الجمعة، 19 ديسمبر 2008

كلاسيكيات حديثة: الوصية الأخيرة للمعلم



"كلا.. ليس بعد أيها الموت"


تقديم: كتبت هذا المقال عام 1993 بعد أن شاهدت فيلم "مادادايو" للمخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا مع الجمهور العام، وشاهدت كيروساوا نفسه يدخل إلى قاعة لوميير بقصر المهرجان قبل بدء عرض الفيلم يصحبه بمديرالمهرجان جيل جاكوب، وكان المهرجان قد أعلن من قبل أن كيروساوا لن يحضر إلى كان، وكان حضوره مفاجأة سارة للجميع. وقد وقف الجمهور يحييه ويصفقون لمدة عشر دقائق والشيخ العجوز كيروساوا يرد التحية. وبعد أن انتهى عرض الفيلم أدركت وقتئذ أن الفيلم سيكون الأخير في حياة هذا المخرج العظيم، وأنه يلخص فيه ببساطة شديدة، فلسفته ويرتد إلى براءة الطفل كيروساوا بينما هو يتأهب لعبور عتبات الموت. وكان كيروساوا وقت عرض الفيلم قد أكمل 82 عاما من عمره، ولم يخرج بالفعل أي فيلم بعد "مادادايو"، وتوفي عن 87 عاما عام 1998. وقد ذكرني ما نشره أخيرا الصديق المخرج الكبير محمد خان عن فيلم "مادادايو" بهذا المقال الذي نشر وقتها في صحيفة "القدس العربي". وأعيد نشره هنا بنفس عنوانه الأصلي وكما نشر.

يعود المخرج الياباني الكبير (82 عاما) حامل السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمه التحفة "كاجيموشا" (1980) إلى المهرجان هذا العام حاملا معه فيلمه الجديد "مادادايو" الذي يعرض خارج المسابقة والتسابق على جوائز الذهب والفضة، لكي يلقننا درسا في بساطة وسمو اللغة السينمائية التي تولد منها عشرات الأفكار والتأملات والمشاعر، بعيدا عن سينما التقعر والحذلقة واستعراض العضلات.
و"مادادايو" هو التعبير الذي يستخدمه الأطفال في اليابان وهم يلعبون ما يطلق عليه لعبة "الاستغماية" التي تتطلب من الأطفال تغطية عيونهم بأيديهم بينما يختفي واحد منهم في مكان ما، ويصبح مطلوبا من الآخرين العثور عليه. غير أن كيروساوا يستخدم التعبير في الفيلم في مواجة الموت، فإذا كان الأطفال ينادون على الطفل القابع في مكمنه بالتساؤل: هل أنت مستعد؟ لكي يجيئ جوابه: "مادادايو" أو كلا ليس بعد، فإن كيروساوا يجعل الكلمة في فيلمه على لسان الأستاذ الشيخ هازئا من الموت، معبرا عن مقاومته له ورفضه الاستسلام له قبل أن ينتهي من إنجاز ما يتعين عليه إنجازه في الحياة الدنيا، فتلاميذه الذين يحتفلون بعيد ميلاده سنويا يسألونه في صوت واحد: هل أنت مستعد" فيرد هو: مادادايو.. أي كلا.. ليس بعد أيها الموت.
هذا فيلم عن الحياة، وليس عن الموت، وعن الزمن وما نعتقد نحن أنه يفعل بالإنسان من تقدم وهرم واختلال، بينما يجعله في الحقيقة وهو في أواخر العمر، يرتد إلى الطفولة. إنه أيضا فيلم عن العرفان بالجميل، وعن وفاء التلاميذ لأستاذهم الذي أخلص لهم فأخلصوا له بعد أن تخلى الصبا والشباب عنه.. عن الصداقة بين الرجال، وعن العلاقة الدافئة بين الإنسان والإنسان، كما بين الإنسان والحيوان الأليف الجميل، رمز البراءة بل ورمز طفولتنا جميعا.
و"مادادايو" من ناحية أخرى، فيلم عن مأساة اليابان الحديثة، عن الحرب والقنبلة والاحتلال الأمريكي، الذي كان لايزال، عن النفاق الاجتماعي والطموح السياسي الذي يفسد الإنسان.

وفي معظم لقطات هذا الفيلم المصنوع بدقة شديدة من ناحية حساب الزمن اللازم لكل لقطة، ترى عمق المأساة من دون تشاؤم بل على العكس، هناك روح من التفاؤل والمرح والأمل في التجدد والاستمرار واجتياز كل الصعاب. هناك البسمة والأغنية والموسيقى والرقص الجماعي الياباني، ولكن من دون إفراط أو مجانية، فكل شئ موظف – دون أن يكون وظيفيا- للتعبير عن (وليس لخدمة رسالة محددة) أحاسيس وأفكار فنان السينما الكبير الذي يدرك أن الموت كامن يمكنه أن يناله في أي لحظة، غير أن استمراره في العطاء والإبداع أقوى رد على الموت الكامن بالقرب منه: كلا.. ليس بعد أيها الموت.. فعندي لايزال ما أقوله!
في "مادادايو" يقدم كيروساوا لوحة بليغة لشخصية البروفيسور الياباني "هايكن أوشيدا".. أستاذ الجامعة الذي هجر التدريس الجامعي لكي يتفرغ للكتابة، وأصبح من كتاب الأدب المعروفين في اليابان، كما يعرف بحسه الساخر ومرحه واستمتاعه بالحياة (وعلى الأخص، بإفراطه في تناول الشراب).. وإضافة إلى هذا كله، يعرف عنه أيضا إفلاسه الدائم.
يبدأ الفيلم من زمن الحرب العالمية الثانية والبروفيسور يمارس التدريس الجامعي، يقيم علاقة صداقة وطيدة مع طلابه وتلاميذه، يتسامر معهم خارج الجامعة، يدعوهم إلى بيته حيث يتناولون الشراب ويتبادلون الرأي في شتى المواضيع، ثم يترك الجامعة لكي يتفرغ لكتابة المقالات والكتب.
وفي عيد ميلاده الستين يقيم طلابه السابقون حفلا كبيرا يغني هو فيه ويمرح معهم، ثم يبوح لهم بوصيته الأخيرة التي تتلخص في كلمة "مادادايو" التي يحولها إلى أنشودة عذبة قوية يرددها ويرددونها معه: كلا.. ليس بعد أيها الموت.
يقول له طلابه الذين أصبحوا الآن رجالا من ذوي الشأن في المجتمع إنهم يرغبون في تقديم هدية له بمناسبة عيد ميلاده لكي تساعده على التقاعد الكريم. لقد اشتروا له قطعة أرض وشرعوا في تشييد منزل متواضع لكي يقيم فيه مع زوجته التي لم تنجب أطفالا.

وسرعان ما ينتهي تشييد المنزل، وينتقل الرجل للإقامة فيه مع زوجته وهو يشعر بالسعادة الكبيرة بسبب تقدير تلاميذه السابقين له، ويدعوهم ليلة بعد ليلة، لتناول العشاء في منزله، ويقدم لهم ذات مرة، لدهشتهم الشديدة، حساء لحم الحصان الذي يجدونه شهيا، ويروي لهم كيف أنه بينما كان يشتري لحم الحصان توقف أمامه حصان يجره رجل، عرف فيه على الفور حصانا كان يخدم في الجيش أثناء الحرب، وصوب الحصان نظراته عليه وكأنه يسأله: ماذا تفعل أنت في هذا المكان؟
وتستمر مسامرات المجموعة، وتكون الحرب بالطبع قد وضعت أوزارها، لكن الرجل يشعر بغصة في حلقه مما يدور في مجتمع اليابان فيما بعد الحرب العالمية الثانية. وذات أمسية ينشد لهم الرجل أنشودة يسخر فيها من الحديث المتواصل عن الديمقراطية بينما ينتشر الفساد السياسي في البلاد، ويسخر من الحديث عن الحرية بينما اليابان أصبحت دولة واقعة تحت الاحتلال. ونرى مثلا كيف يهرع رجال الشرطة العسكرية الأمريكيين إلى مكان حفل عيد الميلاد لتقصي الأحوال، ظانين أن هناك اجتماعا سياسيا من الاجتماعات المحظورة. كذلك نلاحظ مظاهر البؤس والفقر المنتشرة في اليابان بعد الحرب. لكن ليس هذا هو الموضوع فالموضوع أكثر خصوصية من ذلك، فالرجل لديه قط قام بتربيه صغيرا، وأشرف عليه مع زوجته حتى أصبح لا يطيق فراقه أبدا، بل وظل دائم الحديث عنه مع أصدقائه، يلاعبه ويلاطفه أمامهم، ممتدحا كثيرا مظهره وشكله وشعره المميز وحركاته، بينما يندهش الأصدقاء من انشغال أستاذ وأديب كبير بقط.
وذات يوم يوزر الأصدقاء أستاذهم الكبير فيجدونه حزينا باكيا موشكا على الانهيار النفسي، والسبب في كل هذا الكرب، أن القط خرج في الليلة السابقة ثم هبت عاصفة هوجاء- كما نرى في لقطات العودة للماضي، أعقبها سقوط المطر الغزير فاختفى القط ولم يعد للظهور في المنزل منذ تلك اللحظة. ومن شدة تأثر الرجل يبدأ في البكاء وهو يروي لأصدقائه مدى علاقته الحميمة بالقط الذي يريد استعادته بأي ثمن. ويأخذ في تخيله وهو وسط العواصف والأحجار وفي الأماكن المقفرة البائسة، عديم الحيلة، ضالا جائعا لا يجد من يشفق عليه، والأصدقاء في حيرة من أمرهم أمام الأستاذ الكبير وعواطفه الجياشة تجاه القط الضال.
يحضر فجأة رجل يقول إنه اشترى قطعة الأرض المجاورة لمنزل الأستاذ، وإنه يعتزم تشييد منزل عليها، وينذره بضرورة إغلاق أبواب منزله المطلة على ذلك الجانب. ويحاول الأستاذ استثارة عطف الرجل واستدعاء مروؤته قائلا له إنه يرغب في الاستمتاع بالضوء الذي يأتي من تلك الناحية في سنوات تقاعده. لكن الرجل يتمادى في الوعيد والتهديد رافضا الاستجابة لتضرع صاحبنا. وعندما يعلم مالك الأرض الواقعة في ضواحي المدينة بالأمر، يتراجع عن بيع قطعة الأرض للرجل الشرير تعاطفا مع الأستاذ النبيل الطيب القلب وإرضاء له رغم حاجته الشديدة للمال لكي يشتري منزلا بسيطا في المدينة.
ويتفق الأصدقاء على شراء قطعة الأرض المجاورة تقديرا للرجل الذي قدم كل تلك التضحية ورغبة في تكريم أستاذهم المتواضع، لكن صاحبنا يبدو مهموما أكثر بالقط الذي لم يعد للمنزل. ويسعى الأصدقاء للعثور على القط، ويقنعون الأستاذ بنشر إعلان في الصحيفة المحلية، غير أنه لا يتلقى إلا بعض مكالمات هاتفية تسخر منه ومن تشبثه الطفولي بالقط الضال، كما يتكاثر الأدعياء والكاذبون الذين يزعمون العثور على القط طمعا في الحصول على المكافأة السخية.
ويلجأ الرجل إلى حيلة أخرى، فيقوم بطبع مئات الأوراق التي تحمل أوصاف القط ويذهب بنفسه لكي يوزعها على تلاميذ المدرسة القريبة من منزله. لكن هذا كله لا يجدي فالقط لا يظهر ولا يعثر عليه أحد، ويفقد الأستاذ مرحه تماما، ويظل الأصدقاء يتداولون فيما بينهم في كيفية مساعدته على الخروج من حالة الاكتئاب هذه. وذات يوم، يموء قط في حديقة المنزل، قط آخر جاء بنفسه يطلب الطعام، تناوله زوجة الأستاذ بعض الطعام، يربت الأستاذ على ظهره، ويقرر أن يطلق عليه اسما. لقد جاء هذا القط لكي يبقى، لكي يصبح بديلا عن القط الضائع.
وتنتهي الأزمة التي لم يستطع تلاميذ الرجل وأصدقاؤه فهمها أبدا. ويشرح هو الأمر لهم فيقول: "إن هذا القط بمثابة ابن لي، أرتبط به ولا أقوى على فراقه".
وتمر السنون، ولكن.. "كلا.. ليس بعد أيها الموت". يتجمع الأصدقاء، يحتفلون ببلوغه الثمانين وقد نال الشيب ما ناله من رؤوسهم جميعا، وتهدجت أصواتهم بمرور الزمن، لكنهم ينشدون "مادادايو".. تماما كما يطلب منا كيروساوا الذي يقول في تقديمه لفيلمه هذا: "آمل أن كل من يشاهد هذا الفيلم سوف يغادر قاعة العرض وهو يشعر بالانتعاش، وقد ارتسمت البسمة على شفتيه".
إنها الوصية الأخيرة للمعلم الكبير كيروساوا، يصوغها ببساطة في فيلمه رقم ثلاثين، مبتعدا فيه عن أسلوبه الذي ارتبط به في أفلام مثل "الساموراي السبعة" و"كاجيموشا" و"ران"، لكنه ليس بعيدا تماما عن الأفلام الأقدم له مثل "أن تحيا".
يقوم بالدور الرئيسي هنا الممثل الياباني الكبير تاتسو ماتسومورا الذي قام ببطولة عدد كبير من أفلام كيروساوا، مجسدا شخصية البروفيسور أوشيدا ببراعة مذهلة، منتقلا بين شتى المشاعر والتعبيرات: الأداء الصامت الرصين، المرح، السخرية، الود، الحزن، الحيوية الشديدة المتدفقة، وبراعة اللفظ والكلمات.
أما كيروساوا فيلجأ إلى طريقة سرد قصص الأطفال بل إنه يبدأ الفيلم فعلا بلعبة "الاستغماية" أو "مادادايو" يلعبها الأطفال في الشارع قبل أن يدخل بنا إلى موضوع الفيلم.
لا توجد في هذا الفيلم معارك مبهرة، ولا سيوف ولا مناظر تاريخية أو ملابس وتصميمات معقدة في حركتها كما في "ران" مثلا أو "عرض الدم"، بل عمق في الديكور وبساطة في الخطوط، وإيقاع هادئ رصين يساهم في تعميق إحساسنا بتعاقب الزمن، وهو ما يساعد عليه أيضا اللجوء إلى استخدام المزج، والإظلام التدريجي والظهور التدريجي كوسيلة للانتقال بين اللقطات والمشاهد.
كيروساوا يبدو في هذا الفيلم وقد عاد من حيث بدأ، أي إلى جوهر السينما كفن، وعلى مستوى الفكر، بدا وكأنه يوجه لنا وصيته الأخيرة التي تتلخص في ضرورة التمسك بالأمل والتفاؤل والاستمتاع بالحياة دون أن يغيب عن بالنا أبدا ضرورة العطاء والبذل لمن نحب.
لقد أراد هو تكريم الأديب الذي يحبه، وهو رجل ينتمي لأبناء جيله، لكنه، قام في الوقت نفسه، بتكريم الإنسان في كل مكان.

1 comments:

غير معرف يقول...

dear Mr Amir
I hope all is fine at your end. i loved your article about Basra, it caught the spirit of the film in a sober and mature manner in a constructive way.the remarks that you mentioned are the ones that help filmmakers to benefit from criticism.I just got back from Dubai Film Festival where i Watched a film called Marina El Zabaleen , its a documentary that managed to capture the spirit of the place and the people in a very subtle way. i hope ypu will have the chance to see it. all the best.
Ibrahim El Batout

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger