتقال من مشهد إلى آخر، والسيطرة على حركة وإيقاع الممثلين.
لكن ما سيبقى من شاهين أكثر بكثير من هذا كله، فما سيبقى هو "عالم شاهين".. ذلك السينمائي العاشق الذي أحب السينما أولا وقبل كل شئ.
ردا على سؤالي: لمن يصنع أفلامه قال شاهين: أصنعها لنفسي أولا، ثم للاسكندرية ثانيا، ثم للجمهور ثالثا!

2 comments:

غير معرف يقول...

الاخ العزيز امير العمري
شكرا لك على هذه المدونة و نتمنى لك النجاح و التوفيق
فجر الشعيبي

غير معرف يقول...

مقال جميل وبديع

غوص في علاقة شخصية مع مبدع كبير

في انتظار المزيد.. لا تبخل علينا من آبار ذكرياتك

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger