الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

الفيلم الإيراني "لا تحرق المخطوطات" لمحمد رسولوف




جاء المخرج الإيراني المثير للجدل، محمد رسولوف، إلى مهرجان كان بمفاجأة جديدة مثيرة، هي فيلمه الجديد الذي أنجزه سرا في إيران، في حين قام بتصوير مناظره الداخلية – كما نشر- في ألمانيا.
جاء روسولوف لعرض فيلمه الجديد "لا تحرق المخطوطات" Manuscripts, Don’t Burn ليس في المسابقة الرسمية التي تتنافس أفلامها على السعفة الذهبية، الجائزة الكبرى للمهرجان، بل في قسم "نظرة خاصة"، القسم التالي في أهميته للمسابقة، وقد حصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما في كان.
أما المفاجأة فتتمثل في أن هذا المخرج كانت قد صدرت ضده أحكام عام 2009، بالمنع من العمل في السينما لمدة 20 سنة، كما حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات تم خفضها فيما بعد، إلى سنة واحدة وإن كان التنفيذ مؤجل حتى الآن. ومن مظاهر التناقض في السياسة الداخلية الإيرانية ونتيجة لصراع الأجنحة، أن روسولوف في الوقت نفسه، مسموح له بالسفر إلى المهرجانات الدولية، بل وقالت بعض المصادر القريبة منه إنه يقيم منتقلا ما بين طهران وهامبورج في ألمانيا، كما ذكرت مصادر أخرى أن الفيلم الجديد أنتج في وقت إرتفعت بعض الأصوات داخل إيران على صعيد المؤسسة الرسمية، تنتقد بشدة الممارسات العنيفة التي تلجإ إليها أجهزة الشرطة السرية.
ما هذا النظام الإيراني؟ ومم يتكون؟ وما هذه التناقضات التي تجعل القائمين عليه يقضون بسجن مخرج ومنعه من العمل، ثم يسمحون له بالعمل وبالسفر وحضور مهرجان "كان" وتقديم الممثلين الذين تعاونوا معه في الفيلم على خشبة المسرح، وكيف يمكن أن ينجز رسولوف فيلما جريئا إلى هذا الحد، وهو ما يمكن إعتباره الفيلم الأكثر جرأة من بين كل الأفلام الروائية الطويلة التي خرجت من إيران حتى الآن، في نقده المرير للممارسات القمعية التي تلجأ إليها السلطات الغاشمة التي تحكم البلاد بالحديد والنار.
إننا أولا أمام مرثية لثقافة عظيمة هي الثقافة الفارسية، التي يمثلها مجموعة من الرموز الثقافية من الكتاب والمبدعين في هذا الفيلم، يتعرضون حاليا، لأقصي صنوف التعذيب والإضطهاد والترويع والترغيب، فإما يهادنون ويقبلون بالتعامل كمرشدين للنظام، يساهمون- كما نرى في الفيلم- في تعقب وتصفية زملائهم من المثقفين الإيرانيين، أو يكون مصيرهم الحرمان والمطاردة والمنع من السفر والتعذيب بل والإعدام بطرق عديدة بشعة مبتكرة!
إنها مرثية للكلمة، التي أصبحت مطاردة ومضطهدة ومحظورة، تدفن داخل ثلاجة، أو داخل حاشية مقعد، أو تحرق إذا عثر عليها. وفي الوقت نفسه، مرثية للكتاب المناهضين للنظام الشمولي الإيراني الذين يعبرون عن إحتجاجهم بالكلمات.

قصة حقيقية
تقول كتابة تظهر على الشاشة في بداية الفيلم إن أحداثه وشخصياته تستند إلى وقائع حقيقية وقعت في إيران عبر سنوات، منها عمليات التعقب والاغتيال والتصفية التي تعرض لها نحو ثمانين مثقفا وكاتبا وناشطا إيرانيا فيما بين عامي 1988 و1998، كانوا يعارضون نهج النظام الإيراني.

 





المثقف السابق- رجل الأمن الحالي الذي أصبح مغاليا في ولائه للنظام، يريد أن يمحو تماما كل ما بقي من أصداء تلك الحادثة القديمة، ويبحث بالتالي عن أي مخطوطة- يعرف بوجودها- يكون قد كتبها وخبأها أي من هؤلاء الشهود.. باستخدام كل وسائل الترهيب، والتعذيب التي تصل إلى حد غرز آلة حادة في العضو التناسلي لأحد الذين يتم تعقبهم.
وفي أحد المشاهد نرى كيف يتم إختطاف أحد الكتاب ووضعه في الجزء الخلفي للسيارة ثم إقتياده إلى غابة بعيدة والإقدام على قتله قبل أن تأتي التعليمات بوقف تنفيذ العملية، كنوع من الضغط على أعصابه حتى يقبل بالتعاون. وهو ما يحدث بالفعل في حالة ذلك الكاتب الآخر كان يصرخ في جهاز التليفون مستجديا ضابط الشرطة السرية- المثقف السابق- أن يرأف بحاله المرضية وأن يسمح له بالسفر لرؤية إبنته في الخارج. لقد وعده الرجل أنه سييسر له السفر خلال أسبوعين ولكن مرت بضعة أشهر ولم يسمع منه خبرا. لكننا نره في النهاية يقوم بغسل جهاز التليفون، يرتدي ملابسه الفاخرة، يحمل حقيبته ويرحل في هدوء في حين يظل زميله الذي قبل أن يحمل مخطوطته ويخفيها، على وفائه وصموده ويلقى بالتالي مصيره بالموت!
روسولوف يروي قصة شاهد الكثير من فصولها إستمع إليها من زملائه، بكثير من الحساسية والرصانة، يتوقف أمام ما يريد التأكيد عليه بما لا يجعله يترك أي ظل من الشك فيما تقوم به الدولة القمعية في تعقب المثقفين والتنكيل بهم، دون أن يضحي بالمستوى الفني لفيلمه، فيحافظ على إيقاع هاديء، يتيح الفرصة أمام المشاهدين للتأمل فيما يشاهدونه وإستيعابه، دون أن تفلت خيوط الفيلم من بين أيديهم.


"لا تحرق المخطوطات" فيلم من أفلام الإحتجاج الجريئة التي لاشك أنها ستسبب الكثير من الصداع للنظام الإيراني، وقد تفضي أيضا إلى مزيد من المشاكل لمخرجه الشجاع!

السبت، 2 نوفمبر 2013

القراصنة الصوماليون: قتل الطباخ ميكيل وإنقاذ القبطان فيليبس!



العام الماضي شاهدنا واحدا من أفضل الأفلام التي تناولت موضوع القراصنة الصوماليين ومأساة أطقم السفن التي تختطف في بحر الصومال والمحيط الهندي، وهو الفيلم الدنماركي "إختطاف" من إخراج توبياس ليندهولم.

عرض هذا الفيلم خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا السينمائي 2012، وكتبنا عنه في ذلك الحين وقلنا إنه "من أفضل أفلام المهرجان الفيلم الدنماركي "اختطاف" الذي يصور بدقة عملية اختطاف احدى السفن الدنماركية قرب الساحل الصومالي على أيدي مجموعة من القراصنة، وكيف تبدأ المفاوضات لاطلاق سراح البحارة.. فيلم إنساني شديد التأثير والبراعة في التصوير وبناء الشخصيات، بما يصل إلى مستوى الكمال حقا. لا أخطاء ولا شيء زائد أو ناقص، ولا يوجد اي تقصير لا في إشباع الموضوع، ولا في الانتقال في الوقت المناسب من مشهد إلى آخر، أو إهمال عنصر على حساب عنصر آخر".

كان "إختطاف" الذي حصل على عدد من الجوائز منها أحسن ممثل في مهرجان أبوظبي، وأحسن فيلم (مناصفة) في مهرجان مراكش، ولجنة التحكيم الخاصة (مناصفة) في مهرجان سالونيك، وغيرها، ليس عن عملية إختطاف السفينة واحتجاز الرهائن فقط، هذه الأشياء موجودة في الفيلم المليء بلحظات الترقب والإثارة، لكنه كان أساسا، عن المصير الإنساني، كيف يصبح فحأة، وبدون سابق إنذار، عرضة لعمليات المساومة والمفاضلة والمفاوضات الطويلة المرهقة بين طرفين لا يتحدثان اللغة نفسها، ولا يعيشان في نفس العالم، ولا يقيمان أي إهتمام- في الحقيقة- للحياة البشرية، لقد كان فيلما حول "المال".. أي الفدية التي يطلبها الخاطفون (25 صوماليا فقيرا لم يعودوا يكترثون كثيرا للحياة الإنسانية بعد ما خبروه في حياتهم) ويساوم الطرف الآخر، أي ممثلو الشركة المالكة للسفينة المختطفة، لكي لا يدفعوا سوى أقل كثيرا من هذا الرقم.

لقطة من فيلم "إختطاف".. المسؤولون في الشركة يبحثون الموقف

يقع بين فكي الرحى، بحارة السفينة، وبينهم الطباخ الشاب "ميكيل" (بيلو أسبيك) الذي يجد نفسه، مسؤولا عن إعداد الطعام لهؤلاء القراصنة الشباب الجائعين، ثم العثور على أي شيء يصلح لاطعامهم بعد نفاذ كل مخزون الأطعمة في السفينة، ويصبح بالتالي في مرمى نيران الغضب، وينتهي نهاية مأساوية عبثية.

وعلى الطرف الآخر، كان هناك المدير التنفيذي للشركة بيتر (سورين مالينج) الذي يصر على أن يتفاوض بنفسه، رافضا نصيحة الخبير المحترف المتخصص في التفاوض مع قراصنة السفن، بأن يدع الأمر له، أي لشخص غيره غير منحاز، أي غير مدفوع بمشاعر مسبقة بالمقاومة والرفض.

لحظات التوتر في الفيلم مصنوعة بدقة، والتصوير طبيعي إلى أقصى حد يمكنك تخيله، والسفينة التي دار عليها التصوير حقيقية كان تقف في المحيط الهندي وليست ديكورا صناعيا، والمكالمات الهاتفية المتبادلة بين القراصنة- الممثلين (عن طريق مترجم خاص إستعانوا به) وبين مدير الشركة في كوبنهاجن، هي مكالمات حقيقية، جرت على هذا النحو بالفعل، بين أناس في قارتين مختلفتين تفصلهما بحار ومحيطات وجبال.. والتجربة في نهاية الأمر، كانت مليئة بالتشويق والسحر.

مؤخرا شاهدنا الفيلم الأمريكي "القبطان فيليبس" Captain Philips وهو من إخراج بول جرينجراس، الذي أفتتحت به الدورة الـ57 من مهرجان لندن السينمائي. سيناريو الفيلم مأخوذ عن كتاب "واجب القبطان" الذي يروي فيه القبطان ريتشارد فيليبس، قبطان سفينة الشحن الأمريكية العملاقة "مايرسك الاباما" التي اختطفها أربعة من القراصنة الصوماليين قبالة الساحل الصومالي عام 2009 تفاصيل المحنة التي واجهها.

الطباخ في فيلم "إختطاف" أمام زعيم القراصنة

وعلى العكس من فيلم "إختطاف" الذي كان يبحث في الموقف الأخلاقي الذي يطرحه موضوع إحتجاز رهائن على السفينة، من البشر، وما يتعين القيام به لاطلاق سراحهم، وهل تكون الأولوية للجانب الإنساني أم للجانب المالي أي المتعلق بأموال الشركة المالكة للسفينة، التي يمكن أن تفلس إذا ما استجابت لمطالب القراصنة، يأتي فيلم "القبطان فيليبس" مركزا علىى تفاصيل الاختطاف ثم ما يلجأ إليه البحارة (لم يزد عددهم عن عشرين) من حيل وأساليب لتضليل القراصنة، في مبارة شيقة في استخدام الفطنة والذكاء، لكن ينتصر فيها القراصنة الذين ينجحون بالتحايل في احتجاز القبطان وأخذه معهم داخل زورق صغير مغلق يفرون به من السفينة العملاقة بعد إصابة أحدهم، وتعرض قائدهم للإصابة، وتصوير أجواء التوتر والقلق التي يشعر بها القبطان وسط هذه المجموعة الغريبة التي  تخوض معركتها الأخيرة من أجل النجاة والحصول على أكبر قدر من المكاسب، لكن ما يحسم الأمر في النهاية هو تشغيل القوة العسكرية الأمريكية المدربة: بارجة حربية تحمل طائرات الهليكوبتر، ومجموعة من رجال العمليات الخاصة، تتمكن من اعتقال قائد القراصنة بالحيلة والكذب، وقتل الثلاثة الآخرين وتحريرالرهينة.

أسلوب جرينجراس معروف باهتمامه بتصوير الجانب المثير من القصة، وهو يستخدم إيقاعا يتصاعد تدريجيا، يبدأ بالقبطان في السيارة مع زوجته في طريقه إلى المطار حيث يطير إلى عمان حيث يعتلي متن السفينة الضخمة التي يقول خلال حديث مع قائد القراصنة محاولا استمالته إنها تحمل شحنات على شكل معونة مقدمة من الأمم المتحدة، من المواد الغذائية والحبوب، لمساعدة البلدان الافريقية ومن بينها الصومال. لكن قائد القراصنة الذي يقول إنه صياد سمك أصلا، لا يلين ولا ينصاع، فهو يرى أن ما يقوم به هو مجرد "شغل" ولا يعنيه أمر القبطان ولا رجاله، بل الحصول على المطلوب، أي على ستة ملايين دولار من الشركة المالكة كفدية. يمنحه فيليبس كل ما في خزانة السفينة من أموال، مبلغ 30 ألف دولار، لكن هذا يبدو مثل "سندوتش" يقضمه مع زملائه الثلاثة!

توم هانكس في دور القبطان فيليبس

هناك تصوير ممتاز يحاول إقتناص كل لحظات الصراع والتوتر من خلال اللقطات القريبة، والدخول إلى أعماق السفينة، باستخدام مصدر محدود للضوء، وهناك اختيار جيد للممثلين الذين قاموا بأدوار القراصنة الشباب الصوماليين، بهزال بنيتهم، والابقاء على أحاديثهم باللغة المحلية، مع بعض الاتجليزية أحيانا باستثناء القائد الذي يبدو انه يعرف الإنجليزية بشكل أفضل، ولاشك أيضا في قيام توم هانكس بدور القبطان ببراعة ليست جديدة على هذا الممثل العملاق الذي يعرف جيدا كيف يضع نفسه في قلب الحدث، إنفعالاته واضحة رغم صمته في الكثير من المواقف أمام التهديدات والصراخ وأجواء الهستيريا التي تسيطر على القراصنة خاصة مع اقتراب القوة الأمريكية من زورقهم الصغير.. إنه يراقب كل ما يحدث حوله ويحاول المقاومة والفرار أحيانا، ولكنه في الوقت نفسه منغمس في المأساة حتى النهاية الدموية.

غير أن المشكلة الأساسية في هذا الفيلم الذي يعاني من الاستطرادات وإفلات الذروة مرة بعد أخرى (135 دقيقة) أن ثلثه الأخير، يتحول إلى إستعراض للقوة العسكرية الأمريكية، والذكاء الأمريكي والقدرة على المراوغة والخداع والاستخدام الجيد للتكنولوجيا الحديثة وغير ذلك من المشاهد المتكررة التي تركز وتعيد التأكيد مرارا على الفكرة نفسها، بحيث نصبح أمام ما يشبه فيلم الويسترن: هنا الأشرار الصوماليين (الذين لا نعرف عنهم الكثير بالمناسبة سوى أنهم يظهرون فجأة طمعا في "الجائزة الكبرى"!) وهناك على الطرف الآخر، الأمريكيون الطيبون وعلى رأسهم قائدهم، القبطان فيليبس الطيب الذي يرفض استخدام أي وسيلة للعنف ضدهم، ويمنحهم كل ما لديه من مال سائل ومياه للشرب، لكنه ينال فيما بعد، ضربا مبرحا يكسر عظامه. ولم يكن هناك أيضا ضرورة للتركيز في المشاهد الأخيرة، بعد إنقاذ القبطان فيليبس، على عمليات الفحص الطبي والمعاملة الاحترافية التي يلقاها على يدي الممرضة والأطباء المتخصصين في علاج الصدمات: النفسية و الجسدية، كما لو كان الفيلم يقول لنا: أنظروا كيف يرى الأمريكيون أبناءهم ولا يتخلون عنهم قط!

وهذه هي الرسالة التي تصل للمشاهدين في النهاية. ومع ذلك، من المتوقع أن يصمد "القبطان فيليبس" في شباك التاكر لفترة طويلة، ويمتد نجاحه التجاري إلى موسم جوائز الأوسكار القادمة. ولكن من الآن أؤكد أن أداء توم هانكس في "إنقاذ السيد بانكس" (مقارنة بإنقاذ القبطان فيليبس) أفضل كثيرا بما لا يقاس، من أدائه في هذا الفيلم رغم جودته، فشتان ما بين الفيلمين. 

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

إعادة إكتشاف فلسطين: في مهرجان لندن السينمائي





من الأفلام التسجيلية الجيدة التي أثارت اهتماما كبيرا في عروض مهرجان لندن السينمائي الـ57 الفيلم البريطاني The Do Gooders الذي يمكن ترجمته بـ "فاعلو الخير"، أو تحديدا أولئك السذج من حسني النية الذين يدعمون وكالات الغوث الإنسانية.
لماذا العنوان؟ مخرجة الفيلم كول روثفين Ruthven تقول في بداية الفيلم إنها أرادت أن تذهب إلى فلسطين لكي تقتفي أثر جدها وجدتها اللذين أدركا أن بلدهما، بريطانيا، ساهمت بشكل ما - في خلق تلك المأساة الإنسانية التي وقعت عام 1948 مع الإعلان عن قيام إسرائيل على أرض فلسطين، وإنهما قررا في الستينيات، التطوع للعمل في وكالة غوث اللاجئين لعلهما بذلك يكفران عن ذلك الشعور بالذنب إزاء ما اقترفته حكومة بلدهما.
تذهب كول روثفين إذن إلى فلسطين لتصوير فيلمها التسجيلي الثالث الطويل (75 دقيقة) وهي على قناعة بأهمية تلك المعونات الدولية التي تقدمها وكالات الإغاثة للفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. وهي تبدأ بمقابلة مصورة مع مدير وكالة الدعم الأمريكي للأراضي الفلسطينية USAID ومقرها تل أبيب، الذي يقول لها إن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من سبعة مليارات دولار منذ عام 2004 أي منذ بدء مهمتها هناك. ويستعرض كيف أنها دعمت الكثير من المشاريع في مجالات التعليم والصحة ودعم منظمات المجتمع المدني والديمقراطية واستخراج مياه الشرب وشق الطرق.


هذه البداية التي تعقب لقطات قديمة بالأبيض والأسود لمقاطع من الجرائد السينمائية القديمة من الأربعينيات التي تصور تشرد الفلسطينيين وانتشارهم في خيام اللاجئين في أراضي لبنان والأردن، ثم لقطات لجدي المخرجة في أرض فلسطين أثناء عملهما في وكالة غوث اللاجئين، تجعل الفيلم يبدو كما لو كان احد أفلام الدعاية الإيجابية، أي أنه يقدم ذلك الوجه "الإنساني" للغرب، وكيف أن الولايات المتحدة تساهم في رفع المعاناة عن الفلسطينيين اليوم من خلال برنامج عملي.
من المستبعد بالتأكيد أن تكون هذه الفكرة هي الأساس الذي انطلقت منه مخرجة الفيلم في بحثها. بل الحقيقة أنها كانت تريد عمل فيلم "ليس عن الجدين بل عنا نحن" أي عنها وعن أبناء جيلها من البريطانيين الذين لا يعرفون كثيرا عن حقيقة الوضع في فلسطين– وهي تعبر عن هذا المفهوم من خلال تعليقها الصوتي المصاحب للفيلم، وهو تعليق غير تقليدي بل ولا يبدو أنه قد اعد مسبقا، بل يأتي تلقائيا ومكملا لتلك اللحظات التي تسجلها بأمانة كول روثفين، سواء بشكل مباشر أو تعليقا على الصور فيما بعد أي في مرحلة المونتاج. وهذا التعليق الممتد سيبقى معنا طوال تلك الرحلة المضطربة التي تبدأ بأفكار مسبقة أو بعض "الافتراضات" ثم مع الاقتراب أكثر فأكثر من بعض الحقائق خاصة بعد دخول "لبنى" إلى نسيج الفيلم، تلك الناشطة الفلسطينية الرائعة صاحبة الرؤية الواضحة التي تملك قوة الإقناع والمنطق بل والأهم، تلك الحرارة والتلقائية ورد الفعل الطبيعي الغاضب أحيانا، يبدأ الفيلم يتخذ له منحى آخر مختلفا تماما.
تلتقي مخرجة الفيلم وهي تصور فيلمها الأول هذا، بـ"لبنى" وتتخذها مساعدة لها، تقوم بتوصيلها بسيارتها الخاصة كما تساعدها في الترجمة وفي ترتيب لقاءات مع بعض الشخصيات الفلسطينية. تبدأ العلاقة إذن على أساس مهني بحت لكنها تتطور إلى صراع أفكار، إلى جدل بين المرأتين، إلى حوار ممتد حول ما هو الأفضل للفلسطينيين، وعن النظرة الفوقية المسبقة للغربيين إلى الحالة الفلسطينية، بل وحول القضية بأسرها: مسؤولية من، وما جدوى تلك المعونات، وهل تحقق الهدف منها، ومن الناحية الأخرى ما الذي تمنحه أمريكا لإسرائيل من مساعدات عسكرية سنوية ضخمة تمكنها من فرض سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين؟

تقول لبنى خلال إحدى المناقشات مع كول إن المطلوب ليس أن يأتي أناس من الغرب مثلها، "لكي يعلموننا الديمقراطية ويحدثوننا عن حقوق الإنسان وكيف يمكننا أن نحكم أنفسنا، بل المطلوب الضغط على الإسرائيليين لدفعهم إلى الجلاء عن الأراضي الفلسطينية" فالقضية عند لبنى هي "قضية حرية".. أي أعطونا حريتنا وسوف نتكفل بحل مشاكلنا.
هذا المنطق يتم التعبير عنه في الفيلم في مشهد شديد التأثير: أولا خلال لقاء مصور للمخرجة مع مدير برنامج غوث اللاجئين الفلسطينيين التابع للأمم المتحدة (وهو بريطاني): في هذا اللقاء لا تملك لبنى سوى التدخل في الحديث وتطرح وجهة نظرها التي تتلخص في اعتبار المعونات تهدف إلى تسكين الوضع الراهن والإبقاء عليه وليس العثور على حل للقضية. يقول لها الرجل إنها تتحدث في الجانب السياسي من القضية في حين أنه مسؤول فقط عن الجانب الإنساني الذي يراه مهما بالتأكيد، ويسألها: لماذا لم تذهبي إلى توني بلير مسؤول اللجنة الرباعية وهي المسؤولة عن التوصل إلى حل سياسي للقضية؟ وبالفعل تنتقل المخرجة بالكاميرا في شوارع تل أبيب تسعى للعثور على مقر بعثة الرباعية، ولكنهم يقولون لها إن توني بلير لا يأتي إلى هنا إلا نادرا، وتقول هي إنها أرسلت عشرات الرسائل الالكترونية إلى مكتبه واتصلت هاتفيا مرات عديدة بلا جدوى.
وعندما تلتقي المخرجة براعي أغنام فلسطيني بدوي طاعن في السن، يقول لها إن الأمريكيين "يعطوننا دقيقا (يسميه الفلسطينيون طحينا) مليئا بالسوس، ونقوم بالتخلص منه" وأن كل مشاريعهم لاستخراج مياه من الأرض فاشلة لأن إسرائيل تقوم بانتظام بسحب المياه. ويشير إلى مستوطنة إسرائيلية أنشأت حديثا بالقرب من تلك المنطقة القاحلة التي يرعى فيها، قائلا: انظري إلى هناك لترين كيف أنهم يستولون على مياه أراضينا ويحرموننا منها.. اجعلوا الإسرائيليين يعطوننا أرضنا.. يتركونا فقط أحرارا فيها ونحن نعرف كيف نستخرج المياه وكيف نزرع.. ولكن لا ترسلوا لنا قمحا فاسدا أو عدسا غير صالح للاستهلاك!
إن هذا المشهد وحده هو أقوى تعبير عن الإرادة الفلسطينية في التحرر خلال الفيلم كله. وهو أيضا أبلغ رد على من يزعمون غياب فكرة الاستقلال عند الفلسطيني العادي البسيط، البدوي.
هذا الوعي المتقد سيتضح أيضا في تلك المقابلة التي تجريها المخرجة مع مهندس فلسطيني يعمل في مشروع محطات استخراج المياه الممول أمريكيا، في حضور لبنى. يقول الرجل للمخرجة بوضوح وفي انفعال شديد إن كل ما يقيمه الأمريكيون من مشاريع لاستخراج المياه هنا هي مشاريع فاشلة سرعان ما ستنهار لأنها مجرد سراب فقط. 

