الخميس، 9 أكتوبر 2008

رائد سينما الاحتجاج والتمرد والغضب


بعد 40 عاما على ظهور فيلم "إذا" البريطاني

تحية إلى ليندساي أندرسون

بقلم: أمير العمري


احتفلت الأوساط الثقافية والسينمائية في بريطانيا مؤخرا بمرور 40 عاما على تصوير فيلم "إذا" IF للمخرج الكبير الراحل ليندساي أندرسون. إذاعة بي بي سي- 4 أنتجت برنامجا تسجيليا طويلا عن أندرسون وفيلمه الذي لايزال حتى يومنا هذا، يثير الجدل. وممثله المفضل مالكولم ماكدويل، الذي اكتشفه أندرسون وقدمه للسينما في دور البطولة في هذا الفيلم، أنتج فيلما تسجيليا بعنوان "لن أعتذر أبدا" عن علاقته بأندرسون، تحدث فيه وأفضى بمعلومات وأسرار جديدة.
صور فيلم "إذا" عام 1968 في نفس الوقت مع التظاهرات الطلابية والعمالية العنيفة التي شهدتها باريس وامتدت إلى مدن أوروبية أخرى، ثم عرض في العام التالي في مسابقة مهرجان "كان" وحصل على "السعفة الذهبية" كأحسن فيلم.
وقد تحول هذا الفيلم منذ ظهوره إلى "حدث" كبير في الثقافة البريطانية، فقد كان يمثل علامة فارقة بين عصرين: عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية بطفرته الصناعية التي دعمت نفوذ "المؤسسة" الحاكمة دون أن تهز قناعاتها، وبين عصر جديد للتمرد على تلك المؤسسة التي توفر الرخاء لكنها تنزع الجوهر والروح، وتتشبث بتقاليد الامبراطورية بعد زوال عصر الامبراطورية رسميا بالانسحاب من شرق السويس عام 1967، هذه المؤسسة يتعرض الفرد في إطارها للقمع بشتى صوره: في المدرسة والجيش والمصنع والكنيسة.

رؤية جامحة
ويصور فيلم "إذا" رؤية جامحة شديدة العنف والفوضوية، لمجتمع بريطانيا التقليدي كما يتمثل داخل مدرسة ينقسم طلابها إلى ثلاث طبقات كل منها تمارس القمع على الطبقة الأدنى، ويحكمها نظام صارم من الأساتذة والمشرفين. إنه نظام أقرب إلى "الكهنوت" الكنسي، حيث يتعين على الجميع الالتزام بالطاعة العمياء ونبذ تساؤلاتهم، لكنه كان يرمز لبريطانيا الملكية كمؤسسة فوقية، والنظام الطبقي العتيق الصارم: الرأسمالية الكبيرة والطبقة الوسطى ثم الطبقة العاملة.
يبزغ من بين طلاب الطبقة الوسطى في المدرسة زعيم شاب قوي هو ميك ترافيس، يقوم بدوره مالكولم ماكدويل. يقود التمرد على كل تقاليد المدرسة، وينتهي التمرد بثورة دموية تحرق وتدمر وتقتل كل رموز المجتمع القديم المتعفن الذي يتنبأ أندرسون في فيلمه بضرورة نهايته.

العنف في "إذا" عنف نابع من موهبة جامحة متوحشة ترغب في الانطلاق بعيدا عن سينما المواقف المصنوعة، والنهايات السعيدة.
وقد أثار الفيلم اهتماما شديدا وقت ظهوره في الأوساط البريطانية المختلفة. ومنحته الرقابة البريطانية علامة "إكس" أي قصرت عروضه على "الكبار فقط". وعندما عرض في مصر في العام التالي، عرض تحت اسم "كلية المتاعب"، واستبعدت الرقابة المصرية منه الكثير من المشاهد واللقطات، ثم اختفى من دائرة التوزيع تماما بعد ذلك.
واستعان مخرجه ليندساي أندرسون بسيناريو مزيف من 40 صفحة لكي يحصل على موافقة المدرسة العامة في شيلتنهام التي درس هو فيها. وتصور مدير المدرسة أن الفيلم سيكون في صالح المدرسة من الناحية التربوية، إلا أنه فوجئ خلال العرض الخاص الذي حضره وكان لابد أن يحضره، بأن الفيلم مناهض تماما لكل الأفكار السائدة عن "القيم التربوية". ويقول الممثل مالكولم ماكدويل إن الرجل بعث برسالة في مظروف إلى أندرسون رفض الأخير أن يفضها أو يقرأها لأنه كان يعرف تماما ما فيها، ولم يشأ أن يواجه أحدا يقول له "لقد خدعتني" أو "أنت وغد"!

رائد التجديد
ويمكن القول بثقة إن الرائد الحقيقي للتجديد في السينما البريطانية هو المخرج ليندساي أندرسون (1923- 1994)، وذلك رغم أنه لم يخرج طوال مسيرته السينمائية سوى سبعة أفلام روائية طويلة، غير أنه أخرج عشرات الأعمال المسرحية والأفلام التليفزيونية الدرامية والتسجيلية.
كان ليندساي أندرسون الرائد الحقيقي لحركة "السينما الحرة" التي نقلت السينما البريطانية خلال الفترة من منتصف الخمسنيات إلى منتصف الستينيات، من مجال الأفلام الهروبية والتاريخية التقليدية إلى مجال الواقع الاجتماعي، لكي تطرح مواضيع جريئة تدور أساسا، في أوساط الطبقة العاملة. وكانت تلك الحركة تضم أيضا سينمائيين مثل توني ريتشاردسون وكاريل رايز، وكتابا مثل جون أوزبورن، وكان هؤلاء يشكلون جماعة "أنظر خلفك في غضب" نسبة إلى مسرحية أوزبورن الشهيرة.
وكان هناك أساس نظري سبق ظهور "السينما الحرة" تمثل في ظهور مجلة سينمائية متخصصة هي "سيكوانس" التي رأس تحريرها أندرسون، وهو الذي أطلق تعبير "السينما الحرة" على الحركة، وبدأت أولا تنتج أفلاما تسجيلية جريئة بأسلوب يتجاوز السائد أي لا يكتفي بالعرض بل يحلل ويكتشف ويضرب في العمق.
وكان أندرسون أيضا هو الذي وضع بيان "السينما الحرة" ووصف واقعية أفلامها بأنها "واقعية حوض المطبخ".

الحياة الرياضية
وأخرج أندرسون أحد أهم أفلام تلك الحركة وهو فيلمه الروائي الأول "هذه الحياة الرياضية" This Sporting Life (1960) الذي قام ببطولته الممثل العملاق الراحل ريتشارد هاريس عن مأساة عامل مناجم تحول إلى لاعب رجبي بحثا عن المال، إلى أن يجد نفسه وقد أصبح "أداة" يستغلها مجتمع التجارة الرياضية، ويتحول تدريجيا إلى وحش كاسر في الملعب لكنه يفتقد إلى الحب في حياته الخاصة، ويشعر بفراغ روحي هائل، وينتهي وقد فقد زوجته وأصدقاءه بعد أن يكون قد فقد نفسه.
وقد صور الفيلم في مدينة صناعية صغيرة في مقاطعة يوركشاير، بظلالها القاتمة والدخان المتصاعد من مداخن مصانعها، وضبابها وأحيائها العمالية الباردة. وتميز الفيلم بواقعيته الشديدة وبتركيزه على فكرة الاستلاب وتحول الفرد إلى أداة يسخرها الآخرون لجني الفوائد والأرباح.
وقد ابتعد أندرسون تماما عن أسلوبه الواقعي الأول في هذا الفيلم لكي يعبر بحرية تتجاوز الواقعية، في فيلم "إذا" عن رؤيته الشخصية لفكرة الثورة. في الفيلم مثلا عبارات من قبيل "الثورة والعنف هما أنقى الأشياء".

الرجل المحظوظ
وفي فيلمه التالي "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man يمد تجربته على استقامتها ويصل إلى أقصى حدود السيريالية شكلا، والفوضوية مضمونا، من خلال موضوع قريب الشبه إلى حد ما، بفيلم "البرتقالة الآلية" Clockwork Orange الذي أنتج في العام نفسه ومن بطولة مالكولم ماكدويل (للمخرج ستانلي كوبريك)، إلا أن بطله (ميك ترافيس أيضا) على العكس من بطل الفيلم المشار إليه لا يميل للعنف أو التمرد بل يبدأ وهو ممتثل تماما للمجتمع، يريد أن يصعد في إطار المؤسسة، لكنه يواجه الكثير من المتاعب بسبب رغبته في الصعود في المجتمع الرأسمالي مع التمسك بنوع من المثالية، فيجد نفسه في السجن ثم في مستشفى الأمراض العقلية بسبب تآمر رؤسائه ومنافسيه ورغبتهم في تدميره وإقصائه من السوق.
في هذا الفيلم هجاء واضح لبريطانيا التي فقدت الامبراطورية لكنها مازالت تتمسك بدور "إمبراطوري" عن طريق الغش والتحايل والعمليات القذرة في العالم ومنها تصدير السلاح إلى مناطق النزاعات والحروب، وتدريب المرتزقة وتزويدهم بالخبراء.
ثلاثية أفلام ليندساي أندرسون التي كتبها ديفيد شيروين ولعب بطولتها مالكولم ماكدويل، انتهت بفيلم "مستشفى بريطانيا" Britania Hospital الذي عرض عام 1982 أثناء التغطية الإعلامية المكثفة لحرب بريطانيا ضد الأرجنتين في جزر فوكلاند. وحمل الفيلم مجددا أفكار أندرسون الغاضبة من المؤسسة الحاكمة، التي يسخر منها بعنف ويصورها على أنها تمارس القتل والغش والخداع والعبودية للعائلة المالكة وحماية الحكام الديكتاتوريين.
وكما كانت المدرسة في فيلم "إذا" رمزا لبريطانيا فإن المستشفى في هذا الفيلم ترمز إلى المجتمع البريطاني أيضا بتركيبته الطبقية التي ظل أندرسون يرفضها ويوجه لها الانتقادات القاسية حتى النهاية.
لا اعتذار
ومن الأحداث التي رواها أخيرا الممثل مالكولم ماكدويل في فيلمه التسجيلي "لن أعتذر أبدا" Never Apologise أن الوفد البريطاني في مهرجان كان السينمائي نظم انسحابا جماعيا من القاعة عند عرض الفيلم، ثم أخذ بعضهم يطاردونه على سلالم قصر المهرجان ويهاجمونه واصفين إياه بـ "المعادي لكل ما هو بريطاني".
وقد فشل الفيلم في السوق البريطانية، وتوقفت مسيرة أندرسون فترة قبل أن يعود لاخراج آخر افلامه في الولايات المتحدة وهو فيلم "حيتان في أغسطس" الذي لم يحقق نجاحا يذكر، فقد كان العالم قد تغير، ونجحت المؤسسة التي ظل أندرسون مناهضا لها في الالتفاف، وارتدت ثيابا جديدة، لكي تعود بشكل مختلف، أكثر قوة عما كانت،كما نجحت في تدجين المثقفين، ومحاصرة كل ما تبدى من آثار ثورة 1968 في أوروبا.
إلا أن أندرسون الذي توقف تماما عن العمل بالسينما قبل وفاته بست سنوات، لم ينحن ولم يستسلم ولم يسع أبدا إلى الاعتذار للمؤسسة بأي شكل من الأشكال. وقد ظل- كما يقول مالكولم في فيلمه التسجيلي- يرفض الاعتذار عن غضبه، وعن رفضه، وعن رغبته في رؤية بلاده والعالم، أكثر إنسانية وأكثر عدلا وجمالا.
(عن موقع بي بي سي أربيك دوت كوم)
شاهد بالفيديو المشهد الأخير من فيلم "إذا"

سيد بدرية في دور البطولة في هوليوود أخيرا

صديقنا الممثل المصري الأصل الأمريكي الجنسية، الذي يعمل منذ سنوات في هوليوود يحقق نجاحات متتالية هناك. فقد تألق أخيرا في فيلم "الرجل الحديدي" وحصل على تقدير الكثيرين في دوره كتاجر سلاح. وقام بعد ذلك بالدور الثاني في "الربيع في خطوتها" الفيلم القادم للمخرج المستقل مايكل برجمان، ويلعب فيه دور سائق تاكسي فلسطيني، كما يقوم بدور سفاح في الفيلم المكسيكي من تمويل بارامونت بعنوان "الساحة الخلفية" وتقول المعلومات المنشورة عنه أنه يستند إلى قصة حقيقية، وهو من إخراج المخرج المكسيكي كارلوس كارييرا.
أما أهم خطوة في حياة سيد العملية فهي إقدامه أخيرا على الاشتراك في تأليف وإنتاج فيلم جديد يقوم فيه بدور البطولة المطلقة للمرة الأولى في هوليوود، وهو فيلم "الشرق الأمريكي" أو American East. ويقول سيد إن الفيلم يتناول وضع العرب في أمريكا أو بالأحرى، الأمريكيين من أصل عربي فيما بعد أحداث 11 سبتمبر، ومحاولاتهم التغلب على أجواء انعدام الثقة القائم من جانب المجموعات الأمريكية الأخرى حولهم.
ومن المنتظر أن يثير الفيلم الجديد الجدل بسبب طبيعة الموضوع الذي يقوم فيه بدرية بدور مهاجر مصري إرمل، يدير مقهى لكنه يحلم بافتتاح مطعم للمأكولات العربية مع صديقه اليهودي.
سيد بدرية، ابن بورسيعد الذي هاجر إلى أمريكا في أواخر السبعينيات ودرس السينما في نيويورك وكان زميله في الدراسة وودي هارلسون، وعمل فترة مساعدا للممثل المخرج الراحل أنطوني بيركنز، يقوم بدور كبير منذ سنوات أيضا في الدعوة إلى تغيير النظرة السائدة للعرب في هوليوود تحديدا وفي أمريكا بوجه عام رغم المآخذ العديدة على بعض الأدوار التي يقوم بها في الأفلام الأمريكية الشائعة، فهو كثيرا ما يقوم بدورالإرهابي أو القاتل. لكنه أيضا انتج فيلما قصيرا مع زميله المخرج هشام العيسوي بعنوان "حرف T بمعنى إرهابي". وقد حصل هذا الفيلم على جائزة أحسن فيلم قصير في مهرجاني بوسطون وسان فرانسيسكو.
وقبل سنوات وتحديدا في 2002، عرضنا في إطار برنامج جمعية نقاد السينما المصريين وقت رئاستي لها، الفيلم التسجيلي الطويل الممتع "إنقاذ كلاسيكيات السينما المصرية" الذي انتجه وأخرجه سيد بدرية.
ويتناول الفيلم بشكل متوازن كثيرا، الوضع المزري الذي يعاني منه تراث الأفلام المصرية القديمة في مخزن الدولة.
وقد أدرت ندوة موسعة بقاعة المجلس الأعلى للثقافة عن الفيلم والقضية، شارك فيها ممثلون عن الدولة وحشد من النقاد والسينمائيين،
واتُخذت على إثرها إجراءات أطلعني عليها تفصيلا فيما بعد، الأستاذ صلاح حسب النبي رئيس الشركة المصرية القابضة التي تدير أرشيف الأفلام المصرية وموروث الأفلام التي أنتجتها الدولة في عهد مؤسسة السينما الحكومية، لترميم وحفظ الأفلام بطريقة علمية.
وقائع هذه الندوة منشورة بالكامل في أحد أعداد مجلة "السينما الجديدة" أول مطبوعة "دورية" تصدر عن الجمعية شهريا واستمرت حتى مارس 2003.

الأربعاء، 8 أكتوبر 2008

مأزق فاروق حسني

أخيرا أسدل الستار على ما عرف باسم قضية الرشوة الكبرى" التي اتهم فيها ثلاثة من كبار رجال وزير الثقافة المصري فاروق حسني على رأسهم أيمن عبد المنعم مدير مكتب الوزير ثم رئيس صندوق التنمية الثقافية، أقوى جهاز من أجهزة وزارة الثقافة المصرية.وقد حكم على كل من "الثلاثة الكبار" بالسجن لمدة عشر سنوات مع تغريمهم والزامهم برد المبالغ التي حصلوا عليها كرشوة مقابل تسهيل أعمال مقاولين أسندت إليهم عمليات إنقاذ وترميم وخلافه في المباني الأثرية التي تشرف عليها وزارة فاروق حسني.
بهذا الفصل المخزي يثبت مرة أخرى أن فاروق حسني الذي دمر وجه الثقافة المصرية وجعلها تبدو أمام العالم أضحوكة بسبب ممارسات وزارته وإطلاقه يد "رجاله" من الطغمة الفاسدة المفسدة في كل المجالات: السينما والمسرح والآثار والفن التشكيلي والثقافة الجماهيرية وغيرها يجب أن يتوارى خجلا بعد صدور هذا الحكم، فقد كان قد صرح بعد إلقاء القبض على تلميذه وربيبه أيمن عبد المنعم الذي أطلقت عليه الصحافة الشعبية "الواد ايمن بتاع الوزير" بأنه لا يصدق أن يكون أيمن قد ارتشى، وإنه سيصدم صدمة كبرى إذا ثبتت إدانته، إلا أنه لم يشرح لنا معنى أنه "سيصدم" فهل يجرؤ فاروق حسني على تقديم استقالته بشرف هذه المرة وليس على سبيل التظاهر الأجوف أمام الرأي العام بينما يعرف الجميع انه مرتبط بنظام قائم إلى ان يقضي الله أمرا كان مفعولا!
إن الفساد الذي صبغ وجه وزارة فاروق حسني طيلة عشرين عاما سيستمر بعد صدور الحكم القضائي، فالذين حكم عليهم بالسجن والغرامة ليسوا آخر الرجال غير المحترمين في وزارته بل هناك المزيد، ولكن المسألة فقط مسألة "حظ وبخت ونصيب" وليست مسألة وقت كما يقول المتفائلون عادة، فكم من المهربين ولصوص الآثار والمخطوطات في وزارة فاروق حسني تم التستر عليهم وطي صفحتهم مع بقائهم في مناصبهم داخل وزارة الفساد.المؤكد في النهاية أن "مأزق فاروق حسني" هو مأزق نظام بأكمله وليس فقط وزارة من وزارات الفساد.

الاثنين، 6 أكتوبر 2008

كلاسيكيات حديثة: "سيكون هناك دم"


الواقعية والرمز ونظرة موحشة إلى أمريكا

عدم حصول الفيلم الأمريكي "سيكون هناك دم" There Will Be Blood إلا على جائزة أحسن ممثل، التي حصل عليها بطله الانجليزي دانييل داي لويس، وجائزة أحسن تصوير، لا يقلل من شأنه، بل على العكس، يقلل من مصداقية نتائج "الأوسكار"، فلاشك أن الفيلم كان يستحق عن جدارة جائزتي أحسن فيلم وأحسن إخراج.
غير أن جوائز مسابقة الأوسكار تحديدا ليست دائما معيارا للقيمة الفنية، فمن المعروف أنها تخضع لاعتبارات عديدة تدخل في حساب القائمين عليها خاصة وأنها تمنح من طرف ممثلي صناعة السينما وهم ستة آلاف عضو هم أعضاء "الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية"، وهي عبارة عن تجمع كبير لنقابات العاملين في هوليوود. ويتم التوصل لنتائج المسابقة من خلال نظام للاقتراع السري، دون عروض منظمة للأفلام، ودون مناقشات، علنية أو سرية، بل ودون مسوغات لمنح الجوائز.
"سيكون هناك دم" فيلم أمريكي ذو مذاق مختلف كثيرا عما هو سائد في أفلام أمريكية أخرى، فهو يتمرد على الكثير من طرقها واساليبها، ويعتبر على نحو ما، مغامرة فنية، تفضل شركات هوليوود التقليدية الكبيرة عادة الابتعاد عن خوضها، مفضلة ما هو "مضمون" من أفلام تروي قصصا مثيرة للخيال والمشاعر.
اما هذا الفيلم الذي أخرجه بول توماس أندرسون (38 عاما) فهو يتجه وجهة جديدة، تعتمد على التجريد والمزج بين الواقعية والرمزية، مع تجاهل التبريرات الدرامية سواء في ابعادها النفسية أو الاجتماعية، وهو ما يجعل الفيلم عملا مركبا ذا مستويات متعددة أيضا للفهم والاستقبال.

ظهور النفط
يعتمد الفيلم- وإن بتحرر- على رواية بعنوان "نفط" Oil للكاتب الأمريكي ابتون سنكلير صدرت في عام 1927، وتبدأ الأحداث في عام 1898 ونحن نرى رجلا بمفرده، هو بطلنا دانييل بلانفيو، وهو يقوم بالتنقيب عن الذهب في نفق في صحراء جنوب كاليفورنيا. وهو يعثر أولا على الفضة بدلا من الذهب، ثم وبمحض المصادفة، يعثر على الذهب الأسود أو النفط.
بعد ذلك تتسع أعمال الرجل فيستعين بمساعدين للعمل معه في البئر الأولى التي يمتلكها، ويتمكن من إقامة حفار للنفط بوسائل بدائية مما يؤدي أولا إلى وفاة أحد العاملين، وترك ابنه الطفل الذي يتبناه فلانفيو ويستخدمه بعد أن يصبح صبيا في التاسعة، يقدمه كشريك له حتى يستدر العطف ويضفي على نفسه مسحة من الاحترام.
ويسعى بلانفيو للتوسع ومد أعمال حفر الآبار إلى مناطق أخرى، ويأتيه ذات يوم شاب يدعى "بول صنداي" يعرض عليه شراء أراض تابعة لأسرته يؤكد له أنها ترقد على كميات هائلة من النفط. ويتجه بلانفيو مع ابنه بالتبني إلى منطقة "بوسطون الصغيرة" حيث توجد أراضي الأسرة، وهناك يلتقي برب الأسرة وابنها الثاني "إيلي صنداي" وشقيقته ماري.
وتوافق الأسرة على بيع الأراضي، لكن إيلي يطلب مزيدا من المال كدعم لكنيسة تابعة له يقوم من خلالها بأعمال التبشير لمذهبه الديني المتطرف، ولا يجد دانييل مفرا من الرضوخ على مضض.
مع تدفق النفط من البئر يشتعل حريق ويقع انفجار ضخم يؤدي إلى إصابة الطفل الذي لا نعرف اسمه ويطلق عليه بلانفيو "إتش دبليو" بالصمم بعد أن أدى الانفجار إلى اتلاف طبلتي أذنيه.
تكون هذه العقبة الأولى التي يواجهها بلانفيو ويتعين عليه التعامل معها بصرامة، فالصبي الذي يجد نفسه وحيدا عاجزا عن السمع، يتمرد بسبب المعاملة الخشنة التي يلقاها ويشعل النار ذات ليلة في المسكن المؤقت الذي يرقد فيه مع والده بالتبني.
ومع اتساع نطاق آبار النفط وزيادة ثروة دانييل بلانفيو وتطلعه للسيطرة على مزيد من الأراضي التي تكفل له الوصول بخط أنابيب يعتزم مده إلى ساحل البحر، سرعان ما يواجه العقبة الثانية مع وصول رجل يدعى "هنري" يقول إنه أخ له من أم أخرى، وإنه يرغب في الحصول على عمل يقيه شر الحاجة.
في البداية يلحقه بلانفيو بالعمل كمساعد له، ثم يبدأ في التشكك في صحة روايته، كما يضيق بالمتاعب التي يسببها له ابنه بالتبني، فتخلص من الفتى عنوة ويلحقه بمدرسة داخلية للصم. ثم ينفرد بهنري في الغابة ليلا ويهدده بالقتل إذا لم يعترف له بحقيقته، فيعترف الرجل بأنه اخترع القصة لحاجته للعمل، ويؤكد له إخلاصه، لكن بلانفيو، يقتله ثم يدفنه.
أما العقبة الثالثة التي يواجهها فهي تتمثل في "إيلي صنداي" الذي يواصل ابتزازه مقابل تسهيل حصوله على مزيد من الأراضي التي يمد فيها احتكاره النفطي. "إيلي" يريد أن يطوع بلانفيل ويدخله ضمن زمرة المنخرطين في مذهبه الديني ولو بتحريض الناس ضده بدعوى استغلاله لهم، أو ابتعاده عن الدين. والهدف بالطبع ليس دينيا، بل كنوع من الابتزاز للحصول على اكبر مكاسب ممكنة. وفي واحد من أهم مشاهد الفيلم، يوافق بلانفيل، خدمة لمآربه الخاصة، بالامتثال للقس الشاب الذي يعرف حقيقة أنه مزيف، وأنه لا يختلف عنه في جشعه وسعيه لتحقيق مآربه الخاصة، ويقوم بالاعتراف علانية أمام رواد الكنيسة بارتكاب الإثم والخطيئة وبأنه تخلص من ابنه بطريقة شريرة، ويتعهد باستعادته وبعدم التخلى عنه مستقبلا، والأهم بالطبع، أنه يوافق علىالتبرع بمزيد من الأموال للطائفة الدينية وبناء كنيسة كبيرة لأتباعها الذين تسحرهم قوة شخصية "إيلي" وقدرته على التمثيل والتقمص وادعاء القدرة على الإتيان بالمعجزات.
الصراع في الفيلم يمتد إلى النهاية، إلى حين يقضي بلانفيو على خصمه الدود ويتخلص منه إلى الأبد بعد أن يجعله يعترف بغشه وكذبه واحتياله. لكنه في الوقت نفسه يكون قد بلغ ذروة سقوطه.

فيلم خارج النوع
السينما الأمريكية عرفت بالتزامها بـ"وصفات" محددة للأفلام يطلق عليها النقاد ، أنواع الأفلام أو genres ويتبعها عادة المنتجون في تحديد طبيعة مواصفات موضوع الفيلم الذي يراد إنتاجه، فهناك أفلام الويسترن أو الغرب الأمريكي، كما أن هناك أفلام الرعب والكوميديا والمغامرات البوليسية والدراما التاريخية والدراما الاجتماعية.. وغيرها.
أما هذا الفيلم فلا يخضع لمواصفات "النوع"، فهو ينتقل بين الويسترن أو الغرب الأمريكي، والرعب والدراما النفسية ولكن بعيدا عن التحليل النفسي، فلا توجد هنا دوافع ولا مبررات. وربما يتمثل أسلوب أفلام "الويسترن" في أبعاده العامة: بطل فردي غامض مغامر يجرب حظه في اكتشاف الذهب فيكتشف الذهب الأسود ويتصارع عليه مع خصوم آخرين (الشركات المنافسة التي تحاول أن تشتري منه آباره المكتشفة وتزيحه عن الساحة)، أو مع خصم يريد أن يشاركه في الملكية، وإن كان هنا من نوع مختلف، فهو يعتمد على إثارة الناس ضده بوحي ادعاءات أخلاقية ودينية. لكن الفيلم لا يحتوي على مطاردات بالجياد ومبارزات وتبادل لإطلاق النار، كما لا يتضمن صراعا بين الأخيار من المكتشفين البيض والأشرار من الهنود الحمر.
وبدلا من المبارزات التقليدية المباشرة هناك مبارزة طويلة ممتدة تدور بين شريرين هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة: دانييل بلانفيو وإيلي صنداي. الأول يخدر الناس بزعم أنه سيحيل حياتهم من البؤس إلى الثراء إذا ما ساعدوه في المضي قدما في استخراج "الذهب الأسود" وتحقيق الثراء، تحت وهم فكرة "الثراء للجميع". والثاني يوهم الناس بقدرته على الشفاء وعمل المعجزات ويبتز الأول استنادا على قدرته على تحريض الناس للوقوف ضد مشاريعه التجارية.
تجريد متعمد
ورغبة في تحميل الفيلم طابعا رمزيا، يحيط السيناريو الشخصيتين الرئيسيتين بالكثير من التجريد: فدانييل بلانفيو رجل غامض، يبدو بلا ماض، مقطوع الصلة بالأسرة، بل إنه يرفض حتى قبول أي شئ يذكره بالماضي الذي تركه خلفه، يبدو مدفوعا بفكرة واحدة فقط هي جمع المال والملكية. وهو يخشى من المنافسة ولا يطيق أن ينافسه أحد حتى لو كان ولده بالتبني، ويجد أن الآخرين هم الجحيم بعينه، ولكن ليس على مستوى سارتر الوجودي الذي كان يعلي كثيرا من شأن الحرية الفردي، بل لتبرير أنانيته ورغبته في الاستحواذ بأي ثمن.
إن فيلم "سيكون هناك" دم، بتكوينه الدرامي من أكثر الأفلام تعبيرا عن الشخصية الأمريكية التقليدية، عن نشأة وتطور أمريكا: الشركة الكبيرة التي تحسب مصالحها ببرود، وتتطلع دوما إلى التفوق على غيرها بكل طريقة. إنه عمل فني بديع عن الجشع والرغبة المرضية في الاستحواذ عندما تصل إلى ذروتها، عن اغتيال الطبيعة وتلويثها دون حساب سوى للقيمة النفعية المباشرة، عن بيع وهم "الجنة الأرضية" للآخرين، والاتجاه إلى التحالف المشبوه مع أتباع المذاهب المتطرفة لضمان تحقيق السيطرة، وعدم التورع عن ارتكاب جرائم القتل في أبشع صورها، وتصفية الخصوم على طريقة عصابات المافيا حتى النهاية الدموية.

نقيض البطل
لا يقف أي شئ في طريق دانييل بلانفيو. وهو كما يقدمه الفيلم، نموذج لنقيض البطل anti-hero ، فهو رجل وحيد، حياته جافة مثل ملامح وجهه المتغضنة، يغيب الحب وتغيب العلاقة مع المرأة من حياته (لا وجود للمرأة في الفيلم بشكل عام، وهو بهذا المعنى فيلم ذكوري تماما إمعانا في تأكيد مستوه الرمزي)، كما يعاني بطلنا من القطيعة مع الماضي، وفقدان التاريخ، والتخلي عن الأخلاق، واستخدام التدين الظاهري ستارا لأعمال استغلالية، والاستعلاء بالمال والقناعة بأنه كفيل وحده بالاستغناء عن الآخرين.
خلال الحوار بين دانييل وأخيه المزيف هنري، يعترف دانييل بكراهيته للآخرين عندما يقول له: "لقد كنت دائما أجد ان الناس غير مثيرين للاهتمام. بل إنني لا أحبهم.. وهدفي في الحياة هو أكن أجمع من المال ما يمكنني من الاستغناء عنهم". وبعد الاعتراف يأتي القتل، كما لو كان بلانفيو لا يمكنه أن يتعايش مع شخص اعترف له بنقطة ضعفه.
أما إيلي صنداي، فهو أيضا شخصية فيها من التجريد الذي يجعلها رمزا أكثر مما فيها من الواقع، فهو الوجه الآخر للانتهازية والجشع والرغبة في الصعود والتملك والسيطرة والنفوذ بأي ثمن. إنه يستخدم ذكاءه وفطنته وسهولة الترويج للأسطورة، من أجل السيطرة على مشاعر الناس، وبالتالي استخدامهم لتحقيق مآربه في التملك والامتلاك: تملك الناس، وامتلاك المال والسلطة. والعلاقة المشوبة بالتوتر بين الاثنين هي العلاقة الأمريكية بين المال والسلطة والفكر المزيف.
ويستخدم الفيلم الممثل نفسه (بول دانو) لأداء دوري الشقيقين: بول الخير، وإيلي الشرير، بطريقة توحي بأنهما يمكن أن يكونا الشخص نفسه، ويجعل الأول يختفي بعد ظهور الثاني مباشرة، دلالة على فكرة حلول الشر مكان الخير.
أسلوب الفيلم
لا يعتمد أسلوب البناء في الفيلم على "حبكة" مشوقة تصعد إلى ذروة حتى تنفرج الأحداث بالتطهير أو بالنهاية السعيدة، بل تسير في خطوط متعرجة، أي على عكس البناء السائد في السينما الأمريكية التقليدية، مما يجعل الفيلم يقترب كثيرا من اعمال الفن الرفيع ذات النفس الملحمي، بلقطاته الطويلة وايقاعه البطئ الهادئ، وموسيقاه التي تستوحي قرقعات قطع الحديد واصطكاك تروس آلات الحفر، وصوت احتكاك العملات المعدنية.
يبدأ الفيلم تحت الأرض وبطلنا ينقب عن الذهب داخل نفق مظلم في منطقة معزولة في كاليفورنيا، ويستغرق الفيلم حوالي 15 دقيقة في سرد مشاهد صامتة، تركز على استماتة البطل (المناقض للبطل) في تحقيق حلمه. وتتناقض الصورة بعد ذلك بين الظلمة والنور، وبين باطن الأرض وسطحها، كما لو كانت تجسد الصراع بين الخير والشر، الجمال والقبح، براءة الطبيعة وجشع الإنسان. ويصور المخرج بطله، وهو يسقط في قاع الحفرة واصابته بعد ارتطامه بالأرض واصابته بعاهة تظل معه حتى النهاية. ويصوره الفيلم في المشاهده الأولى وقد غطي وجهه وجسده وملابسه بأوساخ النفط ونفايات الطبيعة.
وينتهي الفيلم في عام 1927، وبعد أن يكون بلانفيو قد اصبح من كبار الأثرياء في بلده وأصبح يعيش في قصر شيده كما كان يحلم، لكنه كالسجن، يعيش فيه وحيدا كما كان دوما، عاجزا عن الإحساس بالسعادة، ساعيا إلى الانتقام من خصمه الأبدي وإذلاله، ولا يهم كيف ينتهي الأمر بعد ذلك.
وفي واحد من أفضل مشاهد الفيلم قبل النهاية، يواجه دانييل ولده بالتبني بعد أن كبر وتزوج. هنا يعلن الشاب، من خلال لغة الإشارات، أنه يريد أن يرحل بعيدا لكي يكون شركته الخاصة، وإنه يرغب في التحرر من سيطرة دانييل والعيش كظل له.
ويستشيط دانييل غضبا، فما معنى أن يرغب الولد في الاستقلال وتكوين شركته الخاصة؟ معناها أنه سيصبح منافسا له، كما يقول، وهو لا يسمح بأي منافسة، بل سيسعى للقضاء على أي منافس محتمل له. ويأخذ في صب اللعنات عليه، ويعترف له بأنه ليس ابنه، بل مجرد ابن زنا عثروا عليه في كيس يتدلى من شجرة في الصحراء!

ولعل الجانب الأكثر بروزا في الفيلم يتمثل في ذلك الأداء العبقري الفذ للممثل الانجليزي دانييل داي لويس في الدور الرئيسي. ويمكن القول إنه لا يقوم فقط بدور البطولة في الفيلم أي دور دانييل بلانفيو، بل يحمل الفيلم بأكمله على كتفيه، موظفا كل خبرته وقدرته على الحركة والأداء والتعبير بالعينين وارتجافة الشارب ورمشة العين التي قد لا يلحظها أحد، يسير متثاقلا كأنه يخرج من الجحيم، ويبدو بصوته الأجش المتسلط كما لو كان نذيرا باجتياح الشر للعالم بعد أن فقد روحانياته.
إنه لا يتقمص فقط الشخصية ويؤديها بكل خشونتها وانعزاليتها وضراوتها في التعامل مع الآخرين من الخارج، بل ينجح في التسلل تحت جلد الشخصية، وتجسيد إحساسها الداخلي الميت بالناس وبالدنيا، كيف أصبحت هكذا، شخصية فاقدة للروح والجوهر. ومع فقدان الأخلاق العليا يفقد الإنسان إنسانيته مهما حقق من الثروة والجاه، ولعل هذا هو المفهوم الفلسفي الأكثر عمقا، الذي يسوقه إلينا هذا الفيلم البديع.
"سيكون هناك دم" عمل غير مسبوق في السينما الأمريكية سيبقى في الذاكرة، وسيكون هناك كثير من الأفلام قبل أن نرى عملا مشابها له في الروح والجوهر والرونق الفني.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger