من الأفلام "العربية" التي عرضت بالدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان رورتردام السينمائي اخترت أن أتوقف أمام فيلم "فرنسية" Francaise، هذا الفيلم المصنف علي اعتبار أنه من الإنتاج المشترك بين فرنسا والمغرب، في حين أنه فيلم أجنبي بكل معني الكلمة، وإن كان أحد الأفلام التي تحصل علي دعم مالي من المركز السينمائي المغربي، التي أشار إليها الناقد مصطفي المسناوي، في مقال حديث له أثار ضجة كبيرة، حين قال (بالحرف) "إن كل الخطاب الرسمي الذي تم تداوله في وقت من الأوقات عن "دعم السينما المغربية" ( بأموال دافعي الضرائب) قد انتهي عمليا إلي دعم وتشجيع شركات الإنتاج الأجنبية خاصة الفرنسية".
وقال المسناوي أيضا في مقاله المشار إليه: إن السينما المغربية التي يحتفل البعض هذا العام بالذكري الخمسين لظهورها (وهو تاريخ غير صحيح) لم تنجح طيلة نصف قرن من الزمان في إعطائنا ولو تقنيا (أو فنيا) واحدا مختصا بالمونتاج (من مراجعة الأفلام الطويلة المشاركة في مهرجان طنجة ويبلغ عددها 14 فيلما نجد أن 10 من بينها أنجز عملية "مونتاجها" أجانب). الفيلم من سيناريو وإخراج سعاد البوحاطي، والفيلم الروائي الطويل الأول لهذه المخرجة المغربية، التي تقيم وتعمل في باريس منذ أن أنهت دراستها للسينما في السوربون. وباستثناء ذلك فكل العناصر الفنية في التصوير والمونتاج والديكور والموسيقي وغيرها، من الفرنسيين. وهو من إنتاج جاك كيرسنيه وديفيد لوفافر.
مشكلة الموضوع والفكر
لكن المشكلة لا تتمثل فقط في هذا الجانب، أي جانب الإنتاج والتقنيين، بل أساسا، في موضوع الفيلم نفسه.
يطرح الفيلم مشكلة عجز الجيل الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة، الذين ولدوا ونشأوا في فرنسا، عن قبول فكرة العودة إلي الوطن "الأصلي"، وعدم التكيف مع الواقع المغربي بعد العودة، والإحساس بالاغتراب عن الواقع ونمط الحياة المغربية، والحلم بالعودة إلي ما يعتبر "الوطن الحقيقي" أي فرنسا.
هذه الأزمة تعبر عنها مخرجة الفيلم ومؤلفته، من خلال الفتاة "صوفيا" التي تولد وتقضي سنوات عمرها الأولي في فرنسا، وترتبط بصداقة مع فتاة فرنسية من نفس عمرها، إلا أن والدها يقع في المشكلة التي قد تواجه المغتربين جميعا في أي وقت، أي البطالة، فيقرر العودة إلي المغرب مع أسرته المكونة من الزوجة والأبناء الثلاثة صوفيا وشقيقها وشقيقتها رغم احتجاج صوفيا ورفضها ومقاومتها الشديدة للرحيل.
وتعود الأسرة بالفعل إلي المغرب، ويتعاون أفرادها جميعا في زراعة قطعة من الأرض في منطقة ريفية خلابة بمناظرها الساحرة، وتقطن الأسرة في منزل يبدو كالقصر بمقاييس المغرب (والمشرق أيضا!)، وتمر عشر سنوات، وتكبر صوفيا وتصبح فتاة مراهقة متفتحة بالأنوثة وبالإحساس بذاتها وخصوصية شخصيتها.
ومرة أخري تعود صوفيا إلي التفكير في فرنسا التي تراها جنة الأرض بالنسبة لها، وتعبر بكل الطرق عن رفضها العيش في المغرب ورفض الارتباط بأي شخص فيها، وتتوتر علاقتها بشقيقتها وبوالدتها، وتتمرد حتي علي الدراسة في المدينة لأنها تعيش في بيت للطالبات تجده معادلا للسجن.
وطأة القيود
ولا تقدم المخرجة تفسيرا لهذا الرفض، ولا لذلك الحنين الذي لا يفتر أبدا إلي فرنسا، بل علي العكس مما يمكن أن يتوقعه المشاهد، يصور الفيلم التناقض بين الحياة الجافة للأسرة في فرنسا، كما يشير، وإن علي استحياء، إلي الروح العنصرية الكامنة لدي الفرنسيين تجاه المهاجرين من خلال طريقة تصرف المدرسة مع صوفيا، في حين يصور علي الجانب الآخر، كيف تتغير أحوال الأسرة إلي الأفضل بعد عودتها إلي المغرب، لكن إحساس صوفيا بالرفض يتصاعد، فهي تشعر بوطأة القيود التي يفرضها المجتمع علي الفتيات من سنها، فممنوع عليها الذهاب إلي المقهي، وممنوع أن تتأخر في الخارج بمفردها، والمصير الطبيعي لها أن ترتبط بشاب تتزوجه فيما بعد، وأن تواصل الدراسة، وتساعد الأسرة في العمل بالأرض، لكنها ترفض الاستسلام لهذه كله، وتواصل مسلسل الهرب من الواقع، وترفض الحديث إلي أفراد أسرتها، رغم معاملة والدها اللينة لها.
وأخيرا تنتصر إرادة الخروج، أي التحرر من أسر مجتمع المغرب، وتحصل صوفيا علي جواز سفرها، ونراها في المشهد الأخير من الفيلم بعد أن نضجت من خلال الاستقلال عن الأسرة، والعمل بإحدي الشركات في العاصمة، وهي تشق طريقها بعزم وتصميم، بعد أن حزمت أمرها علي الرحيل إلي فرنسا.
إشارات عابرة
مرة أخري ليست هناك مبررات "ظاهرية" أو خارجية في الفيلم لرفض صوفيا واقعها، مثل الفقر والتخلف، باستثناء إشارات عابرة كما في مشهد تستعرض فيه الكاميرا المتحركة من سيارة، مظاهر البؤس والبطالة والفقر والبيوت المهدمة وتجمعات الشباب العاطل، أو عندما تستعين الأم بامرأة عجوز تستشيرها في مشكلة صوفيا فتقترح المرأة وضع "تعويذة" في غرفة الفتاة.والواضح أن هذا القدر من التجريد الاجتماعي، إذا جاز التعبير، مقصود للإيحاء بأن هناك قوة أخري سحرية تربط بين الفتاة وبين فرنسا، قوة تتجاوز المادة المنظورة وتبدو كنداء غامض أقرب إلي"النداهة".
إن الفتاة تردد طوال الفيلم عبارة "أنا فرنسية.. وكني هناك.. لقد ولدت هناك وأنتمي إلي فرنسا". إنها بشكل واضح، ترفض هويتها المغربية "المكتسبة" بحكم العلاقة مع الأهل. فماذا يريد الفيلم أن يقول لنا من وراء هذه الفكرة؟
إن خطورة هذه "الرؤية" السينمائية لأزمة فتاة تنضج في مجتمع لم تولد فيه، أنه يروج لفكرة ضارة عن العلاقة بين الشرق والغرب، تتلخص في أن الشخص الذي يولد في الغرب يصبح منتميا "ثقافيا" رغما عنه وبقوة أكبر من أي قوة أخري، إلي ذلك الغرب حتي لو كان كل ما في جذوره وتاريخ عائلته يربطه ثقافيا ومعرفيا بالشرق.
"كراهية الذات" هذه تخلق إشكالية من نوع آخر، فإذا كان "الجيل الثاني" أو الثالث، يري أن وطنه الحقيقي في فرنسا وليس في المغرب، فهل ستقبل فرنسا بسعادة هذا الانتماء وتحتضنه وترحب به، بل تتعامل مع صاحبه علي قدم المساواة مع أبناء "السكان الأصليين"!
دور آخر يتناسب تماما مع شخصية حفظية حرزي التي تألقت في فيلم "كسكسي بالسمك" (يترجمه البعض في مصر "أسرار القمح"!) بتمردها وجموحها وصلابتها وقوة شخصيتها التي تجعلها تجرف في طريقها كل شيء، مصممة علي المضي قدما في مسعاها ومبتغاها، حتي يتحقق لها ما تريد. تري.. ماذا حققت بعد ذلك ياتري!
1 comments:
والله يا أستاذ إننا نعيش مهزلة لغوية وثقافية هنا في المغرب ، كل شيء بالفرنسية ، تريد موقع مغربي تجده بالفرنسية ، نصف الصحف المغربية بالفرنسية ، تقريبا جميع المجلات المغربية بالفرنسية ، لدينا قناتين أرضيتين فقط نصف برامجهما بالفرنسية ، تريد أن تحصل على وثيقة لابد أن تترجمها إلى الفرنسية أولا ، جميع الخدمات بالفرنسية ، التعليم بالفرنسية ، لم يبقى سوى أن يدرسونا العربية بالفرنسية ، وهاأنت ترى حتى من السينما هي فرنسية
أفضل لو كانت انجليزية أقلها هي اللغة السائدة في العالم ليست كهذه اللغة التي تتراجع كل يوم ستين خطوة للوراء .
إرسال تعليق