إننا نرى المرأتين معا، تتحدثان وتتناقشان وتختلفان. ويصبح منطق لبنى هو الأقوى بحكم أنها ابنة البلاد وتعرف الواقع بعد أن خبرته لسنوات. إنها تتحدث عن تجربتها في العمل وسط الناس، وحجم ما تلقته من تهديدات من سلطات الأمن الإسرائيلية، وكيف أنها تعرضت للاعتقال مرات عديدة. وفي خطوة غير مسبوقة في السينما، تقرر المخرجة القيام بزيارة إلى مستوطنة إسرائيلية قريبة من غزة وتصطحب معها لبنى الفلسطينية. إنها المرة الأولى التي تجد لبنى نفسها في مكان كهذا.. عالم غريب تماما عليها يمنحها شعورا بأنها ليست في بلد يمت لها بصلة في حين أنها على أرض بلادها. المخرجة روثفين تعلق على المشهد الممتد الذي يشع بالجمال والهدوء والسكينة، حيث تنتشر الخضرة والحدائق الغناء ونوافير المياه في كل مكان،  أمام البيوت البديعة، وتمتد الشوارع المعبدة النظيفة، ولا تملك روثفين سوى أن تعلق قائلة: إن المرء يشعر هنا أنه في مكان ما من كاليفورنيا..!
أما لبنى التي تتطلع إلى فتاة يهودية تقوم برعاية طفل والتنزه معه في الحدائق المحيطة بالمنازل، فترصد الكاميرا حيرتها واضطرابها ومشاعر الغضب الطاغية على وجهها.. وتهمس لبنى لنفسها أمام الكاميرا: إنهم يستنكرون الحديث عن التفرقة العنصرية.. أليس مجرد وجود هذين العالمين (أي عالم الأرض القاحلة التي يقف فيها البدوي الذي لا يجد الماء لسقي أغنامه) وتلك الجنة.. جنبا إلى جنب على هذه الأرض، هو نوع من التفرقة العنصرية؟ بل وهل هناك تفرقة أكثر من هذا!
هل ستصبح روتثين في نهاية رحلتها أكثر وعيا بالقضية عن ذي قبل؟ إنها تشعر دائما أنها في حاجة إلى المزيد من الإجابات على مئات الأسئلة التي تدور في ذهنها، بينما ترى لبنى أن المسألة لا تحتاج إلى كل هذه التساؤلات.. بل تكمن أساسا في قضية الاحتلال. تقول لبنى إن من الأفضل بالنسبة للفلسطينيين إذا ما أوقفت الولايات المتحدة دعمها العسكري لإسرائيل.. فهذا أفضل كثيرا من تلك المعونات "الإنسانية" التي لا ترى أنها تفعل شيئا. 
وفي مقابلة سريعة عابرة مع سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني بعد انتهاء مؤتمر صحفي له عن الدعم الأمريكي يرفض توجيه أي انتقادات لمشروع المساعدات الأمريكية بل يشيد بما تحقق منه، ولكنه يبدو مرتبكا ومضطربا وسرعان ما يغادر مهرولا معتذرا عن الإجابة على ما لدى روثفين من اسئلة عديدة!

الجدل المستمر بين المرأتين يسبب الارتباك لروثفين، والإرهاق والتوتر للبنى. وتقول روثفين إنها ذهبت الى مطعم في رام الله مع لبنى وشاب فلسطيني وأرادت أن تستمع لرأيه، إلا أن لبنى أخذت تتحدث معه بالعربية طيلة الوقت وبالتالي خرجت روثفين من الأمسية دون أن تفهم شيئا من الحديث وشعرت بالتالي بالإحباط. هنا تقفز تلك اللقطة السابقة التي تتهم فيها لبنى روثفين بعدم الاهتمام حتى بفهم الفلسطينيين بقدر اهتمامها بالفيلم الذي تصوره: "كيف يمكن أن تكوني مهتمة بما يحدث هنا دون معرفة اللغة التي نتحدثها؟!
تنقطع العلاقة بين المرأتين بعد أن تمتنع لبنى عن التواصل مع روثفين أو الرد على اتصالاتها الهاتفية بها.. ربما لأن الأمر بالنسبة لها لم يعد يحتمل المزيد من الجدل. ولكن المؤكد أن روثفين تعود إلى بلادها بعد أن أصبحت أكثر وعيا بما يجري هناك على الأرض.. أو على الأقل أصبحت لديها أسئلة كثيرة أكثر إثارة لاهتمامها ربما ستسعى للعثور على إجابات عنها.
من الناحية الفنية هناك بعض الأخطاء في الفيلم: الميل إلى الاستطراد، الثرثرة والتكرار، وفي المشهد الذي نرى فيه لبنى توقف بالسيارة أمام بعض الشباب تسألهم عن الطريق تنتهز المخرجة لفرصة لتوجيه أسئلة لهم حول رأيهم في المعونة الأمريكية دون القدرة على استكمال الحوار، كما تستخدم بعض اللقطات فقط لأنها ترى فيها قيمة جمالية ما، والمبالغة في استخدام التكوينات المشوهة للمنظور: إظهار جزء من الوجه فقط بينما الشخصية المصورة تتحدث، أو تصوير الوجه من زاوية منخفضة أو بكاميرا مائلة، وأحيانا تتوقف المخرجة- المصورة عن التصوير وتناول الكاميرا إلى لبنى لكي تقوم هي بتصويرها. وفي أحيان أخرى يقوم مصور آخر محترف بتصوير المرأتين معا. وقد نرى أيضا الاثنتين من خلال كاميرا ثابتة تركت على الفراش في غرفة الفندق مثلا. ولكن المؤكد ايضا أن المونتاج العصبي وتلك الانتقالات التي قد تبدو مباغتة أحيانا، أو تجعل بعض المشاهد غير مترابطة، هي جزء من تلك الحالة المزاجية والنفسية التي تسيطر على المخرجة أثناء رحلتها الأولى لاكتشاف الحقيقة في فلسطين


نشرت أولا في موقع الجزيرة الوثائقية

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

"السطوح" لمرزاق علواش.. تلك الجزائر المنسية!






أمير العمري



"السطوح" هو إسم الفيلم الجديد للمخرج الجزائري الكبير مرزاق علواش وهو يعتبر أحد أهم أبناء جيله، وأكثرهم عطاء واستمرارا في العمل دون كلل، بعد أن استقر به الحال منذ سنوات، في فرنسا. علواش يخرج أفلامه من الإنتاج الفرنسي، أو من الإنتاج المشترك مع فرنسا شأن هذا الفيلم الذي حصل أيضا على منحة من مؤسسة الدوحة للأفلام.

شاهدت الفيلم ضمن عروض الدورة الـ57 من مهرجان لندن السينمائي. وكان قد عرض قبل ذلك عرضه العالمي الأول، في مهرجان فينسيا الـ70 في الشهرالماضي.

عنوان الفيلم الذي يظهر علي شريط الفيلم باللغة العربية، قبل نزول العناوين الرئيسية، هو "السطوح"، أما الإسم بالفرنسية والإنجليزية في كتالوج المهرجان فهو "الأسطح" والمقصود هنا "أسطح المنازل" تحديدا أي أسطح العمارات السكنية التي صورت مشاهد الفيلم بأكمله فوقها.

ليست هناك قصة أو حبكة درامية بالمعنى التقليدي لكلمة "حبكة"، بل مجموعة من المواقف المتفرقة التي لا يجمعها سوى أنها تدور أو تحدث، فوق تلك الأسطح التي تطل في معظمها على البحر المتوسط ،مع  تركيز خاص على حي باب الواد الشعبي الذي ينتمي إليه علواش وسبق أن صوره في أكثر من فيلم منها فيلمه الأكثر شهرة "حومة باب الواد". وقد دار تصوير "السطوح" فوق عدد من المباني السكنية في أكثر من حي من أحياء العاصمة الجزائرية، منها بيلكور ونوتردام الافريقية  وباب الواد والقصبة وغيرها كما نعرف من الأسماء التي تظهر مكتوبة فوق الصورة في بداية كل فصل من فصول الفيلم.

اختيار أسطح تلك العمارات السكنية لم يأت مصادفة، بل مقصود تماما من جانب علواش، فهذه العمارات تنتمي- في معظمها- إلى تلك العمارة الفرنسية التي شيدها المستعمرون أو المستوطنون الفرنسيون في الماضي، وكان يقطنها الأجانب لعقود طويلة إبان عهود السيطرة الاستعمارية، وكان محظورا على السكان الجزائريين العرب دخول الأحياء التي توجد فيها تلك البنايات. وقد دخلها الجزائريون في أعقاب إعلان الاستقلال عام 1962، في غمرة حركة شعبيةقامت باحتلال المساكن والشقق التي جلا عنها المستوطنون. وقامت الحكومة الجزائرية بعد ذلك بتقنين هذا الاستيلاء الجماعي على المساكن، من خلال ما عرف بخطة "التسيير الذاتي" الاشتراكية. وقد تدهورت حالة تلك العمارات ووصلت إلى الحضيض بسبب الأعطال الكثيرة وزيادة الضغط التي تؤدي إلى تسرب المياه من الأنابيب الموصلة للصرف الصحي وتآكل الجدران، بالإضافة إلى الازدحام السكاني الذي يرغم أكثر من أسرة واحدة على السكن داخل الشقة الواحدة. وهي القضية الأساسية التي تدفع بقطاع من سكان العاصمة، من الفقراء والمهمشين والمحرومين، إلى اللجوء للسكن فوق أسطح العمارات وبناء أكواخ وغرف بطريقة سريعة وبدائية فوق تلك الأسطح لإقامة تمتد لتصبح دائمة مع ما تخلقه من منازعات ومناوشات اجتماعية بعد ان تحول الكثير منها إلى بؤر لممارسة الكثير من الأعمال الخارجة عن القانون.

يتطلع علواش بالكاميرا من أعلا، أي من تلك الأسطح، إلى مدينة الجزائر التي تتألق في الأفق، بنوع من الحنين الذي تكشفه الصورة الشفافة الرومانسية الناعمة رغم المأساة، كما يرثي لحال تلك البنايات التي كانت في الماضي متألقة قبل أن تتآكل وتتدهور نتيجة لإهمال الدولة والسكان.

الخروج على القانون ومسؤولية الدولة ليس هو الموضوع الذي يلقى إهتمام علواش هنا، رغم أنه كامن في ثنايا الموضوع دون شك، بل إنه يبدو مهتما أكثر – بتقديم صورة مكثفة، من زوايا مختلفة، لتدهور من نوع آخر، لا يتعلق فقط بطبيعة العمارة، بل بالنفس الإنسانية وما حل بها من خراب، حتى أصبح الجزائريون- طبقا لرؤية علواش في فيلمه وحسب كلمات الأغنية التي ترددها المغنية الشابة "آسيا"- لا يطيقون بعضهم البعض، غير قادرين على الانسجام أوالتعامل معا، وليس هناك أمل لديه في إصلاحهم قبل التخلص، ربما، من ذلك الموروث الثقيل "المتخلف" الذي يضع علواش خطوطا عريضة تحته قبل كل فصل من فصول الفيلم.



سؤال الدين
ماهو ذلك الموروث الذي يراه علواش عائقا أمام تحرر الإنسان الجزائري البسيط من الفقر والتخلف؟ إنه يشير هنا بوضوح إلى "الدين" أي إلى الإسلام.. ربما يقصد تفريغ الإسلام من رسالته العظيمة وتحوله إلى ركعات وسجدات آلية متصلة لا روحانية فيها ولا تجل، بل تبرير للطموح إلى السيطرة والتحكم في حياة الآخرين بالقوة.

يبدأ كل فصل من فصول الفيلم الخمسة بالآذان للصلوات الخمس: بدءا من آذان الفجر، وانتهاء بآذان العشاء. وتقع كل الأحداث في يوم واحد حتى نهاية الليل وقبل بزوغ فجر جديد مع آذان جديد. وتبدو كل الشخصيات التي يصورها علواش في الفيلم، مشغولة بنفسها، بمعزل عن الآخرين، الجميع يبحث عن النجاة الفردية، أو عن التحقق ولو بسحق الآخرين. الفقراء فقدوا كل أمل لهم في حياة كريمة، والأغنياء يسعون للحصول على المزيد ولو من خلال التعذيب والقتل.

هناك أولا ذلك الرجل المدعو "سي حمود" الذي يوظف لديه رجلين يقومان بتعذيب رجل ثالث داخل شقة لاتزال تحت الإنشاء. لا نعرف بالضبط سبب التعذيب بل نسمع حوارا عبر الهاتف المحمول بين حمود وامرأة، لاشك أنها زوجته.. تقول له خلالها ألا تأخذه رحمة بالرجل (سي العدلاوي) وهو يقول للرجل إن عذابه يمكن أن يتوقف بمجرد أن يوقع على توقيع ورقة ما (لابد أن تكون تنازلا عن ملكيته عقار أو شيء من هذا القبيل) ويعده بأنه بمجرد توقيعه سيمكنه من السفر إلى مارسيليا للحاق بزوجته وأولاده. لكن الرجل يرفض بإصرار، وتزداد بالتالي جرعة التعذيب التي ينالها.

من هذا الموقع ننتقل إلى سطح عمارة أخرى حيث نرى مخرجة أفلام وثائقية تعاين الموقع مع فريق التصوير قبل أن تدرك انهم أخطأوا اختيار الموقع. لكن أفراد الفريق يصرون على البقاء ويأخذون في تصوير المشهد في الشارع من أعلا.

وفوق سطح عمارة أخرى في باب الواد، نرى "عم العربي" ذلك الرجل الذي تبقيه أسرته، أو ربما أهل العمارة السكنية جميعهم، حبيسا داخل حظيرة فوق السطح، يقولون إنه مجنون، ويضربونه، والرجل يصرخ ويستنجد لكن لا أحد يهتم به سوى طفلة صغيرة "ليلى" تستمع بشغف إلى حكاياته التي يختلط فيها الواقع بالخيال.. ومنها تلك القصة التي يرويها على مسامعها عن ذلك البطل الذي كان مفتونا به هو وأقرانه في الماضي، في زمن النضال ضد الاستعمار الفرنسي.. لكن الواضح أنه أصبح الآن طاعنا في السن، تناقصت قواه العقلية بسبب العلة والوحدة والحبس الجبري والعذاب والعزلة التي يلقاها، يلقون إليه ببعض الطعام مثلما يفعلون مع الدجاج.. إن عم العربي هو رمز للماضي النضالي الذي كان، لجيل المناضلين القدماء، للثورة التي أغتيلت وإنتهت في أيدي حفنة من الانتهازيين الفاسدين.
مرزاق علواش


سيعود علواش إلى هذا الرجل خلال الفيلم أكثر من مرة، دون أن يجعلنا نرى وجهه أبدا، لأنه ببساطة ليس مجرد رجل، بل رمز، ومن هذه الشخصية إلى سطح آخر وإمرأة مضطربة عقليا هي "سلومة" التي تقيم مع شقيقتها عائشة وإبنها كريم، بعد أن لجأت إلى سطح العمارة وقامت ببناء حجرة بدائية هناك بوضع اليد دون سند من قانون، لكن صاحب العقار يأتي الآن لتهديدها بالطرد ملوحا بحكم صادر من المحكمة يقضي بذلك.

فوق سطح مبنى آخر شاب يدعى حليم، يقوم بتأجير غرفة الحمام الموجودة فوق السطح، لمن يدفع الثمن الذي يطلبه.. ونرى "الشيخ الأمين" يصعد إلى السطح ويدفع المقابل المعلوم مقابل أن يختلي في الغرفة بامرأة منقبة تدعى "تيحة"، يطلب منها أن تتجرد من ملابسها ثم يقوم بضربها بوحشية لطرد الأرواح الشريرة من جسدها- حسب المعتقدات الشعبية السائدة. المرأة تصرخ وتطلب منه التوقف عن ضربها، والشيخ يواصل ضربها بحماس، في حين يتلصص صاحبنا "حليم" على ما يدور في الغرفة من خلال ثقب المفتاح!

قبلة الوداع
وعلى سطح آخر تأتي فرقة موسيقية من الشباب للتدرب ومعهم مغنية شابة هي "آسيا" التي تروي لهم كيف أن إمرأة تقيم فوق سطح البناية المجاورة تطاردها كلما رأتها، إنها مغرمة بها، لكنها تستبعد أن تكون من الشواذ، وها هي الآن تشير بيدها إليها تريد أن تتبادل معها الحديث.. وفعلا تقول لها إن إسمها هو نايلا.. ولكن يظهر رجل (قد يكون زوجها) ينهاها عن الحديث مع الآخرين ويضربها بعنف ووحشية ويجرها إلى الداخل.


وبين هذه المشاهد نرى مجموعة من الرجال يصعدون إلى سطح بناية ليستمعون إلى خطبة يلقيها شيخ يشيد خلالها بالقذافي، ثم يؤمهم للصلاة.. وبعد انتهاء الصلاة، نرى أحد الشباب المسؤولين عن ترتيب الأمور، يعطي شابا آخر قطعة من المخدرات يقول إن قريبا له أتاه بها من أفغانستان حيث كان يجاهد هناك.

وتأتي مجموعة أخرى لاستخدام السطح في اقامة حفل زفاف.. ثم يأتي صاحب العقار يطالب سلومة باخلاء السطح هي وشقيقتها، فلا يكون منهن إلا ضربه حتى يفقد الحياة.

يأتي إبنه ليلا بحثا عنه، تنكرن رؤيته تماما باصرار.. يتصل بحماه الذي كان ضابطا في الشرطة وأصبح الآن متقاعدا، لكي يأتي لمساعدته،عبرالهاتف لا يتمكن الرجل من التعرف عليه في البداية قائلا إنه قام بتزويج ست من بناته وأصبح لا يدري أسماء أزواجهن. وعندما يأتي يطلب من الشاب الانتظار حتى الصباح لكنه ينتحي بالمرأة يقول لها إنه رأى آثار الدماء ويعرف أنها قتلته مع شقيقتها، وينصحها بأخذ الجثة مع شقيقتها وابنها ودفنها ليلا في البحر، ويفقد كان القتيل "طماعا وشريرا يستحق الموت"!

من ناحية أخرى، ينتهي التعذيب الذي يمارسه رجال حمود على عدلان إلى موت الأخير وفرار الرجال الثلاثة.

وبعد أن تلوح ليلى للمغنية الشابة آسيا بقبلة وداع، تلقي بنفسها من فوق السطح منتحرة.
وترفض الطفة الصغيرة مساعدة سي العربي أو فك قيوده وتقول له إنها لم تعد تصدق قصصه وإنه فعلا "مجنون كما يقولون عنه".

هذه التساؤلات
ليس هناك في الفيلم تفسير لدوافع تصرفات الشخصيات.. فهذه ليست دراما تقليدية تنحو إلى التفسير والشرح وتقديم المبررات النفسية لدوافع الشخصيات، بل مجموعة من المواقف المجردة التي يقتبسها المخرج من وحي خياله الخاص، ليعبر من خلالها عن رؤيته لواقع الجزائر اليوم من خلال تلك الصورة الرمزية المكثفة، فليس من الممكن تفسير الكثير من المواقف: مثلا لماذا يبدو الجميع أولا أنذالا على كل هذا النحو المتدني وحتى النهاية؟ ولماذا يصعد الراغبون في إقامة الصلاة إلى السطح بدلا من الذهاب إلى أحد المساجد التابعة لتنظيمات الإسلاميين، وهي كثيرة؟ ولماذا يذكر الشيخ في الخطبة التي تسبق الصلاة معمر القذافي بالخير باعتباره من الذين ساندوا ودعموا جماعات الإسلام السياسي في حين كان القذافي يحارب هذا التيار في ليبيا وينكل برموزه؟ وما الذي يجذب المرأة "نايلا" إلى آسيا؟ هل مصدر الانجذاب كونها نموذجا للمرأة التي تملك زمام حريتها، تمارس الغناء وتنطلق في الخارج مع أعضاء فرقتها الموسيقية، تتبادل الحب مع أحدهم – كما نرى؟ وما هي الورقة التي يطلب من السيد عدلان توقيعها، ولماذا لا يتم تعذيبه في أحد أقبية أجهزة الأمن مثلا خاصة إذا كان من يقوم بتعذيبه- كما نفهم- رجلا من رجال السلطة النافذين؟ ولماذا تبدو حتى الطفلة الصغيرة بهذه الفظاظة والقسوة في تعاملها مع سي العربي؟

هذه التساؤلات وغيرها لا يملك الفيلم تقديم إجابات عنها. إننا فقط محكومون بتلك الرؤية المكثفة التي تنتقل من سطح إلى آخر، لا يربط بينها سوى أنها تدور فوق أسطح العمارات القديمة في العاصمة الجزائرية، وهي ولاشك، فكرة أدبية أغوت مرزاق علواش فيما يبدو، لاتخاذها مدخلا جماليا، لتصوير الحياة في الجزائر من أعلى. صحيح أن الكثير من المشردين يعيشون حاليا فوق الأسطح.. ولكن لماذا لا يبدو أن بينهم وبين بعضهم البعض أي نوع من التعاطف أو الفهم؟

الأمر الواضح من قراءة الفيلم أن علواش يستخدم الآذان والصلوات عن قصد ضمن البناء العضوي للفيلم وليس كإطار عام لمجتمع عربي إسلامي. هنا تطرح تساؤلات كثيرة حول تلك الرؤية "الاستشراقية" القاسية التي لا تقدم حتى صورة واضحة لجماعات التطرف المرتبطة بالإسلام كما اعتدنا أن نرى في أفلام سابقة لعلواش نفسه، بل مجرد قشور عابرة في سياق يدين الجميع.

هناك صور بديعة لأجزاء من المدينة في الشارع وعلى الشاطيء وفي الميناء أسفل، ولقطات خلابة للحظات الشروق حتى الغروب.. لتدفق السيارات في الطرق، فيما يعكس حنينا واضحا للجزائر التي كانت في الماضي، خاصة وهو يصور من أعلى حي باب الواد على خلفية حديث ضابط الشرطة المتقاعد وهو يقص على زوج ابنته أنه كان يقيم في إحدى عمارات الحي الذي يحبه كثيرا، وكيف أنه حصل على الشقة التي أقام فيها من رجل إسباني كان قد لجأ إلى الجزائر بعد هزيمة الشيوعيين في الحرب الأهلية الإسبانية. ويضيف إنه تعلم الشيوعية بعد ان ظل يقرأ ويدرس كل متعلقات الرجل وكتبه التي تركها.

يتوقف الفيلم هنا وهناك لكي يتيج الفرصة لمشاهدة أطراف مقتصدة من حركة الشارع. مع انتقالات محسوبة بدقة بين المشاهد. ويميل التمثيل عن قصد، إلى بعض المبالغة والنزعة الكاريكاتورية في الحركة.. لأن علواش لا يريد أن يحقق الاندماج بين المتفرج والفيلم، بل يريد خلق نوع من التغريب من خلال تلك المبالغات مع جعل معظم لقطاته تدور داخل لقطات متوسطة للحفاظ على مسافة بين المتفرج والشاشة.

ورغم الاتقان الحرفي في التصوير والمونتاج وذلك الاستخدام المقتصد العذب للموسيقى، إلا أن الفيلم يظل مجموعة متفرقة من المشاهد التي كان تأثيرها سيصبح أقوى كثيرا إذا ما تمكن السيناريو، من إقامة علاقات أقوى بينها، وأن يربط فيما بينها بشكل أفضل، وأن يعثر على علاقات أكثر عمقا بين تلك الشخصيات التي تظهر وتختفي كثيرا في الفيلم. 
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger