إنه يرى كل شئ من خلال عين الكاميرا الفوتوغرافية التي اختارها أداة لمهنته، بينما هو في الحقيقة، يقف على الهامش، كلما أمعن في علاقاته الجنسية كلما ازداد إحساسه بالوحدة.
إن بطل الفيلم "طارق" (الذي يقوم بدوره باسم سمرة) هو المعادل السينمائي لكثير من الشباب الذي يشبهه، والذي يبرر لنفسه منذ بداية الفيلم قضاء ليلة أخيرة مع زوجته السابقة بعد طلاقه منها مباشرة طبقا لما يطلق عليه "قانون الطلاق". قوانين الوجود
وسرعان ما تتوالى "القوانين" التي يبرر من خلالها طارق لنفسه الهرب بعيدا عن الواقع. إنه يعمل بكاميراه في قلب الواقع، يصور المظاهرات المناهضة للحرب في العراق، وربما أيضا مظاهرات الغضب المصري على ما يحدث في الداخل، يبحث عن الوجوه التي يمكن أن تثير في نفسه إحساسا مختلفا بطعم الحياة، لكنه مندفع أيضا من الناحية الأخرى للهرب من الواقع وإحباطاته وسط شلة المخدرات واللهو والصخب والغرق في الجنس.
خلال هذه الرحلة الوجودية التي يقطعها بطل فيلم "بصرة" يحاول القفز فوق الواقع، ليس عن طريق رفضه العنيف له على طريقة بطل "على آخر نفس" لجان لوك جودار، بل عن طريق الاكتفاء بملامسته السطحية له مختبئا وراء العدسة دون أن يدرك أن ما يكمن وراء الصورة أعمق كثيرا مما يوجد أمامها أو على سطحها.
ويصبح بهذا المعنى أقرب إلى بطل انطونيوني في "تكبير" Blow Up لاشك أن هناك بعدا وجوديا في "بصرة" يدور حول مغزى الحياة والموت: الحياة الصاخبة التي لا نعرف لها هدفا، ربما سوى الهرب من الواقع المتأزم، والموت الذي قد يداهمنا فجأة عن غير ميعاد، موت الصديق الشاب "حمادة" تحت وطأة المخدرات بعد أن يؤدي الصلاة الأخيرة مع والده. الفرد والعالم
غير أن الفيلم يدور أساسا حول علاقة الفرد بالآخرين، وبالعالم. وعلاقته بالمرأة: هل يمكن أن تصبح كل امرأة هدفا للمتعة الجنسية، أم أن المرأة يمكن أن تصبح في النهاية صديقة مخلصة أقرب إلى روح الطفولة كما تفعل "هند" التي تريده أن يشارك بصوره ولقطاته في عرض مسرحي تستعد لتقديمه باستخدام العرائس.
هند هذه نموذج آخر مضاد لنموذج الفتاة الأخرى المشغولة أيضا بالجسد، والتي تريد الاستيلاء عليه من الفتاة الأخرى أو النموذج المختلف الذي عثر عليه في المصورة الفوتوغرافية "نهلة" التي لا تعيش اللحظة كما هي بل تحاول أن تكون لها "وجهة نظر" فيها، تريد أن تحافظ على استقلاليتها، وتبقي على ثقتها بنفسها في مواجهة الإلحاح الجنسي لدى "طارق" لقضاء ليلة من المتعة الجسدية قبل توفر الفهم الحقيقي المشترك والإحساس المتبادل بين الجسدين كما تقول له.
ما الذي يشد طارق المصور إلى نهلة؟
نموذج نهلة المتمردة على التقاليد حقا لكنها الحريصة على عدم خيانة الذات، يهزم نموذج "خالد" الذي يبحث عن لحظة "التجلي" الفني من خلال صور ربما لا يشعر تماما بها أو يريد أن يبعدها عنه طوال الوقت، و"لذة" عابرة لا يريد أن يفوت أي فرصة للحصول عليها.
أخيرا تأتي لحظة التوافق بعد أن يقتنع طارق بأنه يحب نهلة، وبعد أن تعود نهلة إليه، لتجده مع هند التي أصبحت بمثابة "ابنته" كما يقول. ولكن هذه اللحظة تأتي وهو يواجه أخيرا مشهد سقوط بغداد على شاشة التليفزيون، وهو المشهد الذي يريد أحمد رشوان أن يجسد من خلاله الشرخ الكبير الذي يعانيه هذا الجيل من الشباب الذي لم يعد شبابا.
هناك تحريك جيد للممثلين، وتصوير جيد لشخصيات متباينة تتجادل وتختلف وتتصارع، لكنه الصراع داخل الوحدة، صراع الأصدقاء الذي يجمعهم رغم تباينه، هم واحد. البعض يضل الطريق، والبعض الآخر يتخلى عن الصحبة لكي يحقق شيئا لنفسه، لكن لحظة وفاة "حمادة" تجمعهم معا.. ويصبح مشهد الجنازة نقيضا كاملا لمشهد اجتماعهم معا في ليلة صاخبة.
رشوان يقدم كل شخصيات فيلمه بحب كبير، فهو لا يدين أحدا، بل ولا يرغب حتى في تقديم تحليل اجتماعي ونفسي للدوافع والظروف والمبررات، بل يكتفي باقتناص الشخصيات من حيث وجدت نفسها أخيرا.. ويضعها في مواجهة نفسها، ومواجهة ما يقع على الصعيد العام.
ورغم توفيقه الكبير في العثور على مجموعة من الممثلين الذين أدوا أدوارهم بحب وحماس كبير للتجربة، ونجاحه في اقتناص الكثير من اللقطات المعبرة بمساعدة مصور موهوب، إلا أنه لم يوفق في فكرة المقابلة بين الأزمة الشخصية لبطله ومشهد سقوط بغداد أو بين حالة "العصاب" الفردي الذي يسيطر على شخصياته، والعصاب العام السياسي في المنطقة، فقد كان هذا التصوير يقتضي مدخلا دراميا شديد الاختلاف.
ولعل البعد السياسي في فيلم رشوان لهذا السبب، هو الأضعف والأقل أهمية. ولعل اختياره مشهد سقوط تمثال صدام حسين تحديدا رمزا لهذا السقوط وتصوير تأثيره على بطله لم يكن موفقا، وفيه هبط أداء باسم سمرة إلى أدنى مستوى له في الفيلم.
كان من الأفضل، في تصوري، أن يكتفي المخرج- المؤلف بالإطار الاجتماعي الذي يغلف حياة شخصيات فيلمه في مصر دون إحالة إلى موضوع العراق كمصدر للتمزق، خصوصا وأن ابطاله بطبيعة الحياة التي يعيشونها، حتى مع قبول أن بطله يقوم بتصوير المظاهرات المناهضة للحرب، بعيدين منطقيا ودراميا، عن التفاعل المباشر مع سقوط بغداد ومع موضوع العراق بشكل عام.
لكن يبدو أن هذه الفكرة تحديدا هي التي راقت للطرف الإنتاجي الذي تكفل تحويل الفيلم من شريط مصور بكاميرا الديجيتال إلى شريط سينمائي.
ولاشك أن أحمد رشوان الذي أخرج عددا من الأفلام القصيرة والتسجيلية الجيدة للسينما والتليفزيون، سيتمكن من الاستفادة من هذه التجربة، وتجاوز أي أخطاء في تجربته القادمة التي نتطلع إليها.
0 comments:
إرسال تعليق