السبت، 28 فبراير 2009

ملامح مشروع تخريب السينما

لقطة لدار سينما أوبرا بالقاهرة التي أغلقت


حين نشرت قبل سنوات عددا من المقالات، في أماكن مختلفة، تحت عنوان "مشروع تخريب السينما في مصر"، تساءل كثيرون عما قصدته تحديدا بهذا المشروع، وهل يمكن أن يكون هناك مشروع من هذا النوع، أم أن الأمر لا يعدو كونه نوعا من "مبالغات" الشعراء!
الإجابة تتلخص في أنه مشروع "مضاد" و"تراجعي" و"عتيق" غير مكتوب وغير موقع بالطبع، وغير معتمد رسميا بالتالي، لكنه، على نحو غير مباشر، يلقى الموافقة والدعم والتشجيع من قطاعات مختلفة، منها ما هو في الحكومة: داخل نظم الإعلام والتعليم والثقافة، ومنها ما هو في المعارضة، تلك المعارضة الرجعية، المتزمتة، المتخلفة التي تؤمن بنمط الحياة في مجتمعات التصحر والبداوة وترغب في نقل هذا النموذج المتخلف إلى بلادنا. ويكفي أن نقرأ ما يكتبه أنصار هذا النوع من "المعارضة" من تعليقات تنشر أسفل ما ينشر يوميا في الصحف من مواضيع تتناول قضايا السينما وغيرها من الفنون، وتتاح الفرصة للتعليق عليها على مواقع تلك الصحف الموجودة على شبكة الانترنت، لكي نتبين حجم ما وصلنا إليه من تدهور فكري، ونقص تعليمي خطير، ومدى ما وصلت إليه أيضا حالة "الهستيريا" الدينية المرضية التي باتت تستلزم علاجا عاجلا داخل غرفة العناية المركزة.
أما مشروع تخريب السينما في مصر فله قسمات وسمات وملامح مشتركة، كما أن له حُراسه وسدنته، منهم من يعمل تطوعا تحت تصور أنه يعمل للصالح العام، ومنهم من تلبسته حالة الهستيريا التي أشرنا إليها بسبب نقص الكثير من الجوانب التي تساعد على التوازن في الحياة.
أما أهم سمات المشروع فيمكن تلخيصها في النقاط الرئيسية التالية:
1- تحويل السينما إلى ظاهرة لقيطة منفصلة عن ثقافة المجتمع الذي تنشأ فيه، كأنما يمكن زرع فن السينما "الحداثي" جدا في مجتمع اقطاعي بدوي رعوي تقليدي لا مكان للمرأة فيه مثلا، بل ولا مكان فيه أصلا، لدراسة الفلسفات الحديثة التي هي أساس كل الفنون الحديثة.
2- تحويل المشاهدة السينمائية إلى فعل لا معنى له مرتبط بالوجبات السريعة، وبالتالي تحويل أماكن المشاهدة من "دور عرض" لها أسسها ومناسيبها المعروفة التي تجعلها لا تقل أهمية ورونقا واهتماما بالديكورات والمعمار عن المسرح، إلى مجرد "قاعات" شبيهة بالعلب الصغيرة التي تحتوي على عدد محدود من المقاعد المتراصة أمام شاشة صغيرة تشبه شاشة التليفزيون المنزلي الذي أصبح يطلق على شاشاته الكبيرة حاليا "السينما المنزلية". وليس من الغريب إذن أن توجد هذه القاعات المتعددة داخل "مجمع سينمائي" واحد بالقرب من مطاعم تقدم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز وبيتزا هوت وكنتكي فرايد تشيكن وغيرها. وإن كان أهم ما يميز تلك المجمعات السينمائية وجود ما يعرف بـ"الفشار" أو pop corn ومن هنا جاء تعبير أفلام الفشار pop corn movies أي تلك الأفلام (الأمريكية غالبا) التي تصنع للتسلية المطلقة، وتسبح في عوالم خيالية أو تمتلئ بالكائنات الغريبة التي تشيع نوعا من الفزع الخفيف والإثارة التي تدفع الجمهور، وهو في معظمه من المراهقين، إلى استهلاك أكبر كمية من الفشار.
وتوجد هذه المطاعم والمجمعات السينمائية داخل مجمعات استهلاكية ضخمة يعرف المجمع الواحد منها بالمول mall أي ذلك السوق المتعدد الطوابق الذي يحتوي على عدد من المطاعم والمقاهي أيضا. وهو نموذج أمريكي يجمع العديد من الخدمات الاستهلاكية في مكان واحد بما في ذلك الأماكن التي تقدم "عروض التسلية". ومن المستحيل بالتالي أن تجد في هذه الأسواق المتعددة مسرحا أو معرضا لأعمال الفن التشكيلي، أما "علب" عرض الأفلام فهي متوفرة بغزارة.
3- إغفال الاهتمام باللغة السينمائية التي تعبر بالإشارة والدلالة والاخفاء والاظهار والظل والضوء والتكوين والعلاقة بين اللقطات والصور، وتحويلها إلى مجرد انتقالات آلية "أو ميكانيكية" بين اللقطات لتسهيل رواية قصة ذات مضمون أخلاقي وعظي بسيط ومباشر.
4- تحويل الثقافة السينمائية إلى معلومات استعراضية لا سياق لها، ودون أي قدرة تحليلية، أي إلى مجرد أرقام وأسماء وميزانيات وجوائز ومسابقات ونجوم وألاعيب لا تشبع أي رغبة حقيقية في المعرفة، ولا في فهم العالم والإنسان. وتلعب البرامج التي تقدم على شاشة التليفزيون، دورا أساسيا في تمييع فكرة الثقافة السينمائية بمفهومها الحقيقي، أي المشاهدة العميقة والمناقشة والتحليل وفهم نسق العلاقات داخل الفيلم، سواء العلاقات الدرامية أم البصرية داخل الصور واللقطات والمشاهد. هذه البرامج تستعرض أكثر مما تحلل، وتركز في استعراضها على الأمريكي السائد blockbusters أكثر من تقديم المحاولات الفنية في السينما الأمريكية وغير الأمريكية، وتهتم بالمقابلات مع النجوم أكثر من تحليل الفيلم، وبالعرض أكثر من النقد، وباستعراض جسد المذيعة وكمية المساحيق التي تغطي وجهها، أكثر مما تهتم بالجمهور نفسه وبالنماذج البسيطة التي تعبر أفضل عن هذا الجمهور. وعندما تستعين بعض هذه البرامج بالجمهور فإنها تقدمه مثل مجموعة من القرود، حيث يتم رصهم في صفوف خلف المذيعة أو مقدمة البرنامج لكي يصفقوا ويهللوا للمذيعة وللضيف أو الضيفة عند لحظات معينة، واستجابة لإشارات يصدرها لهم شخص مكلف بذلك، بينما تجري المذيعة مقابلاتها مع هذا النجم أو تلك النجمة.

5- بدلا من أن يؤدي تكوين كيانات إنتاجية كبيرة إلى دعم الأفلام الأكثر طموحا من الناحية الفنية والإنتاجية، وتحقيق الأحلام المؤجلة لكبار السينمائيين مثل محمد خان وداود عبد السيد ورأفت الميهي، يبدو أن تلك الكيانات التي تحولت إلى احتكارات مهيمنة، تسعى إلى تخريب السوق السينمائية في مجالي الإنتاج والتوزيع، فهي تسعى إلى طرد الأفلام الجادة واستبعادها والتسويف في عرضها، و"اعتقال" عدد من السيناريوهات المتيزة والتسويف في إنتاجها، وتشجيع السائد الذي يمكن أن يدر ربحا سريعا، والخلط بين منطق إنتاج "فيلم" وافتتاح "مطعم" سياحي، والوقوف في وجه اختيارات الجمهور عن طريق فرض نوعية محددة على ذوقه، وتأجيل عرض الأفلام الأخرى التي تخرج عن أنماط التهريج السائدة.
6- إجهاض وضرب والإجهاز على تجربة نوادي السينما التي بدأت في الستينيات في مصر وازدهرت في السبعينيات، وقبل ذلك في تونس والمغرب. ومن نوادي السينما تخرج عادة ثقافة جديدة، حداثية، تميل إلى المرونة والجمال وتنبذ التشدد والتزمت والقبح: في السلوك كما في المظهر.
7- إغفال أي ذكر أو اهتمام بالسينما في مناهج التعليم، بل والاستغناء تماما عن عرض الأفلام السينمائية في المدارس والجامعات كما كان يحدث في الماضي ولو على سبيل الاستفادة اجتماعيا من مضامين الأفلام. وهو تراجع يتسق مع التراجع في تدريس الدراما أو الاهتمام بالمسرح المدرسي والجامعي والإجهاز على فرق التمثيل بالجامعات، خضوعا لفكرة أن التمثيل حرام، وأن مشاركة المرأة بالتمثيل على المسرح من الكبائر وغير ذلك من فتاوى التكفير المنتشرة بغزارة بسبب تهافت الإعلام السائد وعجزه عن نشر ثقافة حقيقية ذات اسس واضحة لا تساوم ولا تسعى إلى إمساك العصا من المنتصف.
8- ازدراء دراسة الفنون والرسم والتشكيل والتحريض على عدم التقدم للالتحاق بالمعاهد التي تدرس هذه الفنون، واعتبار دراسة الرقص حرام، حسبما قالت عميدة معهد الباليه في مصر لطالبات المعهد، ونشرت الصحف ذلك ولم يصدر أي تعليق من المعهد بل ولم تصدر وزارة التعليم العالي قرارا بالتحقيق مع العميدة.
9- تخلي الدولة عن نشر الكتاب السينمائي والمجلة السينمائية، وجعل ما يصدر منها قاصرا على المناهج والمعلومات المتداولة القديمة في الغرب، والتخلي عن دراسة الاتجاهات والظواهر الراسخة في السينما المصرية والعربية، وجعل مكافأة الترجمة أضعاف مكافأة التأليف، وجعل المهرجان السينمائي تظاهرة ذات طابع احتفالي سياحي ترويجي لصورة النظام بدلا من أين يكون معهدا ومدرسة لتأهيل هواة السينما لكي يضيفوا ثقافيا إلى رصيد المجتمع الجمالي والفكري والفني.
10- سيطرة مجموعة من أشباه السينمائيين وأصحاب النفوس المريضة والذين كفوا أن تكون لهم أي علاقة حقيقية بالابداع السينمائي منذ عقود، على النقابات الفنية والسينمائية والتمثيلية بوجه خاص، واستغلال العمل النقابي لمعاقبة الفنانين المتميزين الجادين وفرض الغرامات عليهم والتعسف معهم في اصدار تصريحات بالتصوير وغير ذلك من القرارات والتصريحات التي تشوه صورة الفن عندما يتحدثون عن السينما كما لو كانوا معادين بالفطرة للثقافة، وكما لو كانت السينما شيئا أشبه بالكباريه!
11- انتشار مجموعة من أشباه الكتبة الذين نشأوا في بيئة ثقافية متدنية ولم يطلعوا أو يبذلوا أي جهد في الإطلاع على النماذج المتقدمة في السنيما العالمية على مجال كتابة السيناريو ، حتى أصبح كل من يجيد كتابة التعليقات السوقية الغليظة والبذيئة أحيانا، كاتبا للسيناريو يتسابق ممولو الأفلام للتعاقد معه.
12- فساد الرقابة التي لا تجرؤ على التصدي لأفلام كتبة السيناريوهات من أنصاف الأميين سينمائيا، في أشكالها المتدنية فنيا وفكريا والمعادية للإنسان نفسه في صورته البسيطة، بينما تتجرأ الرقابة دوما وتعترض على أي عمل حقيقي يتصدى لمناقشة الفساد السياسي والاجتماعي المتفشي، وتراقب كل ما يتعلق بنقد سلطة الشرطة والقضاء بينما أصبحت هاتان المؤسستان تحديدا من أكثر المؤسسات فسادا في مصر والعالم العربي.
والقائمة بعد ذلك طويلة.. ليت هناك من يستطيع أن يكملها غيري!

محمد خان يفتح ملف "ستانلي"

الملف الذي فتحه المخرج الكبير محمد خان على مدونته "كليفتي 2" حول وقائع ما جرى وما زال يجري لمشروع فيلمه الطموح "ستانلي"، دامغ في تأكيده على أن "مشروع تدمير السينما" قائم ومستمر، سواء بوعي أو بدون وعي.
محمد خان ليس مخرجا مبتدئا، بل علم من أعلام السينما في مصر والعالم العربي. وقد أثبت طوال أكثر من أربعين عاما، أنه مخرج يعتد بأفلامه، بل إن منها أفلام أصبحت علامات في تاريخ السينما التي تنتج في بلده. وشرف لأي منتج سينمائي يقول إنه جاد في تعامله مع السينما، أن ينتج فيلما لمحمد خان. لكن الواقع المزري الذي يؤكد لنا يوميا غياب المنتج الحقيقي وسيطرة "الممول" الذي طرأ على السينما دون معرفة، ودون فهم بل ودون حتى أن يفرق بين المشروع السينمائي، والمشروع السياحي، هو المسؤول عن تعثر مشروع خان ومشاريع أخرى كثيرة مؤجلة لنخبة من السينمائيين في مصر والعالم العربي.
توافق شركة إنتاج مزعومة على إنتاج الفيلم (تمويله بالأحرى)، ثم تتهرب، ويطرح الممثل الذي يفترض أن يقوم ببطولة الفيلم اسم شركة أخرى للإنتاج (نجيب ساويرس)، دخلت المجال بضجيج كبير وكلام كثير حول الحداثة والنقلة النوعية والتصدي للتيارات الظلامية، لكنها انتهت بالوقوع في أحضان الشركة الأولى (لصاحبها المستثمر السياحي كامل أبو علي) التي تتعامل مع مشروع الفيلم كما لو كان مشروع مطعم جديد، ويتغير الممثل- البطل، ويكتب السيناريو بالكامل ويتم الحصول على موافقة جهاز التخلف المزمن أي الرقابة، ولكن دون أن يتحرك المشروع!
يقول محمد خان: "ومرت الأيام والأسابيع ولم يتصل بى السيد كامل أبو على ..لم أيقن حينذاك هذا الأسلوب الجبان فى ترك الأمور معلقة بلا مبالاة للطرف الآخر .. أسلوب يتضمن عدم الرد على التليفونات أو الرسائل .. الى أن تأكدت من تراجع كامل أبو على عن طريق محمود عبد العزيز ومحاولته تحويل تعاقده مع محمود الى مشروع فيلم آخر أو مسلسل تليفزيونى .. الفيلم الذى كان يحاول كامل إغراء محمود به كان ـ طباخ الرئيس ـ الذى قام طلعت زكريا ببطولته بعد ذلك".
ويستطرد خان: "نعود الى نجيب ساويرس. وبعد مرور شهور أبلغتنا شركته انها تحبذ تأجيل المشروع لشتاء آخر .. ولم نكن على علم بأن هناك تخطيطا لتكوين شركة جديدة ـ مصر للسينما ـ تجمع بين ساويرس وكامل أبو على كشركاء .. وأشيع أن المخرج خالد يوسف من المحتمل أن يدير مشاريع الشركة ..وبالفعل عن طريق خالد يوسف عاد المشروع الى كامل أبو على مؤقتا فى مرحلة تأسيس الشركة الجديدة إلا ان الإدارة منحت لآخر كان يعمل فى شركة روتانا اكتشفت فيما بعد ان خبرته السينمائية الإنتاجية ضئيلة للغاية .. وتم التعاقد هذه المرة بينى وبين شركة ألباتروس مؤقتا الى ان يتم تجهيز عقود المصرية للسينما".

وينتهي الأمر كما هو متوقع إلى التذرع بالأزمة الاقتصادية العالمية لتأجيل البت في المشروع بعد الاستيلاء على السيناريو!

هذا هو المأزق الحالي الذي يحتاج إلى قاريء كف لكي يقول لنا كيف يمكن الخروج منه!

إنها فضيحة بكل المقاييس. يشترك فيها المنتج الجاهل مع المنتج الذي يقولون عنه إنه مثقف، مع الممثل المفترض أنه صاحب مصلحة مباشرة، لكن عينه على الفيلم وعلى غيره من الأفلام أيضا.

أن تتقاعس شركات كامل أبو علي وساويرس وعماد أديب وآر إيه تي عن تمويل فيلم محمد خان فيما الحديث لا يكف عن أنهم جاءوا إلى السينما لطرح نماذج جديدة وتطوير الإنتاج والانفتاح على الأفكار وغير ذلك من كلمات للاستهلاك المحلي، ما هي إلا فضيحة بكافة المقاييس، وحلقة أخرى ضمن مسلسل مشروع "تخريب السينما" بدعوى إنقاذها!

الأربعاء، 25 فبراير 2009

"الرقص مع بشير": عن الأوسكار والكلاب المسعورة وعقدة الذنب


المقال نشر أولا في جريدة "البديل"

كتبت من قبل عن الفيلم الإسرائيلي "الرقص مع بشير" واختلفت تماما مع من يقولون بأنه فيلم ينتقد المؤسسة الإسرائيلية، ويدينها ويكشفها، وقلت إنني لم أر فيه أي إدانة من أي نوع للمؤسسة الإسرائيلية العسكرية، بل على العكس يؤكد الفيلم أكثر من عشر مرات، أن الجنود والضباط الإسرائيليين (الذين يستجوبهم المخرج في الفيلم ولو بالصوت فقط ويستخدم رسوما عوضا عن اللقطات السينمائية المباشرة) أنهم لم يعلموا بما سيحدث في صبرا وشاتيلا إلا بعد وقوعه، وإنهم لم يروا شيئا بأنفسهم بل سمعوا بما حدث بعد حدوثه.
ثانيا هذا فيلم، أساسه وجوهره، حول "الفاعل" وليس المفعول به، أي عن المأزق "الإنساني" الذي يزج بالجنود الإسرائيليين فيه، ويؤكد في كل أجزائه أنهم "مغلوبون على أمرهم" "سيقوا إلى حرب لا يعلمون شيئا عنها" "كانوا شبابا صغار السن يافعين"، وأنهم "كانوا نائمين وقتما صدرت لهم الأوامر بركوب سيارات والتوجه إلى الجبهة، ووصلوا وهم لايزالون نائمين". هذا ما يتردد في الفيلم بشكل حرفي.
بمعنى آخر، هذا فيلم عن المٌعتدي وليس المعتدى عليه، وهو إن كان يظهر بعض الصور في النهاية للمعتدى عليهم فبقصد غسل ضمير المعتدي، وتخليصه من "عقدة الإحساس بالذنب" المفتعلة فنيا أي أنها عقدة "غير حقيقية" صنعت بنظرة ليبرالية مفتعلة موجهة للغرب تحديدا، بقصد تصوير "العذاب" الروحي الذي يعانيه المعتدي لعجزه عن حماية "المعتدى عليه" من اعتداء لم يأت من طرف هذا "المعتدي" الذي هو الإسرائيلي، الغازي، الذي اقتحم أرض الغير، وشن حرب تصفية شملت آلافا من المدنيين الأبرياء، ودمر إحدى أهم العواصم العربية، بل من "معتد" آخر هو حزب الكتائب اللبناني. صحيح أن هذا المعتدي الآخر كان عميلا وذيلا للمعتدي الصهيوني، إلا أن الفيلم يريد أن يقول لنا إنه تجاوزه في وحشيته إزاء الفلسطينيين، وإزاء رغبته في الانتقام بأبشع الطرق لاغتيال زعيمه بشير الجميل.
هنا يتطهر الإسرائيلي ويغتسل من عقدة الذنب، وينجو من الإدانة المباشرة: كإنسان، وكجندي، وكمواطن إسرائيلي عادي اضطر لأداء "الخدمة" العسكرية في 1982 في لبنان، ثم تحول إلى "مخرج سينمائي" لديه أيضا حساسيته الخاصة.

هنا يُلقي ذلك "الجندي السابق- السينمائي الحالي" اللوم بأسره على قيادته المتمثلة في شارون (اليميني، العسكري المحترف الخشن، العنيف، رمز الجيل المؤسس المتطرف صهيوينا، ًالمدان لفرط توحشه في الأوساط الغربية) كما لو كان شارون مثلا أكثر وحشية من ليفني أو أولمرت أو باراك. فهل هناك بعد ذلك لامعقولية أكثر من هذا!
والغريب أن الناقد السينمائي سمير فريد (وهو متمرس على مشاهدة الأفلام) يكرر في أكثر من مقال له أن الفيلم يصور غزو الإسرائيليين للبنان على صورة كلاب متوحشة سوداء تفتك بالفلسطينيين. وهذا غير صحيح على الإطلاق.
والصحيح أن الفيلم يبدأ بكابوس (نعرف فيما بعد أنه يتكرر في حياة بطل الفيلم منذ عودته من الحرب اللبنانية عام 1982). في هذا الكابوس المتكرر يرى البطل- المنكسر- الذي يعاني من أزمة نفسية، 26 كلبا أسود، يطاردونه باستمرار ويحاصرون منزله في تل أبيب، ومن هذا الكابوس المعذب يبدأ الفيلم، فهذا الجندي السابق (بواز) يلتقي بالمخرج آري فولمان ويطلب نصيحته بشأن هذا الكابوس، ويروي له أنه كان قد كلف أثناء غزو لبنان عام 1982 مع زملائه باقتحام قرية لبنانية في جنوب لبنان للقضاء على أفراد المقاومة فيها، وكانت المهمة التي أوكلت إليه تحديدا قتل عدد من الكلاب المتوحشة التي كانت تحرس تلك القرية (لأن رؤساءه كانوا يعرفون أنه لا يستطيع قتل البشر!) وأنه اضطر لقتلها واحدا واحدا، وكان عددها 26 كلبا.
غير أن سمير فريد يتخذ من هذا المشهد- الكابوس دليلا على أن الفيلم يدين الجيش الإسرائيلي ويشبه جنوده بالكلاب، فهو يقول بالنص:" لم يحدث أبداً، فى حدود معلوماتى، أن تم إنتاج فيلم يصور مخرجه ضباط وجنود جيش البلد الذى ينتمى إليه على شكل كلاب مسعورة عيونها حمراء تنقض على مدينة فى ظلام الليل كما فعل آرى فولمان، وهو يصور غزو بيروت عام ١٩٨٢" (المصري اليوم- 29 يناير 2009).

قبل ذلك، وبعد أن شاهد سمير فريد الفيلم نفسه في مهرجان كان كتب يقول بالحرف الواحد أيضا:"ويدين الفيلم الغزو حتي أنه يبدأ مع العناوين بكلاب متوحشة تقوم بالغزو، وينتهي بمشاهد تسجيلية للمذبحة وإحدي الفلسطينيات تصرخ في المخيم: تعالوا صوروا القتل.. أين العرب.. وأين العالم مما يحدث لنا" (المصري اليوم- 17 مايو 2008).
يقول سمير فريد أيضا في مقاله الذي يعلق فيه على ترشيح الفيلم لأوسكار أحسن فيلم "أجنبي" تحت عنوان "أول فيلم تحريك يرشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي" (المصري اليوم- 29 يناير): " وقد يتصور البعض ممن لم يشاهدوا الفيلم أن وصوله إلى ترشيحات أوسكار أحسن فيلم أجنبى، ودخوله التاريخ كأول فيلم تحريك يتنافس على هذه الجائزة يرجع إلى «تعاطف» أغلب أعضاء الأكاديمية «نحو ٦ آلاف عضو» التى تنظم الأوسكار مع إسرائيل، حيث يتم الترشيح والفوز بعد ذلك من خلال التصويت الفردى المباشر، ولكن من واقع مشاهدة الفيلم، ومن دون إنكار التعاطف السائد فى الغرب عموماً مع إسرائيل بالحق أو الباطل، فإن السبب فى رأيى ليس التعاطف مع إسرائيل بقدر ما هو تأييد السلام، وتقدير الفيلم من الناحية الفنية حيث يعتبر نقلة نوعية فى أفلام التحريك".
وسمير فريد بالطبع حر بالطبع في إعجابه بالفيلم وبمستواه الفني رغم ما فيه من قتامة في الألوان وتواضع شديد في نوعية ومستوى رسومه التي تبدو مثل رسوم الأطفال وموسيقاه الزاعقة التي تثير من الضجيج أكثر مما تدفع إلى التأمل، غير أنني أود التوقف هنا أمام فكرة أن أعضاء الأكاديمية من المؤيدين للسلام.
أي سلام ذلك الذي يتعاطف معه أعضاء الأكاديمية: فهل رسالة هذا الفيلم تتلخص في الدعوة إلى السلام؟ النقاد في الغرب بل وداخل إسرائيل نفسها، يتفقون على أن الهدف الأساسي من الفيلم هو هدف "علاجي" therapeutic ويروي كثير من الجنود الإسرائيليين الذين حاربوا في لبنان 1982 مثل فولمان لصحيفة "هاآرتز" الإسرائيلية (5 فبراير) كيف أن مشاهدة الفيلم جعلتهم يشعرون بالراحة النفسية بعد أن أعاد إدخالهم إلى التجربة وتنتقية الذاكرة حولها، والأهم، توضيح عدم مسؤولية الجنود كأفراد عما وقع في صبرا وشاتيلا.
إنه العلاج النفسي (بقصد تطهير الروح) عن طريق استعادة الماضي، واستدعاء الأحداث بقسوتها وعنفها على طريقة التحليل النفسي، وهو المدخل الذي يستخدمه فولمان في فيلمه بوضوح لا ريب فيه.
يقول بيتر برادشو ناقد صحيفة "الجارديان" البريطانية (21 نوفمبر 2008) إن من الممكن الاعتراض على الفيلم باعتبار أنه "يجعل الأولوية لآلام المتفوق على حساب المضطَهد".
ويقول ج. هوبرمان في "هوستون برس" الأمريكية (13 يناير 2009) "إن الفيلم "يهتم أساسا باستدعاء التجربة القاسية. هناك جانب علاجي في هذا الموضوع، وليس غريبا أن فولمان أحد صناع عرض تليفزيوني إسرائيلي شهير كان مقتبسا من الدراما النفسية التي أنتجها تليفزيون إتش أه بي "في العلاج".
ولاشك أن "فتح الجرح" أو استدعاء التجربة، عامل أساسي في العلاج وفي تحقيق الشفاء، ولكن كم من العلاجات والصدمات والمواجهات مع النفس سيحتاج الجنود الإسرائيليون في المستقبل بعد كل هذه المذابح المستمرة!
إن ترشيح الفيلم من جانب القائمين على الأوسكار الذين لم يمنحوا جائزة واحدة في تاريخهم لفيلم يتعاطف مع الفلسطينيين ولو بأي مقياس (ولا حتى لفيلم "ميونيخ" من إخراج طفلهم المدلل سبيلبرج)، ليس حبا في السلام، بل من أجل التأكيد على "التفوق" الإسرائيلي: في شن الحروب، وفي البحث عن الشفاء من عقدة الحروب، في مواجهة الأعداء، وفي مواجهة النفس وقتما يقتضي الأمر بغرض تحقيق الاسترخاء اللازم للعودة إلى مواصلة القتل، في استخدام أدوات الدمار للتخلص من "المواد البشرية الفائضة"، ثم في استخدام أدوات السينما بغرض تطهير أرواح الأبناء من عقد الإحساس بالذنب.

الاثنين، 23 فبراير 2009

مفاجآت محدودة في جوائز الأوسكار

بنيلوب كروز وشون بن وكيت ونسليت

كما كان متوقعا حصد الفيلم البريطاني "مليونير العشوائيات" أكبر عدد من الجوائز يحصل عليها فيلم بريطاني منذ "المريض الانجليزي" (1997) بعد فوزه بثماني جوائز رئيسية منها أحسن فيلم وأحسن مخرج وأحسن سيناريو معد عن أصل أدبي وأحسن تصوير.
وكما كان متوقعا أيضا حصلت الممثلة البريطانية كيت ونسليت (33 عاما) على جائزة أحسن ممثلة عن فيلم "القاريء" The Reader رغم ما تعرض له الفيلم من هجوم شديد من جانب المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وعلى رأسها مركز سيمون فيزنثال وعصبة الدفاع اليهودية، متهمين الفيلم بتجميل النازية، والتماس العذر لبطلته (التي عملت حارسة في معتقل نازي في الماضي) لكونها أمية لم تكن تعرف القراءة والكتابة، وبالتالي- حسب تفسيرات تلك المنظمات اليهودية- لم تكن تستطيع أن توقع على أمر اعتقال 300 يهودي وترحيلهم إلى مصيرهم، وهو ما رأوا فيه نوعا من تخليص الألمان من الخطيئة التي ارتكبوها في حق اليهود!
معظم الجوائز الأخرى بعد ذلك جاءت متوقعة بما فيها جائزة الممثل الثانوي (هيث ليدجر) والممثلة الثانوية (بنيلوب كروز).
أما المفاجأة فربما تتمثل في حصول شون بن على جائزة أحسن ممثل، لا لأن أداءه أقل من غيره، بل لأن أداء ميكي رورك في "المصارع" كان بارزا بدرجة كبيرة وسيطر على أذهان جميع من شاهدوا الفيلم، وكانت عودته إلى الأضواء بعد ابتعاد طويل جديرة من وجهة نظر الأوساط السينمائية الأمريكية بالترحيب خاصة وأن دوره في الفيلم يتماهى مع مسار حياته الشخصية خلال العقدين الأخيرين. وإن كان رأيي الشخصي أن الممثل الجدير حقا بالجائزة (في مسابقة أخرى تحكم المعايير الفنية وحدها، وتأخذ في الاعتبار القيمة الفكرية والفنية للفيلم وليس أي اعتبارات أخرى) هو العملاق الكبير فرانك لانجيلا الذي قام بدور ريتشارد نيكسون في فيلم "فروست/ نيكسون". لكن مؤسسة الأوسكار عادة ما تميل إلى تكريم الصناعة السائدة وليس الأعمال الفنية التي تتجاوز السائد. وربما كان الفيلم نفسه جديرا بجائزة السيناريو المعد عن أصل أدبي وجائزة الإخراج أيضا إن لم يكن أيضا أحسن فيلم، فهو في رأي كاتب هذه السطور أحسن الأفلام الخمسة المتنافسة على الجائزة.

داني بويل مخرج "مليونير العشوائيات"

والواضح أيضا أن "هوليوود" أرادت على ما يبدو توجيه رسالة سياسية واضحة تؤكد على "ليبراليتها" في المرحلة السياسية الجديدة تحت إدارة أوباما، وهي أنها تؤيد حقوق المثليين، وهو الموضوع الذي ناضل ومات من أجله هارفي ميلك الذي يدور حول شخصيته فيلم "ميلك" Milk ولذا ذهبت الجائزة إلى شون بن الذي فوجيء هو نفسه بها، لأنه يعرف أن أمامه عملاقين: ميكي رورك وفرانك لانجيلا.
ومن المفاجآت المحدودة أيضا خروج فيلم "الحالة الغريبة لبنيامين بوتون" من المسابقة بثلاث جوائز فقط (فرعية تقنية) وهو الذي كان مرشحا لأكبر عدد من الجوائز (13 ترشيحا).
ولعل المفاجأة الأخيرة في إعلان الجوائز أيضا تتمثل في حصول الفيلم الياباني "رحيل" Departures على جائزة أحسن فيلم أجنبي في حين أنه كان من المتوقع أن تذهب الجائزة إلى الفيلم الإسرائيلي "الرقص مع بشير"، وقد يكون تجاهل الفيلم الإسرائيلي قد خضع أيضا لتوازنات معينة، فهذا الفيلم اعتبر في نظر المنظمات اليهودية الأمريكية المتشددة فيلما يكشف "الضعف الإسرائيلي" وبالتالي لم يكن هناك ترحيب به. وفي مقابل منح كيت ونسليت جائزة التمثيل، تم اسقاط الفيلم الإسرائيلي، تجنبا لأن يقال أيضا أن هوليوود تكرم إسرائيل بعد كل ما وقع في غزة.. وكلها اجتهادات شخصية بالطبع. وكل أوسكار وأنتم بخير!

الجمعة، 20 فبراير 2009

من مخزن الذاكرة: أيام في الدار البيضاء



جمعتنا أيام جميلة في الدار البيضاء (عام 1992) عندما شاركنا في الموسم الثقافي الجميل الذي نظمته كلية الآداب - ابن مسيك بالدر البيضاء حول "السينما والأدب" ووجهت الدعوة وقتها لعدد كبير من السينمائيين البارزين الذين كان لي شرف التواجد معهم، وكذلك النقاد.. نقاد الزمن الصعب من المشرق والمغرب.
وقد حفل الأسبوع بالعروض والمناقشات المثمرة التي دارت داخل مدرج كلية الآداب بالجامعة العريقة. وكان الدكتور محمد برادة أستاذ الأدب، رئيسا للجلسات وقتها. وأتذكر أن منظم الأسبوع كان الصديق الناقد المغربي حمادي كيروم، وكانت تلك المرة الأولى التي نلتقي وقد وجه لي الدعوة للمشاركة بورقة بحثية في المؤتمر وكانت وقتها بعنوان "السينما والأدب وأشكال التعبير: علاقة اقتباس أم استلهام، أمانة أم خيانة؟"، ويمكن القول باختصار أنها كانت دفاعا مسهبا عن "الخيانة" أي عن حق السينمائي في خيانة العمل الأدبي وتطويعه للغتة السينما ولأسلوبه ورؤيته، وكان فيها نوع من "التحيز" للسينما. وقد أثارت وقتها ضجة كبيرة ومناقشات صاخبة ونشرت فيما بعد في صحف مغربية، وأتذكر أنني تلقيت أيضا هجوما شديدا من طرف أحد الطلاب الذي انتفض واقفا بغضب محموم وكان يرتجف من فرط الانفعال وهو يتكلم موجها لي انتقادات شديدة، وكان أساس غضبه أنه شعر بالاستفزاز من كلمة "خيانة" وتصور فيما يبدو أنني أدعو إلى الخيانة الزوجية مثلا، أو إلى الإباحية ربما لأنني ضربت وقتها مثالا بفيلم "العاشقة" الفرنسي الذي كان قد ظهر مؤخرا في فرنسا عن رواية لمرجريت دورا وأثار ضجة كبرى لتجاوزه الرواية كثيرا. وكان الطالب المسكين كما بدا واضحا للجميع مدفوعا بأيديولوجية سلفية أو متشددة كانت لاتزال كامنة إلى حد ما في المغرب في تلك الفترة.
وقد نشر ذلك البحث ضمن كتابي "هموم السينما العربية" الذي صدر في القاهرة ضمن سلسلة "آفاق السينما" وأعتبره أسوأ كتبي على الإطلاق من حيث الإخراج والتنفيذ والطباعة، وإن كان من أكثرها اهتماما من جانب الكثير من المهتمين وطلاب السينما، فقد كنت كلما التقيت بأحد من هؤلاء يذكر الكتاب ويشيد بتأثيره عليه، وكنت أدهش كثيرا لذلك وأعتذر عن رداءة الطباعة خصوصا وأن الصديق كمال رمزي المشرف على السلسلة في تلك الفترة، أصدر معه كتابا ثانيا لي هو "سينما الرؤية الذاتية"، وقال في كلمته التي نشرت على ظهر الغلاف إنه يقدم "في هذا السفر عملين يكشف فيهما المؤلف عن همومه كناقد تجاه السينما العربية والعالمية".. ولم أقتنع بفكرة دمج كتابين منفصلين في كتاب واحد كما لم أقتنع بأنني كتبت "سفرا" أو شيئا من هذا القبيل!
كان الناقد كمال رمزي (الذي يظهر معي في الصورة السفلية (إلى اليسار)، ومع المخرج السينمائي الفلسطيني غالب شعث (أقصى اليمين) والصحفية المغربية أمينة بركات ,والإعلامية المغربية الأستاذة صباح بن داود)، صديقا مقربا في تلك الفترة وما تلاها، ولكن شاءت التغيرات والمتغيرات التي عصفت بكل شيء في مصر أن تغير أيضا الكثير من العلاقات والصداقات، وتصنع علاقات أخرى ربما تقوم على أشياء لا علاقة لها بحبنا القديم المشترك وهو السينما، أو بأحلامنا القديمة في تغيير الدنيا إلى الأفضل بعد أن سقطت الدنيا في المستنقع وسقط معها كثيرون!
كان المخرج غالب شعث، وهو رجل شديد التهذيب والأدب والرقة بل ويمتلك أيضا ثقافة رفيعة وحسا فنيا بليغا، مدعوا إلى المؤتمر- الأسبوع- المهرجان (أظن أن الإخوة في المغرب أطلقوا عليه وقتذاك "ملتقى الرواية والسينما") لعرض ومناقشة تجربة فيلمه الشهير "الظلال في الجانب الآخر" (1973) الذي كان باكورة إنتاج جماعة السينما الجديدة في مصر في عز سنوات الحلم بالتغيير بعد هزيمة 67 العسكرية التي احدثت نوعا من اليقظة بل والثورة الثقافية الشاملة التي كانت، لو قدر لها أن تستمر ولا يتم إجهاض مشروعها في 1971 ثم في 1974 مع إعلان السادات تغيير توجه المجتمع بالكامل وبقرار علوي من فوق، دون أن يملك أحد التصدي له سوى طلاب الجامعات، لكان من الممكن أن تلحق مصر بركب التطور ولا تنزلق وتسقط في غبار الفكر المتصحر المتصلب الجاف القادم من أعماق الصحراء المجاورة جالبا معه أزياءه وأشكاله وسحناته الشيطانية!
كان غالب شعث من أوائل السينمائيين الفلسطينيين الواعدين في مجال السينما الروائية الحقيقية، سينما التعبير باللفتة والحركة والهمسة والعلاقة بين الصور واللقطات، وذلك في وقت سادت فيه (أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) سينما أخرى فلسطينية تعتمد على الشعارات وعلى أننا اصحاب حق و"عائدون" وكانت تمتلئ بالكثير من التدريبات العسكرية وتخلو من اللمسات الفنية الإنسانية. غير أن هذا المخرج الموهوب بحق امتنع بعد إخراج عمله البارز "الظلال" عن الإخراج السينمائي، وفشلت كل الجهود لدفعه للعودة للإخراج مرة أخرى حتى يومنا هذا. ورغم أنه درس السينما دراسة رفيعة في فيينا في الستينيات، إلا أنه فضل الأعمال التجارية متخذا من القاهرة منذ فيلم "الظلال" مقرا لإقامته حتى يومنا هذا.
كان من بين المدعوين إلى الدار البيضاء أيضا من الذين شاركوا بأوراق ومداخلات مكتوبة المخرج السوري الكبير نبيل المالح وعرض له فيلم "الكومبارس" وقد لقي استقبالا بديعا، وتحدث أيضا على ما أذكر أيضا المخرج الصديق داود عبد السيد الذي عرض له فيلم "الكيت كات" وكان قد ظهر حديثا وكانت تلك المرة الأولى التي أشاهده فيها، فقد جئت من لندن (كالعادة). غير أن رأيي دائما في داود وهو رجل عميق الاطلاع والمعرفة، انه أحد أفضل السينمائيين الذين ظهروا في تاريخ السينما المصرية قاطبة، غير أنه ليس متحدثا جيدا.
جاء وفد كبير من الأدباء والسينمائيين والنقاد من مصر يتقدمه الراحل الكبير صلاح أبو سيف، وكان يرأس الوفد الصديق الراحل أيضا عبد الحميد سعيد مؤسس أرشيف الفيلم المصري الذي لم يكتمل أبدا بسبب معوقات إدارية. وكان هناك الكاتب الكبير صبري موسى متعه الله بالصحة والعافية (صاحب سيناريو فيلم "البوسجي" الشهير الذي أخرجه حسين كمال قبل أن يتحول إلى إخراج الأفلام الرائجة)، وكان المؤتمر يعرض عددا من أفلام صلاح أبو سيف المأخوذة عن أعمال أدبية منها فيلم "بداية ونهاية" و"القاهرة 30". وعرض كذلك أفلاما من تونس والمغرب ولبنان وفلسطين.
أذكر أنه كان من بين المدعوين الصديق المخرج علي بدرخان الذي أخرج الكثير من الأفلام الجيدة التي تعتمد على نصوص أدبية مثل "الكرنك" و"أهل القمة" و"الجوع". وعلي بدرخان طبعا معروف بمقالبه الكثيرة التي يدبرها على سبيل المزاح. وقد حاول أن يجرب معي أحد مقالبه ونحن في الفندق حينما اتصل بي يدعوني للحضور فورا إلى غرفته في الفندق بحجة أن "أمرا مهما من إدارة المهرجان" في انتظاري أو شيئا من هذا القبيل.. لكني على ما يبدو شممت رائحة توحي بوجود مقلب ما في الموضوع، فلم يكن ما ذكره مقنعا تماما، كما أن قدرته على التمثيل لم تقنعني كما تقنعني قدرته على الإخراج. وقد ذهبت إلى الغرفة بالفعل وأنا أتشكك مسبقا في وجود أمر ما مدبر، فوجدت كمال رمزي منفجرا في الضحك ومعه صبري موسى وداود عبد السيد وطبعا علي بدرخان الذي حاول أن يوهمني بجدية الأمر، دون أي جدوى بالطبع.. لا أذكر كيف انتهت الجلسة، لكن على خير طبعا!
كان المرحوم صلاح أبو سيف يصحو مبكرا ويمشي كثيرا قبل أن يتناول طعام الإفطار. وكنا نجلس في المساء نتبادل الروايات والحكايات بعد العشاء في المطعم، وفي العاشرة مساء تماما ينهض صلاح أبو سيف، فقد حل موعد نومه الذي ظل ثابتا طيلة حياته كما قال لي. ولم يكن أبو سيف يدخن أو يقرب الشراب، وقد عاش حياته مع نفس الزوجة مخلصا لها حتى النهاية.. وقد توفي عام 1996 عن 81 عاما ولم يكن يعاني حسب علمي، من أي أمراض بل هو قضاء الله وقدره.
أيام الدار البيضاء كانت بيضاء بحق، وكانت تمتلئ بالحب والدفء والإقبال على الحياة، والرغبة في معانقة الآخر.. ولم نكن قد بلغنا بعد عصر العولمة، أو التدهور والانهيار وفقدان الثقة فيما يحدث حولنا.. ولم تكن الغربة قد اشتدت بنا وامتدت كما هي الآن. أين هذه الأجواء الآن، بل وأين نحن منها، ومن الذي يمكنه أن يجمع هؤلاء معا مرة أخرى، وهل يمكن أصلا أن يجتمعوا بعد كل ما صار!

الخميس، 19 فبراير 2009

عصر نهاية السينما


نتحدث كثيرا عن "السينما" كما لو كان صنع الأفلام أو إنتاجها هو الهدف المنشود وانتهى الأمر، بينما الحقيقة أن المشكلة تبدأ بعد الانتهاء من تصوير الفيلم، والبحث عن وسيلة لعرضه.إن المنفذ الطبيعي لعرض الأفلام في كل بلدان العالم يكون عن طريق ما يعرف بـ"دور العرض السينمائي"، والذي أصبح الآن يقال له "قاعات العرض" أو "الشاشات" بعد ظهور المجمعات السينمائية المتعددة الشاشات والقاعات.
هذه القاعات أصبحت عملة نادرة في البلدان العربية في حين أن من دونها يصعب الحديث عن "السينما"، ويتضاءل الحديث ليصبح عن "عرض الأفلام السينمائية على شاشة التليفزيون".. وهو مصير لا أتصور أن سينمائيا أو مخرجا للأفلام يسعى إليه أو يطلبه، فالقصد من التصوير بكاميرا السينما أن تعرض الأفلام على الشاشات الكبيرة في القاعات ودور العرض السينمائية، فهي لم تصنع حسب المواصفات الجماعية لشاشة التليفزيون.ولكن كيف ستوجد عروض سينمائية، أي منافذ لتوزيع الأفلام وعرضها على جمهورها الطبيعي بينما أصبح الجمهور نفسه يحجم عن التردد على دور العرض كما كان يفعل في الماضي بعد شيوع ثقافة أخرى ترده بعيدا عن السينما، وتحبسه داخل قناعات منها أن الاختلاط في الظلام يولد الشيطان، أو أن مشاهدة الأشكال المتحركة المجسدة رجز من عمل الشيطان، وأصبح أصحاب دور العرض أنفسهم، أو قطاع كبير منهم، يرى أن السينما "حرام"، وأن من الأفضل له أن يحول قاعة السينما التي يملكها إلى نشاط آخر يحصل على فتوى بمشروعيته من الدعاة الجدد أو القدامى، لا فرق!
الإحصائيات المتوفرة تقول لنا إن قاعات السينما تنقرض، فبعد أن كانت تونس تملك 120 قاعة تضاءل العدد وبلغ حاليا 14 قاعة فقط في تونس العاصمة.
وبعد أن كانت بغداد تحتوي 40 قاعة أصبح عددها الآن 5 قاعات تغامر بعرض الأفلام أحيانا!وكانت الجزائر قد ورثت عن "الاستعمار" الفرنسي 450 قاعة للعرض السينمائي، لكن العدد الكلي للقاعات تضاءل فبلغ حاليا 15 قاعة.. وليحيا الاستقلال!
وأصبح عدد القاعات في المغرب 72 قاعة بعد أن كان 250 قاعة عام 1980.
أما في مصر التي يبلغ عدد سكانها قرابة الثمانين مليون فلا يوجد أكثر من 230 قاعة للعرض السينمائي. وأصبحت هناك مدن مصرية كبيرة، كاملة بل ومحافظات بأسرها، تخلو تماما من دور العرض.
ما تبقى من الدول العربية (المنضوية تحت لواء الجامعة العربية) لا يزيد عدد قاعات العرض فيها عن 30 قاعة!عن ماذا نتكلم إذن.. وهل تشهد السينما نهايتها قريبا قي العالم العربي بينما تتوالد المهرجانات السينمائية وتزداد انتشارا، ربما تحت شعار"مهرجان سينما لكل شيخ قبيلة"!

الأربعاء، 18 فبراير 2009

عن أفلام الرسوم: هل هي للصغار فقط؟



((تلقيت قبل أيام الرسالة التالية التي الهمتني كتابة الموضوع الذي يعقبها والذي أثاره الرد على الرسالة التي تعكس شغفا حقيقيا بنوع من السينما أهملناه)).
أخي العزيز:
أراسلك بخصوص فرع من فروع السينما الحالية ألا وهي الرسوم المتحركة .
أخي العزيز: الرسوم المتحركة هي أكثر العناصر ظلما في السينما حسب رأيي المتواضع واطلاق الأحكام عليها ومعاملتها بطريقة مجحفة جعل منها عنصرا منبوذا في كثير من الأحيان خصوصا هنا في عالمنا العربي .
كثيرا ما تُعامل على أنها موجهة للأطفال ولا أعلم ما هو السبب. ربما تكون النشئة هي ما خلق ذلك التفكير ففي بدايات قيمها تزعمتها الولايات المتحدة بانتاج توم وجيري مما جعل هذه الرسوم ذائعة الصيت في العالم ككل والعالم العربي خصوصا نظرا للآلة الاعلامية وتوجه أنظار العالم كله نحو الولايات المتحدة على أنها الوجه الجديد والمثير لكل شيء فقدمت لنا تلك النماذج ودعمتها بكثير من الجوائز لخلق الجو المناسب لتسويقها .
في اعتقادي أن ما حث أمريكا على القيام بذلك هو رؤية سياسية بحته ليس أكثر، تقديم هذا المنتج الجديد بشكل مثير ويجلب الانتابه العالمي نحوه، تقديم الجوائز لهذا الوجه الجديد لتعيم تواجده في أوساط العالم، والاعلام المسلط على الولايات المتحدة وجميع ما تفعله. جميع هذه العناصر أعطت أمريكا تصريحا بالتصرف بهذا النوع الجديد من الفن كما يحلو لها، والتوجيه صار يتم على يدها، والمضمون والمحتوى صار يوضع على ما تريد، وهي التي قررت لنا إلى من سيكون هذا الفن الناشئ، نعم انه الفن الموجه للأطفال .
عندما تقرر إلى من سيكون له هذا الفن تقرر توجيه بناء على مصالح سياسية بحته، وصرنا نرى ما يلمع صورة الانسان الغربي في كل لقطة، وصرنا نرى الاساءة للثقافات الشرقية في كل لحظة، صرنا نرى تبريرا لكل ما يريده ويدعو له الانسان الغربي المتحضر في كل حين. وبذلك حكموا على ذلك الفن بالخروج من دائرة الانسان إلى الساحات السياسية والتوجهات التي تخدمها نظرا لكونها وسيلة تم الترويج لها مسبقا على أنها ملك لأمريكا ولها الحق في توجيهها أينما تريد .
الاشكالية أن تلك الحركة أتت ثمارها هنا في عالمنا العربي فنشأ لدينا جيل من السينمائيين ونقادهم لا يعرفون شيئا عن الفن المسمى بالرسوم المتحركة، كل ما هنالك أنهم اكتفوا بما قدم لهم في صورة مسبقة بأنه فن موجة للأطفال ووقفوا على ذلك، كثيرون ممن تحدثت مهم عن هذا النوع من الفن استوقفوني بأنه غير مثير للاهتمام وبأنه لا يعدو كونه موجه للنشئ فقط، لا أعلم هل هذا الحكم ناتج عن تفكير مسبق أم ماذا ؟ أليس هذا الفن يستوجب لوجوده على أرض الواقع مخرج وسيناريو وجميع عناصر الفن السينمائي ؟ أليس يوجد في السينما ما هو عار ان يسمى فيلما كأفلام إد وود وهلم جرى؟ إذا الفن هو من يخرجه وبفكر من يخرج وليس بالصور المسبقة التي طبعت عنه. الفن قابل للتمدد ليشمل جميع الأطياف الانسانية ويستطيع أن يقدم لهم جميعا ما يريدون، ومن يحدد توجه الفن هو الانسان لأنه صنع له وليس من يصنعه، معيار الجودة الفنية هو من يقدمها وليس من حكم عليها مسبقا بتصور موجه بفكر سياسي أوما شابه. في مقابل ذلك التوجه الذي كان ينتج لنا توم وجيري كان هناك توجه لم يكن يملك تلك الصورة الاعلامية التي كانت لدى الولايات المتحدة، كان فن يخرج لنا روائع كانت مجهولة ومنكرة في عالمنا العربي نظرا لكونها تخالف التوجه السائد الذي كان ينظر للفن نظرة منكرة. كان هناك الروائع من أمثال قبر اليراعات وجون حافي القدمين وسبيرتد أوي. كان هناك مخرجون من أمثال هياوا ميزاكي وأيزاوا تاكاهاتا وساتوشي كون وغيرهم ممن قدموا لنا أعمال تأرخ لهذا الفن الجميل. لا أعلم من يحكم على ذلك الفن بالطفولي كيف يستطيع أن يحكم على قبر اليارعات بذلك وهو المثقل بالحس الانساني والأعاجيب السينمائية الكثيرة. لا أعلم من يحكم على ذلك الفن بالطفولي كيف يحكم على جون حافي القدمين بذلك وهو مثقل بالهم السياسي ويخرج لنا بتريحات لا يستطيع اخراجها الكثير في فيلم حي لا أعلم من يحكم على هذا الفن بالطفولي كيف يحكم على همس القلب بالطفولي.. والقائمة تطول.
أتأسف للإطالة لكنها مشاعر متدفقة لم أستطع كفها ولك تحياتي.
منصور الحقيل- نجد- السعودية

ردا على رسالة الأخ منصور، أود أولا أن أشكرك على مبادرتك بالكتابة في هذا المجال ومحاولة لفت الأنظار إلى أهميته وتأثيره الكبير. وأتفق معك فيما ذهبت إليه من أن الولايات المتحدة أولا حاولت تسويق ذلك الفن باعتباره "أمريكيا" ومنحته الصبغة الأمريكية وجعلته تعبيرا عن نمط الحياة الأمريكية وقوالبها وقيمها. وهذا طبيعي، فالفنان يعبر عن بيئته. أما الاستخدام السياسي فأيضا ليس بعيدا عن اهتمامات صناع هذا النوع من الأفلام. وهذا أيضا طبيعي. والطبيعي أيضا أن يتجه أصحاب الثقافات الأخرى إلى الاهتمام بهذا الفن وجعله وسيلة للتعبير عن مفاهيمهم الثقافية، لكن هذا لم يحدث في عالمنا العربي، بل ان ما ظهر من محاولات كانت ساذجة وكانت، كما أشرت أنت بوضوح، موجهة أساسا للأطفال، وتريد أن تصور لنا هذا النوع من أفلام الرسوم (التي يطلق عليها البعض أفلام التحريك على أساس أنها لا تقوم فقط على الرسوم بل على تحريك النماذج المجسدة أيضا) على أنها أفلام للأطفال فقط.
غير أن اليابانيين مثلا بدأوا منذ نهاية الستينيات في صنع أفلام رسوم للكبار وليس للأطفال فقط، وهناك أفلام شهيرة في هذا المجال مثل "أكيرا" لكاتسوهيرو أوتومو، وفيلم "شبح في القوقعة" لمامورو أوشي. لكن المشكلة أن الأفلام اليابانية لم تنجح في الوصول إلى العالم بسبب تحكم شركات التوزيع الأمريكية الكبرى في السوق العالمية، وبسبب سيادة وشيوع اللغة الانجليزية في عدد كبير من البلدان وتفضيلها. وخلال السنوات الأخيرة فرضت أفلام الرسوم اليابانية نفسها في الأسواق الأوروبية بعد ما حققته من نجاح كبير في المهرجانات السينمائية الدولية. وقد عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الأخير (2008) فيلمان من أفلام الرسوم اليابانية وهو حدث نادر من نوعه. وتحول فيلم "أكيرا" الياباني إلى أحد أكثر أفلام الرسوم المصنوعة للكبار رواجا وانتشارا.
وكان مهرجان فينيسيا قد منح المخرج السينمائي الياباني هاياو مازاياكي Hayao Miyazaki جائزة الأسد الذهبي عن إنجازه السينمائي طيلة حياته، وكانت تلك المرة الأولى التي يحصل فيها مخرج لأفلام الرسوم المتحركة على جائزة على هذا المستوى الرفيع. ومازيايكي معروف بأسلوبه الذي يمزج بين الطابع الرومانسي والطابع الإنساني، وتبحث أفلامه مواضيع موجهة للكبار أساسا تتناول علاقة الانسان بالطبيعة وبالتكنولوجيا ومن أفلامه البارزة "الأميرة مونونكي" و"القلعة المتحركة" و"حورية على ربوة بجوار البحر" والأخير كان أحد الفيلمين اللذين عرضا في مسابقة مهرجان فينيسيا الأخير كما أشرت، وكان مرشحا بقوة للفوز بالجائزة الكبرى، وقد منحه النقاد الحاضرون في المهرجان المرتبة الأولى وأكثر الافلام التي استمتعوا بها طوال المهرجان.
هناك مشكلة تتمثل في أن فيلم الرسوم يتكلف ميزانية طائلة قد تتجاوز المائة مليون دولار بعد اضافة تكاليف الدعاية. ويجب أن تضمن شركات الإنتاج تحقيق أرباح، أو أنها على الأقل لا ترغب في المغامرة بصنع أفلام للكبار لا يقبل عليها لا الكبار ولا الصغار. فلابد من توفر موضوع مثير جاد، ليس بالضرورة خياليا مطلقا لكي يشد الكبار أيضا.
وقد ظهرت محطات تليفزيونية متخصصة في عرض أفلام الرسوم منها محطة Cartoon Network التي خصصت مساحة لعرض أفلام رسوم للكبار تقوم بانتاجها علما بأن الانتاج للتليفزيون أقل تكلفة بكثير من الانتاج للسينما في حالة أفلام الرسوم تحديدا.
إحدى المشاكل، التي ربما تكون أنت قد أشرت إليها في رسالتك، هي أن النظرة السائدة لأفلام الرسوم باعتبارها موجهة فقط للأطفال تعود إلى أن معظم هذه الأفلام تفضل الإغراق في الخيال المطلق أو الفانتازيا، بينما هناك أفلام تصلح دون شك للكبار والصغار وقد حققت نجاحا مدويا منها على سبيل المثال فيلم Lion king أو الأسد الملك الذي حقق أرباحا طائلة، وهناك أيضا الفيلم التشيكي العظيم "أليس" Alice للمخرج الشهير في مجال الرسوم يان سفانكماير Jan Svankmajer الذي شاهدته قبل عشرين عاما ولا أستطيع نسيانه حتى اليوم.
وقد ابتكر ماكس فليشر طريقة عرفت باسم rotoscoping تتلخص في تصوير الفيلم أولا باستخدام شخصيات وحركة حقيقية تماما، ثم يقوم الرسامون بالتلاعب في الأشكال والصور وتحويلها - صورة صورة- إلى رسوم بالرسم فوقها عن طريق جهاز خاص يعرف بالـ rotoscope. وقد استخدم المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر هذه الطريقة في فيلميه Slacker و"حياة تسير" Walking Life وهي أفلام مختلفة تماما في رسومها وأسلوبها.
ولم يعد الأمر يقتصر على المواضيع الفانتازية أو المغرقة في الخيال فقط بل إن فيلما مثل الفيلم الإسرائيلي الحديث "الرقص مع بشير" Waltz with Bashir يقدم عملا "وثائقيا" باستخدام الرسوم، وهو بالتالي موجه للكبار، فهو فيلم جاد تماما يدور عن تجربة الجيش الإسرائيلي في الحرب على لبنان عام 1982. أما موضوع الفيلم وتفسيره فموضوع آخر تناولته من قبل في هذه المدونة وساعود إليه لاحقا لأهمية الجدل الدائر حوله.
وهناك أيضا فيلم "برسيبوليس" Persepolis للمخرجة الإيرانية ماريان ساترابي مع الفرنسي فنسنت بارونو (دائما ما يغفل اسمه لأسباب سياسية) على عدة جوائز عالمية، وهو فيلم جاد تماما، يروي قصة حياة فتاة منذ نشأتها في طهران حتى هجرتها من البلاد.
ولعل غياب الاهتمام بأفلام الرسوم في بلادنا العربية وغياب النقاد الذين يفهمونها ويحللونها كما أشرت أنت، يرجع إلى غياب هذا النوع من الأفلام أصلا عن السينما التي تنتج في البلدان العربية، وإذا وجدت فهي لا تعرض سوى على شاشة التليفزيون وللأطفال أساسا وبطريقة تعليمية أو بهدف تربوي مباشر. أما دور العرض فهي لا تغامر كثيرا بعرض أفلام الرسوم حتى المخصصة للكبار منها لأنها تخشى الخسارة، فالبعض يرى أن كل أفلام الرسوم متشابهة، فلماذ نضيع الوقت في مشاهدتها أصلا!
وفي النهاية أرجو أن أكون قد أجبت عن بعض تساؤلاتك، وإن لم يكن فعلى الأقل، نكون، انت وأنا، قد نجحنا في لفت الأنظار إلى أهمية هذا الخيال السينمائي الجميل.

الأحد، 15 فبراير 2009

قتل السينما

يساهم الكثيرون، سواء عن وعي أو غير وعي، في قتل السينما واغتيالها والتسبب في الأضرار بها بشتى السبل عندما يقيمون عروضا منظمة وتظاهرات بل ومهرجانات تقوم بالكامل على عرض أفلام منسوخة على شرائط فيديو أو على اسطونات رقمية (دي في دي) بدعوى أن هذه هي السينما الآن، وأن امكانياتهم لا تسمح سوى بذلك، وهي كلها ذرائع غير مقنعة.
وفضلا عما في ذلك من تدمير لفكرة السينما والفيلم السينمائي كفيلم، صوره مصوره على أساس العرض بمناسيب معينة، على شاشة كبيرة وبعمق محدد في المجال، وبإضاءة وظلال وكتل يريد التركيز عليها وابرازها بشكل محسوب، فإن في الفكرة أيضا نوعا من الاستنطاع بل والسرقة الواضحة أيضا، فهذه الشرائط وتلك الاسطوانات لم تصنع أصلا بغرض العرض العام بل لغرض العرض المنزلي فقط، وهناك قوانين تنظم ذلك.وربما يمكن فهم كيف تسطو جماعات كثيرة على الأفلام المطبوعة على شرائط واسطوانات وتقوم بعرضها عروضا عامة، لكن من غير المفهوم على الإطلاق أن تلجأ جهات رسمية يفترض أنها موقعة على اتفاقات دولية، مثل المجلس الأعلى للثقافة في مصر ومكتبة الاسكندرية، بتنظيم أسابيع ومهرجانات مزعومة، باستخدام هذه الشرائط والاسطوانات "المنزلية" أيضا.
وعندما يقولون لك "مهرجان لأفلام المرأة" فانت تتخيل أنهم تمكنوا من الحصول على نسخ 35 مم وأدخلوها من مطار الدولة البوليسية، وشاهدتها الرقابة المتعفنة وأقرتها، بينما لا يعدو الأمر بعض "الفهلوة" واستخدام مجموعة الاسطوانات الخاصة المتوفرة لدى منظم المهرجان اياه!
ونحن هنا لا يهمنا الجانب المتعلق بمخالفة الرقابة، فلسنا فقط مع ضرب عرض الحائط بكل قوانين الرقابة في كل مكان لأنها ليست سوى وسيلة للقمع، إلا أن الخوف كل الخوف يكمن في احتمال اندثار الفيلم السينمائي نفسه كعمل مرئي مطبوع على شرائط السليولويد، وهي تقنية لا تضاهيها حتى الآن أي تقنية رقمية. والعمل المستمر والمنظم والدءوب على استبدال "الفيلم" بشريط فيديو أو باسطوانة رقمية، يدمر فكرة السينما من الأساس، وينسف قيمة الفيلم كفن مصور له مناسيبه وجمالياته، بل ويشجع الجهات الرسمية التي تبني القصور والمؤسسات على تجاهل اقامة قاعات للعرض السينمائي التي نود أن نراها تمتد إلى المدارس والجامعات، فما لزوم هذه القاعات إذا كان بوسعنا أن نعرض على حائط من جهاز متخلف بدائي عتيق صورا باستخدام شريط فيديو أو أسطوانة.. مشروخة!

السبت، 14 فبراير 2009

فاروق حسني: نعم أدخلت المثقفين حظيرة وزارة الثقافة وأنا باق إلى ما شاء الله


عندما كتبت عن وزير الثقافة المصري فاروق حسني وقلت إنني أعارض ترشيحه أو وصوله لرئاسة اليونسكو، ونشرت مبرراتي في هذه المعارضة، قال لي بعض الأصدقاء: لماذا تبالغ ياأخي في معارضتك للوزير وهو "راجل كويس"، وهل أنت واثق أنه قال فعلا ما نسب إليه مثل ادخال المثقفين إلى الحظيرة وما شابه، وما دليلك على أنه يستخدم سياسة العصا والجزرة، ويمارس شراء المثقفين.
وعندي بالطبع عشرات الأسانيد والحجج الموجودة في أرض الواقع التي يمكن لأي كاتب لم يقرر بيع قلمه أو توظيفه في خدمة الوزير أو أتباع الوزير، أن يراه ويتحقق منه، ولكن هناك أيضا وثائق من كلمات الوزير نفسه ومن إخراجه وتلحينه.
الصحفي المعروف بانتهازيته التي تزكم الأنوف المدعو عبد الله كمال، وقد كان نكرة في الماضي القريب، كان قد أجرى حوارا مع الوزير "الفنان" كشف فيه الفنان عن رقته ورهافة حسه باستخدام أبشع الألفاظ بل والحديث بالأسماء عن المثقفين وكأنه اشتراهم ودفع لهم ثمن التزامهم بخط الدولة والعدول عن المعارضة بعد أن أصبحت "الفلوس أكثر" حسب تعبيرات الوزير الذي يصح أن يقال عنه الوزير "الحشاش" بدلا من الفنان بسبب طريقته الفظة في الكلام خصوصا عندما يظهر على شاشة التليفزيون، ويعوج رأسه ويغمض نصف عينيه ثم يأخذ في ترديد كلمات يرددها عادة بائعو الحشيش في حي الأنفوشي بالاسكندرية حيث نشأ وتربى السيد فاروق حسني، بل إنه يعرف أيضا كيف يهدد ويتوعد، ويلوح بقدرته على سجن من لا يعجبه من الكتاب المعارضين، ويصف الكاتب الكبير صنع الله ابراهيم بأنه مريض نفسيا وهو وصف يمكن أن يعرضه لطائلة القانون، هذا إذا كان قد ظل في "المحروسة" قانون غير قانون الفوضى والتهريج.
إليكم هنا نص حديث الوزير مع الصحفي الوصولي الذي تولى بعد ذلك منصب رئيس تحرير مجلة "روز اليوسف" إحدى أعرق المجلات الأسبوعية والتي عرفت بطابعها اليساري المعارض فحولها إلى بوق للنظام. وقد نشر الحديث بتاريخ 23 نوفمبر 2003).
======================================================
لست متأكداً هل سيغضب فاروق حسني، الإنسان والفنان، من نشر هذا الحديث المتفجر أم لا. ما أعرفه ـ سواء رضي فاروق حسني أو غضب، وحتى لو تراجع الوزير الفنان، ورأى أنه تسرع في الإدلاء بهذا الحديث ـ فإن رأيي فيه لن يتغير . أنا أعتبره، ومعي أغلب المثقفين غير المتشنجين، ولا الضالين، أفضل وزير ثقافة في تاريخ مصر. وهذا إقرار مني بذلك أمام الله والتاريخ وشرف الكلمة.

* ليس في استطاعتنا أن نبحر معاً ـ يا معالي الوزير ـ وسط هذه الأمواج الهادرة دون التوقف أولاً عند قضية الساعة.
هكذا بدأت أنا الكلام. وفوجئت بالوزير يقاطعني : أظن أنك ستسألني عن صنع الله إبراهيم. أليس كذلك؟ هناك في الحياة أشياء كثيرة أهم. صدقني. والغريب أن البعض لا يرونها.

* سألته : ما صحة هذه المقولة الشهيرة المنسوبة لك؟ هل قلت حقاً أنك أدخلت المثقفين في حظيرة وزارة الثقافة؟؟؟ هل قلت هذا حقاً يا معالي الوزير؟

* بالطبع قلت. ولمعلوماتك، قلت أشياء أخرى أجمل بكثير، فلماذا الإصرار على استحلاب جزئية كهذه بالذات؟ أنا أقول لك : لأن البعض يريدون إخافتي، وأنا أقول لهم لست هذا الشخص. أنا لست الوزير الذي يمكن أن تخيفه مجموعة من عشاق الجلوس على المقاهي. وماذا أقصد بهذه المقولة التي يبدو أنها غاظتهم كثيراً؟ المعنى واضح. قمت بإدخال المثقفين في حظيرة وزارة الثقافة. ومالها حظيرة الوزارة؟ عيبها أيه هذه الحظيرة السخية معهم؟ أليست هي التي تدفع لهم الأموال وتفتح بيوتهم؟ أليست هي التي تعطيهم النقود التي يشترون بها أقلاماً يستخدمونها في الهجوم علينا؟ كيف كانوا سيحصلون على ثمن الورق الذي يملؤونه بالنقد الهدام للوزير وكل الأنشطة التي لم يسبق أن قام بها أحد والحظيرة التي يأكلون منها؟ وقل لي أنت : من يدفع نفقات التفرغ؟ الحظيرة. ومن يتحمل تكاليف سفرهم ومؤتمراتهم ومعارضهم ونشر كتبهم وشراء مسرحياتهم وموسيقاهم
واستعراضاتهم؟ من؟ الحظيرة. ولو قمنا بإغلاق هذه الحظيرة، لكانوا أول من يطالبون بإعادة فتحها. لأن فتحها يعني فتح بيوتهم، والعكس معناه أن يعودوا لأيام زمان، ولا أريد أن أذكرهم بأيام زمان، وأنا أعرف أكثر مما يتصورون عن أيام زمان قبل هذه الحظيرة. كانت جائزة الدولة التشجيعية أيام زمان خمسمائة جنيه لا غير. فكيف أصبحت؟ خمسة آلاف جنيه. جائزة الدولة التقديرية أيام زمان كانت 2500 جنيه. والآن يرفض واحد مبلغ مائة ألف جنيه هي قيمة جائزة الرواية. إذن، فلقد ارتفع مستوى المعيشة بالنسبة للمثقفين. وبدلاً من أن يشكروا ربنا، ها أنت ترى.

* لأول مرة، أراه بهذا التوتر. ومع ذلك، أسأله : ما الذي تعنيه حين قلت أنك ستقوم بتوعية وتقويم صنع الله إبراهيم؟ البعض فسر الأمر باعتباره نوعاً من تحويل الحظيرة إلى سجن : إصلاح وتهذيب؟

* سأقول لك : صنع الله إبراهيم عاش حياته كلها في الظل. لا يتحدث عنه أحد. لا يذكره أحد. فجأة، صار موضوع الحديث المفضل على المقاهي. هذا بفضل المؤتمرات التي يشتمها. وبفضل الديمقراطية التي سمحت له بأن يقول كل هذا الكلام. ونحن نعرف أن صنع الله عاش في الظل خائفاً من اعتقاله مرة أخرى. وهذا واضح منذ روايته ( تلك الرائحة ) ومن أعماله وسلوكه عموماً. ولولا ثقته في أننا لن نعتقله، وأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية، لما صعد على المنصة، ليهاجم النظام والبلد والأمة العربية بأسرها. وأنا أعني أننا حين نقول له : لا تخف، فلن يعتقلك أحد، إنما نحن نعالجه من مرض الخوف، ونلعب في حياته دور التوعية والتقويم. وما نشره د. جابر عصفور ومفيد فوزي ومثقفون كبار، كسليمان فياض، هذا أيضاً نوع من التوعية والتقويم. وما يقدمه صلاح عيسى في جريدة القاهرة كل أسبوع، أنا أسميه توعية وتقويماً. وانظر كم واحد أصبحوا الآن أفضل. خذ عندك : أحمد بهجت، كامل زهيري، ومحمد السيد سعيد، وخيري شلبي، ووحيد عبد المجيد، ومحمد عمارة ومحمود السعدني، والسيد ياسين، وغيرهم وغيرهم، ما تعدش. كلنا نصبح أفضل حين ينشر لنا ونأخذ نقوداً خيالية، بالقياس لأيام زمان، مقابل ما نكتبه.

* وماذا عن المستقبل؟
* زي الفل. بكرة تشوف .

* ولم يكن في إمكاني أن أنهي الحوار دون أن ألقي عليه سؤال يردده الكثيرون : هل صحيح أنك مرشح لمغادرة الوزارة في أول تعديل؟
* قال ضاحكاً، وقد هدأت قسمات وجهه التي اضطربت خلال الفترة الأولى : أنا لا يستطيع أحد أن يغيرني. أنا واجهة النظام في الغرب. الشيء المشرف. الأمل في أن تصبح مصر عصرية. والاحتمال الوحيد لتغييري حين تتخلى القيادة عن هذا كله.

* عدت أسأل : معنى ذلك أنك باق في الوزارة إلى الأبد؟
* إجابته أذهلتني : لا. طبعاً لا. سأغادر الوزارة فقط عندما ينزل المتربعون فوق قمة الهرم من مكانهم هناك. وهذا شيء غير وارد حالياً. نحن في مركب واحد. لماذا لا تخبر أنت الحاقدين بذلك ليريحوا أنفسهم؟ أنا على قلبهم لطولون.

* وبقي سؤال : هل يقول ذلك لأن هذه هي الحقيقة أم لأنه يائس من الاستمرار هذه المرة
في موقعه؟ هذا ما سوف تثبته الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة.

الخميس، 12 فبراير 2009

توثيق تجربة الاعتقال وتدمير جنوب لبنان


جوانا حاجي توماس وخليل جريج مخرجان من لبنان، يعملان معا في وحدة سينمائية واحدة، ليس فقط بحكم أنهما متزوجان، بل بحكم الاهتمامات المشتركة والهم الواحد بل والانتماء لجيل واحد ايضا (كلاهما من مواليد 1969).
وقد أخرج الثنائي (جوانا- خليل) حتى الآن عددا من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة، كماأخرجا فيلما روائيا طويلا واحدا هو "في يوم ممتع" In a Perfect Day عام 2003. وكان فيلمهما الوثائقي الأول "خيام" عام 2000.
وقد عادا أخيرا وقاما بمد تجربة فيلم "خيام" (المصور بكاميرا الفيديو) على استقامتها، فصورا جزءا ثانيا من الفيلم يستكمل الصورة التي يعرضها، ويبحث في دلالاتها. وقد عرض الفيلم الجديد الشامل في الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام السينمائي التي انتهت مطلع الشهر الجاري، تحت عنوان "خيام 2000- 2007".
"خيام" هو اسم المعتقل الكبير الرهيب الذي أقامته القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان واستمر من 1982 إلى حين انسحاب تلك القوات في عام 2000، وكان يشرف على إدارته مع الإسرائيليين جنود فيما عرف باسم جيش لبنان الجنوبي أو الميليشيا الموالية لإسرائيل والتي تم تفكيكها بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، كما تم تصفية المعتقل.
كان هدف صانعي الفيلم في البداية تصوير الواقع داخل المعتقل في عام 1999، إلا أنهما لم يتمكنا من تحقيق ذلك، ولذا لجآ إلى الاستعانة بستة من المعتقلين السابقين (3 نساء، و3 رجال) في الجزء الأول من الفيلم الذي صور في 2000، لكي يروون قصتهم مع المعتقل، تجربة العيش داخل الأسر الطويل.
والشخصيات الست التي تظهر في الفيلم تمثل تنوع الانتماءات السياسية في لبنان، لكنها تجتمع في أتون تلك التجربة المريرة، أي تجربة الاعتقال، التي يتفق الجميع على أنها كانت تخص الجميع أيضا ولا يجب أن ينسبها حزب سياسي معين إلى نفسه، أي لا ينبغي التأكيد على ما قدمه أفراد ينتمون لحزب سياسي معين من تضحيات في المعتقل الرهيب، ويغفلون ما قدمه الآخرون.
وهنا إشارة واضحة إلى حزب الله اللبناني الذي يسيطر على المنطقة التي انسحبت منها إسرائيل في الجنوب، ويتحكم اليوم، كما يتردد في جزئي الفيلم، في كل ما يتعلق بالمعتقل وتاريخه، بل إن بعض الشخصيات الست تقول مباشرة: طبيعي أن يكتب الطرف المنتصر تاريخ ما وقع بما يتلاءم مع رؤيته.
التجربة المشتركة
الشهادات التي قدمها المعتقلون السابقون الستة في الجزء الأول، تهدف إلى رواية تاريخ جزء من تاريخ المقاومة اللبنانية، وتؤكد على التجربة المشتركة، وعلى التضحيات التي قدمها الجميع، ومنهم فتيات كن في غرة الشباب وتعين عليهن قضاء عشر سنوات أو نحو ذلك في السجن، جزء منها أيضا في الحبس الانفرادي.
إلا أن الشخصيات التي نراها أمام الكاميرا، رغم مرارة التجربة وأثرها العميق على حياتهم، نضجت تجاربهم في ضوء تجربة الاعتقال، وربما أيضا بسبب تقدم وعيهم السياسي أصبحت لديهم القدرة على تحليل وفهم ماحدث لهم، واستيعاب التجربة دون أي رغبة في نسيانها بل وفي الجزء الأول نستمع إلى تجربة معظمهم في العودة إلى المعتقل بعد الانسحاب الاسرائيلي، ورغبتهم في أن يتحول إلى متحف للذاكرة.

أما الجزء الثاني المصور في 2007 فيقدم صورة مختلفة حتى للشخصيات الست نفسها التي بدا عليها تقدم العمر والأثر الفادح الذي تركته التجربة القاسية على ملامح الوجوه.
وفي الشهادات الأخيرة لهم يتحدثن بمرارة عن كيف تحول مكان المعتقل إلى بضعة خرائب الآن بعد أن كان من أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، تدمير المعتقل ومحو آثاره حتى لا يبقى شاهدا على تلك التجربة لدى عموم اللبنانيين.
ويتحدث بعضهم كذلك عن إهمال الحكومة اللبنانية للمكان، الذي كان يتعين ضرورة إحياؤه بشكل ما، كما يقولون، وجعله دائما تذكرة لما فعله الاحتلال، وشاهدا على الثمن الذي كان يتعين دفعه من أجل إجلاء الاحتلال.
قوة الشهادة المباشرة المصورة هي الجانب الأكثر بروزا في الفيلم الذي يستغرق عرضه 105 دقيقة. فأنت تترك كمشاهد، أمام الشخصية التي تتكلم وتعبر في إطار لقطة متوسطة أو لقطة قريبة للوجه، بحيث تظهر الملامح والانفعالات بوضوح، كما لا يتدخل أي عامل خارجي في إضافة أي تأثير على الصورة.
خلفية مجردة
ويعمد المخرجان إلى تصوير الشخصيات الست التي تظهر في الجزء الأول، أمام خلفية مجردة لا تدل على المكان، وفي الجزء الثاني، يدور التصوير في مكان خارجي في بعض الأحيان، نعرف ذلك من خلال ضجيج المكان الخارجي، دون أن نرى تفاصيله.
ولا يخرج الفيلم إلى الخارج بوضوح إلا في المشهد الاخير منه حينما تتابع الكاميرا بالتفصيل أطلال المعتقل وما حل به من دمار.
وربما يكون المخرجان قد لجآ إلى هذا الأسلوب (التوثيقي) الجاف، بدلا من تصوير الشخصيات داخل المكان، وكان هذا ممكنا في الجزء الأول الذي صور قبل تدمير اسرائيل للمعتقل، أو في أطلاله في 2007، لكي يكون التركيز هنا على الإنسان، في تجربته المباشرة، لكن المؤكد أيضا أن العمل كان سيصبح أكثر حيوية ويتخلص من الطابع الجامد للصورة التي تتطلب جهدا كبيرا من المشاهدين في التركيز، لاستيعاب كل ما يتردد من تفاصيل حول التجربة.

بدي أشوف
أما الفيلم الثاني لنفس المخرجين (جوانا وخليل) فهو بعنوان "بدي أشوف" (76 دقيقة)، ويوثق بكاميرا الفيديو أيضا، الزيارة التي قامت بها الممثلة الفرنسية الشهيرة كاترين دينيف (سفيرة النوايا الحسنة للأمم المتحدة) إلى جنوب لبنان لكي تتفقد آثار ما حل بالجنوب من دمار بعد الحرب التي شهدتها المنطقة بين إسرائيل وحزب الله في صيف 2006.
ويبدأ الفيلم من بيروت، مع وصول دينيف واستقبالها ثم تخصيص مرافق لها، هو الممثل اللبناني ربيع مروة، الذي يقود السيارة التي تقلها ويصاحبها ويتبادل معها الحديث بفرنسيته المحدودة طيلة الوقت.
لغة الفيلم
ويختلف أسلوب الفيلم تماما عن أسلوب الفيلم السابق في اعتماده على التصوير الخارجي المباشر، وعلى تحريك الكاميرا، وخلق تكوينات موحية للصورة، والاستخدام المؤثر للقطات "الكلوز أب" أو اللقطات القريبة، والتمكن من اقتناص الكثير من اللحظات التلقائية المؤثرة كما نرى عندما تضل السيارة طريقها وتدخل منطقة مليئة بالألغام الأرضية في جنوب لبنان، ويتعين على طاقم الفيلم اللحاق بالسيارة وايقافها ثم اعادتها إلى الطريق الآمن.
تقوم دينيف أولا بزيارة الضاحية الجنوبية من بيروت حيث يتركز أنصار حزب الله، وتستعرض الكاميرا الآثار الهائلة لما لحق المنطقة من دمار، وترصد الكاميرا تأثير ذلك على وجه دينيف التي تعجز احيانا عن الحديث أمام ما تراه، وترتبك، وتبدو خائفة، تريد أن تنسحب بسرعة.
وعندما يتوجه الاثنان إلى الطريق المؤدية إلى جنوب لبنان، تقول لمرافقها إنها نسيت وضع الحجاب لتغطية رأسها، فيقول لها ربيع: لا يهم، على أساس أنها شخصية أجنبية معروفة.
في الجنوب الملصقات التي تحمل شعارات حزب الله وصور مقاتليه الذين قتلوا خلال الحرب تملأ الطريق في كل مكان، وأطلال المنازل والبنايات تصنع كتلة سيريالية من اللامعقول المعماري لدرجة أن ربيع الذي يتوجه للبحث عن بيت جدته لا يمكنه حتى التعرف على الموقع الذي كان البيت يشغله، ولا على أي أثر يشير إلى ما تبقى منه.
لا تتحمل دينيف أيضا قسوة المشاهد التي تراها، ولا يمكنها أن تخفي علامات الخوف على وجهها. وعندما يسألها ربيع ما إذا كانت ستعود مرة أخرة إلى لبنان لا تجيب.
وينتهي الفيلم بحفل على شرف دينيف تقيمه السفارة الفرنسية في بيروت، حيث تجد دينيف نفسها تبحث بانفعال حقيقي دون وعي منها، عن ربيع إلى أن تراه فتبتسم ابتسامة الاطمئنان.
وإلى الخارج تخرج بنا الكاميرا، إلى الشوارع وإلى حركة البشر والسيارات في بيروت، دلالة على استمرار الحياة.

الثلاثاء، 10 فبراير 2009

"المليونير الصعلوك": يكسب الفلوس والبنت الحلوة، ويفوز بكل الجوائز!



لم أكن في يوم من الأيام منساقا وراء ما يكتبه النقاد في الغرب، أتبنى ما يكتبونه إشادة أم ذما في الأفلام، بل كان لي رأيي الخاص الذي يعبر عن رؤيتي وثقافتي الخاصة، ولعل هذا قد اتضح تماما عند تناولي لأفلام مثل "سكر بنات" و"زيارة الفرقة" و"الجنة الآن" و"الرقص مع بشير" وغيرها.
وسأغامر هنا مجددا بالسباحة عكس التيار السائد الذي يكيل المديح شرقا وغربا للفيلم البريطاني "المليونير الصعلوك" وكأننا أصبحنا أمام فتح جديد في عالم السينما بينما يمكن أن يزعم المرء أن في سينمانا الكثير من الأفلام التي تتجاوزه في الفن (وربما ليس في الحرفة أو الصنعة) دون أن تنال أي قسط من هذا الاهتمام المثير للريبة قبل أن يكون مثيرا للاهتمام!
وعادة ما تتفق الأوساط السينمائية الغربية كل عام على الوقوف وراء فيلم معين يحولونه إلى أيقونه ويجعلون منه ظاهرة، تنتقل من هنا إلى هناك، وتحصل على الجوائز في كل تظاهراتهم السينمائية سواء بالحق أم بالباطل. و"المليونير الصعلوك" هو فيلم الفترة الحالية على صعيد الأفلام الشعبية الناطقة بالانجليزية، وفيلم "الرقص مع بشير" الإسرائيلي هو معادله "العبري"أي الفيلم الناطق بغير الانجليزية، والمطلوب أيضا تسويقه في العالم كنموذج على "كيف تتمكن إسرائيل من تطهير نفسها بالنقد".. وبالها من دولة تملك أن تحارب ثم تعترف بالذنب، وليس لأنه تحفة زمانه ومكانه بالطبع رغم أنني لا اقلل من قيمته الفنية، لكن ليس هذا هو ما يهم نقاد الغرب (وتوابعهم العرب) الذين يزفونه بالطبل وبالمزمار، ولكن هذا موضوع آخر ربما عدت إليه فيما بعد.
هناك ترجمات عربية متعددة للفيلم البريطاني Slumdog Millionaire فالبعض يترجمه "مليونير أصله فقير" والبعض الآخر "مليونير أصله صعلوك" أو "المليونير الصعلوك وأخيرا هناك من ابتكر اسما يتسق تماما مع واقعنا ويتسق مع أفلام العشوائيات التي ظهرت خلال الفترة الأخيرة، عن سكان العشوائيات وأطفال الشوارع، فأطلقوا عليه "مليونير العشوائيات" وهي تسمية مناسبة تماما في الحقيقة. ولعل وجود كلمة dog أي "كلب" في تركيب الكلمة الثانية من عنوان الفيلم أثار بعض الالتباس (فقد فهم أن المقصود "كلب العشوائيات المليونير") حتى أنه وقعت بعض الاحتجاجات العنيفة في أوساط سكان العشوائيات في بيهار بالهند، كرد فعل على العنوان الذي اعتبروه مهينا، بل إن بعضهم قاموا بحرق دمية للمخرج "داني بويل" في 56 عشوائية هناك. واعترض سكان العشوائيات في مومباي (حيث صور الفيلم) على العنوان أيضا واضطر المخرج وفريق الفيلم إلى الرد على تلك الاحتجاجات بتوضيح أن العنوان لا يقصد منه الاهانة. والغريب بعد ذلك أن أحد الصحفيين العرب كتب عن الفيلم بعد أن أطلق عليه اسم "المليونير الكلب ابن الأحياء الفقيرة"!
أما الفيلم نفسه فقد أحيط بهالة من الأضواء والتقدير والاهتمام الإعلامي لم يحدث أن حظى بها فيلم منذ فترة طويلة خاصة بعد فوزه بالجولدن جلوب أو الكرة الذهبية، ثم بافتا البريطانية وينتظر أيضا حصوله على الأوسكار.
وربما ترجع أسباب الاهتمام الكبير إلى كون الفيلم يجمع بين الشرق والغرب، بين موضوع يدور في الهند بل وينطق في بعض أجزائه باللغة الهندية، وأسلوب سينمائي أو بالأحرى "صنعة" سينمائية غربية متقنة إلى حد كبير، بين قصة بسيطة ذات طابع ميلودرامي، وبين أسلوب يعتمد على الإيقاع السريع والمزج بين الأزمنة خلافا للسينما الهندية بالطبع التي تميل إلى الإيقاع البطيء والإطالة والاستطرادات والمبالغات وإن كان هذا الفيلم لا يخلو من بعض هذه الجوانب أيضا.
أولا: يتعين علينا أن نعرف أن منتج الفيلم هو نفسه صاحب حقوق البرنامج التليفزيوني الشهير "من يريد أن يصبح مليونيرا؟" (وهو برنامج انجليزي أساسا بيعت طبعاته العربية والهندية وغيرهما)، ولاشك أن الفيلم يعد على نحو ما، نوعا من الترويج والدعاية للبرنامج الشهير.
ثانيا: تحتوي قصة الفيلم على عناصر درامية وميلودرامية وعاطفية رومانسية وكوميدية، ولذلك يرضي الفيلم الكبار والصغار، ويبدو مصمما في بناء السيناريو، الذي يعتمد على رواية صدرت قبل ثلاث سنوات في الهند وحصدت رواجا كبيرا، بحيث لا يقتضي من المتفرج جهدا كبيرا في الإلمام بأطراف الموضوع أو التفكير والبحث عن دلالات للأشياء.
أما قصة الفيلم فلاشك أنها أصبحت معروفة الآن على نطاق واسع، ومع ذلك فأساس حبكتها أن صبيا مراهقا يتمكن من الفوز بعشرين مليون روبية في برنامج "من يريد أن يصبح مليونيرا؟" رغم أصله المتواضع وأنه لم يكمل تعليمه فيقبض عليه رجال الشرطة الذين يشكون في أنه حصل على إجابات عن أسئلة البرنامج عن طريق التحايل والغش، ويقومون بتعذيبه بوسائل بدائية لمعرفة كيف حصل على الإجابات الصحيحة.
ويتعين على هذا الصبي (واسمه جمال مالك وهو من مسلمي الهند) أن يفسر تمكنه من الإجابة عن كل سؤال على حدة، وفي كل مرة يعود بنا الفيلم في "فلاش باك" أي عودة في الزمن إلى جانب من حياة "جمال" المأساوية كطفل من أطفال الشوارع تعرض للكثير من المحن وفقد صلته بشقيقه "سليم" الذي أصبح يعمل في خدمة أحد كبار المجرمين في مومباي، كما فقد الصلة مع "لتيقة" (أو لعلها "لصيقة") الفتاة التي ارتبط بحبها منذ الطفولة.
ما يحدث على مسار الفيلم بعد ذلك يمكن متابعته باسترخاء ودون أي مجهود، لأنه متوقع في سياق "الحبكة" التي تفقد أي نوع من الإثارة بعد مضى الثلث الأول من الفيلم، فكل ما يقع من تطور للفتاة (تصبح عشيقة بالإكراه للمجرم) واستتابة سليم بعد فوات الأوان، وإنقاذه للفتاة ودفع الثمن حياته على أيدي أفراد العصابة، تقليدي وسبق أن شاهدناه في الكثير من الأفلام المصرية القديمة التي ربما كانت أكثر إقناعا. والنهاية السعيدة التي ينتهي إليها الفيلم بالتوفيق بين "جمال" و"لتيقة" متوقعة أيضا وطبيعية في فيلم من هذا النوع. وفي الوسط هناك مشاهد اختطاف الأطفال وإحداث عاهات بهم لدفعهم للعمل كشحاذين لحساب عصابات متخصصة، وهي "تيمة" سبق أن شاهدناها أيضا في الكثير من الأفلام المصرية القديمة بشكل أفضل كثيرا خاصة في فيلم "ملك الشحاتين" وبشكل أكثر خفوتا في "زقاق المدق" عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة التي تتفوق على الفيلم في تناولها الموضوع بشكل أكثر عمقا منذ أكثر من خمسين عاما!
ويمكن القول إن سيناريو الفيلم هو سيناريو "بدائي" بالمعنى الحرفي، أي أنه يلتزم بالقواعد الأولية في البناء الدرامي وبناء الشخصيات ودفع الأحداث، دون أي محاولة للتعمق في الدوافع والخلفيات الشخصية وسبر أغوار فكرة الحلم بالثراء ومغزى الصعود في مجتمع يعاني من الفقر المدقع، وتقديم صورة حقيقية من الداخل لمجتمع العشوائيات بعيدا عن تلك الأنماط السطحية التي خبرناها مرارا في الأفلام المشابهة: الزحام الهائل، المستنقعات وقنوات المياه الراكدة التي تغسل فيها النساء الملابس، القطارات المختنقة بالبشر، مظاهر الفقر المدقع، وغيرها.
ولعل ما أوقف هذا السيناريو البسيط لحد البدائية على قدميه، هو الإخراج المتمكن الواثق للمخرج الإنجليزي داني بويل صاحب "قبر سطحي" "رصد القطارات" والذي لم يحقق نجاحا منذ هذين الفيلمين كما حقق في "المليونير الصعلوك" رغم أنه أخرج 11 فيلما روائيا طويلا للسينما حتى الآن بعد ان عمل لسنوات لحساب التليفزيون.
نجاح الإخراج يتمثل في السيطرة على إدارة التصوير والتحكم في إيقاع المشاهد خاصة تلك التي تدور في الأماكن الطبيعية، والتحكم في أداء الممثلين، وفي الإيقاع العام للفيلم والإبقاء عليه سريعا لاهثا مع خلفية موسيقية تتناسب مع أجواء الميلودراما. لكن المشكلة أن بويل يراهن على استخدام طريقة "المونتاج المتوازي"، أي تصوير حدثين يتقاطعان في وقت واحد، كوسيلة للإثارة ولكن بدون نجاح في الثلث اأخير من الفيلم، فالمشاهد يعرف منذ بداية الفيلم أن "جمال" سيفوز بمسابقة برنامج "المليونير"، وكان استخدام أجواء الإثارة والترقب التي تتولد من طريقة تقديم البرنامج، التي يحفزها جمهور المشاهدين عن ظهر قلب، طريقة مفتعلة ومستهلكة ولا تثير أي اهتمام لأننا نعرف مسبقا النتيجة. والغريب أنه يجعل جمال يتوجه لاستكمال البرنامج في الليلة الثانية بعد أن تعرض لأشكال من التعذيب الرهيب، دون أن يبدو عليه أي انهاك بل يبدو وقد تحسنت صحته وازداد رونقهّ!
ولكن لاشك في التصويرالبارع للفيلم، وفي نجاح المصور في اقتناص الكثير من اللقطات الخارجية، وخلق صور تنبض بالحياة والحرارة كما في مشاهد الأحياء الفقيرة في مومباي، والابتكار في زوايا التصوير وتنويعها واختيارات الألوان التي تتناسب مع ألوان الهند حتى لتكاد تشعر بحرارتها، وهو إنجاز في مجال الصورة لاشك أنه يستحق التقدير.
لكن لاشئ يبقى في النهاية من هذا الفيلم الذي أثيرت ولاتزال تثار من حوله ضجة صحفية وإعلامية هائلة، تتجاوز كثيرا أهميته وحجمه، سوى دقة "الصنعة" وتمكنها، أما ماعدا ذلك، فكله سيذهب هباء بعد أن ينتهي موسم الجوائز، وبعد أن يحصد "المليونير الصعلوك" كل الجوائز بعد أن فاز بالمال ونال الفتاة الحلوة أيضا!

الاثنين، 9 فبراير 2009

جائزة بافتا لأحسن فيلم لـ"المليونير الصعلوك"


البريطانيون يحاولون سباق الأمريكيين، فبعد أن كانت جوائز السينما البريطانية المعروفة باسك "بافتا" (الحروف الأولى من الأكاديمية البريطانية لعلوم وفنون السينما والتليفزيون) تعلن بعد الأوسكار فأصبحت تسبقها، بل وتتنافس معها على نفس الأفلام والترشيحات.
مساء الأحد أعلنت جوائز بافتا التي لم تشكل أي مفاجآت من أي نوع. فقد حصل الفيلم البريطاني "ميلونير أصله صعلوك" لداني بويل على جائزة أحسن فيلم كما نال جائزة أحسن مخرج.
أما جائزة أحسن فيلم بريطاني فذهبت إلى فيلم "رجل على السلك". وحصل ميكي رورك في "المصارع" على جائزة أحسن ممثل، كما حصلت كيت ونسيلت على جائزة أحسن ممثلة عن دورها في فيلم "القارئ".
وحصل الراحل هيث ليدجر على جائزة أحسن ممثل مساعد عن دوره في فيلم "فارس الظلام"، والممثلة بنيلوب كروز على أحسن ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم "فيكي كريستينا برشلونة" لوودي ألين. وفاز فيلم الرسوم "الحوت" بجائزة أحسن أفلام الرسوم متفوقا على "الرقص مع بشير" الإسرائيلي، و"برسيبوليس" الفرنسي الإيراني. ولا مفاجآت في جوائز بافتا إلا أن جائزة أحسن فيلم بريطاني أثارت جدلا فلماذا لم يفز بها فيلم "المليونير" الذي يبدو أنه اصبح أيقونة العام الجاري لأسباب لم يدرسها أحد بعد، فما السر الذي يجعل الغرب يهتم كثيرا بقصة ولد من عشوائيات الهند؟ ولماذا لا تنجح الأفلام المشابهة الميلودرامية العاطفية التي تنتج في بوليوود في الغرب؟ سؤال كبير لم يجب عليه أحد. ربما تكون لدينا اجابة بعد مشاهدة هذا الفيلم- الظاهرة الذي بات من المؤكد أنه سيفوز بالأوسكار أيضا فهذه هي "الموضة" السارية هذه الأيام!

كيت ونسليت في فيلم "القاريء"

الجمعة، 6 فبراير 2009

رسائل الأصدقاء

* الصديق العزيز المخرج رشيد مشهراوي أرسل يقول إنه أنهى تصوير فيلم وثائقي جديد يعنوان "الحمالون" حول أطفال العراق أثناء الحرب على أطفال غزة.
* وصلتني رسالة من القارئ محمد مفتاح من ليبيا يقول فيها إنه لا يعرف لماذا توقفت مجلات السينما في العالم العربي هل لأنه ليس هناك جمهور لها أم لأنها لم تكن ناجحة، وكيف يمكن أن تنجح"؟رأيي الشخصي المتواضع في هذا الموضوع المحير أن جمهور السينما في عمومه لا يقرأ، والجمهور الذي يقرأ لا يشاهد السينما لأنه يعتبرها أدنى من الأدب مثلا، ولكن السبب الأهم يرجع إلى أن القطاع المهتم من الجمهور يمكنه حاليا الحصول على ما يرغب عن طريق الانترنت ولا حاجة به لشراء مجلات (ورقية)، بل وقد اصبحت هناك كتب متوفرة أيضا على شبكة الانترنت سواء بشكل قانوني أو غير قانوني في معظم الأحيان، فما حاجتنا إلى مطبوعات!
هذه وجهة نظر لا أتفق معها بالطبع لأني شخصيا لا أنشر كل شئ عندي في هذه المدونة بل أحتفظ بالغالبية العظمى من كتاباتي لكتب أرجو أن أتمكن من إصدارها.
* رسالة أخرى من القارئ سامح علاء من مصر يقول فيها:"في البداية احب ان اشكرك علي المدونه الرائعة ، اني متابع لها بشكل يومي. كنت اريد ان اسألك بعض الأسئلة: من اين يمكنني شراء كتاب السينما كفن تخريبي والمصباح السحري لبيرجمان مع العلم اني اعيش في القاهرة، والسؤال الثاني اين مقالاتك عن جان لوك جودار وجلوبر روشا، والسؤال الثالث هل يوجد كتب لجان لوك جودار في القاهرة؟ . و شكرا".
واضح طبعا أن صديقنا سامح من المهتمين بالقراءة في السينما، وبقراءة الكتب بوجه خاص، والكتب المتخصصة أيضا وليست العمومية عن النجوم والسينما الشائعة الأمريكية. وهذا يثبت أن القارئ المتخصص موجود.
أما بخصوص شراء كتب السينما وغيرها فأنا شخصيا أعتمد على مؤسسة أمازون في شراء معظم ما يلزمني منها. ويمكنك مخاطبتها عن طريق الانترنت بشرط أن تكون لديك بطاقة دفع الكترونية. واليك العنوان http://www.amazon.com/وعليك البحث في قسم الكتب عن كتاب السينما كفن تخريبي Film As a Subversive Art وكتاب The Magic Lantern للراحل العظيم برجمان. وجدير بالذكر أن كتاب "السينما كفن تخريبي" كان قد ظل لسنوات منشورا على الانترنت في موقع http://www.subcin.com/subindex.htmlإلا أن المسؤولين عن الموقع، نزولا على رغبة المؤلف آموس فوجل، رفعوا الكتاب تمهيدا لإعادة إصداره عن طريق دار للنشر في الولايات المتحدة. وعموما يمكن الدخول إلى هذا الموقع للتعرف على محتوياته لهواة وعشاق ما يمكن أن اطلق عليه "السينما المتطرفة".. في جمالياتها طبعا!
أما بخصوص مقالاتي عن جودار فهي مقالات منشورة منذ سنوات لأن جودار لم يقدم فيلما جديدا منذ عدة سنوات، ولكني أستعد مستقبلا لإعداد كتاب كامل عن أعمال جودار وجمالياتها أعيد فيه مراجعة أفلام هذا السينمائي الذي غير تاريخ السينما، وأشرح تحديدا كيف كان تأثيره علينا عندما كنا صغارا نبحث في العلاقة بين السياسة والسينما. أما جلوبير روشا البرازيلي المؤسس لحركة السينما الجديدة في البرازيل في ستينيات القرن الماضي، وصاحب نظرية "جماليات الجوع" فهو يستحق أيضا تسليط الأضواء عليه لمن لا يعرفه، وأعد بأنني سأفعل بل أنا سعيد لأن سامح حدد هوية هذه المدونة بشكل دقيق عندما طرح تساؤلاته حول هذين المخرجين تحديدا.
أما السؤال الثالث المتعلق بتوفر كتب في القاهرة عن جودار فلا أظن أن أحدا أصدر أي كتاب عن جودار لكن بعض الكتب (منها كتاب لمدكور ثابت) تناولت بعض أعماله. وسؤالك بالفعل يفضح هشاشة وسطحية وانتقائية حركة ترجمة الكتاب السينمائية في مصر والعالم العربي، وربما يكون موقف المؤسسات الرسمية التي تنشر الترجمات تخشى الاقتراب من جودار تحديدا لأسباب يطول شرحها هنا.وبعد أن كتبت هذا الرد وصلتني رسالة من الصديق العزيز الأستاذ خالد السرجاني يلفت انتباهي إلى أن ترجمة لكتاب "السينما كفن تخريبي" صدرت باسم "السينما التخريبية" عن دار الحصاد فى سوريا فى منتصف التسعينات.
================================================

تصويب:
في نطاق تصويب ما يتوالد في الصحافة العربية من معلومات خاطئة أود أن أشير إلى أن الناقد السينمائي سمير فريد كتب في عموده اليومي باحدى الصحف في إطار عرضه لترشيحات الأوسكار فقال إن فيلم "فروست/ نيكسون" عرض للمرة الأولى في ختام مهرجان سالونيك باليونان (23 نوفمبر 2008)، وقد نقل عنه زميل آخر وكرر نفس الخطأ، ولم أفكر في تصحيح ما نشر إلا بعد تكراره واستنساخه دون تدقيق.
والصحيح أن "فروست/ نيكسون" عرض للمرة الأولى في العالم أي قبل عرضه في الولايات المتحدة (بلد الإنتاج) ليس في "مهرجان متوسط" كما قال سمير فريد، يقصد "متوسطي" هو سالونيك بل في افتتاح مهرجان لندن السينمائي في 15 أكتوبر 2008 ونشر مقالي عنه في موقع بي بي سي في اليوم التالي مباشرة أي في 16 أكتوبر. ولذا لزم التصحيح.

هل امتد التأثير الإيراني للسينما الجزائرية؟


الفيلم الإيراني "كن هادئا وعد إلى سبعة" هو الفيلم الروائي الأول لمخرجه راتمين لافافيبور، وهو أيضا أحد الأفلام التي حصلت على تمويل من مشروع "هيوبرت بالس" المخصص لدعم التجارب الطليعية في سينما العالم في إطار مهرجان روتردام السينمائي.
وشأنه شأن معظم أفلام السينما الإيرانية "الجديدة" أي تلك الموجة من الأفلام التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، يمزج هذا الفيلم بين الروائي والتسجيلي، ويبتعد عن المدينة إلى قرية على الساحل، ويجرد موضوعه بحيث لا تصبح له ملامح إيرانية محددة بل يكتسب بعدا كونيا في المطلق، ويجعل بطله طفلا ينضج على نار التجربة قبل الأوان، وكلها عوامل مشتركة في معظم نتاجات السينما في إيران.
دور الصورة
هذه الملامح التي تعلي بلا أدنى شك، من دور الصورة على حساب الممثل، ومن دور المفردات الشعرية الخالصة على حساب الحبكة، هي أيضا نتاج لمنهج وطريقة المخرج عباس كياروستامي الذي يعد الأب الروحي للسينما الإيرانية الجديدة.
ولكن المحصلة السلبية لهذا الاتجاه أنه لا يعرف كيف يتطور، ولا كيف يخرج من الشكل النمطي المألوف الذي حبس نفسه فيه، ولا كيف يقيم علاقة حقيقية مع جمهوره في الداخل بعيدا عن جمهور المهرجانات السينمائية الدولية (الأوروبية أساسا) من الراغبين دائما في رؤية "المختلف" و"الغريب" و"المثير" exotic و"الغامض" في ثقافة الآخر الذي يعتبر مختلفا حتى بمقاييس الحضارة الحديثة.
خطورة هذه النظرة "الأوروبية" الأبوية للسينما التي تأتي من إيران، أنها تجعل البؤس "الجميل" إذا جاز التعبير، موضوعا في حد ذاته، وهذا تحديدا موضوع هذا الفيلم.
بطل الفيلم طفل لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره، يعيش في قرية من قرى الصيادين الفقيرة على الساحل في جنوب إيران.
ومع تدهور أحوال الصيد يتجه سكان القرية إلى كسب عيشهم من التهريب، أوبالأحرى، المساعدة في تهريب البضائع التي تأتي عن طريق البحر في قوارب عديدة تهبط فجأة فيهرع العشرات من سكان القرية، وخصوصا نساؤها اللاتي يغطين وجوههن، لحمل الصناديق التي تحوي السلع ونقلها إلى بيوتهن حين يتم تحميلها فيما بعد على ظهر شاحنة يقودها وكيل المهربين في المنطقة.
الصبي "موتو" يعيش مع والدته وشقيقته، ويبذل كل جهده في العمل لكي يعيل الأسرة بعد أن غاب والده في رحلة صيد ومضت عدة أيام دون أن يرجع.

غير أن "موتو" يملؤه اليقين بأن أباه سيعود، ولكن مع استمرار غياب الأب، وبعد أن تمر سبعة أيام على غيابه يريد موتو أن ينتقل إلى الجانب الآخر من البحر لكي يتحقق من الأمر: هل مات والده، فهناك يمكن رؤية جثث الغرقى الذين يلقي بهم البحر.
لكن الحياة ليست سهلة، فتدريجيا ينغمس موتو في مساعدة المهربين، بل ويعرض أن يقوم أيضا بتهريب البشر، ويظل يبحث دون كلل، عن اللؤلؤ داخل قواقع البحر التي يصطادها ويشقها، إلى أن يعثر بالفعل على واحدة يجد داخلها لؤلؤة صغيرة.
مقابل اللؤلؤة يحصل من المهرب على معطف لوالدته، وقميص يحمل رقم عشرة واسم لاعب كرة القدم الأرجنتيني الشهير رونالدينو.
تستمر الحياة على ايقاعها، الجميع فيها أشقياء: الأهالي الذين يسعون للتغلب على شظف العيش بالمشاركة في التهريب، ورجال الشرطة المكلفين بمطاردتهم والقبض عليهم، ولذا فإنهم يغلبون روح التضامن الإنساني على التمسك بأداء المهمة.


الطابع التجريبي
ما الذي يحدث بعد ذلك؟ لا شئ.. فالمخرج يغلف اللقطات الخلابة للشاطئ والبحر والقوارب التي تندفع بقوة فوق سطح الماء، بسحر المكان، ويستخدم أحيانا الكاميرا المهتزة المحمولة لخلق تكوينات بصرية متنوعة تعبر عن قسوة حياة البشر، في لغة سينمائية يغلب عليها الطابع التسجيلي، ويتراجع فيها الموضوع أو يصبح مجردا على نحو يردنا إلى فيلم "العداء" The Runner (1984) للمخرج أمير ناديري الذي كان أول فيلم يلفت الأنظار إلى السينما الإيرانية في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية.
هذا الطابع "التجريبي" الذي يقوم على التلاعب الدائم في الشكل، يفترض أن يكون مقصودا من أجل أن يوصلنا إلى شئ ما، إلى اكتشاف جوهر السينما والتعامل مع عالمنا وأناسه من خلال خصوصيته أيضا، لا أن يتركنا دائما عاجزين عن القبض على زمام الأشياء، ورد الأمور إلى مسارها الطبيعي الأرضي، أي تحديد دور الإنسان فيها بوضوح بدلا من الهرب إلى التجريد المطلق.

داخل البلاد
التجريب الإيراني في السينما أثبت نجاحه في أوساط السينما الغربية التي تنبهر عادة بالغريب وغير المألوف، ترحب بالسهل والبسيط والتجريدي والأحادي البعد و"الإكزوتي" في صوره ولقطاته، وبالتالي بتحويل الإنسان إلى مجرد صورة شاحبة غير محددة المعالم، وكأن الإنسان لم يصنع تلك الحضارة الهائلة التي تمتد إلى آلاف السنين، بل لايزال شبحا هائما يتبدى ويختفي حسب الحالة النفسية والمزاجية.
هذا "المفهوم" للسينما امتد أيضا إلى الفيلم الجزائري "داخل البلاد" Inland للمخرج طارق تقية.

"داخل البلاد" (أو قِبلة Gabbla) فيلم يمتد 137 دقيقة، صوره مخرجه أساسا بكاميرا الفيديو الرقمية قبل أن يحوله إلى شريط سينمائي، وهو من التمويل الفرنسي وإن كان قد صور بأكمله في الجزائر.
بطل الفيلم مهندس يرسل في مهمة إلى منطقة نائية في أعماق الصحراء، لمد خطوط الطاقة الكهربائية.
هناك يبدو بطلنا هذا "مالك" وكـأنه مقطوع الصلة تماما بالعالم. لكن الأمر ليس كذلك، فهو يسمع أصوات انفجارات قريبة ليلا لا يعرف مصدها. ثم يجد نفسه محل شك من رجال الشرطة الذين يتشككون فيه وفي طبيعة مهمته في تلك المنطقة، فالمناخ العام مناخ شك وريبة.
وفي الجزء الأول من الفيلم ينتقل المخرج على شكل "فلاشات" سريعة لمشاهد تجمع عددا من الأصدقاء في المدينة يتناقشون في كل شئ ويعبرون عما يشعرون به من إحباط بسبب عجز السياسات، وفشل مشروع الدولة المدنية الحديثة، وظهور الإرهاب.
هناك أحاديث مباشرة حول الديمقراطية والعنف والسلطة والثورة والحداثة ولكن من خلال لغة خطابية مباشرة تتناقض تماما مع الصور الممتدة الصامتة التي سننتقل إليها مع انتقال البطل إلى تلك البقعة المجهولة.
لكنها ليست مجهولة تماما، فبطلنا يكتشف أنها بمثابة معبر للهجرة من الجنوب إلى الشمال، من افريقيا إلى اسبانيا. ويلتقي ذات يوم بفتاة افريقية سوداء، جاءت على ما يبدو من النيجر تريد الفرار من هذا الجزء من العالم بأي ثمن.
غير أن الحوار بين مالك وهذه الفتاة حوار صعب فهي تتكلم الانجليزية التي لا يفهمها، ويكلمها هو بالعربية، لكنه يفهم ويرى أنها خائفة، لا تريد العودة، وهو لا يعرف ماذا يخيفها إلى هذا الحد.
يؤويها عنده بعض الوقت، ثم يقرر مساعدتها في قطع الطريق الشاق، إلى الحدود الجنوبية الغربية ومن ثم يمكنها أن تجد طريقها إلى الساحل.
وطوال الرحلة يتأمل مالك، ونحن معه، في البشر وفي الطبيعة ويدرك كيف يذوب الإنسان في الطبيعة، وكيف يصبح جزءا منها.

تدريب خاص
معظم لقطات الفيلم صامتة. والإيقاع العام بطئ ويحتاج من المشاهد إلى تدريب خاص على هذا النوع من السينما، والصورة تتبدل في ألوانها أحيانا داخل المشهد الواحد، وتنتقل من الظلمة إلى النور، ومن العتمة التي تغلفها حبيبات التراب، إلى الشمس التي تخلق تكويناتها السرابية الخاصة.

وفي الفيلم تكرار مقصود للعديد من اللقطات، ومن الزوايا نفسها. وإن كان هناك دون شك، حس تشكيلي رفيع يتبدى في التكوينات داخل اللقطات الثابتة والمتحركة.
ولاشك أن الخلفية الشخصية للمخرج طارق تقية الذي جاء أساسا من التصوير الفوتوغرافي وراء اهتمامه الكبير بالصورة.
لكن هناك أيضا تأثرا واضحا بأسلوب أنطونيوني الإيطالي: في جعل اللقطة تصبح مشهدا، وفي اللغة غير المباشرة التي تصور شيئا وتقصد شيئا آخر، والإغفال المتعمد لقيمة الحوار، الذي يصبح وسيلة أقل أهمية للتواصل.
لغة من الخارج
لكن مشكلة هذا الفيلم أن الأسلوب فيه ليس أصيلا، بل يبدو مفتعلا وشديد الاصطناع، وشديد المبالغة في الاهتمام بالصنعة، وبالرغبة في الإدهاش وفي استخدامه الإيقاع الطويل المجهد، واللقطات الطويلة الممتدة التي لا يبدو أن لها نهاية.
وينتقل المخرج أحيانا من الصورة الناطقة إلى الصورة الصامتة تماما فيلغي المؤثرات الصوتية الطبيعية (صوت القطار مثلا) لكن كل هذه الطرائق والألاعيب الشكلية، مع تكرارها بدون ضرورة درامية تبدو مفروضة من خارج الفيلم، كما تبدو مقصودة فقط لذاتها، ومن أجل التجريب للتجريب، وهو ما يزيد كثيرا من عزلة المشاهدين عن الفيلم بدلا من أن يقربهم من عزلة أبطاله.. عن بعضهم وعن عالمهم. أليست السينما في النهاية فن للتقريب بين البشر!

الأربعاء، 4 فبراير 2009

نجوى نجار: "المر والرمان" هو لون الواقع الفلسطيني

هيام عباس تألقت وطغت بأدائها على الآخرين

لقطة التلامس عبر الأسلاك

من الأفلام المتميزة التي عرضت بالدورة الثامنة والثلاثين من مهرجان روتردام السينمائي الفيلم الفلسطيني "المر والرمان" للمخرجة نجوى نجار، وهذا فيلمها الروائي الطويل الأول.
يصور هذا الفيلم بأسلوب شاعري رقيق، العلاقات الإنسانية داخل عائلة مسيحية فلسطينية من رام الله تزوج ابنها حديثا فتاة من القدس، والمشاكل التي يمكن أن تنشب بعد مصادرة السلطات العسكرية الإسرائيلية الأرض التي تملكها هذه الأسرة والتي تعتبر مصدر الرزق والحياة بالنسبة لها، ثم اعتقال ابن العائلة "زيد" ولم يمض على زواجه بعد سوى أيام محدودة.
ماذا يمكن أن تفعل الزوجة الشابة "قمر" التي تهوى الرقص الشعبي، وتكون قد التحقت بفرقة فلسطينية في رام الله، هل يمكنها أن تستأنف حياتها بعد أن اصبحت "زوجة معتقل".. متى سيخرج زوجها "زيد"، وهل ترضخ لطلب أمها وتعود إلى بيت أسرتها في القدس حتى تنجو من الواقع المرير.
الجيش الاسرائيلي يضع مجموعة من الجنود داخل الأرض المصادرة، يحرسونها بقوة السلاح ويمنعون أفراد العائلة من الاقتراب منها، والعائلة تلجأ إلى محامية اسرائيلية للطعن في قرار السلطات العسكرية بمصادرة الأرض، واجراءات التقاضي تطول، وزيد في المعتقل يتعرض لأبشع أنواع التعذيب والحبس الانفرادي، ولكنه صامد يرفض توقيع التنازل الذي يطلبونه منه والعودة إلى عروسه.
أما العروس فهي ممزقة بين واجبها الذي يتحتم عليها القيام به تجاه زوجها وأسرته، وبين إحساسها الشخصي بالجفاف والحرمان والنبذ، محرومة حتى من التعبير عن مشاعرها المكتومة ولو بالرقص.
وللمرة الأولى في السينما الفلسطينية يصبح موضوع المرأة-الجسد محورا للفيلم على نحو ما، فالعروس تعود تدريجيا للرقص، يدربها مدرب فلسطيني شاب جاء من لبنان هو "قيس"، الذي يشعر نحوها ببعض المشاعر الغامضة.. لكنه هو أيضا ممزق، يبدو في عينيه كل حزن العالم بفعل التجربة المريرة التي مر بها في الماضي.
في الفيلم بعض الإشارات إلى الرغبة المتبادلة، وإلى العلاقة مع الجسد، والتمزق بين الواجب وبين الذات، وبين الهم الشخصي والهم الجماعي. ولكن المخرجة تتوقف على استحياء دون أن تجعل المشاعر المكبوتة تعبر عن نفسها في مشاهد صريحة، اكتفاء بالإشارات من بعيد.
في الفيلم مشاهد واضحة تماما للقهر الاسرائيلي: نقاط التفتيش التي يوقف الجنود عند احداها العريس وهو في طريقه من القدس إلى رام الله مع اسرته إلى العروس، كما لو كانوا من المشتبه فيهم. وهناك مشهد مصادرة الأرض والمشادة التي تنشب بين زيد والجنود ويعتقل على أثرها. وهناك التوغل الاسرائيلي المعتاد بالسيارات العسكرية واقتحام رام الله وإرغام السكان على النزول إلى الملاجئ، وهناك المستوطنون الاسرائيليون الذي يروعون عائلة زيد ويهددونهم بالسلاح.
غير أن الفيلم ليس كسائر الأفلام التي تحكي قصة الاحتلال وانعكاساته، فالمخرجة تتمتع بحس تشكيلي واضح في تكوين اللقطات، وتستخدم الرقص كمعادل للحرية، كما تستخدم الموسيقى الفلسطينية الحزينة بآلة العود وإيقاع الطبل.. وتنجح كثيرا في تنفيذ المشاهد التي تدور داخل السجن، خصوصا عندما تزور قمر زيدا وتتلامس أيديهما عبر الأسلاك، وتطبع هي على فمه قبلة من وراء السلك رغم اعتراض الجنود الاسرائيليين.
يخرج زيد في النهاية، ويحاول العودة للتأقلم مع حياته السابقة، لكن يستغرق الأمر مرور بعض الوقت قبل أن يصبح قادرا على استئناف حياته الطبيعية مع زوجته.
وتقوم الممثلة هيام عباس بدور صاحبة مقهى كانت قد عملت بالخدمة في بيوت الأسر الميسورة لمدة أربعة عشر عاما قبل أن تفتتح المقهى الذي يلتقي فيه الجميع ويبدو هنا بمثابة رمز للاحتفال الفلسطيني بالحياة رغم الاحتلال، كما أنها هي التي تجمع بين الشخصيات وتوفق بحكمتها بين الأطراف المختلفة، وتتصدى لجنود الاحتلال وتهزأ منهم، وترفض الانصياع لأوامرهم. إنها تبدو على نحو ما، في السياق، رمزا لفلسطين نفسها.

نجوى نجار مخرجة الفيلم

أجريت هذه المقابلة مع المخرجة نجوى نجار أثناء حضورها مع فيلمها الدورة الثامنة والثلاثين من مهرجان روتردام السينمائي.
- أريدك أولا أن تحدثيني عن الخلفية الثقافية لك.. أين درست، ومن أين أتيت، وكيف أصبحت مخرجة سينمائية؟
- قضيت معظم حياتي خارج فلسطين في الولايات المتحدة والسعودية ثم درست في أوروبا علوم سياسية واقتصاد ثم سينما في الولايات المتحدة ثم عدت إلى فلسطين، إلى رام الله. والدي كان قد عمل صحفيا في فترة من حياته ووقتها أهداني كاميرا وكنت ألتقط بها الكثير من الصور، وكنت أيضا أقرأ كثيرا وأشعر أنني يمكن أن أعبر عما أريده بشكل أفضل من خلال السينما، وأحاول أن أعثر على لغة خاصة في التعبير.
- من أين جاءك موضوع فيلم "المر والرمان" وماذا يعني العنوان عندك؟
- عدت إلى فلسطين عام 1996، وفي سنة 2000 حدثت الانتفاضة الثانية وأصبح ممنوع علينا الحركة وبقيت مع أسرتي داخل البيت، وللمرة الأولى في حياتي أشعر أنني سجينة بالفعل. وشعرت بالغضب، وكانت التسلية الوحيدة أمامنا مشاهدة التليفزيون، لكن الصور التي كانت تعرض على محطات التليفزيون في العالم كانت تصورنا على أننا أناس يملؤهم الغضب فقط. لكني جزء من المجتمع الفلسطيني، ولذا خرجت مع الذين أصروا على الخروج وممارسة الحياة ولو حتى انتظرنا أكثر من ساعتين على حاجز تفتيش إسرائيلي. لم نجعل أي شئ يحول بيننا وبين ممارسة حياتنا العادية. في هذه الفترة كنت أقرأ في الفولكولور العربي وكنت أيضا أكتب. وقد وجدت في الفولكولور حكاية المر والرمان.. هناك داخل كل رمانة بذرة واحدة تأتي من الجنة. وبدأت أبحث في هذا الموضوع، إن هذه الرمانة هي رمز للأمل في الحياة، والمر أو المرارة هي الجانب السيء في الحياة.. هذه هي حياتنا.. مزيج من الإثنين.. ومن هنا كانت علاقتي بالموضوع.
إنني أروى في هذا الفيلم قصة امرأة تتزوج ثم يعتقل زوجها فتصبح زوجة سجين، وهي أيضا راقصة في فرقة للفولكلور الفلسطيني، وتجد نفسها سجينة مرتين: أولا داخل جسدها لأنها غير مسموح لها بالرقص كونها زوجة سجين، وثانيا سجينة في مجتمع الاحتلال والحصار.
- قبل هذا الفيلم هل كانت لديك تجربة في السينما.. في إدارة الممثلين؟
- هذا الفيلم أخذ ست سنوات من حياتي.. قبل أن يتحقق. وخلال هذه الفترة أخرجت عدة أفلام وثائقية وفيلمين قصيرين الأول دقيقتان ضمن فيلم أخرجه ستة مخرجين عن جوائز السينما الأوروبية، والثاني اسمه "ياسمين تغني". وعندما بدأت العمل في "المر والرمان" أجريت اختبارات لأكثر من مائة ممثل وممثلة.. كنت أبحث عن ممثلين يصلحون للأدوار في كل مكان: في الأردن وفلسطين ولبنان وفرنسا وأمريكا إلى أن اخترت الأفضل.. وكنت سعيدة الحظ أن أعمل مع هذا الفريق من الممثلين الموهوبين. وقد اشتركوا في العمل معي أنا التي تقف للمرة الأولى وراء الكاميرا، وهم سعداء يملؤهم الحماس. لقد كانت التجربة رائعة. كنا نعمل كعائلة واحدة. وكانوا يتعاونون معي في إنجاز الفيلم وفي تقديمي لعائلات فلسطينية أخرى.
وعندما جاءت المصورة ناقشت معها كيف يمكن أن تروي كل لقطة شيئا ولا يكون الهدف من التنويع في اللقطات مجرد الانتقال بين صورة وصورة أخرى لها حجم مختلف. كنا مثلا نناقش كيف يمكن أن نصور شخصية البطلة التي هي راقصة ومن أي زاوية، وكيف يكون من الأفضل أن نصور باستخدام الكاميرا المحمولة على الكتف (المهتزة) مشاهد مصادرة الأرض، كنا نريد أن يرى المشاهد الفيلم بإحساس جديد يختلف عن المتابعة الآلية لزوايا التصوير كما درسناها.
كنا نناقش الألوان التي نريد استخدامها في الفيلم. الأحمر معادل للحياة، والأخضر.. ركزنا على هذين اللونين، على ألوان العلم الفلسطيني.. ألوان فلسطين المنسية في السينما فدائما ما نرى الأشياء أسود وأبيض، فقد اثر الاحتلال كثيرا على رؤيتنا للأشياء. لقد أردنا أن نحتفل بفلسطيني الجميلة في هذا الفيلم.
- أريد أن أسالك عن اختيارك للممثلين.


- ياسمين المصري التي تقوم بالدور الرئيسي (قمر) هي ممثلة فلسطينية تعيش في لبنان، وقد لعبت دورا رئيسيا في فيلم "سكر بنات"، ومن حسن الحظ أنها تحمل الجنسية الفرنسية أيضا ولذلك تمكنا من ادخالها إلى القدس ورام الله. وهي أيضا راقصة، ولذا كانت مناسبة تماما للدور. وخصوصا أنها كانت المرة الأولى التي تأتي فيها إلى فلسطين، فهذا العامل كان شديد الأهمية بالنسبة للفيلم، فقد كنت أريد أن أصور لحظة اللقاء الأول، إنها تلعب دور عروس جديد تذهب لكي تعيش في رام لأول مرة في حياتها، ولم تكن تشعر بالراحة مائة بالمائة.. هذا الشعور بعدم الراحة، أو بالقلق كان حقيقيا لدى الممثلة وأردت الاستفادة من ذلك في الفيلم. أما أشرف فرح الذي يلعب دور زيد (الزوج) فلم يسبق له التمثيل من قبل، ولكن عندما وضعت الإثنان معا كان هناك نوع من الانسجام في الأداء فيما بينهما على الفور. أما علي سليمان الذي لعب دور قيس مدرب الرقص، فهو مناسب تماما للدور، ففي عينيه حزن خفي، وهو يتمتع أيضا بالرقة والحنان، كان لديه كاريزما معينة تخفي ألما وتجربة إنسانية عريضة. أما هيام عباس التي تلعب دور أم حبيب فلم يكن عليها أي نقاش. لقد جاءت وارتدت الدور وكأنه مصنوع خصيصا لها ومنحته أبعادا أعمق.
- كيف كانت تجربة التصوير في رام الله والقدس، وما هي المشاكل التي واجهتك هناك؟
- كانت تجربة شديدة الصعوبة. لقد أجرينا الكثير من التحضيرات والاستعدادت. ذهبنا إلى مواقع التصوير، ودرسنا كل شئ، ماذا سنفعل وماذا نريد، وكيف ستتحرك السيارات، وكم أفراد طاقم التصوير، وما هي المشاكل التي يمكن أن تقع لنا وكيف يمكننا التغلب عليها، هل في هذا المكان حاجز اسرائيلي، وماذا سنفعل إذا أوقفونا وما هو البديل لهذا الموقع.. إلخ. - لقد حاولنا بقدر الإمكان أن نتحسب لكل شئ، لكن التصوير في واقع تحت الاحتلال يجعل الأشياء عرضة للمزاجية والعشوائية، فمن الممكن أن يكون مزاج الجندي الاسرائيلي متعكرا فيقرر أن يوقف التصوير مثلا. كان لدينا طاقم تصوير وممثلين من حيفا وعكا ونابلس وايطاليا وفرنسا وفلسطينيون من غزة ولبنان، وكانت كل جماعة من جهة ما تحمل بطاقات لها لون معين. وكانت هناك مشاكل في انتقال الممثلين بسبب قرارات المنع الاسرائيلية التي تحظر مثلا انتقال أي شخص من القدس وحيفا ويافا ممنوع يدخلون إلى الضفة، والقادمون من غزة والضفة ممنوع دخولهم للقدس.. وهكذا كان هناك كابوس لوجستي.
- أخيرا.. لمن صنعت هذا الفيلم: هل للجمهور في العالم الخارجي أم للجمهور الفلسطيني، وهل عرض في فلسطين؟
- آمل أن يتمكن هذا الفيلم من التحدث بلغتين، فأنا لم أصنعه فقط للعرض في الداخل ويلقى التقدير ولا يصل للجمهور في العالم الخارجي، خصوصا في الغرب، ليس كافيا، والعكس صحيح أيضا. إنه يصور جانبا من حياتنا ومن معاناتنا وهذا الجانب من المهم أن يصل وهو لم يعرض بعد في فلسطين وهو لم يعرض بعد في الداخل لكنه سيعرض قريبا في مارس، ولكنه عرض في مهرجان دبي السينمائي ولقى استجابة جيدة.

الاثنين، 2 فبراير 2009

«فرنسية» فيلم مغربي يجسد أزمة الهوية وكراهية الذات




من الأفلام "العربية" التي عرضت بالدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان رورتردام السينمائي اخترت أن أتوقف أمام فيلم "فرنسية" Francaise، هذا الفيلم المصنف علي اعتبار أنه من الإنتاج المشترك بين فرنسا والمغرب، في حين أنه فيلم أجنبي بكل معني الكلمة، وإن كان أحد الأفلام التي تحصل علي دعم مالي من المركز السينمائي المغربي، التي أشار إليها الناقد مصطفي المسناوي، في مقال حديث له أثار ضجة كبيرة، حين قال (بالحرف) "إن كل الخطاب الرسمي الذي تم تداوله في وقت من الأوقات عن "دعم السينما المغربية" ( بأموال دافعي الضرائب) قد انتهي عمليا إلي دعم وتشجيع شركات الإنتاج الأجنبية خاصة الفرنسية".
وقال المسناوي أيضا في مقاله المشار إليه: إن السينما المغربية التي يحتفل البعض هذا العام بالذكري الخمسين لظهورها (وهو تاريخ غير صحيح) لم تنجح طيلة نصف قرن من الزمان في إعطائنا ولو تقنيا (أو فنيا) واحدا مختصا بالمونتاج (من مراجعة الأفلام الطويلة المشاركة في مهرجان طنجة ويبلغ عددها 14 فيلما نجد أن 10 من بينها أنجز عملية "مونتاجها" أجانب). الفيلم من سيناريو وإخراج سعاد البوحاطي، والفيلم الروائي الطويل الأول لهذه المخرجة المغربية، التي تقيم وتعمل في باريس منذ أن أنهت دراستها للسينما في السوربون. وباستثناء ذلك فكل العناصر الفنية في التصوير والمونتاج والديكور والموسيقي وغيرها، من الفرنسيين. وهو من إنتاج جاك كيرسنيه وديفيد لوفافر.

مشكلة الموضوع والفكر
لكن المشكلة لا تتمثل فقط في هذا الجانب، أي جانب الإنتاج والتقنيين، بل أساسا، في موضوع الفيلم نفسه.
يطرح الفيلم مشكلة عجز الجيل الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة، الذين ولدوا ونشأوا في فرنسا، عن قبول فكرة العودة إلي الوطن "الأصلي"، وعدم التكيف مع الواقع المغربي بعد العودة، والإحساس بالاغتراب عن الواقع ونمط الحياة المغربية، والحلم بالعودة إلي ما يعتبر "الوطن الحقيقي" أي فرنسا.
هذه الأزمة تعبر عنها مخرجة الفيلم ومؤلفته، من خلال الفتاة "صوفيا" التي تولد وتقضي سنوات عمرها الأولي في فرنسا، وترتبط بصداقة مع فتاة فرنسية من نفس عمرها، إلا أن والدها يقع في المشكلة التي قد تواجه المغتربين جميعا في أي وقت، أي البطالة، فيقرر العودة إلي المغرب مع أسرته المكونة من الزوجة والأبناء الثلاثة صوفيا وشقيقها وشقيقتها رغم احتجاج صوفيا ورفضها ومقاومتها الشديدة للرحيل.
وتعود الأسرة بالفعل إلي المغرب، ويتعاون أفرادها جميعا في زراعة قطعة من الأرض في منطقة ريفية خلابة بمناظرها الساحرة، وتقطن الأسرة في منزل يبدو كالقصر بمقاييس المغرب (والمشرق أيضا!)، وتمر عشر سنوات، وتكبر صوفيا وتصبح فتاة مراهقة متفتحة بالأنوثة وبالإحساس بذاتها وخصوصية شخصيتها.
ومرة أخري تعود صوفيا إلي التفكير في فرنسا التي تراها جنة الأرض بالنسبة لها، وتعبر بكل الطرق عن رفضها العيش في المغرب ورفض الارتباط بأي شخص فيها، وتتوتر علاقتها بشقيقتها وبوالدتها، وتتمرد حتي علي الدراسة في المدينة لأنها تعيش في بيت للطالبات تجده معادلا للسجن.

وطأة القيود
ولا تقدم المخرجة تفسيرا لهذا الرفض، ولا لذلك الحنين الذي لا يفتر أبدا إلي فرنسا، بل علي العكس مما يمكن أن يتوقعه المشاهد، يصور الفيلم التناقض بين الحياة الجافة للأسرة في فرنسا، كما يشير، وإن علي استحياء، إلي الروح العنصرية الكامنة لدي الفرنسيين تجاه المهاجرين من خلال طريقة تصرف المدرسة مع صوفيا، في حين يصور علي الجانب الآخر، كيف تتغير أحوال الأسرة إلي الأفضل بعد عودتها إلي المغرب، لكن إحساس صوفيا بالرفض يتصاعد، فهي تشعر بوطأة القيود التي يفرضها المجتمع علي الفتيات من سنها، فممنوع عليها الذهاب إلي المقهي، وممنوع أن تتأخر في الخارج بمفردها، والمصير الطبيعي لها أن ترتبط بشاب تتزوجه فيما بعد، وأن تواصل الدراسة، وتساعد الأسرة في العمل بالأرض، لكنها ترفض الاستسلام لهذه كله، وتواصل مسلسل الهرب من الواقع، وترفض الحديث إلي أفراد أسرتها، رغم معاملة والدها اللينة لها.
وأخيرا تنتصر إرادة الخروج، أي التحرر من أسر مجتمع المغرب، وتحصل صوفيا علي جواز سفرها، ونراها في المشهد الأخير من الفيلم بعد أن نضجت من خلال الاستقلال عن الأسرة، والعمل بإحدي الشركات في العاصمة، وهي تشق طريقها بعزم وتصميم، بعد أن حزمت أمرها علي الرحيل إلي فرنسا.

إشارات عابرة
مرة أخري ليست هناك مبررات "ظاهرية" أو خارجية في الفيلم لرفض صوفيا واقعها، مثل الفقر والتخلف، باستثناء إشارات عابرة كما في مشهد تستعرض فيه الكاميرا المتحركة من سيارة، مظاهر البؤس والبطالة والفقر والبيوت المهدمة وتجمعات الشباب العاطل، أو عندما تستعين الأم بامرأة عجوز تستشيرها في مشكلة صوفيا فتقترح المرأة وضع "تعويذة" في غرفة الفتاة.والواضح أن هذا القدر من التجريد الاجتماعي، إذا جاز التعبير، مقصود للإيحاء بأن هناك قوة أخري سحرية تربط بين الفتاة وبين فرنسا، قوة تتجاوز المادة المنظورة وتبدو كنداء غامض أقرب إلي"النداهة".
إن الفتاة تردد طوال الفيلم عبارة "أنا فرنسية.. وكني هناك.. لقد ولدت هناك وأنتمي إلي فرنسا". إنها بشكل واضح، ترفض هويتها المغربية "المكتسبة" بحكم العلاقة مع الأهل. فماذا يريد الفيلم أن يقول لنا من وراء هذه الفكرة؟
إن خطورة هذه "الرؤية" السينمائية لأزمة فتاة تنضج في مجتمع لم تولد فيه، أنه يروج لفكرة ضارة عن العلاقة بين الشرق والغرب، تتلخص في أن الشخص الذي يولد في الغرب يصبح منتميا "ثقافيا" رغما عنه وبقوة أكبر من أي قوة أخري، إلي ذلك الغرب حتي لو كان كل ما في جذوره وتاريخ عائلته يربطه ثقافيا ومعرفيا بالشرق.
"كراهية الذات" هذه تخلق إشكالية من نوع آخر، فإذا كان "الجيل الثاني" أو الثالث، يري أن وطنه الحقيقي في فرنسا وليس في المغرب، فهل ستقبل فرنسا بسعادة هذا الانتماء وتحتضنه وترحب به، بل تتعامل مع صاحبه علي قدم المساواة مع أبناء "السكان الأصليين"!
دور آخر يتناسب تماما مع شخصية حفظية حرزي التي تألقت في فيلم "كسكسي بالسمك" (يترجمه البعض في مصر "أسرار القمح"!) بتمردها وجموحها وصلابتها وقوة شخصيتها التي تجعلها تجرف في طريقها كل شيء، مصممة علي المضي قدما في مسعاها ومبتغاها، حتي يتحقق لها ما تريد. تري.. ماذا حققت بعد ذلك ياتري!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger