الأحد، 30 نوفمبر 2008

نهاية مهرجان: المهزلة تعيد إنتاج نفسها

أحمد رشوان
محمد خان

في هذا المقال سأهتم فقط بحفل توزيع الجوائز الذي يعتبره البعض أهم أحداث هذا المهرجان ويتشدقون به باعتباره حدثا كبيرا يضم النجوم والأقمار الطبيعية والاصطناعية.
اختتمت الدورة الـ32 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي باعلان فوز الفيلم الاسباني "العودة الى حنصلة" للمخرجة يوتيس جواتيريز بجائزة الهرم الذهبي للافلام الطويلة وفاز الفيلم البلجيكي "الضائع" اخراج جان فرهاين، بجائزة الهرم الفضي. أما جائزة أحسن ممثل فقد ذهبت إلى الممثل اليوناني خوان ديجو خوتو عن دوره في فيلم "خوتلتو" اخراج يانيس سمرجديس، فيما فازت الممثلة الفرنسية يولان مورو بجائزة أحسن ممثلة عن دورها في فيلم "سيرافين".
أما الملاحظة الرئيسية تتعلق بأمر تكرر حتى بدا كالنكتة هو تقاسم عدد كبير من الأفلام معظم الجوائز الأخرى في المسابقتين السينمائية ومسابقة أفلام الفيديو بطريقة تستعصي على الفهم، فهل هذا ناتج عن وجود عدد كبير من الأفلام الجيدة أم لارضاء أكبر عدد من المشاركين. واغلب الظن أن الرأي الثاني هو الأصح بل والأدق، فمهرجان القاهرة مثله في هذا مثل ما يقام من مهرجانات في نهاية السنة لا يمكنه الحصول على أفلام جديدة لم يسبق عرضها ذات أهمية تذكر.
أما ما أثار الارتباك والفوضى كالعادة فكان الطريقة التي تم بها اعلان الجوائز ثم توزيعها. فقد ساد الاضطراب والفوضى وسوء الاختيار الأمر بأكمله. وكان مقدما الحفل يعلنان بالانجليزية والعربية عن جائزة ما ثم يدعى أحد النجوم أو السينمائيين لتقديم الجائزة فيعيد ويكرر مرة أخرى عبارة سبق ترديدها، بشكل يدعو حقا إلى الملل، ثم ينتظر بعد اعلان الجائزة الأولى إلى أن يتسلمها صاحبها ويلقي خطبة ويقبل كل الرجال بينما يصافح النساء باليد (فهذه ثقافة ذكورية لواطية على الأقل في أنظار الحاضرين من شمال المتوسط)!
ويبدو أيضا أن تعليمات أعطيت للممثلات الأجنبيات لكي يكتفين بمصافحة الوزير ورئيس المهرجان عزت أبو عوف الذي بدا كشاهد لم يشاهد شيئا، وغيره من الرجال على المنصة، ودون أن تقبيل على الخد وإلا قامت قيامة تيار الظلاميين المتسعودين، فالرجال يقبلون بعضهم البعض ثلاث وأربع مرات، بينما يصافحون النساء باليد بطريقة مضحكة حتى لو كانت النساء من الأوروبيات أي ممن يعتبرهم المتسعودون العرب والمصريون من الكافرات المتبرجات اللاتي يستحقن اللعنة في الدنيا وفي الآخرة. ويكفي أن الرقابة تفرق بين ظهور اللحم المحلي "الحلال" واللحم الأوروبي الأمريكي على الشاشة، فبينما تحظر ظهور النوع الأول تماما، لا تمانع في إظهار التوع الثاني دون أي مشكلة فهو في الواقع "حلال" لنا أن نتفرج عليه!
وقد طلبوا من الممثلة السورية ذات الصوت الذي لا وجود له سوزان نجم الدين (أربكان!) وزميلتها راغدة ذات الصوت الذكوري الخشن الصعود إلى المسرح لتقديم جائزة أو أخرى بلغة لا تعرفها الاثنتان ، مما جعلهما تضطربان وترتبكان (من أربكان!) فلم نفهم شيئا مما قالتاه بلغة الجن والعفاريت أي بالانجليزية التي لا تعرفها الاثنتان بالطبع كما هو واضح من التأتأة والتهتهه.
المخرج الفرنسي صاحب فيلم تدور احداثه في الهند، قال إنه لا يعرف الانجليزية وتكلم بلغة بلاده فوجم الجميع على المسرح بما فيهم مقدما الحفل اللذان أخذا ينظران إلى أحدهما الآخر ولسان حال كل منهما يقول: ماذا نفعل في هذه المصيبة الكبرى؟ فلم يكن هناك استعداد للترجمة من الفرنسية للعربية فلم يفهم الحاضرون ما قاله المخرج الفرنسي سوى كلمة شكرا التي كررها بالعربية!
خرجت الأفلام المصرية من المولد بلا أي حمص سواء من المسابقة الرسمية أو مسابقة السينما العربية والفيديو باستثناء جائزة واحدة
حصل عليها المخرج أحمد رشوان عن سيناريو فيلم "بصرة" (مناصفة مع فيلم عيد ميلاد ليلى لرشيد مشهراي) فمبروك للاثنين.
الرقابة كما علمت حذفت مئشهدا كاملا من الفيلم التركي "ثلاثة قرود" بسبب ظهور بعض اللحم التركي "الحلال" عاريا.
صديقنا المخرج محمد خان تورط فيما يبدو في توزيع أكبر عدد من جوائز المسابقة السينمائية، لكنه كعادته ضرب عرض الحائط بحضور الوزير وغيره من كبار المسؤولين المحنطين فظهر بملابس عادية أي ليست رسمية، وإن كانت حكاية التقاسم والمناصفة والانتظار أن ينتهي الممثل شريف منير من سخافاته واستعراضه خفة ظله بقلة ذوق نادرة، قبل أن يعلن عن الجائزة التالية، كل هذا ربما يكون قد سبب بعض الإرباك لمحمد خان أو حتى الضيق!.
أما "الدكتور" عزت أبو عوف الذي وجد نفسه في غفوة من التاريخ رئيسا لهذا المهرجان، فرغم فشله هو ومساعدته المرأة الحديدية التي صدأت، في العثور على فيلم مصري يليق حقا بالاشتراك في المسابقة الرئيسية لمهرجانه، إلا أنه ألقى كلمة امتدح وشكر وأثنى فيها على الذات المصرية بطريقة ممجوجة فتكلم عن أن "المال قد يقدم دعما اضافيا للمهرجانات لكن لدينا التاريخ والثقافة والسينما والحضارة والباذنجان. ونسى أن يضيف.. "والإخوان المتسعودين"!

الجمعة، 28 نوفمبر 2008

أفكار في مهرجان القاهرة السينمائي

مع ناجي فوزي وحسين بيومي

مع محمد خان وأحمد رشوان


أجواء الصحبة في القاهرة تدفع إلى التفكير في المزيد من تحقيق الأفكار المشتركة. قد تكون هذه الأفكار كتاب مشترك أو ندوة مشتركة أو حتى إصدارات مشتركة.
الدكتور ناجي فوزي قال إنه يرغب في مد تجربته السينمائية والنقدية على استقامتها والتفكير جديا في افتتاح مدرسة لتعليم السينما، وهو يبحث حاليا عن تمويل مناسب.
المخرج محمد خان عضو لجنة التحكيم للمسابقة الرسمية لم يحبس نفسه بعيدا عن أصدقائه النقاد والسينمائيين الشباب فجاء إلينا بعد ظهر اليوم وجلسنا نتبادل الأفكار بحرية، كل الأفكار، فيما عدا الاقتراب من موضوع الجوائز: من فاز بماذا ومن لم يفز، فليس لأحدنا في الحقيقة ناقة ولا جمل في هذا الموضوع، بل ولا يبدو أن هناك انشغال بيننا بهذا الموضوع على العكس مما يحدث في مهرجانات أخرى، ربما لأن معظمنا اهتم بمشاهدة أفلام أخرى عدا أفلام المسابقة التي لم تستهوي أحدا كما علمت!
الجوائز تقررت بالفعل وستعلن مساء اليوم في حفل الختام.
صلاح هاشم حاضر طبعا مع الصديق المصور سامي لمع، وصلاح سيعرض الفيلم التسجيلي الذي أخرجه وصوره سامي قريبا في اطار اهتمامات صندوق التنمية الثقافية كما علمت.


المخرج احمد رشوان حاضر بقوة في لمهرجان، وكذلك المخرج ابراهيم البطوط، يشاهدان الأفلام. المخرجة هالة لطفي جاءت إلينا فأضافت متعة كبيرة إلى جلستنا. ملوك البيربوقراطية لم يظهر منهم أحد لحسن الحظ.. يبدو أنهم اكتفوا بالجلوس وراء النوافذ، باستعارة اسم فيلم هيتشكوك العظيم "خلف النافذة".. ولكن مع الفارق!
دارت مناقشة سريعة مع الناقد حسين بيومي حول الفيلم التركي "ثلاثة قرود" الذي يرى البعض أنه "تحفة" حقيقية وهو رأي لم أتفق فيه معهم، بل رأيت قدرا كبيرا من الافتعال ورغبة سخيفة في محاكاة أسلوب السرد عند تاركوفسكي، وهذه مجرد انطباعات لا يحاسبني عليها أحد، ومن بين هذه الانطباعات أيضا أنه فيلم مسطح في صوره ولقطاته، عقيم في موضوعه، ممل في سرده، يمكن أن تدور أحداثه أو موضوعه في فنلندا أو آلاسكا ولكن بالتأكيد ليس تركيا المعاصرة. لكن طالما ظل نقاد باريس يأكلون ويشربون على هذه الأفلام كمل فعلوا مع أفلام الأب الروحي لسينما الافتعال أي الإيراني عباس كياروستامي، فسيظل هناك عدد من المعجبين بأفلام التركي سيلان بيلجي المحظوظ الذي يحصل على الجوائز باستمرار خصوصا في مهرجان كان!

بكر الشرقاوي وسعاد سليمان وصلاح هاشم

الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

شخصيات وأحداث في مهرجان القاهرة السينمائي

درويش البرجاوي

المهرجان هو الناس والسينما والأفلام واللقاءات العديدة والحياة حولنا كما تسير وتمضي في إيقاع متجدد يوميا. واللهاث على الأفلام لم يعد لحسن الحظ قائما كما كان في الماضي، فالتشبع بالأفلام طوال العام يجعل المرء يعرف جيدا هدفه: الأفلام العربية والمصرية الجديدة أساسا التي لم أشاهدها، والتي يمكن أن توفر مادة نقدية جيدة وتثير حولها نقاشا طيلة أيام المهرجان.
كل الناس يبدو أنهم هنا فيما عدا قلة قليلة ممن اعتادوا على التواجد والذين يبدو أن المهرجان خذلهم أو أنهم انسحبوا من "المولد" بعد أن كثرت مهرجانات السينما في المنطقة وأصابت "البعض" بالتخمة، سواء التخمة الحرفية أي امتلاء المعدة باللحوم والطيور، أو التخمة من الأفلام الرديئة التي يمكن أن يسبب بعضها أيضا، نوعا من التلبك المعوي الحاد وقد يستدعي علاجا فوريا عاجلا!
من أكثر ما أدخل السعادة على نفسي على الصعيد الشخصي أن ألتقي الصحفي اللبناني والصديق الحقيقي الطيب القلب درويش البرجاوي الذي لم أقابله منذ سنوات طويلة، وكنت دائما ما ألتقيه في مهرجانات السينما العربية. وقد سبق أن نشرت صورته ضمن مجموعة من النقاد والصحفيين، وتساءلت في معرض تعليقي على صورته: ترى أين هو الآن وماذا يفعل!
ظهر درويش وقد ملأ الشيب رأسه، وقال لي إنه ابتعد عن المهرجانات بعد أن انكب على حياته الخاصة، وربما أيضا بعد وفاة زوجته منذ خمس سنوات، وروى لي قصة وفاتها سعيدة راضية عن حياتها وعما أنجبته من أبناء يفخر بهم درويش الذي اختار الاستقرار في مصر منذ نحو عشرين عاما.
تذكرنا أيام أن كنا نلتقي في مهرجان قرطاج، وكان درويش شعلة من النشاط، وإن كان لايزال يعمل لصحيفة القبس الكويتية في مكتبها الكبير بالقاهرة.
أما ما يضايق درويش كثيرا ويعذبه أيضا فكرة أنه لم يهتم كثيرا بترتيب وتبويب أرشيفه الشخصي، وقال لي إن لديه 13 ألف صورة فوتوغرافية من المهرجانات التي حضرها لكل النجوم والصحفيين والنقاد والبشر، لكنه لا يستطيع مثلا نشرها في كتاب أو أكثر لأنه لا يعرف على وجه اليقين تواريخ تلك المهرجانات وفي أي من دواتها التقطت الصور.
* التقيت أيضا بصديقنا القديم الصحفي والناقد السوري قصي صالح الدرويش الذي فقد الكثير من وزنه في محاولة للتغلب على مشاكله الصحية شفاه الله، وهو موجود يشاهد الأفلام ويتابع نشاط المهرجان بدأب، رغم أن مجلته "سينما" لم تعد تصدر لكن يبدو أنه يرتب لشئ جديد لم أتعرف عليه تماما بعد. قلت لقصي إنني كنت أبحث بالأمس فقط في أرشيفي المتكدس أكواما هائلة في منزلي بالقاهرة وعثرت بمحض المصادفة على مقال صاخب له منشور بجريدة الشرق الأوسط عام 1994، بعنوان "سقطات القراءة كيفما اتفق" يرد فيه ردا رادعا على ادعاءات صحفي من مدمني المزايدات على النقاد، ويكشف جهله ويسخر منه بل ويقول عنه إنه عرف في أوساط النقاد العرب بأنه يكتب كيفما اتفق، ويشاهد الأفلام كيفما اتفق، ولكن قصي لم يكن يعرف أنه يقرأ أيضا كيفما اتفق!
ضحكنا كثيرا طبعا وتذكرنا أيام مهرجان فينيسيا في أوائل التسعينيات عندما كانت تلك "النكتة" تكرر نفسها دائما أمامنا، فنضحك عليها وكأننا "نراها" للمرة الأولى!
* الصديق القديم الناقد الأردني ناجح حسن قال بسعادة كبيرة إنه يتابع هذه المدونة، مثل كل المذكورة أسماؤهم هنا، وإنه سعيد بما تحتويه. جلسنا معا ومع الصديق المهندس المعماري عبد الرحمن المنياوي جلسة طويلة في مقهى فندق شيراتون الجزيرة. اشتكى ناجح من عدم التنظيم في المهرجان، لكنه سعيد بالطبع من لقاء الأصدقاء. ناجح بالمناسبة ناقد يتابع ما يكتب في كل مكان بشكل جيد جدا منذ السبعينيات.


* شاهدنا أمس فيلم "حسيبة" لريمون بطرس (من سورية) ثم اليوم فيلمي "أيام الضجر" لعبد اللطيف عبد الحميد من سورية أيضا، و"بصرة" لأحمد رشوان من مصر وهو فيلمه الروائي الأول، ودار حوار طويل حول الفيلمين مع الصديقين الناقد حسين بيومي وأستاذ النقد السينمائي في أكاديمية الفنون الصديق ناجي فوزي. وناقشنا بصراحة كيف يمكن دفع وتطوير السينمائيين دون أن نغفل عن تناول أعمالهم بصراحة وجرأة وذكر حقيقي لنواحي النقص كنا نراها ولكن من دون أي رغبة في التدمير. كان هذا الشعور المؤرق كما رصده حسين بيومي بذكائه المعتاد، يعكس هما حقيقيا في الموازمة بين قيام الناقد بدوره الحقيقي دون إغفال أن من ضمن وظيفته أيضا تطوير السينما، أي تشجيع الجوانب الجيدة في التجارب السينمائية الأولى دون التنازل عن المعايير النقدية الصارمة.
* الصديق القديم التاريخي المخرج وأستاذ الإخراج بمعهد القاهرة للسينما محمد كامل القليوبي جاء لمشاهدة فيلم "أيام الضجر"، ودعوته للتوجه معي إلى قاعة العرض لكنه فاجأني بالقول إنه ليس لديه بطاقة للدخول. دهشت من الأمر وتبينت أنه رغم كونه عضوا في اللجنة العليا للمهرجان التي يرأسها وزير الثقافة لم تصدر له بطاقة لدخول القاعات، والأغلب أنه لم يهتم باستخراجها أساسا، وكان يتعين علي الاستعانة بالصديقين وليد سيف وعصام زكريا لإقناع المشرفين على الدخول بالسماح للقليوبي بالدخول دون إحراج وتم الأمر بهدوء وتفهم!
القليوبي قال لي إنه تابع باهتمام ما نشرته في هذه المدونة عن تجربتنا القديمة في جماعة السينما الثالثة، وحسين بيومي متحمس كثيرا لترجمة كتاب جدليات السينما الثالثة الذي سبق أن كتبت عرضا له واقترح أنت اقوم أنا بترجمته وتقديمه.
* عصام زكريا قال لي إنه يقدم برنامجا عن السينما في قناة تليفزيونية جديدة وطلب إجراء مقابلة تليفزيونية معي عن رأيي في مهرجان القاهرة بحرية تامة وبدون اي تحفظات، وقد كان، فقد قمت بالواجب وأكثر قليلا كما أتمنى!
* الصحفي المخضرم عبد النور خليل يجلس في مقهى المجلس الأعلى للثقافة في الأوبرا كالعادة ويجمع حوله الكثيرين من الصحفيين لكننا لا نشاهده في قاعات العرض.. هو حر طبعا.. قابلني اليوم وعاتبني قائلا: أنت تركتنا أمس لتذهب إلى فيلم حسيبة السوري، فقلت مداعبا إنه يمكن أحيانا مشاهدة الأفلام في المهرجانات.. أليس كذلك!
* صديقنا النشيط جدا الناقد والكاتب الصحفي محمود قاسم أصدر طبعة جديدة منقحة ومزيدة من موسوعة السينما العربية، وقال إنه يريدني أن أكتب عنها فداعبته قائلا: والله اترك لي نسخة وسأرى.. فرد قائلا: عليك أن تشتريها بمائة جنيه فقد أصدرتها على نفقتي بعد أن تقاعست الوزارة عن إصدارها، فقلت مداعبا أيضا: ماذا لو اشتريناها من دون أن نكتب عنها!

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2008

بيان ضد الرقابة


البيان التالي وصلني من الصديق الناقد التونسي خميس الخياطي وأدعو السينمائيين والنقاد العرب وكل المثقفين الشرفاء إلى إضافة توقيعاتهم عليه عن طريق ارسال رسالة بالبريد الاليكتروني على العنوان التالي amarcord222@gmail.com((حلّ السينمائي التونسي جيلاني السعدي ضيفاً على بيروت، ليقدّم فيلمه «عرس الذيب» في اطار «أيّام بيروت السينمائيّة». ولشدّ ما كانت دهشته كبيرة حين علم، يوم العرض، أن نسخة الفيلم لم تخرج من «دائرة الرقابة» في الأمن العام اللبناني. بعد ذلك أطلق سراح النسخة، كما هو معروف، لكن السعدي كان قد عاد إلى تونس حيث تنتظره التزاماته ومهامه التعليميّة. لم يخضع الفيلم للرقابة إذاً، بل «صودر» أيّاما ً، من دون أي مبرر.ليس هدفنا هنا أن نكتفي بادانة هذا التمادي العشوائي في ممارسة السلطة، بل الدعوة إلى اعادة النظر بسلطة الرقابة نفسها. إننا نعيش في زمن الاقمار الصناعيّة وتقنيات التواصل الحديثة، ومجتمعنا، بكل مكوّناته، يجد في متناوله اليوم كل البرامج والأعمال الابداعيّة، من دون أيّة رقابة. فإلى متى يستمرّ هذا التعاطي الأبوي مع المجتمع، كأنّه قاصر عن تكوين نظرته النقدية الخاصة إلى الانتاج الثقافي، وعاجز عن التمييز والاختيار. هل تنظر الدولة إلى المواطنين بصفتهم قاصرين، كي يخضع الانتاج الثقافي والابداعي إلى وصاية الأمن العام؟ إذا كان لا بدّ من وجود هيئة رقابيّة ما، فلتكن بعيداً عن ضبّاط الأمن والعسكر، هيئة مدنيّة تتولّى تصنيف الاعمال الابداعيّة عند الضرورة، لا اجتثاثها أو منعها بحجة أنها تثير النعرات الطائفية وتهدد السلم الأهلي ! ليست الأعمال الفنية هي التي تؤجج الفتنة وتعمل على استمرارها، بل خطابات السياسيين والتعبئة الأعلامية والقوانين الأنتخابية والأحوال الشخصية... إن الفن هو الإستقرار الأهلي والثقافة هي المختبر الذي نفحص فيه ذاكرتنا الجماعية، المخدرة، المضللة، الممنوعة.إن مجتمعنا الغني والمتنوّع لا يمكنه أن يحقّق ارتقاءه في ظل المنع. اللهمّ إلا إذا كانت السلطة تعتبر تفتح المجتمع وازدهاره من المخاطر التي تتهدّد السلامة العامة. نحن لا نطالب بالكثير. ولكنننا نعتقد ان الوقت قد حان لاعادة التفكير في موضوع الرقابة ولفتح النقاش بين أهل المهنة السينمائية والمهتمين بها من جهة وبين الرقباء ومشرعي قوانين الرقابة من جهة ثانية لوضع حد للممارسات الرقابية الخاطئة والتعسفية وتقويم دورها اذا كان لا بد من أن يكون لها دور)).الموقعون:

أرزة خضراسد فولداكار (مخرج)أكرم زعتري (مخرج)اميل سليلاتي (مخرج)إميل شاهين (أستاذ جامعي في مادة السينما)اميل عواد (موسيقي)أنّا سميث (فنانة)إيمانويل بوتمانايمي بولس (رئيسة مؤسسة سينما لبنان)باسم بريش (مخرج)باسم فياض (مدير تصوير)باميله غنيمة (مخرجة)برهان علوية (مخرج)برونو اولمر (مخرج فرنسي)برونو طبال (مخرج)بشرى شاهين (الاتحاد الاوروبي)بهيج حجيج (مخرج)بيار ابي صعب (صحفي)بيار صراف (منتج)تينا الجميلجاد ابي خليل (مخرج)جاهدة وهبة (فنانة)جنى وهبة (مديرة إنتاج)جو بو عيد (مخرج)جوانا حاجي توما (مخرجة)جورج شقير (منتج)جولان عبد الخالقجوني الهبرجيم كويلتي (صحفي)حسام شبارو (مصور)حسام مشيمش (مصور)حسان الشوباصي (مخرج)حسين شميسانيحنان الحج علي (ممثلة)حنان الديراني (ممثلة)خالد مزنر (مؤلف موسيقي)خليل جريج (مخرج)خميس الخياطي (صحفي. تونس)ديالا قشم (ممثلة)ديما الجندي (منتجة)ديما شريف (صحفية)ديمتري خضر (مخرج / منتج)راغدة سكاف (مخرجة)رامي نيحاوي (مخرج)رانيا ماجد (منتجة)رانية اسطفان (مخرجة)ربيع الخوريربيع الشامي (منتج)ربيع مروة (ممتل / مخرج مسرحي)رشا سالطيرشاد طه (مخرج مسرحي)رشاد عربيرهام عاصي (مخرجة)رواد ضو (مخرج)روجيه غانم (فنان)روي سماحةريتا حايكريما ابراهيم (صحافة)ريما المسمار (صحفية)ريما خشيش (فنانة)زينا دكاشزيناردي حبيس (مخرج)زينة صفير (مخرجة)سابين شقير (ممثلة)سارة حاتم (ممثلة)ساري تادروسساسين كوزليساندي ناصيفسحر مندور (صحفية)سعاد عبدالله (باحثة)سليمان زرينسنتيا شقير (مخرجة)سندريلا ابي جرجسسيريل بسيل (مخرج)سيمون الهبر (مخرج)شادي روكز (فنان)شمعون ضاهرصوفيا عمارة (صحفية)طارق سعدطوني العيلية (موسيقي)طوني شكرعايدة صبرا (ممثلة)عبلة خوري (ممثلة)عدنان الامينعصام بو خالد (ممثل)علي شريعمار البيك (مخرج سوري)غريتا نوفل (فنانة تشكيلية)غسان سلهب (مخرج)فؤاد عليوان (مخرج)فادي أبو غليومفاليري نعمة (صحفية)فيروز سرحال (مخرجة)كاتيا جرجورة (مخرجة)كارلوس شاهين (مخرج)كارول عبودكارولين داغركارين غوش (منتجة)كايت سيلين (منتجة)كريستوف أونوديبيو (صحفي فرنسي)كريم صالح (ممثل)ليلى عساف (مخرجة)ليلى نحاسماريلين غصنماشا رفقاماهر ابي سمرا (مخرج)مايا الشاميمحمود حجيج (مخرج)مريان قطرا (منتجة)مصطفى يموتمنى سركيسميا بسولميرا الكوسا (مخرجة / منتجة)ميراس صادقميساء الحسينيميشال الرياشيناتاشا انطونلو الاشقر (ممثلة)نادين غرزالدين (منتجة)نادين لبكي (مخرجة)نجا الاشقرنديم اصفر (مصور)نديم جرجورة (صحفي)نرمين حداد (مخرجة)نصري حجاج (كاتب / مخرج)نصري صايغ (صحفي)نقولا معوض (ممثل)نيلغون غوكسيل (محلل مالي)هالة العبد الله (مخرجة سورية)هانية مروة (مديرة مهرجان أيام بيروت السينمائية)وائل الديب (مخرج)وسام سميرة (مخرج)اليان الراهب (مخرجة)اليسار غزال (مخرجة)أمير العمري (ناقد وكاتب)محمد خان (مخرج سينمائي)ابراهيم البطوط (مخرج سينمائي)حسين بيومي (ناقد)رمضان سليم (ناقد سينمائي)هالة لطفي (مخرجة سينمائية)نادية كامل (مخرجة سينمائية)صلاح هاشم (ناقد سينمائي)عمرو أسعد (استشاري تنمية بشرية)كمال بيومي (مهندس)محمود الغيطاني (ناقد سينمائي)ضياء حسني (ناقد سينمائي)محمد عبد الحكم دياب (صحفي)مصطفى المسناوي (ناقد سينمائي)عرب لطفي (مخرجة سينمائية)أحمد راشوان (مخرج سينمائي)بكر الشرقاوي (كاتب)سلوى بكر (كاتبة قصة)

الأحد، 23 نوفمبر 2008

المغزى الثقافي لموجة الحرائق في مصر




مصر تبدو وكأنها بأسرها تحترق تدريجيا، أو في طريقها إلي الاحتراق. أنباء تقول إن مصر شهدت خلال السنوات الخمس الأخيرة 30 ألف حريق.
الحكومة تقول عادة إن الحريق سببه "ماس" كهربائي، والناس لا يصدقون تبريرات الحكومة. والحرائق تستمر وتستمر معها التكهنات والتفسيرات.
هناك من يقولون إن طبقة رجال الأعمال، من كبار "الحيتان"، تريد أن تهدم المباني التاريخية القديمة التي تحتل مواقع هامة في القاهرة لكي تقيم مكانها أسواقا متعددة الطوابق (ما يعرف بالمولات) أو أبراجا إدارية. وهناك قسم من المعارضة يعتبر الحرائق التي تلتهم ما يعتبرونه أماكن للهو، مثل المسارح، "غضبا من الله وعقابا".
وهناك من يخشون أن تكون الحكومة نفسها مسئولة عن الحرائق لتبرير استمرار قوانين الطوارئ والقوانين القادمة التي ستكون أسوأ من الطوارئ والعياذ بالله!
ولكن بعيدا عن كل التفسيرات التآمرية، و"البوليسية" التي تهتم بالتساؤل عمن يقف وراء الحرائق، ما هو المغزي "الثقافي" أو الفكري الأعمق لموجة الحرائق الأخيرة وما تكشف عنه؟
إن الحرق في الثقافة الإنسانية عموما، ومن قديم الأزل، هو معادل للتطهير، والتطهير يستوجب أساسا وجود دنس يجب التطهر منه. كان قضاة محاكم التفتيش يعاقبون المفكرين بالحرق بدعوي أنهم من أتباع الشيطان. ومسلسل الحرائق منذ بداية اهتزاز الدولة الحديثة في مصر بدأ بحريق الأوبرا القديمة.
فهل هناك مغزي أخلاقي خاص لحرق صرح ثقافي وتنويري وفكري مثل المسرح القومي ومركز الإطفاء علي بعد خطوات منه تماما مثل الأوبرا القديمة؟!هل يمثل المسرح دنسا من نوع ما؟ أو رمزا من رموز الإثم والخطيئة في الثقافة الخرافية الجديدة السائدة في المجتمع؟ وهل كان احتراق مسرح الثقافة الجماهيرية في مدينة بني سويف واحتراق 32 مسرحيا ومثقفا داخله عملا آخر من أعمال "التطهير"؟
وإذا كان المسرح رمزا للوعي، فلعل محكمة الجيزة الابتدائية رمز لفكرة العدالة "الغائبة" ربما.. ولذا استوجب الأمر حرقها أيضا.
أما مبنيا مجلسي الشعب والشوري، فبغض النظر عما آل إليه المجلسان في الزمن الحالي، فقد كانا تاريخيا (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) رمزا لإرادة الشعب في مواجهة الحاكم. فهل كان المطلوب أيضا القضاء علي هذا الرمز (العلماني، الوضعي، الوافد من النظم الحديثة)؟
كان حريق البرلمان الألماني (الريشستاغ) في بدايات صعود النازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي عملا تخريبيا مقصودا لإرهاب الشعب باستخدام فكرة الحرق. وكان مبررا لقيام هتلر بحل الأحزاب والانفراد بالسلطة.
وكان حريق القاهرة عملا أدي إلي إسقاط حكومة الوفد الشعبية وإنهاء للمقاومة الشعبية في القناة، وعودة حكومات الأقلية والقصر، أي أنه استخدم أساسا في التخويف، من الحريات ومن الديمقراطية، تماما كما حدث في ألمانيا.
يبدو أن مسلسل الحرائق يواكب (ولا نقول إنه ناتج عن) ثقافة ترفض وتناهض التراث وتزدريه، وتريد إلغاءه، وتعتبر بناء ناطحة سحاب أهم مائة مرة من الحفاظ علي الآثار والكنوز المعمارية القائمة في القاهرة مثل مبنيي مجلسي الشعب والشوري أو المسرح القومي أو محكمة الجيزة الابتدائية.
هناك أيضا من يبرر الحرق باسم التكنولوجيا، مثل ذلك المنتج والموزع السينمائي الذي قال، وقوله مسجل بالصوت والصورة، إنه لا يعير وزنا لما يسمي بتراث السينما المصرية من النيجاتيف الأصلي للأفلام القديمة، بعد اختراع التكنولوجيا الرقمية (الديجيتال)، وإنه لا يمانع في إشعال النار في النيجاتيف المتبقي لأنه لم تعد له قيمة!
إن الرموز الكامنة التي تكشف عنها موجة الحرائق الأخيرة تتلخص في التقابلات التالية:
* ثقافة المول والأبراج المصنوعة من الحديد والزجاج في مواجهة العمارة الكلاسيكية القديمة.

* العمارة الوظيفية أي تلك التي تؤدي وظيفة تجارية مباشرة تجلب المال، أهم من العمارة الجمالية التي تختزن التاريخ فالتاريخ "قيمة وهمية".

* الحريق أداة للتطهير في مواجة رموز التدهور والحداثة الغربية والديمقراطية والثقافة المعاصرة: المسرح، السينما، البرلمان، وغدا كما يحذر البعض قد يطال الحرق القلعة والمتحف المصري ومكتبة الاسكندرية وغير ذلك.

* الحرق أمر يذكر، ولو علي صعيد رمزي، بنار جهنم التي يعاقب بها الذين انصرفوا عن الله وغرقوا في المعصية.

* الحرق أيضا غامض، مجهول، يسهل إرجاعه إلي تماس في الأسلاك الكهربائية، لا نري فيه يدا مباشرة واضحة المعالم، ولا يبقي وراءه الكثير من الدلائل، فهو شئ أقرب إلي "القدر" الذي لا يملك المرء منه فكاكا. وهو أمر ينصهر تماما في ثقافة "قدرية" سائدة تحيل الغامض من الأمور أحيانا إلي الجان والشياطين. هل نسينا أحدهم وهو يقسم ويؤكد لنا أن النار التي كانت تندلع فجأة من داخل "دولاب" في حجرة النوم، وبعد ان انتقل وأسرته من الشقة بأسرها ظلت تلاحقه من داخل الدولاب أيضا في الشقة الجديدة!

وأخيرا ألا يدعو تركز الحرائق علي رموز الوعي والتراث والتاريخ والحرية الفكرية إلي التفكير في سبب جدي بعيد عن ذلك "الماس" الكهربائي الغامض الذي ينتشر من مصنع إلي آخر، ومن مبني إلي مبني، دون أن يمس في أي مرحلة حتي الآن، مبان معينة ذات مفهوم محدد في عمق الشعور المصري، اللهم ابعده عنها!

23 نوفمبر 2008

الجمعة، 21 نوفمبر 2008

تحفة شون بن "في البرية" في مهرجان القاهرة



لاشك أن فيلم "في البرية" Into The Wild جاء عند ظهوره في 2007 مفاجأة سارة لكل عشاق السينما في العالم، وعملا سيبقى طويلا في الذاكرة.
مفاجأة لأنه يأتي من شون بن Sean Penn الممثل والكاتب والمخرج الذي عُرف بمواقفه النقدية للإدارة الأمريكية، والذي قال في مقابلة حية مع لاري كنج (نجم محطة سي إن إن) إن الرئيس جورج بوش "يدمر ديمقراطيتنا... ويأتي بالفاشية إلى بلادنا"، وأنه " أصاب بلادنا والإنسانية بأضرار بالغة ".
هذا الموقف السياسي ربما يدفع إلى الاعتقاد بأن الفيلم الجديد "الرابع" الذي يخرجه شون بن، قد يكون فيلما سياسيا يمتلئ بالعبارات الكبيرة، وبالهجاء السياسي المباشر.
لكن شون بن فاجأنا حقا بأن قدم لنا واحدا من أكثر الأفلام شاعرية ورقة وعذوبة، وأثبت أنه ليس فقط فنانا مفكرا صاحب موقف، بل وأيضا سينمائي يمتلك "رؤية" فنية ونظرة فلسفية للحياة، وفضلا عن هذا كله، شاعر سينما يمتلك مقدرة عالية على التأمل والتعبير.
إن شون بن يستخدم الكاميرا كما يستخدم الرسام الريشة والألوان، ويتعامل مع نبضات الحياة بلغة الشعر المرئي، الذي يتكون من صور تولد الأحاسيس وتفجر المشاعر، مهما بدت متناقضة مع الواقع والحقيقة.

التعبير الذاتي
في الوقت نفسه يمكن القول إن فيلم "في البرية" أحد أكثر الأفلام تعبيرا عن الذات في السينما الأمريكية منذ زمن طويل.
إنه أكثر قربا بالتأكيد من أفلام مشابهة ظهرت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، في زمن التمرد والقلق والرفض والهروب إلى الموسيقى والطبيعة والرقص والشعر الغاضب.
إلا أن شون بن يعبر فيه أيضا عن رفضه للمؤسسة الاجتماعية الأمريكية القائمة، وقيم الطبقة الوسطى السائدة، ويظهر بوضوح تعاطفه مع بطله المعذب الذي ينشد التحرر والسعادة بعيدا عن المجتمع بقيوده وتقاليده وجموده وقوالبه.
الطبيعة تلعب دورا اساسيا إلى جانب البطل في هذا الفيلم.
الفيلم مأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه من تأليف جون كراكاور، يروي فيه قصة حقيقية هي قصة شاب يدعى كريستوفر ماكندليس ينتمي لأسرة ثرية من علية القوم، تخرج من الجامعة بتفوق، لكنه يقرر أن يهجر كل شئ: الوظيفة المرموقة المنتظرة والأسرة والبيت والمجتمع والسيارة الجديدة الفارهة، ويهرب إلى الطبيعة، في رحلة فردية أوديسية تنتهي نهاية تراجيدية محتمة.
إنه يتبرع بمدخراته (24 ألف دولار لمؤسسة أوكسفام الخيرية)، ويحرق أوراق هويته وبطاقاته الخاصة، ويتخذ لنفسه اسما جديدا ساخرا هو "ألكسندر الصعلوك الكبير"، ويخوض مغامرته حتى النهاية، بروح ملؤها الأمل والرغبة في التحرر، قاطعا كل صلة له بأسرته وماضيه وعالمه.

رواية الأحداث
يتكون الفيلم من 5 فصول تحمل عناوين محددة بسيطة هي "مولدي" و"المراهقة" والبلوغ"، و"الأسرة"، "التخلي عن الحكمة"، ويستخدم المخرج الذي كتب بنفسه السيناريو، أسلوب رواية الأحداث من خلال التعليق الصوتي، تارة من وجهة نظر شقيقة البطل، وتارة أخرى من وجهة نظر البطل نفسه وهو يسجل مذكراته.
بطلنا الراغب في الهرب من المجتمع الاستهلاكي بقيمه الاجتماعية الزائفة يبدو مدفوعا إلى مغامرة أقرب إلى الحلم، بقوة رفض لعالمه المصنوع: والداه يتشاجران طيلة الوقت ويختلفان حول أسلوب تنشئته، يريدان تحديد مستقبله حسب المقاييس الاجتماعية للنجاح.
إلا أنه لا يبدو فقط مدفوعا بالنظر إلى الوراء في غضب، بل بالرغبة في قهر الطبيعة وتطويعها، وتحدي نفسه وإثبات أنه يستطيع تحقيق ما يصبو إليه، مهما كانت المخاطر الكامنة وهي كثيرة.
إنه يطوي الطرق ويقطع أرجاء الولايات المتحدة من أقصى الجنوب، من المكسيك، إلى الشمال، مرورا بنهر كولورادو الذي يصر على أن يقطعه على أداة خشبية للتزلج على الماء ومجداف، ثم يمر بمزارع ولاية داكوتا الجنوبية، ثم كاليفورنيا، هدفه الوصول إلى قمة أعلى جبال آلاسكا الجليدية.

نماذج بشرية
وخلال تلك الرحلة الأوديسية، يلتقي "كريس" بشخصيات ونماذج بشرية، يتعلم منها الكثير، عن الحياة، وعن الحكمة، والسعادة، ويبدو وكأنه يخرج من الطفولة إلى النضج.
القطيعة الكاملة مع المجتمع هي السمة المميزة لرحلة البطل
إنه يلتقي أولا بثنائي: رجل وامرأة، يعيشان حياة منطلقة تشبه حياة الهيبيز، في البرية، المرأة تجد فيه ما تفتقده في رفيق حياتها، الدفء والحوار، فتتخذه ابنا، تحاول أن تنصحه بتغليب العقل على العاطفة، وتمنحه دروسا في كيفية تحرير الروح دون فقدان الصلة بالأرض.
ويلتقي بعد ذلك بمزارع يشركه معه في حصد القمح، لكن الشرطة تقبض عليه فجأة بسبب جريمة سرقة ارتكبها في مكان آخر في الماضي، وكأن بطلنا يلتقي دوما بأب بديل أو أم بديلة.
ويتجه كريس غربا، عبر النهر والتسلل داخل قطار. ويلتقي في مخيم للغجر بمغنية حسناء، يشترك معها في الغناء، وتحاول هي أن تمنحه جسدها لكنه يعتذر ببساطة.
إنه يرفض الإغراء، ربما يريد أن يثبت لنفسه، أنه يستطيع أن يستغني عن "الآخر"، لا يود أن يترك شيئا يمنعه او يعطله عن تحقيق هدفه الوحيد: التوحد مع الطبيعة.

طبيعة الروح
وفي طريقه إلى آلاسكا، في الأحراش، يعثر على حافلة مهجورة، يتخذها بيتا له، وهناك يتعرف على رجل طاعن في السن، ذي ماض خشن، لم ينجب، يقرر على نحو ما، أن يتبنى كريس، يفهم طموحه وحلمه، يشترك معه في اكتشافاته، يحذره من عواقب تحدي الطبيعة، ويعطيه درسا في معرفة البشر "الفرق الحقيقي بين الناس يكمن في طبيعة الروح عندهم".

إن كريس هو النقيض الكامل لهذا الرجل، لكن هناك شيئا يوحد بينهما. ربما حاجة كريس في النهاية إلى أب يحتضنه ويعطيه ما عجز أبوه عن منحه إياه. يحاول الرجل أيضا أن يقنعه بضرورة العودة، الاتصال بأسرته، وهو ما يشرع كريس في القيام به بالفعل، لكنه يرغب أولا في الوصول إلى مبتغاه.
وقبل رحلته الأخيرة إلى قمة جبال آلاسكا، يصاب بنوبات من الإسهال والقيئ بسبب تناوله نباتات سامة، بعد أن عجز عن العثور على شئ يأكله، ويكون مصيره في النهاية أن يموت جوعا في مكانه داخل الحافلة المهجورة.
وكأن الفيلم يقول إن تحدي الطبيعة له حدوده وقوانينه، ولا ينبغي أن يترك الإنسان نفسه هكذا وسط الطبيعة قبل أن يتسلح بأسلحة كافية لمواجهتها.
في الولايات المتحدة، أحدث اكتشاف جثة كريس في أحراش آلاسكا، صدمة، وانقساما في الآراء، فهناك من اعتبر مغامرته نوعا من الحماقة، وهناك بين الشباب، من اعتبره، ولايزال، بطلا فذا ملهما.
السمة الواضحة في فيلم شون بن، أنه ينظر إلى بطله بتعاطف وحب وفهم، ويتعامل معه باعتباره متمردا على المجتمع، يسعى إلى لحظة استنارة خاصة يتحرر فيها ويحرر روحه.

أدوات المخرج
تقع أحداث الفيلم في أوائل التسعينيات، ويعتمد البناء في الفيلم على مشاهد العودة إلى الماضي (فلاش باك)، أي الانتقال بين الأزمنة والأماكن، ويمتلئ الفيلم باقتباسات أدبية من مشاهير الكتاب الذين كانوا مغرمين بالعودة إلى الطبيعة مثل جاك لندن، ويستخدم المخرج أحيانا أسلوب تقسيم الكادر السينمائي إلى أكثر من صورة.
غير أن أبرز أدوات شون بن التي يستخدمها إلى أقصى درجة في إخراجه للفيلم ومنحه مذاقه الخاص المتميز هي التصوير والموسيقى والأداء التمثيلي.
وهو يستخدم هذه الأدوات بحيث يضفي على الفيلم لمسة شاعرية، ويعبر ببلاغة عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
هناك لقطات خلابة لكل تفاصيل الطبيعة: عند الشروق والغروب وفي الليل. ويساعد تدرج التصوير في مواقع مختلفة في اكتشاف سحر الطبيعة خارج المدن الأمريكية.
ولاشك أن خبرة المصور الفرنسي الموهوب إريك جوتييه، أضافت الكثير من الرونق والسحر والجمال على الصورة العامة للفيلم. هنا نحن أمام قصيدة شفافة بلغة الصورة، يلعب فيها ترتيب اللقطات وتوليفها معا دورا كبيرا في وصول شحنة المشاعر التي قصد توصيلها إلينا عبر البطل المدفوع بفكرة شديدة الرومانسية عن التوحد مع الطبيعة.
وتلعب المؤثرات الخاصة دورا بارزا في الفيلم، خاصة في تنفيذ المشهد الذي نرى فيه كريس داخل السيارة وهو يتعرض لطوفان من الماء المتدفق يضرب السيارة ويقذف بها لتصطدم بشجرة، قبل أن ينحسر.
ويستخدم المخرج الموسيقى التي كتبها مايكل بروك، وأغاني إيدي فيدر التي تشيع فيها روح التمرد التي سادت في أغاني السبعينيات، ويمزجها بالفيلم كمعلق على الأحداث، أو كغلاف روحي لمشاهد الفيلم ولقطاته وكأداة فنية خلابة لفهم الطبيعة.
ويؤدي الممثل إميل هيرش دور كريس، مضفيا على الشخصية ملامح الاقتحام والتحدي والرغبة في ولوج قلب العالم، مع الحلم والأمل بتحقيق المستحيل، ونظرة حزن خفي تنبئ بمصيره التراجيدي.
وقد بذل الممثل جهدا خارقا، وتعرض لمخاطر كبيرة أثناء تمثيل الفيلم، دون الاستعانة ببديل، في مشاهد التزلج على سطح نهر كلورادو، وغيرها من المشاهد الخطرة التي جعلته جزءا من مغامرة كريس.
إن "في البرية" فيلم مغامرة، لكنها ليست فقط مغامرة البطل الحقيقي الذي انتهت حياته قبل أن يصل إلى هدفه، بل مغامرة لشون بن المخرج نفسه، الذي يشق فيه طريقا يبتعد كثيرا عن المسار التقليدي للسينما الأمريكية، بقدر ما يقترب من السينما الأوروبية في إبداعاتها الشخصية المعبرة عن الرؤية الذاتية للعالم.
إنه يبدو قريب الشبه من روح أفلام أوروبية مثل "إلفيرا ماديجان" (1967 ) Elvira Madigan لبو فيدربرج السويدي، و"صرخة الصخر" (1991) Scream of Stone لفيرنر هيرتزوج الألماني.
وهو بهذا المعنى، مغامرة في السينما، تؤدي بالضرورة إلى مغامرة في المشاهدة (148 دقيقة)، ومغامرة في النقد، لأنه سباحة عكس التيار السائد في السينما، وفي الحياة. ولعل هذا هو أساسا، سبب سحره الخاص.

الأربعاء، 19 نوفمبر 2008

فيلم"كسكسي بالسمك": تماسك إنساني وحب ممزوج بالألم



يعتبر فوز فيلم "كسكسي بالسمك" (أو حسب عنوانه الفرنسي La Graine et le mullet) للمخرج التونسي المقيم في فرنسا عبد اللطيف قشيش بثلاث من جوائز سيزار الفرنسية لأحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن ممثلة مساعدة، نقلة كبيرة بالنسبة للسينما التي يصنعها المهاجرون العرب في أوروبا.
و"سيزار" هي المسابقة السنوية بين الأفلام الفرنسية على غرار جوائز الأوسكار الأمريكية. ويتيح الفوز بجوائزها الفرصة عادة أمام الفائزين بها لتحقيق مشاريع سينمائية أكثر طموحا، تماما كما حدث مع المخرج عبد اللطيف قشيش نفسه، فقد سبق له الفوز بأربع من جوائز سيزار عن فيلمه الروائي الثاني "المراوغة" L'esquive قبل 5 سنوات، وهو ما جعل المنتج الفرنسي كلود بيري يمنحه دعما ماليا مفتوحا لتحقيق فيلمه التالي.
نوعية جديدة
أما لماذا يعد الفيلم نقلة في هذه النوعية من الأفلام التي يصنعها سينمائيون عرب في المهجر الأوروبي فلعل هذا يعود إلى الأسباب التالية:
* ابتعاده عن المواضيع التقليدية التي تسود هذا النوع من الأفلام التي يصنعها سينمائيون من أصول مغاربية حول قضية العلاقة مع "الآخر" في بلدان المهجر، وعلى الأخص فرنسا. هذه المواضيع كانت عادة تدور حول الهجرة، وأوضاع المهاجرين على هامش المجتمع الفرنسي وما يتعرضون له من عنصرية، ويتركز اهتمامها على أزمة الهوية والإحساس بالاغتراب وعدم التجانس.
* الابتعاد عن الصورة النمطية لمشاهد الفولكلور المغاربي وتصوير العادات العربية والإسلامية من منظور استشراقي، بطريقة لا تتيح مسافة بين المتفرج الأوروبي والصور، بحيث ينبهر هذا المتفرج بما يراه بسبب "غرابة" الصورة، لكنه يشعر، في الوقت نفسه، بالنفور واحيانا، بالتقزز بسبب ذلك الاختلاف النمطي عن "الصورة الغربية المتحضرة".
* عدم التركيز على القوالب المألوفة مثل موضوع اضطهاد الرجل للمرأة، والتطرف الديني، والكبت الجنسي، وختان الإناث، والوقوع في الجريمة.. وغير ذلك من قوالب يصلح أن نطلق عليها "تعليب صور التخلف السطحية على الشاشة".
يؤكد الفيلم على فكرة التمسك بالهوية، ولكن بدون الوقوع في النمطية والقولبة
ولعلنا لو طبقنا مقاييس الفيلم الأمريكي التقليدي الشائع، أو الفيلم السائد عموما استنادا إلى النموذج الأمريكي وحده، على فيلم "كسكسي بالسمك" سيكون من الطبيعي أن نعتبره عملا بدائيا تغيب عنه "الحبكة" ويعاني من الترهل والإطالة والاستطرادات واللقطات القريبة الطويلة المرهقة، ويغيب عنه الوضوح في موضوعه أو نهايته، وعدم تماسك بنائه وجمود مشاهده ولقطاته.
أما الحقيقة فهي أننا أمام عمل فني يبحر في اتجاه مخالف للسينما السائدة، ويتمثل الأعمال السينمائية الفنية التي تملك منهجها الخاص في التعامل مع الصورة. وهو بهذا المعنى يعد أيضا عملا "تجريبيا" على نحو ما، يصور دراما تدور في محيط محدد ومن خلال شخصيات محددة، لكنه يعتمد أسلوبا تسجيليا له جمالياته وإيقاعه الخاص.
ولكن ما هو الموضوع أولا؟
دراما عائلية
موضوع الفيلم بسيط للغاية، فهناك شخصية رئيسية هي شخصية سليمان وهو مهاجر تونسي في الستينات من عمره، يعمل منذ 35 عاما في بناء السفن في ميناء مارسيليا، ويبدأ الفيلم وضاحب العمل يبلغه بالاستغناء عن خدماته بدعوى أنه لم يعد يستطع أداء عمله مع تقدمه في السن.
سليمان كان متزوجا من "سعاد" المعروفة بمهارتها في إعداد الكسكسي بالسمك على الطريقة التونسية، ولديه منها عدد من الأبناء هم مجيد المتزوج من جوليا الفرنسية ولكنه يرتبط بعلاقة مع امرأة فرنسية أخرى متزوجة، ورياض الإبن الأصغر، وكريمة، وليلى (المتزوجة من هنري وهو روسي يتعلم العربية). ولدى سليمان عدد كبير من الأحفاد أيضا.
وهكذا، من البداية يدخلنا الفيلم في اطار تلك الدراما العائلية المتشابكة التي ترتبط أيضا بمحيط خارجي من الأصدقاء والمعارف، من المهاجرين الذين يرتبط بهم سليمان من محبي الموسيقى العربية وعازفيها (تأكيدا على الارتباط بالهوية).
سليمان الذي يحمل كل إصرار الجيل الأول من المهاجرين، لا يفقد رشده ولا ينهار بعد أن يفقد عمله، بل يخطر له شراء سفينة قديمة متهالكة راسية على الشاطئ لكي يحولها إلى مطعم يتخصص في تقديم الكسكسي بالسمك. وهو يبذل كل جهده من أجل العثور على جهة تقرضه مبلغا يستطيع بواسطته أن يحول السفينة القديمة إلى مطعم عائم.
أصدقاؤه يسخرون من فكرته في البداية، ثم يقول له أحدهم ساخرا أنه لابد سيحصل على ترخيص "طالما أنه لا يعتزم بناء مسجد"، ويحاول أبناؤه دفعه دفعا للعودة إلى الوطن مع الاكتفاء بما سيحصل عليه من مبلغ شهري كمنحة تقاعد. الوحيدة التي تقف معه وتسانده هي "ريم" ابنة صديقته.
ومن أجل اقناع الجهات المسؤولة عن اقراضه ومنحه ترخيصا وشهادة صحية بجدوى فكرته، يقرر سليمان اقامة حفل عشاء يدعو إليه مسؤولي البلدية والبنك وأصدقاءه وأبناء أسرته، على أن تعد زوجته السابقة الطعام (الكسكسي بالسمك)، ويعزف أصدقاؤه الموسيقى العربية الراقصة.
المخرج استخدم الكاميرا بطريقة خاصة للتلصص على الشخصيات ومراقبتها طول الوقت
ويحضر الجميع، وينتظرون بفارغ صبر وصول الطعام، لكنه لا يصل لأن "مجيد" نسيه في حقيبة سيارته وفر من المكان حتى يتفادى مواجهة مع زوج عشيقته الفرنسية وأزمة محتملة مع زوجته التي تشك بالأمر.
ويقع سليمان في مأزق. فماذا سيقدم للمدعوين. ويبذل أفراد الأسرة كل جهد للترفيه عن المدعوين بتقديم المشروبات لكسب الوقت إلى حين احضار الطعام، ويذهب سليمان على دراجته إلى منزل زوجته السابقة لكي يطلب منها اعداد طعام بديل لكنه لا يجدها، وتذهب لطيفة لاعداد كمية أخرى من الكسكسي، ويكتشف سليمان استيلاء بعض الأولاد على دراجته فيأخذ في مطاردتهم وهو المنهك صحيا وجسديا ولكن بلا جدوى.
يطول انتظار المدعوين فتسعى ريم لشد أنظارهم وابقائهم في مقاعدهم بتقديم وصلة طويلة من الرقص الشرقي لا يبدو أنها ستنتهي. وينتهي الفيلم ولكن دون نهاية محددة قاطعة، بل يترك المخرج المؤلف كل الاحتمالات مفتوحة. فقد يكون سليمان قد سقط ميتا من الإرهاق، وقد يكون قد عاد بعد ان تمكنت لطيفة من تدبير طعام بديل للضيوف، ونجح في النهاية في الحصول على ترخيص بافتتاح المطعم.
عين الكاميرا
المؤكد أن المخرج عبد اللطيف قشيش لم يشأ أن يتبع أسلوبا في السرد narrative يقوم على الحبكة المحكمة المغلقة، بل على أسلوب السرد المفتوح والمتحرر كثيرا، سواء في بناء المشاهد أو الشخصيات.
فقد أبقى مثلا على الكثير من الاستطرادات التي قد يعتبرها سينمائيون آخرون زائدة عن الحاجة، وركز على الحوارات التلقائية الطويلة، وعلى اللقطات القريبة "كلوز أب" في مشاهد المشاجرات بين أفراد العائلة، واعتمد اعتمادا أساسيا على الكاميرا الثابتة، مع استخدام الحركة الأفقية pan في الانتقال بين وجوه الشخصيات من اليمين إلى اليسار وبالعكس خصوصا في تصويره لمشاهد تناول الطعام.
إنه يضع الكاميرا في قلب المشهد داخل غرفة تناول الطعام مثلا، وسط أكثر من عشر شخصيات وعدد آخر من الأطفال، ويظل ينتقل بها من وجه لآخر، ومن شخصية إلى أخرى، في لقطات قريبة تثير ارتباك أكثر الممثلين خبرة، لكننا لا نشعر بوجودها هنا بل نرى نتيجتها المدهشة التي تتمثل في تقائية الأداء وانسجام الشخصيات، وتداخل الأصوات أحيانا دون أن نقفد القدرة على المتابعة، بل يضفي هذا كله مزيدا من الصدق على المشاهد. وهذا الأسلوب تحديدا هو ما نصفه بأنه مغامرة في التجريب خارج السائد.
من ابرز جوانب الفيلم أيضا الأداء المتميز لمجموعة الممثلين جميعا
ويعد الفيلم دراسة بصرية ممتعة بالكاميرا للشخصيات، وبدرجة أساسية لشخصية سليمان، الذي نراه في عمله ثم في سعيه للحصول على تمويل لمشروعه، ثم لقاءاته مع أصدقائه على المقهى أو في المقصف، ثم كيف يعجز عن ممارسة الحب، وكيف يرتبط بأفراد أسرته، يحنو عليهم جميعا دون قمع أو قسوة.
تتخذ الكاميرا في الفيلم صفة المراقب الدخيل الذي لا يراه ولا يشعر به أحد، وهي في هذا السياق "عين المخرج" الموضوعية التي لا تريد أن تتدخل بل تكتفي بالتلصص على ما يفعله أبطالنا البسطاء.. أبطال من خارج سينما البطولة بل من قلب سينما يمكن أن نطلق عليها بثقة "سينما النثرات الصغيرة والأفكار الكبيرة".
ولعل شخصية سليمان من أقل الشخصيات تعبيرا عن نفسها بالكلام في الفيلم، فهو يظهر معظم الوقت مطرقا صامتا يخفي ألما نبيلا وكبرياء كبيرة في مواجهة أزمته، لا يثور ولا يحتج، بل يفكر كيف يمضي قدما في تحقيق مغامرته، كأنها أصبحت سلاحه الوحيد لإعلان تمسكه بالحياة والعيش في هذا البلد الذي اعطاه خلاصة عمره.
من ناحية يمكن القول إن هذا فيلم عن التضامن الإنساني، والتساند بين جيل المهاجرين الأوائل، وعن الدفء والاهتمام الذي توفره الأسرة رغم كل ما يدور تحت السطح من خلافات وتناقضات تنعكس على أفرادها، لكن دون أن تصبح مشاكلها في المجتمع الفرنسي مشاكل"فريدة" بل جزءا من مشاكل المجتمع نفسه على نحو ما.
ولكن من ناحية أخرى هناك أيضا نقد واضح للطريقة الخشنة الغليظة التي يتخلص بها صاحب العمل الفرنسي من سليمان بعد أن أفنى عمره في العمل لديه، وهناك أيضا تشريح للتناقضات بين جيلي الآباء والأبناء، استغراق الأبناء في مشاكلهم الخاصة أو في البحث عن متع عابرة، مشاجراتهم وخياناتهم واحباطاتهم ولكنهم في كل الأوقات مترابطون.
التلقائية والواقعية
فيلم "كسكسي بالسمك" يؤكد على فكرة التمسك بالهوية، ولكن بدون الوقوع في النمطية والقولبة رغم مشاهد طهي الطعام وصبه في الأواني الضخمة ثم نقله، ومشاهد الغناء الجماعي وغيرها، فهذه المشاهد لا تبدو مقصودة في حد ذاتها، بل كجزء عضوي من نسيج الفيلم نفسه، وهو ما يجعلها تفلت من مصيدة الفولكلور.
ويستخدم المخرج الزمن الحقيقي في تصوير مشهد الحفل، ويوحي بامتداده وطوله أكثر عندما ينتقل بينه وبين بحث سليمان عن مجيد وسعاد ومطاردته لمجموعة أولاد من الجيل الثالث من المهاجرين أخذوا يسخرون منه ويرهقونه دون أدنى شعور بما يعانيه من ألم.
ويمتلئ الفيلم بالمشاجرات التي تبدو شديدة التلقائية، يكثر فيها الصياح والمشاحنات العائلية أثناء تناول الطعام، والصياح على الأبناء، ومعاقبة الأطفال، والتمرد العنيف من جانب "ريم" على أمها، وكيف تسعى إلى استفزاز مشاعر الأنوثة فيها بشتى الطرق، حتى بالصياح والبكاء، لكي تقنعها بالذهاب إلى الحفل وعدم ترك المجال مفتوحا للزوجة السابقة.
إن هذه المشاهد التي يقف وراءها مخرج وممثلون وكاميرا، تصل إلى ذروة الواقعية في الأداء والصورة وحركة الممثلين، وقد لا يتصور كثيرون أنها مشاهد تمثيلية بسبب تلقائيتها الشديدة.
ويصل الفيلم إلى ذروته المغلفة بالحزن في مشهد الرقص الأخير، الذي يتناقض عن قصد مع معاناة سليمان التي تصل إلى ذروتها مع سقوطه في النهاية بينما هو يبحث عن فرصة للتماسك والبقاء في قلب الحياة.
ولعل وعلى رأسهم بالتأكيد حبيب بوفارس في دور سليمان، وبوراوية مرزوق في دور سعاد، وحفظية حيرزي التي تألقت في دور "ريم" واستحقت عليه جائزة أحسن ممثلة مساعدة من جوائز "سيزار".
ومعظم الممثلين والممثلات في هذا الفيلم من الهواة الذين يقفون للمرة الأولى أمام الكاميرا، ولاشك أن الفضل في السيطرة المدهشة على أداء الممثلين والقدرة على استخراج أقصى امكانياتهم في التعبير تعود بالدرجة الأساسية إلى المخرج عبد اللطيف قشيش الذي بدأ مشواره السينمائي أصلا كممثل بدأ في فيلم "الشاي في حريم أرشميدس" (1984) للمخرج من أصل جزائري مهدي شريف، ولايزال يمثل وأحدث أدواره في فيلم "معذرة أيها الكارهون" Sorry Haters الذي يتناول العلاقة المتوترة بين العرب في أمريكا والأمريكيين في نيويورك بعد أحداث 11 سبتمبر.
فيلم "كسكسي بالسمك" هو أساسا عمل يرغب صانعه في أن يعيد "أنسنة" صورة المهاجرين العرب في فرنسا أمام المتفرج الغربي عموما، فهم كما نراهم هنا، أناس لهم مشاكلهم وصراعاتهم وتناقضاتهم وخياناتهم الصغيرة، بل إن لهم أيضا عالمهم الخاص بتفاصيله الخاصة التي لا تنفصل كما يؤكد الفيلم في كل مشهد من مشاهده، عن مشاكل المحيط الأكبر من حولهم، عن المجتمع الفرنسي عموما، وهو ما يجلهم بعيدين عن الصورة المتكررة للضحية التي لا تملك مصائرها.
ولعل في هذه النقطة تحديدا تكمن قوة الفيلم.

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2008

مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي


هل نقد المهرجان "مؤامرة" لتشويه سمعة مصر
(المقال منشور في جريدة "البديل" المصرية بتاريخ 17 نوفمبر)

يتعرض مهرجان القاهرة السينمائي منذ فترة طويلة، لانتقادات واسعة النطاق في الصحافة والإعلام بشكل عام، داخل وخارج مصر. وكاتب هذا المقال من ضمن الذين كتبوا مرارا عن سلبيات هذا المهرجان، وأشار إلى الكثير من نقاط ضعفه. فلماذا كل هذه الانتقادات والكتابات؟
هل الذين ينتقدون مهرجان القاهرة يرغبون مثلا في رؤيته قد اختفى من على وجه الأرض؟ أم هل يرغبون في إهالة التراب على "منجز" وطني مصري الأمر الذي قد يعتبره البعض أقرب إلى "الخيانة" الوطنية، أو خدمة أهداف الأعداء المتربصين ليلا ونهارا لمصر المسكينة المستهدفة في الداخل والخارج؟!
أم تراهم يرغبون في صرف القائمين على أمر هذا المهرجان لكي يتولوا هم مسؤولياته وتصريف أموره وكأن المسألة أساسا صراع على "الرزق" أو الوجاهة وحب الظهور!
الحقيقة أن "مشكلة" مهرجان القاهرة السينمائي قائمة منذ سنوات طويلة. ليس لأن هناك مؤامرة أو رغبة في الإساءة لصورة مصر، ولا رغبة في الحصول على مناصب أو تكليفات من أي نوع، على الأقل بالنسبة لكاتب هذه السطور الذي ترك البلد بما فيها منذ زمن "لأصحابها" بعد أن تيقن من أنه لا طائل من وراء العمل في إطار نظام يعجز المرء من خلاله عن تحقيق طموحاته وآماله وأحلامه التي يرغب ويتمنى أن يراها لبلده، فالمثقف المصري، مهما اغترب وطالت غربته، يظل يحلم بالعودة إلى محيطه الطبيعي، ليعطي مما اكتسبه من معارف وخبرات إلى أهله وناسه وشعبه.
ولكن ماذا نفعل وأمامنا مشكلة تتضخم عاما بعد عام، وخطيئة ترتكب ويتم التستر عليها بانتظام باسم مصر مع تخويف كل من يوجه النقد للمهرجان والقائمين عليه من فكرة أنه "يهاجم مصر"، على نحو يذكرنا بما اعتاد عليه الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان دائما ما يربط بين الانتقادات التي كانت توجه إلى سياساته، وبين اسم مصر.
أما مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي فتنبع من الأساس الواهي الذي يقوم عليه، فهو ليس مؤسسة حكومية تخضع بالكامل للدولة ممثلة في وزارة الثقافة، ولا هو مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني تقدم خدمة عامة بدعم من الوزارة.
ويترتب على ذلك أن هذا المهرجان كان ولايزال، يدار بطريقة الهواة والتجريبيين، تسند رئاسته عادة إلى من لا علاقة لهم بالإدارة عموما، بل ولا دراية لهم أيضا بكل جوانب العمل في المهرجانات السينمائية الدولية الكبيرة أو التي ترغب في أن تكون كبيرة، ويعتمد المهرجان على العمل الموسمي مثل عمال التراحيل والباحثين عما يعرف بـ"السبوبة" السريعة دون أي جهد حقيقي أو ولاء أو حتى معرفة، بل يعتمد الأمر على شللية خاصة، وعلى الولاء الشخصي، وتغليب مبدأ "كل واصمت"!
وحتى لا يكون كلامنا عموميا، وحتى لا نتهم بأننا نكتفي بالانتقاد وبث الأحقاد (ضد مصر ومهرجان مصر الذي يخوفنا به البعض) نحدد النقاط التالية التي نراها ضرورية لإعادة النظر في سياسة المهرجان ودوره وتنظيمه وآلية عمله:
1- يجب أولا وقبل كل شئ، وضع لائحة جديدة لهذا المهرجان بحيث تستبعد البنود المضحكة التي تنص على "حق كل دولة بالمشاركة في المسابقة الرسمية بأكثر من فيلم) وجعل المهرجان مهرجانا للمخرجين وليس للدول أو لشركات الإنتاج، على غرار المهرجانات العالمية التي لا يكتب اسم الفيلم فيها مصحوبا باسم دولة معينة، بل باسم المخرج والجهات الإنتاجية التي شاركت في إنتاجه، وقد تكون من بلدان عدة.
2- اعتبار المهرجان مؤسسة مستقلة تدعمها الدولة (مثل مؤسسة بي بي سي أو مركز الفيلم البريطاني وهاتان التجربتان كان كاتب المقال قريبا منهما لأكثر من 20 عاما). وفي هذه الحالة يجب أن يتشكل للمهرجان هيكل إداري يواصل العمل طوال السنة، وأن يتم التعيين في وظائفه بناء على مسابقات مفتوحة وبعد الإعلان عنها في الصحف. ويجب تخصيص مقر صالح للمهرجان طول العام.
3- وزير الثقافة هو الذي يقترح اسم مدير المهرجان ويكلفه بمباشرة مهام منصبه (يلغى تماما منصب رئيس المهرجان على أن يكتفى بمنصب رئيس اللجنة العليا للمهرجان يكون هو الوزير نفسه)، ثم يطرح الوزير الإسم المقترح على اللجنة العليا للاقتراع عليه، وفي حالة الموافقة يتم التعاقد معه لمدة 4 سنوات قابلة للامتداد لمدة أخرى فقط.
4- مدير المهرجان هو المسؤول الأول والأخير عن اختيار الأفلام على أن تساعده في ذلك لجان للاختيار ومستشارون لكن القرار النهائي له، لذا يجب أن يتمتع بالخبرة والمعرفة ولا يشترط على الإطلاق أن يكون من الممثلين أو نجوم التليفزيون والسينما، فهذا الأمر لا يحدث سوى في مصر فقط التي أضحت أضحوكة في هذا المجال.
5- لا يسمح بمشاركة اي فيلم لا تنطبق عليه شروط المسابقة: يجب أن يكون من انتاج ما بعد يوليو العام السابق، أي لم يمض على إنتاجه أكثر من 6 أشهر. ولا يسمح بعرض أفلام لا تصاحبها ترجمة عربية (اليكترونية) على أن تجهز الشاشات التي تعرض أفلام المسابقة للجمهور لعرض هذه الترجمة.
6- وضع نظام صارم لعرض الأفلام يفرض الالتزام بالمواعيد بدقة، وبالفيلم المحدد في الجدول، ويفرض غرامات مالية باهظة على أصحاب دور العرض المتعاقد معها لعرض أفلام المهرجان في حالة المخالفة.
7- تقليص عدد الأفلام والأقسام داخل المهرجان بحيث لا تتجاوز 5 أقسام و80 فيلما طويلا في كل الأحوال حتى يصلح عمل برنامج عملي لعرضها، على أن يتم عرض الفيلم المشارك في المسابقة مرة للصحفيين ومرتين للجمهور فقط ولا يتم تجاوز ذلك. وتعامل الأفلام على قدم المساواة.
8- تخصيص قاعة مناسبة لعرض الأفلام على النقاد والصحفيين المصريين والضيوف تكون أيضا مجهزة بآلات عرض الترجمة الاليكترونية باللغة العربية.
9- حظر دخول كاميرات التليفزيون المصري إلى قاعات العرض لتصوير أجزاء من الأفلام أثناء عرضها لما في ذلك من اعتداء صارخ على حقوق الملكية الفكرية ومظهر من مظاهر الفوضى والتخلف، وإعداد اسطوانات (سي دي) تتضمن لقطات من كل الأفلام المشاركة في المهرجان لا تتجاوز كل مجموعة منها (من فيلم واحد) أكثر من دقيقتين لتوزيعها على ممثلي محطات التليفزيون بما في ذلك التليفزيون المصري، ودعم المكتب الصحفي واعتبار وظيفة مدير المركز الصحفي للمهرجان وظيفة عليا تلي في أهميتها منصب مدير المهرجان، وليس كما هو معتاد مجرد منسق لتوزيع البطاقات والمطبوعات.
10- التدقيق في الدليل الرسمي للمهرجان بحيث لا يتضمن ذكرا لأي فيلم لم تصل نسخته بالفعل إلى المهرجان تمهيدا لعرضه، والاهتمام بتنظيم المناقشات والندوات الصحفية التي تعقب عروض الأفلام، وتخصيص ترجمة فورية لها بعدة لغات (العربية والانجليزية والفرنسية).
في حالة تطبيق هذه النقاط بجدية، وإذا كانت هناك رغبة حقيقية يمكن النهوض بهذا المهرجان الذي أصبحت سمعته في الحضيض، وأصبح الكثيرون في الخارج يتندرون بالقول "إنه يحتوي على كل شئ: الطعام الجيد، والنزهة الجميلة، والبلد المضياف، لكنه يفتقر إلى شيئين فقط هما: النظام والسينما!
ولكن يبقى سؤال آخر كبير: هل يمكن إدخال تغيير حقيقي على مؤسسة تخضع لكيان أكبر بات يعاني من تخبط وحيرة وتشتت من يلفظ أنفاسه الأخيرة!

الأحد، 16 نوفمبر 2008

تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ

هذه قصيدة للشاعر العظيم نزار قباني في هجاء بهائم القبيلة الملعونة الممسوسة بالنفط والغباء ومعاداة الثقافة والفكر وكراهية كل من يذكرهم بما كانوا عليه في الماضي القريب من عفن في صحراء الخراب، قبل أن يأتي ابن سعود الأجرب ليجعل من نفسه ملكا على الأشراف وهو لا يصلح إلا ملكا على الماعز والأبقار.


الحب والبترول


متى تفهمْ ؟

متى يا سيّدي تفهمْ ؟

بأنّي لستُ واحدةً كغيري من صديقاتكْ
ولا فتحاً نسائيّاً يُضافُ إلى فتوحاتكْ
ولا رقماً من الأرقامِ يعبرُ في سجلاّتكْ ؟

متى تفهمْ ؟

متى تفهمْ ؟

أيا جَمَلاً من الصحراءِ لم يُلجمْ

ويا مَن يأكلُ الجدريُّ منكَ الوجهَ والمعصمْ

بأنّي لن أكونَ هنا.. رماداً في سجاراتكْ

ورأساً بينَ آلافِ الرؤوسِ على مخدّاتكْ

وتمثالاً تزيدُ عليهِ في حمّى مزاداتكْ

ونهداً فوقَ مرمرهِ.. تسجّلُ شكلَ بصماتكْ

متى تفهمْ ؟

متى تفهمْ ؟

بأنّكَ لن تخدّرني.. بجاهكَ أو إماراتكْ

ولنْ تتملّكَ الدنيا.. بنفطكَ وامتيازاتكْ

وبالبترولِ يعبقُ من عباءاتكْ

وبالعرباتِ تطرحُها على قدميْ عشيقاتكْ

بلا عددٍ.. فأينَ ظهورُ ناقاتكْ

وأينَ الوشمُ فوقَ يديكَ..

أينَ ثقوبُ خيماتكْ

أيا متشقّقَ القدمينِ.. يا عبدَ انفعالاتكْ

ويا مَن صارتِ الزوجاتُ بعضاً من هواياتكْ

تكدّسهنَّ بالعشراتِ فوقَ فراشِ لذّاتكْ

تحنّطهنَّ كالحشراتِ في جدرانِ صالاتكْ

متى تفهمْ ؟

متى يا أيها المُتخمْ ؟

متى تفهمْ ؟

بأنّي لستُ مَن تهتمّْ بناركَ أو بجنَّاتكْ

وأن كرامتي أكرمْ.. منَ الذهبِ المكدّسِ بين راحاتكْ

وأن مناخَ أفكاري غريبٌ عن مناخاتكْ

أيا من فرّخَ الإقطاعُ في ذرّاتِ ذرّاتكْ

ويا مَن تخجلُ الصحراءُ حتّى من مناداتكْ
متى تفهمْ ؟
تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ

كممسحةٍ.. تمرّغ في ضلالاتكْ

لكَ البترولُ.. فاعصرهُ على قدَمي خليلاتكْ

كهوفُ الليلِ في باريسَ.. قد قتلتْ مروءاتكْ

على أقدامِ مومسةٍ هناكَ.. دفنتَ ثاراتكْ

فبعتَ القدسَ.. بعتَ الله.. بعتَ رمادَ أمواتكْ

كأنَّ حرابَ إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ
ولم تهدمْ منازلنا.. ولم تحرقْ مصاحفنا

ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ

كأنَّ جميعَ من صُلبوا.. على الأشجارِ..

في يافا.. وفي حيفا. وبئرَ السبعِ..

ليسوا من سُلالاتكْ

تغوصُ القدسُ في دمها.. وأنتَ صريعُ شهواتكْ

تنامُ.. كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ

متى تفهمْ ؟

متى يستيقظُ الإنسانُ في ذاتكْ ؟

السبت، 15 نوفمبر 2008

احتكارالدولة للثقافة والبحث عن ثقافة بديلة



الدولة المصرية تصر وتؤكد ليلا ونهارا أنها فتحت كل الأبواب أمام القطاع الخاص ورجال الأعمال والاستثمارات الخاصة. وهي تتحدث كثيرا عن "الانفتاح" و"اقتصاد السوق" و"العرض والطلب" و"الخصخصة".
إلا أن الشواهد كلها تؤكد أن قبضة الدولة لاتزال قائمة، من الخلف، أي خلف كل رأسمال خاص أو رجل أعمال يحصل على شريحة كبيرة من السوق، تقف الدولة الرسمية أم ممثلي الدولة لحسابهم الخاص. ولم يعد سرا أن المال اختلط بالسياسة، وأصبحت العلاقة وثيقة بين الاثنين: من ينجح في السوق عليه أن يؤدي الضريبة في السياسة: للحزب ولدولة الحزب بالطبع، إن لم يكن لأفراد محددين في الدولة وليس لدولاب الحكم نفسه. وهذا ما ينكشف عنه الغطاء يوما بعد يوم في قضايا الفساد الشهيرة.
وفي الثقافة تتبع الدولة أو النظام الحاكم أو الحكومة (اختر ما يناسب ذوقك!) سياسة مشابهة، فهي تعلن أنها مع تشجيع المجتمع المدني والمبادرة الفردية لكنها لا تبدي عمليا ما يشير إلى أنها حقا مع هذا الاتجاه بل على العكس، تقبض بقوة على كل مواقع القوة، وترفض أن تدعم التجمعات المستقلة التي تتكون على استحياء هنا وهناك.
وفي حين أن الدولة ممثلة في وزارة الثقافة تمارس احتكارا للسلطة الثقافية، لا يتردد وزير الثقافة فاروق حسني في كل مناسبة في إعلان أن وزارته لا تمارس الثقافة، ولا تحتكر العمل الثقافى، وأنه مع إلغاء وزارة الثقافة!
إن تحرير الثقافة ليس مجرد كلمات، ولا شعارات، بل موضوع يرتبط أساسا بقضية الحرية في المجتمع عموما.
لاشك أن للدولة دورا مهما في دعم الثقافة في العالم الثالث، ولكن هذا الدور لا يتحدد على أساس من معي (أيديولوجيا وسياسيا) أساعده وأمده بالمال وأسمح له بالوجود والانتشار، أما من ليس معي فهو ضدي بالضرورة، وبالتالي أصادر حقه في الوجود المستقل، وأمنع عنه الماء والهواء، وأحظر ظهوره في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة كما يحدث بالفعل، فالثقافة المسموح لها بالوجود هي الثقافة التي تجاري السائد في المجتمع بدلا من الدعوة إلى تغييره، والتأسيس لثقافة أخرى تدريجيا تحل محل ثقافة "الموالاة" السائدة التي أثبتت إفلاسها.
إن مشكلة المثقف الديمقراطي المستنير أنه أصبح بلا مؤسسات عامة أو خاصة تحتضنه، يجدا نفسه في داخلها ويعبر من خلالها دون أن يخشى الهجوم المزدوج عليه: أولا من جانب المؤسسة الرسمية التي تعادي كل ما هو مستقل عنها أيديولوجيا كما ذكرت، وثانيا من جانب جماعات التطرف والتشنج الفكري والدعوة إلى استقالة المرأة من التاريخ وهروب الرجل خارج العقل والمنطق والانتحار في الماضي بحثا عن المدينة الفاضلة التي لا وجود لها.
إن الإرهاب والتطرف وكل الظواهر العنيفة تقتضي العمل على إرساء ثقافة أخرى: ديمقراطية، شفافة، تستند إلى مكتسبات الحضارة الإنسانية بأفق مفتوح، والاهم من هذا وذاك أنه لم يعد يجدي أن يختبئ المثقف الديمقراطي وراء لافتات ذات صبغة مهادنة، تتخلى طواعية عن برنامج التغيير المنشود ولو بعد سنوات أو تؤجله كما تؤجل المواجهة الفكرية التي لابد أنها ستأتي، وعندما ستنتهي فترة الـتأجيل يمكن جدا أن تتخذ تلك المواجهة أشكالا صدامية عنيفة.
ولنأخذ مثالا قضية العلمانية التي نجحت أصوات الماضويين في وصمها في عقول العامة بالكفر والإلحاد والمروق في حين غابت تماما الأصوات القادرة على تقديم الفكر العلماني كفكر "إنساني" يكفل ويؤكد ويكرس حرية الفرد وحرية العقيدة، بل ويوفر الحماية لممارسة العقائد، كل العقائد، في مجتمع مفتوح متعدد الأطياف.
ومن الصحيح القول بأنه ليس من الممكن الحديث عن الديمقراطية مع تجاهل العلمانية (أو تأجيلها أو إغفالها عمدا بدعوى تحاشي صدام لا نقدر عليه الآن)، بل إن هذا التراجع الدائم والمستمر والتخلي الطوعي عن إبراز سمات الثقافة الأخرى البديلة التي نريد الوصول إليها مستقبلا، هو الذي يزيد من مساحة الهزائم الفكرية، ويترك الفرصة سانحة دون أي تحد، أمام زحف قيم التصحر الفكري ومقاييسه وأشكاله الخارجية التي ترتبط عضويا بما تمثله.
ولاشك أن فاروق حسني عندما يدعو بشكل ما، إلى إلغاء وزارة الثقافة، فإنه لا يأمل في تفعيل مؤسسات المجتمع المدني المعطلة والمشلولة عن العمل، فهو يدرك جيدا أن الدولة لن تتخلى ببساطة عن فكرة "التوجيه" و"الإرشاد" التي سادت منذ الخمسينيات وسيطرت على ما يسمى بأجهزة الإعلام والثقافة الرسمية، بل ستمنح حق الممارسة الثقافية إلى مؤسسات رأس المال التي توجد أساسا، بقرار من الدولة الحالية ونظامها، وتحتمي بها وترتبط بمؤسساتها ولا يمكنها إلا أن تعمل لصالحها. وبهذا تكتمل الدائرة المفرغة التي لا مناص من الخروج منها بتحرير الثقافة وإعادتها إلى المثقفين الديمقراطيين.

الجمعة، 14 نوفمبر 2008

"دخان بلا نار": مشروع فيلم كبير ضاع في الدخان


أول سؤال يتبادر إلى ذهنك وأنت تشاهد الفيلم اللبناني (من الإنتاج المصري) "دخان بلا نار"للمخرج سمير حبشي هو: إلى أين يقودنا هذا الفيلم الذي تتعاقب لقطاته ومشاهده أمامنا؟
تدور أحداث الفيلم كلها في لبنان وموضوعه هو ما يحدث في لبنان منذ سنوات، من قتل وقتل متبادل وتفجيرات واغتيالات وتصفيات وصراعات بين أجهزة المخابرات الدولية والعربية. لكن "المشكلة اللبنانية" رغم ذلك تائهة في الفيلم.
والسبب أن سيناريو الفيلم يفتقد إلى أهم عنصرين في كتابة السيناريو: الأول عنصر التركيز focusing في تناول الشخصية الرئيسية على الأقل، إن لم يكن باقي الشخصيات الأساسية في الفيلم.
والثاني: الاقتصاد في السرد، أي الاكتفاء بما هو ضروري وما يخدم الموضوع ويطوره، واستبعاد أي شطحات أخرى قد تشتت المتفرج، ولا تخدم الخيط الرئيسي للفيلم بل تبعدنا عنه، وتجعل هناك نوعا من الاستحالة في فهم ما يتعاقب من لقطات وصور على الشاشة.
موضوع الفيلم يدور حول مخرج سينمائي مصري (يقوم بالدور خالد النبوي) يذهب إلى بيروت لكي يكتب سيناريو فيلم روائي عن انتهاك الحريات في العالم العربي. وهناك يفترض أنه يتعرف على الوضع اللبناني.
ولكن ما هو الوضع اللبناني تحديدا الذي يتعرف عليه؟ هنا يكمن الخطأ الأول في الفيلم من حيث البناء أو طريقة السرد، وهو أننا لا نشاهد أحداث الفيلم من وجهة نظر البطل، بل إن معظم ما نراه من وقائع وأحداث: انفجارات، اغتيالات، مشاهد التعديد على الميت، التحكم القبلي والطابع العشائري للصراع، تصفية الحسابات بالسلاح، مطاردة العناصر الرافضة للوجود السوري في لبنان، تآمر أجهزة المخابرات، كل هذه الأحداث مصورة من وجهة نظر "مراقب موضوعي" للأحداث أي من عين المخرج وليس البطل، وبالتالي لا يصبح البطل صاحب العين المحايدة الذي يتفرج على على أن ينمو وعيه بما شاهده في نهاية الفيلم.

ثلاثة أشياء
أما ما يفعله البطل فليس أكثر من ثلاثة أشياء لا يبدو أنها تقنعنا بكونه محورا لأي أحداث، وبالتالي تجعل هناك استحالة لأن تأتي النهاية، أي نهاية الفيلم ونهاية البطل، على نحو ما جاءت عليه، وبما يتناقض تماما مع "علم المنطق السينمائي".
إن خالد أولا، يحمل كاميرا فيديو يصور بها أشياء كثيرة بعضها لا يبدو أن له أي قيمة، إلا إذا كان سيستخدمها في صنع فيلم تسجيلي مثلا.
وهو ثانيا: يكتب بانتظام سيناريو الفيلم الذي يعتزم إخراجه، على الورق ويعلقه على جدار الشقة التي يقيم فيها.. ولا ندري ما هي الحكمة في تعليق الأوراق بهذا الشكل إلا إذا كان الغرض أن يتوقف أمامه كل من يدخل إلى شقته ويتساءل في فضول ودهشة: ما هذا؟
الشئ الثالث الذي يمارسه البطل هو العلاقة الحسية المحسوبة ببرود مع صديقته "رنا"، في الوقت الذي يشتهي فيه "يُمنى" التي تحاول إغواءه بالفعل، ويتطلع إلى إقامة علاقة جسدية معها.
أما علاقة خالد بالواقع اللبناني وفهمه له رغم بقائه مدة طويلة نسبيا داخل هذا الواقع فلا تزيد عن معرفة أي شخص ظل في بلده مكتفيا بمشاهدة نشرات الأخبار في التليفزيون، ولم يتكبد مشقة الذهاب للعيش في بيروت لكتابة سيناريو عن القمع كما يصرح في بداية الفيلم.

خارج المنطق
وعندما نقول إن ما تنتهي إليه الشخصية مقطوع الصلة بما تبدو عليه هذه الشخصية طيلة الوقت، وأن هذا بالتالي خارج "المنطق السينمائي، فليس المقصود فرض رؤية أو "طريقة" معينة على المخرج، فمن حقه بكل تأكيد أن يسبح بخياله إلى أي آفاق يرغب، ولكن على شرط أن يكون مقنعا أولا، ومتسقا مع بنائه الفني نفسه ثانيا، فالمنطق إذن هو منطق داخلي، أي من داخل العمل نفسه وليس مفروضا من الخارج.

منطق الفيلم هنا أن "خالد" شخص برئ، لا يعرف الكثير، بل إنه لا يدري عندما يستجوبه رجال المخابرات (الذي يعمل لحساب السوريين) عن أي موكب يتحدثون، وعن أي اطلاق نار.
وعندما يلقى شخص ما مصرعه في انفجار قنبلة يدوية أراد أن يزرعها داخل سيارته بطريقة ما لكي تقيه شر لصوص السيارات، فتنفجر وتحرق السيارة، يكون كل ما يفعله خالد أن يسارع بالكاميرا لتصوير الحريق. ولا ندري بم سيفيده هذا في كتابة سيناريو فيلم روائي عن القمع.
هذه البراءة لا تجعله بأي منطق ينتهي موصوما بأشنع تهمة في العالم، أي تزعم تنظيم تابع لتنظيم القاعدة في لبنان يقوم باغتيال السياسيين، إلا إذا كان غرض صانع الفيلم يتلخص في التعريض بالمخابرات الأمريكية والسخرية منها بطريقة فكاهية. وكان هذا الجانب الفكاهي يستدعي على أي حال، بناء آخر مختلفا، ولغة أخرى شديدة الاختلاف سواء في الإخراج أم في الأداء.
هناك رغبة مؤكدة في تقديم صورة ساخرة للواقع اللبناني الذي غرق لسنوات، وربما لايزال، في لعبة القتل والقتل المضاد، وتصوير سيطرة الروح القبلية والنزوع الدموي للانتقام والعنف، وتدخل الكثير من الجهات الخارجية في الشأن الداخلي اللبناني.

سخرية ناقصة
إلا أن المشكلة أن المخرج سمير حبشي، بكل حسن نيته ودوافعه النبيلة لتقديم فيلم هجائي يستنكر ويدين ما يقع في لبنان، يعتمد كما أشرت، على سيناريو يفتقد التركيز، فبدلا من كشف المزيد من الوقائع والأحداث المرعبة، يتوقف طويلا عند مشاهد "فولكولورية" تمتلئ بالتعديد على الميت، ويمزج بين مشهد البكاء والنحيب على القتيل الذي فقدته الأسرة، ومشهد الولادة والمولود الجديد القادم إلى العالم.
بل يصبح هذا المزج أيضا حرفيا، بكل دلالاته المباشرة الفجة عندما نرى الأم ترفع مولودها في يديها تلوح به وتهتز يمنة ويسرة بينما تنوح على القتيل وسط قطيع من النساء النائحات!
ولا نفهم كيف يمكن أن ينتهي البرئ القادم من الخارج، أي المخرج السينمائي المصري خالد، متهما بالضلوع في تنظيم القاعدة وفي اغتيال شخصية كبيرة (قد تكون رفيق الحريري نفسه) وأن يقبض عليه ويساق إلى معتقل يمكن أن يكون جونتانامو مثلا!
وإذا كانت هذه سخرية هجائية من أجهزة المخابرات، التي يتهمها الفيلم بتلفيق اتهامات وهمية، فكيف يصورها في مشاهد عديدة وهي تمارس التعذيب المنهجي بغرض انتزاع الاعترافات.
أي اعترافات وهي تعرف أن المتهم برئ وأن اتهمة ملفقة، أم أن الغباء بلغ حد أنها يمكن أن تهتم بمراقبة وتعقب شخص مثل خالد يمضى معظم وقته إما في كتابة أوراق لا نعرف ما فيها، أو في اللهو مع حسناوات يتصارعن عليه!
وفي بناء مفكك كهذا، لا يمكنك أن تعرف ما إذا كان البطل الذي يخاطر بحياته من أجل كتابة سيناريو حقيقي صادق عن الواقع اللبناني، مشغولا بالفعل بمعرفة هذا الواقع، أم بالمغامرات النسائية والسهر في النوادي الليلية حيث تتمايل "الحسناء" سيرين عبد النور على الإيقاعات الراقصة، ويرقص هو معها مما يثير غيرة صديقته وغضبها وهجرها له، ثم عودتها، واستجابتها لنداء الغريزة معه، وما ينتج من متاهة ممتدة تبعدنا تماما عن موضوع الفيلم وقضيته وأجوائه.
ومع غياب الخيط القوي الذي يربط الأحداث والشخصيات معا، وغياب السيطرة على الإيقاع العام للفيلم، والوقوع في الاستطرادات والحشو الذي فشل المونتاج في التخلص منه، يصبح أداء خالد النبوي باردا، خاليا من الانفعالات حتى بعد أن يتعرض لأكثر من موقف صعب.
إن "دخان بلا نار" كان بلا شك مشروعا طموحا لفيلم كبير عن المأزق اللبناني، لكنه انتهى إلى مجموعة من المشاهد المتفرقة المفككة، وإلى مضمون يضيع، وسط دخان الغموض الذي يلف الموضوع.

الخميس، 13 نوفمبر 2008

الفيلم المغربي "كل ما تريده لولا"



صورة الغرب عن الشرق من مرآة مقعرة


جاء الفيلم المغربي "كل ما تريده لولا تناله" Whatever Lola Wants lola Gets للمخرج نبيل عيوش للعرض في مهرجان قرطاج السينمائي تسبقه الضجة الكبرى التي أثارها بعد تراجع إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي عن عرضه في افتتاح دورته الماضية بدعوى أنه يسئ إلى سمعة مصر أو يتضمن مشاهد جريئة لا يمكن السماح بعرضها، وكلاهما باطل في الحقيقة.
وبعد مشاهدة الفيلم لا يملك المرء إلا أن يؤكد أننا أمام فيلم "احترافي" من الطراز الأول، أي عمل مشغول بعناية من ناحية السيناريو: وضوح الشخصيات الرئيسية وربط الأحداث في حبكة بسيطة، وفي سياق سلس وسهل، يكشف تدريجيا للمتفرجين عما يريد الفيلم توصيله من فكرته، ومن صوره الخيالية أو المتخيلة. وفي الوقت نفسه يؤكد الفيلم المهارات الحرفية العالية التي يتمتع بها مخرجه: قدرته على ضبط الحركة والمحافظة على انسيابها داخل المشاهد، والتحكم في الإيقاع العام للفيلم، والنجاح الكبير في اختيار الممثلين الرئيسيين وإدارتهم، خاصة بطلته الممثلة الأمريكية لاورا رامزي، وتحقيق إضاءة تضفي على الصورة نعومة تتناسب مع الطابع الخفيف الاستعراضي للفيلم.
غير أن هذا لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات على الفيلم، هي ملاحظات في عمقه، ومحاولة للاشتباك مع "أفكاره" والكشف عن دلالاتها الكامنة والظاهرة، والتأمل في صوره ومغزاها، فلا يوجد عمل ينطلق من فراغ بقصد التسلية المطلقة، فلابد أن ترتبط طريقة تناول السينمائي لموضوعه في السينما برؤية معينة، وبثقافة خاصة محددة، أو بالأحرى، بمرتكزات ثقافية تنبني عليها الرؤية وتتجسد. فكيف يرى نبيل عيوش العالم الذي يصوره، والشخصيات التي يعرضها علينا في هذه الدراما، كما يتبدى من خلال فيلمه وليس من خارجه؟

فيلم أمريكي
يمكن أولا القول إن فيلم "لولا" (اختصارا للإسم الطويل الذي هو اسم أغنية أمريكية تتردد في الفيلم) هو أساسا فيلم "أمريكي" صنع حسب المفاهيم السائدة في السينما الأمريكية، وصور جانب منه في نيويورك، وتقوم بالدور الرئيسي فيه ممثلة أمريكية، وجاء ناطقا باللغة الإنجليزية. كتبت سيناريو الفيلم ناتالي ساوجون بالاشتراك مع جين هاوكسلي ونبيل عيوش. قام بتصوير الفيلم فنسنت ماتياس، وكتب موسيقاه كريشنا ليفي، وعمل له المونتاج إيرفيه دولوز.
المدخل الأساسي للفيلم مدخل أمريكي، يدور ظاهريا حول العلاقة بين الشرق والغرب، بين الثقافة العربية التقليدية، والثقافة الغربية الأمريكية، وما يمكن أن يؤدي إليه الاحتكاك بينهما، وكيف يمكن أن تتطور العلاقة وتكشف عن جانبها الإيجابي في حال وجود عنصر جاذبية في "الشرق" orient يطغى على كل ما يحيط بالصورة العامة لذلك "الشرق" من "بشاعات"، أو كأن هذه البشاعات تطغى على ذلك الجانب الساحر الذي يرغب الفيلم في الكشف عنه. فما هو ذلك الجانب؟
يبدأ الفيلم في نيويورك حيث نرى فتاة أمريكية شابة تهوى الرقص وتريد أن تتعلم الرقص الشرقي بعد أن سيطرت عليها قصة راقصة مصرية اعتزلت الرقص تدعى إسمهان، حدثها عنها طويلا صديق لها، مصري شاذ جنسيا يدعى يوسف. وسرعان ما تقع الفتاة نفسها في غرام شاب مصري آخر من أسرة ثرية، لكنه يختلف معها عندما يعرف أنها لا تفكر في الزواج قبل الخامسة والثلاثين، وأنها تريد العمل كراقصة. ويغادر الشاب (ويدعى زكريا عاكف) أمريكا عائدا إلى بلاده، وتسافر الفتاة "لولا" إلى مصر للبحث عنه، لكنه يتنكر لها، فتبحث عن الراقصة اسمهان لكي تتعلم على يديها أصول فن الرقص الشرقي، لكن لاسمهان أيضا مأساة خاصة، فقد هجرها زوجها، ورفض حبيبها أن يتزوجها، وأصبحت تتعرض من وقت لآخر لهجمات من بعض المتشددين الذين يتهمونها بالفجر ويعتدون على بيتها، ليس لديها سوى خادمها الأمين "أدهم" (الممثل الأردني نديم صوالحة) يقف إلى جوارها ويسهر على تدبير شؤون حياتها.
تتمكن لولا بعد جهد من إقناع اسمهان بتعليمها، وتشق طريقها فتلمع في القاهرة كراقصة متميزة، تستقطب الاهتمام وتحظى بالحب والتقدير، لكنها تقرر العودة إلى أمريكا بعد أن حققت حلمها لكي تواصل الرقص الشرقي هناك في ملهى ليلي بنيويورك بمساعدة صديقها يوسف.
هذا هو موجز أحداث الفيلم الذي صُنع خصيصا بغرض اجتياز الحدود والوصول إلى شبكة التوزيع العالمي. وهو يعتمد على 4 شخصيات رئيسية هي: لولا وزكريا ويوسف واسمهان.
يوسف هو المصري الشاذ جنسيا الذي يعمل في مطعم في نيويورك ويقول إنه فر من مصر بسبب اضطهاد المثليين في مصر أو التضييق عليهم كما يقول لها.
وزكريا هو المقابل له، فهو المصري، ابن الأسرة الثرية الذي يبدو أسيرا للتقاليد الشرقية المتزمتة، فهو ينظر إلى الفتاة الأمريكية نظرة أدنى بسبب تحررها، ورغم أنه أقام معها علاقة جسدية إلا أنه يرفض تقبيلها أمام أسرته، كما يرفض الاستجابة لرغبتها في تعلم الرقص الشرقي.
أما إسمهان (تقوم بالدور الممثلة اللبنانية كارمن لبس) فيضفي عليها الفيلم طابع السحر والغموض: امرأة جذابة، كانت راقصة ذات شأن في الماضي ثم اعتزلت بعد أن تعرضت لهزة عاطفية، واختارت العيش في الظل، ولكن على أعلى مستوى من الرفاهية، مع ابنتها التي لا تتجاوز السابعة من عمرها.
أما محور الفيلم ونقطة التقاطع بين شخصياته، فهي "لولا" الأمريكية الشابة التي تغرم بالرقص الشرقي حد الهوس، وتسعى بشتى الطرق لتحقيق حلمها في تعلمه على يدي "اسمهان" التي تقتنع بتدريسها بعد أن تدرك جديتها ورغبتها الأصيلة في تعلم ذلك الفن، فتبدأ في تدريسها مبادئ الرقص الشرقي. وبعد ذلك تشق الفتاة طريقها وتحقق نجاحا كبيرا في مجتمع القاهرة وتنشر الصحف والمجلات أخبار نجاحها المدوي لكنها تقرر العودة إلى بلادها تحمل معها ما تعلمته.

رؤية استشراقية
هذا فيلم يتبع بشكل منهجي وحرفي الخيال الاستشراقي أو الصورة المستقرة لدى الكتاب والرسامين الغربيين منذ مئات السنين عن ذلك الشرق: الغامض، المثير، الغريب، الأخاذ، الذي تقبع نساؤه خلف الستائر، ترتدين الملابس السوداء المحافظة، وتبدو الأمريكية "البيضاء الشقراء" في شوارعه كأنها "نصف إلهة" هبطت من السماء، يطمع فيها كل الرجال: عامل الفندق البشع ذي النظرات الشرهة، وبائع البرتقال الذي يفغر فمه في بلاهة واشتهاء، والرجال في العلب الليلية التي تغشاها للرقص مع العاهرات دون أن تعرف مغبة ما تفعله.
ومنذ أول لقطة عند انتقال الفيلم من نيويورك إلى القاهرة مع وصول بطلته، نرى المبنى الحديث في مطار القاهرة الدولي والمسافرين يخرجون منه وقد تحول إلى ما يشبه خيمة كبيرة، تزدحم بمئات الأشخاص الذين يرتدون جميعا الجلابيب، ويحمل بعضهم الحقائب والأمتعة فوق رءوسهم، وكأننا نشاهد محطة للقطارات في الشرق في عشرينيات القرن الماضي. ويجعل الفيلم سائق التاكسي الذي يعرض على لولا توصيلها رجلا يرتدي جلبابا ويضع عمامة على رأسه، في صورة لا نظير لها في الواقع، بل تنبع من خيال صناع الفيلم.
ولا تمنع جنسية المخرج وأصوله العربية المغربية من خضوعه الكامل لتلك الصور والأنماط الاستشراقية الغربية فالاستشراق ثقافة ومفاهيم ولا علاقة له بأصل المرء وجذوره بل بثقافته. ونبيل عيوش من جهة أخرى يرغب في تسويق بضاعته، أو فيلمه، إلى الجمهور الغربي، الأمريكي أساسا، فيقدم لهم ما هو مستقر في أذهانهم عبر عشرات السنين من "التنميط" وتكريس صورة "الشرق" المغايرة تماما للغرب، والمناهضة بالكامل للحداثة: في الأشكال والقيم والمفاهيم والعادات والسلوكيات.
كل الرجال في الفيلم يسعون إلى "التهام" لولا، ربما باستثناء المليونير اسماعيل (الممثل التونسي هشام رستم) الذي يعرض عليها أن ترقص في حفل زفاف ابن صديق له لكي تتاح الفرصة لتقديم رقصتين طويلتين، يستعرض المخرج خلالهما أيضا تقاليد الزفاف الأسطورية القريبة من أجواء "ألف ليلة وليلة" ذات الصور المستقرة أيضا في الخيال الغربي عن الشرق.
ودلالة على الطابع الاستشراقي للفيلم لا يدقق المخرج كثيرا في اختيار الممثلين الثانويين، ولا في اختيار الملابس أو الديكورات، كما لا يتوخى الدقة في نطق الممثلين اللهجة المصرية، فهو يستعين بطاقم من الممثلين المغاربة الذين لا يتمكنون من نطق اللهجة بطريقة صحيحة بل تبدو طريقتهم مفتعلة افتعالا، كما نرى مثلا في شخصية شقيقة زكريا وغيرها من الشخصيات من راقصات وغيرهن. ويدور التصوير في معظمه في الدار البيضاء، داخل ديكورات لاعلاقة لها بالقاهرة، كما أن تصميم البيوت من الداخل يأتي متمشيا مع الطابع المغربي التقليدي، وكذلك الملابس التي ترتديها النساء في حفل الزفاف، فالزفة مغربية، والعباءات التي يرتديها الرجال مغربية، وفساتين النساء من المغرب. فالمهم هنا ليس الدقة الواقعية، بل تقديم تلك الصورة المبهرجة الغرائبية الملونة لذلك "الشرق" كما يريد أن يراه الغربي.

أفكار الفيلم
أما أخطر ما في الفيلم من حيث طابعه الاستشراقي فيتمثل في الأفكار التي يروج لها: هنا نحن أمام أمريكية تبحث عن "الأصالة" الشرقية في مصر، وتبدأ رحلتها بالاطلالة على ما يطلق عليه صناع الفيلم "مدينة الموتى" أى مقابر القاهرة التي نعرف أنها اصبحت بسبب فشل المشاريع الاقتصادية، مأوى لقطاع من سكان القاهرة، لكن هذه المعلومة تتحول في الفيلم إلى "قصة" ذات مغزى أسطوري خاص، يرددها يوسف على مسامع لولا في بداية الفيلم عندما يقول لها إن اسمهان بعد الصدمة التي تعرضت لها، ذهبت واختفت وعاشت في مدينة الموتى سبع سنوات: هل هناك دلالة خاصة للسنوات السبع هنا؟ وهل هناك دلالة خاصة لمدينة الموتى في سياق فيلم عن الرقص وطعم الحياة سوى المزيد من الصور الاستشراقية المثيرة للدهشة: اللعب على علاقة المصريين القدماء بالموت وهي صورة راسخة في أذهان الغربيين!

وتتعرض لولا عدة مرات للاعتداء الجنسي والاغتصاب من طرف الرجال، فمجتمعات الشرق لا تسمح للنساء بالمشي في الشوارع أو التجوال ليلا. والمرأة مستهدفة من الرجال باعتبارها هدفا جنسيا، والملاهي الليلية تمتلئ بمن يبعثرون المال يمينا ويسارا، وخصوصا من الخليجيين (صور نمطية مألوفة يعيد الفيلم إنتاجها وترويجها) والشاذ جنسيا أو المثلي الجنس يوسف هو أكثر الجميع رقة وعذوبة واخلاصا لصديقته لولا لأنه لا يطمع فيها بل يرقد معها في فراش واحد دون أن يلمسها، يقول لها إن حياة المثليين في الشرق لا تطاق ويهرب من بلده إلى امريكا حتى يستمتع بحريته الجنسية، أما زكريا فلا يمكنه الزواج منها لأنها تريد أن تؤكد استقلالها أولا وتحقق ذاتها قبل أن تتزوج.
وكل الرجال في الفيلم لهم مآربهم الخاصة التي يرغبون في تحقيقها بمن في ذلك اسماعيل الذي تقول له لولا في احد المشاهد إنه يريد استخدامها كجسر للعبور إلى اسمهان. ونفهم أن اسماعيل كان مرتبطا بعلاقة حب مع اسمهان لكنه لم يتزوجها لأنه كما يشرح للولا: يعمل في وسط يفرض عليه القرب من نساء جميلات وبالتالي لا يستطيع أن يبقى وفيا لامرأة واحدة.
وعندما تروي له هجر حبيبها زكريا لها يقول لها اسماعيل: في بلادكم عندما يحب الرجل فإنه يتزوج المرأة التي يحبها، أما عندنا فالرجل الذي يحب امرأة يتزوج بامرأة غيرها"!
والمقصود أن الرجل الشرقي لا يمكنه أن يكون مخلصا لزوجته، وهو أيضا لا يتزوج عن حب، بل للمصلحة، ويخون زوجته مع من يحب!
وكل شخصيات الرجال في الفيلم من البواب إلى عامل الفندق إلى بائع البرتقال، يتحدثون الانجليزية ويفهمونها. ولكن لا يهم، فكل ما يتضمنه الفيلم مصنوع صنعا لتسلية المتفرج الغربي، وتسليته بالصور والأنماط والقوالب النمطية التي ينسبها الفيلم إلى الشرق، ويستخدم القاهرة نموذجا له.
والرسالة التي يرغب الفيلم في توصيلها هي أن الأمريكية الشقراء هي التي تقوم بدور الواسطة في التواصل الحضاري بين الشرق والغرب، وهي الأكثر اهتماما باستخراج تراث الشرق والحفاظ عليه، وهي التي تعطي المصريين درسا في ضرورة الا يشعرون بالخجل منه، كما تتمكن من تحويله إلى فن جميل تعبيري، وليس للإثارة. وتلقي قبل رحيلها إلى بلادها خطبة مفتعلة تعرب فيها عن حبها لمصر والمصريين واحترامها لهم وتدعوهم إلى الاعتزاز بتاريخهم وحضارتهم!
إن فيلم "لولا" فيلم أمريكي تقليدي، لم يتم إنتاجه نتيجة "مؤامرة" لتشويه صورة مصر، بل جاء نتاجا لمفاهيم وأفكار مستقرة وخضوع طويل لأنماط وقوالب فنية، متخلفة، قاصرة، تكرس صورة معينة عن الشرق، وتجعل من "اختلافه" عن الغرب مصدرا للجاذبية والنفور، الحب والكراهية، حب السائح لرؤية المختلف، ونفوره من مظاهر الاختلاف التي يضخمها الفيلم ويجعلها سببا لعدم قدرته على الاندماج أو الاستقرار هناك، ولذا ينتهي الفيلم يعودة بطلته إلى بلادها، بعد أن تلقن الشرق درسا في ضرورة الاعتزاز بتراثه.. أما التراث فيتمثل عند صناع الفيلم فيما يطلقون عليه في الغرب "هز البطن"!

ملحوظة: نشرت نسخة مختصرة من هذا المقال في جريدة "البديل" المصرية بتاريخ 8/ 11/ 2008

هذه الجائزة وشر البلية في مهرجانات عربية



أي مهرجان في العالم يمنح جائزة لأفشل فيلم في السنوات العشر الأخيرة يصبح مهرجانا مضحكا يستحق أن نطلق عليه "أفشل مهرجان في العالم". وما حدث أن فيلم "ليلة البيبي دول" الذي ظلم أبناء الراحل الكبير اسم ابيهم عبد الحي أديب عندما أصروا على صنع فيلم عنه (تكريما له كما قالوا) ومنحوه أسخف اسم لأي فيلم في كل العصور وهو "ليلة البيبي دول"، حصل أخيرا على جائزة أحسن سيناريو من مهرجان يقام في بروكسل ولم تكن له أي قيمة في أي وقت. والواضح أن الجائزة ممنوحة كترضية للفيلم وأصحابه الذين اقاموا زفة كبيرة في بروكسل ورطوا فيها صديقنا نور الشريف الذي لا اعرف كيف شارك في فيلم كهذا وهل يحتاج نور الشريف إلى بعض المال (الكثير من المال في الحقيقة) من شركة جود نيوز التي يرأسها الصديق القديم عماد الدين اديب؟
مشكلة عماد أديب أنه متحمس للسينما، ولكن حماسه مفاجئ جدا.. لي شخصيا، فأنا اعرفه منذ السبعينيات أي منذ أن كنا طلابا في الجامعة، وتعاونت معه عندما كان رئيسا لتحرير مجلة "المجلة" في لندن في الثمانينيات. ولم تكن تبدو على عماد، لا في ذلك الوقت ولا بعده، اي "أعراض سينمائية" من أي نوع، بل كان يشق طريقه في عالم الصحافة السياسية بثقة، ويعتبر أن اقترابه من مؤسسة الرئاسة (في عهد الرئيس السادات أولا ثم في عهد خلفه الحالي) أكبر انتصار لأي صحفي، على العكس تماما مما أعتقدت ومازلت أعتقد، فالسلطة، أي سلطة، مفسدة، والاقتراب منها "شبهة" لأي كاتب يريد أن يكون حرا ومتحررا أو يرغب حتى في ادعاء الحرية والتحرر.اما "جود نيوز" فتعمل بحماس طفولي تجعل عماد لا يعرف مع من يتعامل، فهو لا يمانع من انتاج فيلم محكوم عليه قبل أن يبدأ بالفشل هو فيلم "حليم". وينتج "ليلة البيبي دول" بميزانية قيل إنها فلكية، لا لشئ إلا لكي يقول لنا إنه "عالمي" و"كبير" ويستطيع إنتاج الأعمال الكبيرة. ويحدثنا شقيقه عادل أديب (وهو مصر على إخراج الأفلام لا أعرف لماذا!) عن اعتزام الشركة انتاج فيلم كبير عن "القاعدة" بطولة ممثلين عالميين.والواضح أن فكرة العالمية عند الاخوة أديب غير واضحة، فهم يتصورون أن الفلوس تصنع العالمية، وانك كلما أنفقت أكثر اصبحت أقرب إلى العالمية أو اقتربت منها. في حين ان المال لا يصنع أي شئ إذا كان موظفا في الاتجاه الخطأ. وسيناريو "ليلة البيبي دول" الحاصل على الجائزة من عمدة بروكسل سيناريو يصلح للتدريس في معاهد السينما في العالم، لكي يعرف طلاب السينما نقاط الضعف التي تكفل سقوط اي فيلم والتي يتعين عليهم تجنبها: تعدد الشخصيات على نحو محير ومربك ومشتت دون ان دراسة لاي شخصية أو تحديد لملامحها، الاستطرادات والحشو والثرثرة، عدم وجود محور واضح للأحداث، التناقض في الأفكار المطروحة والحيرة في فهم الهدف "الفكري" من هذا الفيلم إذا كان هناك اي هدف غير استعراض لقطات خائبة على طريقة الاعلانات التجارية المصورة أو أغاني الفيديو كليب.
والفيلم على أي حال لم يجد أي صحفي (ناهيك عن ناقد) يدافع عنه رغم النفوذ الكبير لامبراطورية عماد أديب التجارية.

شر البلية في مهرجانات عربية
أنشر هنا بعض ما كتبه الصحفي سفيان أحمد في جريدة "العربي الناصري" المصرية، دون أن يكون قصده بالطبع السخرية من مهرجان دمشق السينمائي - لا سمح الله - بل الاشادة بانجازاته الكبيرة المتعددة، المتوالدة، ورغبته في تكريم كل الناس، وكل الحلوين والحلوات، وعرض كل الأفلام لكل الممثلين والممثلات، الأحياء منهم والأموات و الصحفي المشار إليه أو المقتبس من مقاله، كتب لجريدته من دمشق حيث يشارك في تغطية المهرجان، واقرأوا معي وتأملوا في هذه النكتة الطويلة:"ضم المهرجان تظاهرات سينمائية عديدة مرافقة للمهرجان وهى (أوسكار أفضل فيلم وعددها ثلاثون فيلما من حقب متعددة ومتنوعة، البحر فى السينما، البرنامج الرسمى ويعرض 19 فيلما حازت جوائز عالمية، الرواية والمسرح فى السينما السورية، وتظاهرة المخرج مارتن سكورسيزى الذى يعد من ابرز مخرجى العالم وسيعرض المهرجان له 18 فيلما، وتظاهرة السينما السويسرية خلال عرض 12 فيلما، وتظاهرة سوق الفيلم الدولى الذى يقدم آخر نتاجات السينما العالمية الحديثة وعدد أفلامها 45 فيلما، وتظاهرة السينما المصرية 2008 وتعرض بها 7 أفلام جديدة أبرزها "ليلة البيبى دول" لعادل أديب و"جنينة الأسماك" ليسرى نصر الله، وتظاهرة المخرج أندريه تاركوفسكى، وتحية إلى روح المخرج العالمى يوسف شاهين، وتظاهرة "درر السينما الثمينة" ويعرض خلالها عشرون فيلما من ابرز الأفلام العالمية، وتظاهرة السينما الهندية خلال عرض 8 أفلام، وعروض خاصة لأفلام المخرج الصينى "زانغ بيمو"، وتظاهرة المخرج عبد اللطيف عبد الحميد وذلك بعرض جميع أفلامه، وعروض خاصة من أفلام المكرمين، وتظاهرة النجمة السويدية "جريتا جاربو"، وتظاهرة "فيروز والسينما" بعرض جميع أفلامها المصرية واللبنانية، كما لم ينس المهرجان الاحتفاء بعرض أفلام الراحلين منهم مها الصالح، والمخرج جول داسان، والمخرج سيدنى بولاك والممثلة ديبورا كير، والممثل ريتشارد ويدمارك. وكعادة المهرجان فى كل عام تم تكريم النجوم العرب والأجانب الذين اثروا السينما منهم النجم النجم أيمن زيدان، والمخرج هيثم حقى، والنجمة سلاف فواخرجى، والفنان سليم صبرى، وفاطمة خير، ومها الصالح، والكاتب حسن م.يوسف، يوسف دك الباب ومن مصر النجمان نور الشريف ونادية الجندى، والناقد سمير فريد، ووليد توفيق من لبنان، ومن النجوم العالميين ريتشارد هاريسون، ويان سفيراك، وفرانكو نيرو، وكلوديا كاردينالى، وماريان باسلر كاثرين دونوف".انتهى الاقتباس لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل: لماذا نسى القائمون على المهرجان عم أبو الزاعبيط بياع الفلافل الواقف على ناصية سينما الشام ودوره الكبير في تخليد الفن السينمائي ولماذ لم يعرضوا أيضا الأفلام الكثيرة التي أنتجها وأخرجها وقام ببطولتها؟ وكيف وجدوا في دمشق جمهورا بعدد تلك الأفلام والأعمال والموائد والموالد؟

الأحد، 9 نوفمبر 2008

فيلم "عين شمس": تحرير السينما وتحرير اللغة السينمائية

شارك فيلم "عين شمس" للمخرج المصري ابراهيم البطوط داخل مسابقة مهرجان قرطاج السينمائي، وفاز بجائز (تانيت خاص) تقديرا لمستواه الفني المتميز من لجنة تحكيم مسابقة الأفلام السينمائية الطويلة.
وتعتبر تجربة فيلم "عين شمس" تجربة غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية، وهي تؤكد أن الثوابت القديمة يمكن أن تتغير وتتعدل، بل وتتهاوى أيضا مع زحف أفكار وأشكال وطرق جديدة، سواء في الإنتاج أو في التعبير.
فيلم "عين شمس" اثار طوال عام كامل ضجيجا كبيرا في مصر، بعد أن وجدت الرقابة المصرية نفسها أمام فيلم مكتمل، أخرجه مخرجه ابراهيم البطوط بدون ميزانية تقريبا، بل اعتمادا على المبادرات الفردية التطوعية من جانب فريق العاملين والممثلين، وصوره بكاميرا الديجيتال الرقمية الصغيرة، وتمكن بدعم من المركز السينمائي المغربي من تحويله إلى شريط سينمائي من مقاس 35 ملم، وطاف به على عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، وحصل على جوائز وتقديرات عدة.
هنا أصبح الفيلم أمرا واقعا يفرض نفسه على الساحة، لكن الرقابة المصرية رأت أن مخرجه (البطوط) ومنتجه (شريف مندور) خالفا التعليمات والشروط الرقابية التي تنص على ضرورة حصول الفيلم على موافقة على السيناريو قبل التصوير، ثم على الفيلم نفسه بعد انتهاء المونتاج وقبل السماح بعرضه عروضا عامة في مصر.
إلا أن ابراهيم البطوط رفض تقديم سيناريو الفيلم بأثر رجعي، ساخرا من الفكرة، بل وضاربا عرض الحائط أساسا، بموضوع الرقابة بأسره.
وأصبح هناك بالتالي واقعا جديدا في السينما المصرية، نتج عن التطور التكنولوجي الجديد في كاميرات الفيديو الرقمية التي يمكن استخدامها بسهولة لتصوير الأفلام، بدون الاستعانة بالديكورات الضخمة أو الاستديوهات، وبذلك يتحرر السينمائي من قيود الصناعة من ناحية، ومن قيود الرقابة من ناحية أخرى، وهذا بالضبط ما فعله ابراهيم في سابقة خطيرة الدلالة، لاشك أنها تعكس تطورا كبيرا في العلاقة بين السينما والدولة، وبين الرقابة والسينما.

التطور الأخير
انتهت المعركة أخيرا بين صناع فيلم "عين شمس" والرقابة المصرية، لصالح الفيلم، بعد أن وافقت الرقابة على السماح بعرضه داخل مصر، ليس باعتباره فيلما مغربيا كما أرادت من قبل تجنبا لما نتج من حرج بعد ما حصل عليه الفيلم من جوائز في مهرجانات خارج مصر، بل كفيلم مصري.
هذه النتيجة تعكس انتصارا لاشك فيه للسينما المستقلة في مصر أي السينما التي تنتج بميزانيات محدودة للغاية، بعيدا عن قيود الصنعة التقليدية: النجوم، الديكورات، الاستديوهات، الأجهزة السينمائية المعقدة، ومع التحرر من أدوات الصنعة التقليدية يتحرر السينمائي أيضا من الخضوع للمقاييس السائدة في السوق: الصيغة الخفيفة المسلية، ذات الطابع الكوميدي غالبا، والتي تتضمن بعض المغامرات، وتمتلئ بالتعليقات اللفظية، وتعتمد على بطل- نجم، يضحك الجمهور ويدغدغ حواسه بحركاته وتعليقاته.
"عين شمس" فيلم من نوع آخر، ينتمي إلى ما يعرف بـ"سينما المؤلف"، أي أنه يعبر عن فكر وخيال ورؤية مؤلفه ومبدعه.

سينما متحررة
ومن الناحية السينمائية يعتمد الفيلم على التحرر في السرد والبناء، فالفيلم لا يقوم على "حبكة" محددة تدور من حولها "الأحداث"، وتتجسد الشخصيات، ثم يدور الصراع بينها ويتصاعد لكي تنفك "عقدة" الأحداث في النهاية، سواء في اتجاه الحل، أو التطهير، أو الهزيمة. لكننا أمام نسيج من نوع آخر مختلف، يبدأ بطبقة أو شريحة إنسانية رقيقة، سرعان ما تكشف لنا تدريجيا عن باقي الشرائح..
ولا يخرج المتفرح في النهاية بنتيجة "درامية" مؤكدة، بل بمشاعر وأفكار وتأملات تنبع من نسيج الفيلم وصلبه، ويصبح مطلوبا منه أن يعيد ترتيب نثرات الفيلم في ذهنه، ويستوحيها، لا لكي يستمتع بها فقط، بل لكي يستوعب ما تحتويه وتتضمنه، ما تكشف عنه، وما تخفيه من أفكار أو نثرات أفكار، ربما لا تكون مكتملة تماما، واضحة المعالم من البداية، بل توجد في تلك المساحة الرمادية بين الواقع والفيلم، الخيال والحقيقة، الدرامي والتسجيلي، المبتكر والحقيقي، اللمحات المقصودة والإيماءات التلقائية.
من هذا المزيج اللانهائي واللامنتهي، ينبع سحر الفيلم وحلاوة أجوائه، فهذا أساسا، فيلم أجواء ومشاعر وأفكار وليس فيلما من أفلام الدراما المصنوعة المحبوكة. ولكن ماذا يوجد داخل نسيج هذا الفيلم؟
هناك تعليق صوتي (بصوت تامر السعيد المشارك في كتابة السيناريو) يأتينا من خارج الكادر، كما لو كان صوت مراقب محايد، لكنه مطلع على كل ما يحدث، على واقع الشخصيات، وعلى ما سيحدث لها أيضا. إذن هذا الصوت- القدري، يجعلنا من البداية نستطيع أن نثق فيه وأن نتلقى منه ما يريد أن يوصله إلينا.
إنه يحدثنا عن الدكتورة مريم: التي ذهبت إلى العراق عام 2003 قبل الغزو الأمريكي، لا لكي تساعد المرضى ولا لكي تشارك في أحد الدروع البشرية، بل لكي تبحث في موضوع اليورانيوم المستنفد الذي ثبت استخدامه في حرب عام 1991، وأدى فيما بعد إلى انتشار أمراض السرطان بنسبة كبيرة عند العراقيين.
ومن بغداد إلى مستشفى البصرة، وحديث عن انتشار حالات الإسهال بسبب تلوث المياه، ثم يقول لنا صوت المعلق إن الرجل الذي نشاهده يقوم بأول رحلة صيد له بعد أن قضى 12 عاما في سجون صدام بتهمة بيع سجائر أجنبية.
ومن العراق إلى القاهرة.. ومن صائد السمك في البصرة إلى رمضان.. سائق التاكسي الذي يعمل أيضا سائقا خاصا عند سليم بك.. أحد رجال الطبقة الجديدة - القديمة في مصر.
صوت القدر الذي يأتينا من خارج الصورة ينذرنا بأن رمضان سرعان ما سيسمع خبرا يغير حياته تماما.
ابنته الوحيدة شمس التي لا تتجاوز السابعة من عمرها، هي بالنسبة له كل العالم، ولكنها مصابة بسرطان الدم. والخبر يهز حياة رمضان ويغير مسارها، ولكن سليم بك يقف إلى جواره، يساعده، ويحاول أيضا أن يساعد قريبا له على استخراج جواز سفر والهجرة إلى ايطاليا.
إلا أن سليم بك أيضا في مأزق، فيتعين عليه رد 80 مليون جنيه لأحد البنوك. وهو يصل في لحظة، إلى حالة من اليأس تكاد تدفعه إلى الانتحار. ولكنه يهرب من يأسه إلى المخدرات.

منتصف العالم
وحي عين شمس الذي تقطن فيه أسرة رمضان السائق هو "منتصف الدنيا" وقلب العالم، والتعليق الصوتي يقول لنا إن المنطقة أيضا "عائمة على بحر من الآثار، كما أن بداخلها يوجد بترول، وكانت في الماضي السحيق عاصمة للفراعنة".
ولكن كيف تبدو "عين شمس" اليوم: قمامة، وبيوت غير آدمية، وأكوام من القاذورات، وتدني في الخدمات، وأناس يعيشون على الكفاف لكنهم لم يفقدوا القدرة على الضحك واللهو والمعابثة والحلم بحياة أفضل.
هناك الكثير من النماذج التي يقدمها الفيلم في سياق الكشف التدريجي عن طبقاته وشرائحه: المرشح للبرلمان، الذي يقطن أحد أحياء الأثرياء لكنه يرشح نفسه عن حي عين شمس الفقير، ويقدم وعودا مجانية للناخبين لا يمكنه الوفاء بها.
وهناك الشباب الضائع المشغول بتركيب الأطباق اللاقطة لمشاهدة قنوات التسلية الفضائية.
وهناك المعلمة التي ترتبط بصداقة مع والدة شمس، ولكنها ترغب في الزواج حتى لو ارتدت ثياب الحداد السوداء بدلا من ثوب الفرح الأبيض.
شمس الصغيرة، تحلم برحلة إلى منطقة وسط القاهرة، كما قرأت عنها في كتاب بالإنجليزية، تتخيل أنها لاتزال تتمتع بسحرها القديم الموصوف في الكتاب، وعندما يستجيب والدها ويصطحبها مع امها في الرحلة المنشودة سرعان ما تكتشف أن الصور الموجودة في خيالها أجمل كثيرا من الحقيقة.
الغزو المسلح في العراق أنتج أمراضا اجتماعية وصحية والكثير الكثير من المعاناة، لكن المقارنات التي يعقدها الفيلم تؤكد للمشاهد أن مصر لم تكن في حاجة إلى غزو مسلح لكي تلحق بها كل أمراض الفقر والتخلف والتدهور والأمراض المستعصية.
ويشرح لنا كيف أصبحت الفاكهة والخضروات والدواجن ملوثة، وأصبح مرض جنون البقر يشكك الناس في قيمة اللحوم، ومرض انفلونزا الطيور يصرفهم عن تربية الطيور أو تناولها، وأصبح السمك مصدرا مرعبا للإصابة بأمراض السرطان بسبب الإشعاعات.

الحب والتسامح
لكن الفيلم ليس فقط عن المظاهر الحية للتدهور، بل عن قدرة الإنسان على التمسك بقيم الحب والتساند والتسامح في كل الظروف رغم افتقاد القدرة على الفعل الإيجابي.
ويصور الفيلم في مشهد يفيض بالرقة والجمال، وكما لم نر من قبل في أي فيلم مصري، كيف تقص الأم على ابنتها شمس داخل أحد الأديرة، قصة المسيح ورسالته السامية في الحب والسلام، وكيف تستمع شمس في هدوء، وتسأل في اهتمام عن السيدة مريم وابنها الذي أصبح رسولا.
ومن السلام إلى العنف: عنف الشرطة ضد المتظاهرين الذين يرغبون في التأكيد على أن الروح لم تستسلم بعد استسلامها الأبدي لما يمارس ضد الإنسان من قهر وقمع ومحو للهوية.
ويستخدم البطوط المشاهد التسجيلية، والكاميرا المحمولة على اليد في الكثير من مشاهد الفيلم، ويستفيد من آخر ما صوره من مشاهد في العراق، ومن المشهد الحي المباشر للصدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين في القاهرة، ويستغل تطور الأحداث في الواقع في تكثيف الكثير من المواقف في فيلمه كما نرى مثلا عندما يرفض سائق للتاكسي توصيل رجل أصيب في المظاهرة.
ويجعل البطوط صوت الموسيقى يطغى على صوت النائب عندما يأخذ في ترديد وعوده للناخبين الفقراء، في حين يعرف الجميع أنه يكذب.

ويمزج في لقطاته القريبة "كلوز أب" بين شخصيات الممثلين والشخصيات الحقيقية من أهالي الحي، ويجعل من الفيلم بأسره تعليقا ساخرا حزينا، على ما يحدث في مصر اليوم، دون أن يفقد الإحساس بالتعاطف مع شخصياته، ودون أن يدين أحدها أو يرفع من شأن الآخر.
ولأن الفيلم يبتعد تماما في أسلوبه عن رواية قصة درامية، أو ميلودرامية بأسلوب السينما السائدة، فهو لا ينتهي نهاية مغلقة، لكننا نعرف من خلال التعليق الصوتي الذي يعود في الجزء الأخير من الفيلم، أن شمس توفيت، وأن اسرتها انجبت بعدها طفلين، وأن سليم بك لم ينتحر كما كنا نتصور، بل هاجر إلى ايطاليا، وأن الحياة تستمر كما هي حتى إشعار آخر.
وينهي البطوط فيلمه بلقطة معبرة عن الوضع الراهن في مصر، عندما يجعل شرطيا يشير إلى رمضان وهو يقود سيارة التاكسي ويأمره بالتوقف. يتوقف التاكسي ويتوقف الفيلم، ويصبح مطلوبا منا أن نعيد ترتيب المشاهد والشخصيات حسب قراءتنا الخاصة للفيلم.

عن موقع بي بي سي العربي

الجمعة، 7 نوفمبر 2008

حول فيلم «الرقص مع بشير»




إنسانية كاذبة حولت السينما إلي وسيلة لتزويرالتاريخ
بقلم: أميرالعمري

حملة دعائية كبيرة سبقت إطلاق الفيلم الإسرائيلي "الرقص مع بشير" في بداية صيف العام الجاري ثم انتقاله إلي عدد كبير من المهرجانات السينمائية في العالم، صورته باعتباره دليلا آخر علي "يقظة" الضمير الإسرائيلي، والقدرة علي انتقاد المؤسسة الحاكمة وفي مقدمتها بالطبع الجيش الإسرائيلي، وإدانة ما وقع في صبرا وشاتيلا، ومحاسبة النفس علي ما جري من مذابح في حق الفلسطينيين من النساء والأطفال. وقد جاء هذا الفيلم أخيرا للعرض في مهرجان لندن السينمائي وأحيط باهتمام كبير وعرض في احتفالية خاصة في منتصف المهرجان بمناسبة الاحتفال بمرور 60 سنة علي قيام إسرائيل.
إلا أن تأمل الفيلم بشكل دقيق، بعيدا عن المبالغات الإعلامية التي وصلت إلي حد قول صحفي عربي إن ما يصوره "لا يجرؤ مخرج عربي علي تقديمه"، يكشف طبيعته الحقيقية ونواياه وأغراضه وحدوده السينمائية أيضا.مخرج الفيلم «أري فولمان» كان جنديا شابا في الجيش وقت الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية واقتحام بيروت عام 1982 فيما أصبح يعرف حتي الآن باسم "حرب لبنان"، وقد فقد أي أثر لأي ذكريات عن تلك الحرب التي انتهت كما هو معروف بمذابح صبرا وشاتيلا التي قتل خلالها مئات الفلسطينيين معظمهم من النساء والأطفال.
يبدأ الفيلم بزميل سابق في الجيش للمخرج يطرق عليه باب منزله في وقت متأخر من الليل لكي يقول له إنه يعاني من مطاردة كابوس ليلي له يطارده خلاله 26 كلبا متوحشا، وإن هذا الكابوس يعود إلي فترة اشتراكهما معا في "حرب لبنان" أي غزو عام 1982.
ويروي الجندي كيف أنه كلف وقتها بمهمة قتل عدد من الكلاب بلغ 26 كلبا في قرية لبنانية كانت تهاجم الجنود الإسرائيليين عند محاولتهم اقتحام القرية لاصطياد المسلحين. ويحاول زميل فولمان تذكيره بما حدث في صبرا وشاتيلا من مذابح رهيبة كان الجيش الإسرائيلي شاهدا عليها، لكن المشكلة أن فولمان لا يتذكر أي شيء من تلك الفترة وإن كان يشعر بقلق غامض كلما فكر فيها. ولذا يقرر العودة للبحث فيما حدث.
ولأنه لم يشأ تصوير فيلم تسجيلي بدون توفر وثائق علي تجربته الشخصية مع زملائه في تلك الحملة، فقد اختار صنع فيلم من أفلام الرسوم يستعيد خلاله أحداث الفترة من خلال شهادة 9 من زملائه.
يتردد في الفيلم حوار واضح تماما بين فولمان وزميله "بوز" الذي يعاني من "كابوس الكلاب". يسأله فولمان: لماذا أتيت إلي وأنا مجرد مخرج سينمائي ولست طبيبا نفسيا؟ فيرد قائلا: يمكنك أن تصنع فيلما عن ذلك، أليست الأفلام أيضا وسيلة للعلاج النفسي؟!
هذه العبارة تلخص فلسفة الفيلم كله، فنحن أمام جندي سابق في الجيش أصبح مخرجا سينمائيا، يريد أن يستدعي ذكريات أغلق عليها ذهنه تماما رغبة في الهرب من بشاعتها، بغرض تصفية حسابه مع الماضي، واستعادة ثقته بنفسه والخلاص مما يؤرقه في الداخل.
ومن هذه النقطة بالفعل تبدأ رحلة صنع الفيلم الذي لقي تمويلا من فرنسا وألمانيا.ويركز الفيلم بشكل أساسي علي عدة عناصر تتبدي في معظم لقطاته ومشاهده:
أولا: صغر سن الجنود، بل إنه يصورهم في لقطة تتكرر أكثر من 4 مرات عبر الفيلم، كما لو كانوا أطفالا يافعين، وهم يخرجون من البحر علي شاطئ بيروت، عراة تماما، ثم يبدأون في ارتداء ملابسهم في لقطة مصبوغة باللون الذهبي القاتم، كما لو كانوا يخرجون من بحيرة زيت تنعكس عليها أشعة شمس ما قبل الغروب فتضفي عليها جوا شديد الكآبة والرعب.
واللقطة المتكررة مصورة بالحركة البطيئة، بحيث تجعل الفتيان يبدون كما لو كانوا يسيرون نياما.هذه اللقطة تعكس براءة الفتيان وتمهد لما سيشهدون عليه من مذابح رهيبة.وتصور ما حدث باعتباره انتهاكا لبراءة الشباب اليافع، وهي فكرة متكررة في الأفلام الإسرائيلية المناهضة للحرب، أي أن ما يشغلها ليس القتل في حد ذاته بل تأثر ممارسة القتل علي نفسية شباب الجيش الإسرائيلي.
ثانيا: يصور الفيلم العنف الشديد من جانب الجنود الشباب في "جيش الدفاع" الإسرائيلي واستمرارهم في إطلاق الرصاص بشكل متواصل من الدبابات علي طول الشاطئ كما نري في مشهد متكرر، كرد فعل لشعور قوي بالخوف في داخلهم.. الخوف من الموت، هكذا بشكل "وجودي" دون الإشارة إلي أنهم يشاركون في غزو دولة، ويقتحمون أرضا غريبة عليهم لتحقيق هدف سياسي محدد ومعروف مسبقا، وليس حسب المعني الذي يتردد في الفيلم: لم أكن أعرف ماذا نفعل ولا أين نحن. كنت فقط أنفذ الأوامر!
ويعقب هذا المشهد الواضح الدلالة مشهداً آخر حين يصل الجندي إلي قاعدة جوية ويري عددا من جثث الجنود الإسرائيليين والمروحيات تستعد لنقلها، ويزداد شعوره بالخوف من الموت، أو عندما يروي أحدهم كيف أصيبت دبابته وهرب منها مع زملائه الذين قتلوا جميعا فيما عداه، وكيف تمكن من السباحة حتي عاد إلي وحدته.
ثالثا: يؤكد الفيلم من خلال كل شهادات الجنود والضباط، كيف أن القوات الإسرائيلية التي كانت مكلفة بالتمركز قرب مخيمات صابرا وشاتيلا لم تكن تعرف ماذا سيحدث بعد اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل وقبل تنصيبه، ولم تكن علي اطلاع علي ما تخطط له قوات الكتائب، فكل الشهود في الفيلم يؤكدون أنهم "سمعوا عنها ولم يشاهدوا بأنفسهم إلا بعد أن انتهت"، ويقول كثيرون منهم إن تصرفات مقاتلي الكتائب بعد اغتيال بشير الجميل أثارت الشك في نفوسهم وأنهم أبلغوا قيادتهم بذلك دون أن يتخيلوا أن الأمر مرتبط بمذبحة وشيكة.
ويروي أحد الضباط في الفيلم كيف أنه اتصل بشارون لكي يخبره بما يجري في المخيمات من مذابح، وأن شارون شكره علي لفت انتباهه للأمر، دون أن يتعهد بتحري الأمر كما هي العادة. ويتخذ المدافعون عن الفيلم هذا المشهد كدليل لا يقبل الشك، علي إدانة الفيلم للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، في حين أن شارون تحمل بالفعل مسئولية عدم التدخل لوقف المذابح بموجب ما توصلت إليه لجنة تحقيق خاص في الكنيست.
ويصور الفيلم ضابطا إسرائيليا يقود سيارته ويتوقف بها داخل المخيمات أمام عدد من مسلحي الكتائب يسوقون عددا كبيرا من النساء والشيوخ والأطفال قبل إطلاق النار عليهم، ويأمرهم بوقف الرصاص والتفرق، مرددا عليهم أن "هذا أمر". وعلي الفور يترك مسلحو الكتائب الفلسطينيين يعودون إلي المخيمات ويتفرقون. وهو ما يقول لنا إن الإسرائيليين هم الذين أوقفوا المذبحة!
ولا جديد في اللقطات التي تستعيد مظاهر الموت والخراب والدمار وتراكم الجثث بين أنقاض صابرا وشاتيلا، ولا جديد في تصوير يد ورأس لطفلة فلسطينية مدفونة تحت الأنقاض يعلق عليها ضابط إسرائيلي بقوله: إنها تشبه ابنتي!
فيالها من إنسانية كاذبة تلك التي تسعي إلي تطهير نفسها علي شاشة السينما، فتسيء استخدام السينما وتجعل منها أكثر وسيلة للتضليل في التاريخ الإنساني، بدلا من أن تصبح وسيلة للتنوير والوعي.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger