الأحد، 28 يونيو 2009

نقاد السينما بين النجوم



لا تقل الحقيقة عنهم وإلا فلن تدعى في المرة القادمة

بقلم سيمون هاتينسون

(( ترجمت هذا المقال الطريف قبل أكثر من عشر سنوات عن صحيفة "الجارديان" البريطانية، ونشر ضمن فصول كتابي "النقد السينمائي في بريطانيا" الصادر عن مكتبة الاسكندرية عام 2004. وأهميته في كونه يكشف لنا تفاصيل خافية علينا، من عالم الصحافة السينمائية، ومن عالم السينما أيضا)).

في الأسبوع الماضي تلقيت مكالمة هاتفية من شركة "فوكس". وكان هذا شيئا مفاجئا لأن "فوكس" نادرا ما تتصل بالصحف ذات المستوى الرفيع، فهي تعرف أن "الخبطات" الصحفية ذات التأثير تختص بها عادة صحف "التابلويد" الشعبية، فإشاعة من النوع المتقن أو كلمة أو كلمتان عما شاهده الصحفي في عرض خاص لفيلم ما، قد يساهم في إنجاح الفيلم. وعلاوة على ذلك فقد أصبح روبرت ميردوخ هو الذي يمتلك شركة فوكس، وأصبح المجال بالتالي أوسع للترويج لأفلام الشركة في صحف التابلويد التي يملكها ميردوخ مثل "ذي صن" و"نيوز أوف ذي وورلد".
ولكن كان هناك سبب لهذه المكالمة، فقد نشر لي مقال صغير في ذلك اليوم ضمن ملحق الجمعة عن بيتي توماس مخرج فيلم "دكتور دوليتل" الجديد لإيدي ميرفي. لم يكن مقالا رصينا لكنه كان دقيقا وبعيدا عن الهجومية.
وجاء صوت مسؤولة العلاقات العامة في الشركة عبر الهاتف: "هالو سيمون.. مقالك عن بيتي توماس لم يكن لطيفا.. أليس كذلك؟".
ماذا كانت تقصد؟
"أتعرف.. كان مقالا حادا.. لم يكن إيجابيا".سألتها هل طلب أحد أن تبلغني بأن المقال لم يكن لطيفا؟ وجاءت الإجابة: نعم، لقد تلقيت مكالمة هاتفية من أمريكا وقالوا لنا أن نخبركم بأنهم غير سعداء بالمقال. ويقولون إنه في المستقبل، إذا كان هناك أي مستقبل....".
ولم تكمل مسؤولة العلاقات العامة العبارة، أو ربما أكملتها، لكني من شدة الصدمة لم أعد قادرا على سماع ما قالته بعد ذلك. والأمر المدهش أيضا أن مكالمتها معي جاءت في الساعة الثالثة بعد الظهر، أي في السابعة صباحا بتوقيت لوس أنجليس. وتساءلت أنا بصوت خفيض: في أي وقت بالضبط يستيقظ عادة أساطين السينما في لوس أنجليس ويبدأون في تمشية كلابهم!
إنني أذكر هذه المكالمة- وقد تكررت معي كثيرا خلال الأسابيع الماضية- لكي أوضح جانبا خطيرا أعتقد أن مشاهدي السينما لا يعرفون عنه الكثير، فبينما تزداد المساحة المخصصة للسينما في الصحافة، يتضاءل الاهتمام بنقاد السينما وبتوفير الظروف المناسبة لهم من أجل أداء وظيفتهم. وإذا كانت شركات الإنتاج تتهافت عادة على نشر ولو بضعة أسطر عن أفلامها، فإنها في الوقت نفسه ترغب في التحكم فيما ينشر.
قبل سنوات ذهبت في رحلة صحفية لزيارة ستديوهات شركة "يونيفرسال" لمشاهدة افتتاح مدينة الملاهي والخدع السينمائية التي استخدمت في فيلم "الحديقة الجوراسية" Jurasic Park وقد أجلسونا في مقاعد الدرجة الأولى في الطائرة، وقدموا لنا ما لذ وطاب من الطعام والشراب طوال الرحلة، وأنزلونا في فندق من الدرجة الأولى، بل ووضعوا رئيسة قسم العلاقات العامة في الشركة في خدمتنا.
عادة ما يردد مديرو العلاقات العامة في شركات السينما السؤال نفسه: ما رأيك؟ فقد كان رأيهم أن مدينة ملاهي الحديقة الجوراسية هي أعظم مدينة من نوعها في العالم. وكانت الإحصائيات لديهم جاهزة للبرهنة على ذلك. ولكنهم لم يعرفوا أن رأي الصحفيين لا يتكون إلا بعد الانتهاء من المشاهدة الفعلية وبعد نهاية الرحلة.
وسأل أحد الصحفيين ما إذا كان ممكنا أن يأخذونا في جولة داخل ديزني لاند، وهي مدينة الملاهي المنافسة لمدينة يونيفرسال. وغضبت مديرة العلاقات العامة من الاقتراح لدرجة أنها لم تستطع الرد على الصحفي. وبعد استشارة زملائها جاءت الإجابة بالرفض. وقد رفضوا أن يسمحوا لنا حتى بزيارة وسط لوس أنجليس لأنهم رأوا أن هذا الجزء من المدينة ربما لا ينعكس إيجابيا في مقالاتنا الصحفية عن الرحلة.
وبعد يومين من إعدادنا للحدث المنتظر، أخذونا أخيرا إلى مدينة الحديقة الجوراسية. ولسوء الحظ لم تكن قد اكتملت بعد، ولكن يونيفرسال كانت تأمل أن نكتب عنها كما لو كانت قد اكتملت بالفعل. وقالوا لنا إن المدينة الجوراسية أكبر من مجرد مدينة للملاهي، بل "تجربة" كبيرة، وكجزء من هذه التجربة الكبيرة قررت الذهاب إلى المقهى الجوراسي لكي أتناول سندوتشا من البرجر الجوراسي. وأخذت أتحدث مع رجل جوراسي كان يقوم بالخدمة في المقهى. كان شابا وسيما، وممثلا عاطلا عن العمل يعمل في المقهى مقابل أجر زهيد إلى حين يعثر على عمل في السينما. وأخذت أسأله عن أجره وعن طموحاته السينمائية، وفجأة وجدت مديرة العلاقات العامة تجذبني من ذراعي وتجرني بعيدا وهي تقول لي: لا أعتقد أن هذا الشخص يمكنه أن يساعدك كثيرا في كتابة مقالك الصحفي. عدني ألا تنشر شيئا مما قاله لك.
وبعد عودتي من الرحلة نشرت مقالا شديد النقد للنظام الشمولي في يونيفرسال. وكان من السهل أن أفعل ذلك بحكم أنني أتمتع بوظيفة دائمة في الصحيفة التي أكتب لها، ولكن المشكلة أن معظم الصحفيين الذين يذهبون في رحلات مثل هذه هم من الصحفيين الذين يكتبون بالقطعة، وهم يحرصون بالتالي على دعم علاقاتهم بشركات الإنتاج، فإذا طلبت منهم يونيفرسال عدم التحدث عن شخص قابلوه في مقهى ما فإنهم يحرصون على الالتزام بذلك.
إن ما تفعله شركات الإنتاج إذن أنها تلتف حول الصحف وتمنح بعض الصحفيين من الذين يكتبون بالقطعة المقابلات الصحفية بشكل مباشر. وهم يقولون لنا إن هذه الطريقة هي الأفضل لأن هؤلاء يمكن الاعتماد عليهم أكثر. وهذا صحيح، وللأسف فمعنى أنه يمكن الاعتماد عليهم أنهم ينقلون بشكل مباشر، المادة الصحفية الجاهزة التي تتضمنها المطبوعات الدعائية التي توفرها لهم شركات الانتاج للترويج لأفلامها دون محاولة لتكوين رأي خاص بهم. وهناك في لوس أنجليس، مجموعة من الصحفيين الذيم يعملون بالقطعة ويتمتعون بمعاملة "خاصة" من جانب شركات الانتاج. وهم يقولون لك إنهم في موقف لا يسمح لهم بأن يكونوا شرفاء، دعنا من التمتع بروح نقدية، لذا فإنهم يجلسون بهدوء حول الموائد المستديرة، يبتسمون بينما تروي لهم "الموهبة" كيف كان المخرج عظيما، ثم يهرولون لكتابة مقالات المديح التي تضمن لهم الحصول على مقابلات صحفية أخرى.
صديق لي حضر مؤخرا حفلا صحفيا أقامته شركة وورنر أطلقت عليه "أول مؤتمر عالمي للتليفزيون". وقد قصدت وورنر بذلك أن الصحفيين المأجورين يستطيعون قضاء ثلاثة أيام في صحبة نجوم فيلمي "إي آر" ER و"أصدقاء" Friends ثم يعودون إلى بلادهم وهم يحملون بعض المقالات الدعائية لبيعها. إنه "اتفاق جنتلمان" فشركة وورنر تحصل على الدعاية التي تلزمها، والصحفيون إياهم يحصلون على بعض المال مقابل كتاباتهم. وبالطبع عليهم جميعا أن يحددوا مسبقا للشركة الصحف التي سينشرون فيها مقالاتهم، وتملك وورنر حق "الفيتو".
وقد تم تقديم صديقي هذا إلى نجوم فيلم "أصدقاء"، وقيل للجميع إنهم يستطيعون توجيه الأسئلة كما يشاءون "فأنتم في بلاد الحرية" (بالمناسبة تحتفظ شركة وورنر داخل صندوق زجاجي بقطعة من جدار برلين).
وكانت ليزا كيدرو قد اختيرت لتوها أكثر شخصيات الفيلم شعبية. ووجه صديقي إليها السؤال التالي: كيف تشعرين بعد أن أصبحت أكثر شخصيات الفيلم شعبية؟ وهنا قفزت موظفة العلاقات العامة قائلة: "أعتقد أنني أستطيع الاجابة على هذا السؤال بالنيابة عن ليزا. إننا جميعا نشعر بالألفة مع بعضنا البعض كثيرا جدا".. أو شيء من هذا القبيل!
ولكن هذه هي أمريكا. في بريطانيا نحن أسعد حظا، ففيما عدا استثناءات قليلة فإن كل المقابلات التي تقرؤونها في "الجارديان" هي مقابلات تمت بشكل مباشر: صحفي واحد يجري الحديث مباشرة مع النجم أو المخرج. أما في أمريكا فقد يشترك عشرة أو خمسة عشر صحفيا في إجراء مقابلة صحفية مع شخصية واحدة. فهل يستطيع الصحفي أن يكتب في مقدمة موضوعه أنه قضى عشرين دقيقة في انتظار أن يوجه سؤالا واحدا؟ نعم يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن من الذي سيرغب بعد ذلك في قراءة المقابلة. إن كل قاريء وكل رئيس تحرير يريد أن يشعر أن أمامه مقابلة خاصة نادرة أو قطعة من روح النجم السينمائي.
شركات هوليوود ترى أن هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة، فمع الإقبال على إجراء المقابلات الصحفية مع النجوم يجب تنظيم مقابلات جماعية لعدة صحفيين وإلا كيف يمكن الاستجابة لكل هذا العدد. وبسبب صعوبة تنظيم هذه المؤتمرات أو اللقاءات الصحفية الجماعية يصبح من الضروري التحكم فيها مسبقا. ويصبح أمرا طبيعيا بالنسبة للصحفيين المتحلقين حول المائدة أن يتم إسكات ذلك الصحفي المشاغب الذي لا يفتأ يكرر أسئلة بعيدة عن الموضوع حسبما ترى مندوبة العلاقات العامة.
ربما تقول لنفسك: إننا أسعد حظا في انجلترا العجوز فليس لدينا نجوما كثيرين، وعندما نجري معهم مقابلات صحفية فإننا نجريها حسب شروطنا نحن.. أليس كذلك؟
ليس تماما. أولا هناك عملية تدقيق شديدة، فقد يتصل بك مندوب الصحافة أو وكيل الفنان لكي يقول لك مثلا: سيمون.. هل يمكنك إرسال بعض النسخ من مقالاتك المنشورة إلى مستر ألبرت فيني لكي يلقي نظرة عليها. ثم يتضح أن المستر ألبرت فيني ألقى نظرة سريعة عليها ولم يعجبه ما تتضمنه، وإذن فلن تحدث المقابلة.
قد تقول لنفسك: ولكننا نستطيع أن نلتقط صورا خاصة بنا للفنانين.. أليس كذلك؟
إلى حد ما. فقد أصبحت شركات الإنتاج والتوزيع تعرض علينا صورا التقطها مصورو الشركة أو المصور الخاص للنجم. أما صورنا الخاصة فينبغي أن نحصل على تصريح منهم بنشرها. قد تسمع مثلا هذا التعليق على لقطة التقطتها أنت: "هذه لقطة رائعة للسير أنطوني هوبكنز. غريب أنه استطاع الاحتفاظ بهذه النظرة الساخرة في عينيه رغم تقدمه في العمر". ولكن لا تندهش إذا ما تبعها شيء من هذا النوع: سير أنطوني يطلب ضرورة أن تحصل على حق نشر الصورة أولا.
على الأقل (ستقول لنفسك) نحن في انجلترا غير مضطرين للتجمع حول مائدة مستديرة ضمن حشد من الصحفيين للاستماع إلى ما يتعطف علينا به نجم سينمائي. هذا صحيح لكن معظم المقابلات الصحفية التي تقرأها في هذه الصحيفة أجريت في فنادق. وتحديدا في فندق دورشستر، لدرجة أنني كنت أتصور أن فندق دورشستر أبرم اتفاقا تجاريا مع شركات السينما. إن هذا يخلق جوا كان بريخت سيسعد به كثيرا ويأخذ في تذكيرنا بعدم واقعيته طوال الوقت.
أحيانا تستطيع أن تقابل النجم في غرفته بالفندق، ألا يبدو هذا رائعا أو مغويا، أو على الأقل مشبعا للغرور؟ كلا. إنه أمر يسبب الحرج، فالصحفي في موقف كهذا يتحول إلى شخص متطفل بمجرد دخوله إلى الغرفة. ولا عجب إذن أن يصبح النجوم عادة عدائيين تجاه الصحافة ويرفضون التحدث إلى الصحفيين (رغم أن عقودهم تنص على عكس ذلك).. وهنا يبدأ الصحفيون في تخمين من الذي سيرقد في الفراش ومن الذي سيبقى جالسا أثناء اجراء المقابلة!
ولكن على الأقل عندما نصل إلى النجم نستطيع أن نوجه له ما نشاء من أسئلة. أليس كذلك؟
أحيانا، فغالبا ما يناولك مندوب العلاقات العامة أثناء اجتيازك عتبة باب الحجرة قائمة بالمحظورات. ولي تجربة شخصية في هذا المجال، فقد كنت في طريقي لاجراء مقابلة صحفية مع كورتناي لوف (نجمة موسيقى البوب التي تحولت إلى ممثلة سينمائية)، وكان يتردد أنها استُغلت كثيرا في الدعاية لنفسها، فقد كثر الحديث عن علاقتها بكيرت كوبان، وعن إدمانهما المخدرات، وعن ماضيها في رقص التعري (ستربتيز). وكان الفيلم الذي تألقت فيه هو فيلم "الشعب ضد لاري فلينت" لميلوش فورمان، وهو عن العلاقة بين صانع أفلام إباحية (بورنوجرافية) وزوجته راقصة الاستربتيز ومدمنة المخدرات، وكما هو شائع فالشخصية تعكس جانبا من الحياة الخاصة للممثلة. وكان من المستحيل عدم الربط بين الاثنتين في الأسئلة.
ولكنهم قالوا لي قبل المقابلة: غير مسموح بتوجيه أي أسئلة عن كيرت كوبان أو عن المخدرات أو الاستربتيز. وإذا كنت قد عدت إلى صحيفتي بدون توجيه هذه الأسئلة لكان رئيس التحرير قد وجد مبررا لطردي من العمل. ولذلك أخذت في توجيه الأسئلة. وجاءني صوت مندوبة العلاقات العامة من ركن الغرفة: ما هذا .. هذا لعب خشن.. سؤال آخر من هذا النوع وستجد نفسك مطرودا.. وهنا انتهت المقابلة.
الشركات تقول: إننا نريد أن نحمي نجومنا.. لا نريد أسئلة استفزازية. وأنا أقول: ولا أنا أيضا، لكن أفضل الكتابات تلك التي يستطيع الكاتب أن يقبض فيها على ثنايا موضوعه، وأن يربط بين أجزائنه.
ما هو الحل إذن؟
ربما كان يتعين علينا أن نقلل من الاعتماد على المقابلات الصحفية ونهتم أكثر بكتابة "البورتريه" السينمائي للممثل. ولكن هنا أيضا سنواجه مشاكل من نوع آخر، فهذا النوع من الكتابة يتطلب تكوين علاقات مع المحيطين بالموضوع أو بالنجم الذي نعتزم كتابة بورتريه عنه. فأنت تحتاج إلى معلومات دقيقة. ثانيا: سنجد أنفسنا وقد أصبحنا أكثر اعتمادا على مواد الأرشيف المنشورة عن الشخصية.. قصاصات الصحف وما إلى ذلك، وهو ما قد يجعلنا نردد نفس الأحكام والمعلومات القديمة بأخطائها.
ربما يصبح بوسعنا أن نلجأ إلى النوع الرفيع من مقالات الفكر حول: كيف فشلت السينما الفرنسية في استعادة موقعها منذ وفاة جان فيجو. ولكن يجب أن نكون واقعيين، فمعظم الناس يهتمون بالنجوم وبحياة النجوم بما في ذلك قراء صحيفة "الجارديان". ونحن نحرص على تحقيق نوع من التوازن بين المواد المنشورة: أن نستخدم مواضيع قد لا تثير سوى اهتمام الأقلية، لكي نغطي مواضيع أكثر شعبية.
أما شركات الإنتاج فلديها إجابة أفضل تتمثل فيما يطلقون عليه EPK وهم يوزعونها على محطات التليفزيون، وهي مقابلات تليفزيونية مصورة معدة سلفا مع نجوم السينما من خلال أسئلة وأجوبة بارعة. وتستطيع محطات التليفزيون التعامل مع هذه المقابلات وإعادة تقطيعها وترتيبها بحيث تجعل النجم يبدو وكأنه يتحدث إلى مقدم البرنامج بشكل شخصي ويجيب عن أسئلته.
وماذا عن المقابلة الصحفية التي أجريتها مع ليوناردو دي كابريو؟ لقد نشرتها تماما كما تمت، ولم يحدث من قبل أن تلقيت ردود فعل إيجابية من مسؤولي العلاقات العامة كما حدث هذه المرة. لقد اتصلوا بي تليفونيا، واحدا وراء الآخر، وهتفوا: "عظيم.. يالها من خبطة.. لقد كان رائعا أن نقرأها كما وقعت بالضبط".
وواحدا بعد الآخر أكدوا لي أنهم سيحرصون على ضمان ألا أدعى إلى أي حفل من حفلاتهم في المستقبل!

(صحيفة "الجارديان" 21 اغسطس 1998)
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))

الجمعة، 26 يونيو 2009

مايكل جاكسون: الموت المفاجيء


مات مايكل جاكسون، نجم موسيقى البوب لأكثر من عقدين من الزمان. وأنا لا أجد مناصا الآن من الاعتراف بأنني لم أكن أحب مايكل جاكسون، ولا رقصاته وأغانيه التي كنت دائما أجدها غريبة على ذوقي، وإن كنت أفهم لماذا كان يحبها ملايين الشباب في العالم.
كنت دائما أتشكك في شخصية مايكل جاكسون الغريبة المليئة بالمتناقضات: ولعه المفاجيء بالأطفال، إجرائه سلسلة من العمليات الجراحية لـ"تبييض" بشرته، وإنقاص حجم أنفه وكأنه يهرب من "زنجيته" ويستنكرها بدون أي سبب في الواقع. أغانيه التي فيها من الرقص الاستعراضي أكثر مائة مرة مما فيها من الغناء. موسيقاه التي تصيبني بالتوتر العصبي.لكني بعد سماع خبر وفاته لا يسعني سوى أن أقف احتراما وتبجيلا لهذا المغني الاستعراضي الذي شغل الدنيا بأسرها لأكثر من عشرين عاما.
الموت دائما نهاية لفصل طويل، هو فصل الحياة الدنيا، أو بالأحرى، نهاية لقصة الحياة بكل ما فيها من شقاء وسعادة.وعند هذه النهاية التي سننتهي جميعا إليها مهما طال الزمن، يجب أن نتوقف، ونتأمل، ونتساءل عن معنى وجودنا المؤقت على الأرض، ونسرح ولو قليلا فيما يمكن أن يكون في انتظارنا هناك في العالم الآخر.لذلك يمكنني دائما، أن أغفر وأستغفر، لكل من تنتهي حياته بالموت، من يغلق الموت هذا الفصل الطويل – القصير الممتد بالنهاية المنتظرة التي لا نعرف أين ستأخذنا.
فالموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة المطلقة في حياتنا رغم أننا لا نعرف عنه شيئا، ولا نعرف ماذا يحدث لنا بعده تحديدا.
كنت في حوار قبل أسبوع أو أكثر قليلا، مع زميل لي من السودان حول جعفر النميري. كان زميلي هذا يبدي استغرابه ودهشته الكبيرة ممن يترحمون الآن على الرئيس السوداني جعفر النميري الذي رحل أخيرا. وكان لا يفهم بمنطقه الشخصي، كيف يمكن أن يترحم البعض على رجل شارك، حسب قوله، في "سفك الدماء، وسرقة شعبه وخداعه لسنوات، بل وكان أيضا في عرف "الخائن".
كان رأيي الذي قلته له أن الموت يغلق فصل الحياة بكامله، ويصبح الإنسان بين يدي ربه، هو الذي يمكنه أن يحاسبه، ولا نستطيع نحن أن نفعل شيئا سوى أن نترحم عليه، فقد كان إنسانا منا، من البشر أمثالنا، يخطئ ويصيب، أصبح حسابه الآن عند الله عز وجل.
لم يبد على صاحبي الاقتناع بمنطقي هذا بل كان يجد هذا المنطق متناقضا تماما خاصة أنه يصدر عن شخص يعلن أنه ضد الديكتاتورية والفاشية والحكم المتسلط.
نعم.. نحن ضد الحاكم المتسلط إلى أن يصبح بين يدي الله، فنتركه لحكم العزيز الجبار، كما نتركه أيضا لحكم التاريخ الذي لا يرحم أحدا مهما كان، فلن يصبح بوسعنا مطاردته في الدار الآخرة أيضا!
أما مايكل جاكسون، الذي أقام الدنيا بأسرها ولم يقعدها، بقضاياه المثيرة للجدل، علاقته بالأطفال، وبالحيوانات، هاجسه الخاص بشكله ومظهره، علاقة العمل التي ربطته أو كانت تربطه، بالوليد بن طلال والشركة التي كوناها معا. وغير ذلك، فقد انطوت صفحته وذهب ولا نملك سوى أن نتمنى له الرحمة والمغفرة.
مايكل جاكسون الذي تتردد أقاويل الآن حول أنه أنهى حياته بيده، بعد أن تناول جرعات زائدة من العقاقير، كان في النهاية ضحية عصره، ضحية الإعلام والصورة التي يرسمها للمشاهير، وربما أنه كان في قرارة نفسه إنسانا بسيطا يحب أن يحيا حياة بسيطة بعيدة عن الأضواء والصخب.. رحمه الله.

مهرجان روما للخيال

حضرت الدورة الأولى في 2007 ثم الثانية العام الماضي من مهرجان روما الدولي للتليفزيون (الذي يطلق عليه منظموه روما للخيال Roma Fiction Festival) ويعتبر التوأم التليفزيوني لمهرجان روما السينمائي الذي لم ينجح في رأيي، في التفوق على مهرجان فينيسيا العريق. ومنذ الدورة الأولى للمهرجان الأول اي روما للخيال، اكتشفت أنني أمام مهرجان حقيقي بكل معنى الكلمة، فيه من الثقافة بقدر ما فيه من الاحتفالية، والأضواء بل وكبار النجوم أيضا. وفيه فوائد كثيرة للباحثين عن الاكتشافات الجديدة خاصة في مجال الأفلام الوثائقية التي أصبح مجال الاهتمام الأساسي بها يتركز حاليا في التليفزيون.
وفي العالم العربي يغيب هذا الاهتمام بشكل مزري عن التليفزيون الرسمي والخاص، باستثناء قناة الجزيرة الوثائقية وهي القناة الوحيدة من نوعها في العالم العربي.العام الماضي كرم المهرجان الممثلة البريطانية الكبيرة هيلين ميرين، وسيكرم في دورته الجديدة التي سأحضرها (التي ستبدأ في 6 يوليو) الممثل البريطاني الشهير كينيث برانا صاحب الدرامات التليفزيونية والسينمائية الكبيرة. ويحتفي المهرجان أيضا بالممثلة الانجليزية التي تقيم في فرنسا شارلوت رامبلنج ويعرض عددا من أعمالها.

أفلام المهرجان تعرض على شاشات كبيرة في دور للعرض السينمائي، سواء ما صور منها على شرائط الفيديو (الديجيتال) أو على شرائط سينمائية.والدورة الجديدة حافلة، وستعرض عشرات الأفلام الروائية والتسجيلية، والمسلسلات القصيرة وبعض الحلقات من المسلسلات الطويلة.

وعادة ما تحظى الدراما البريطانية باهتمام خاص في هذا المهرجان الذي يقام في قلب مدينة روما بالقرب من الفاتيكان.

لا أعرف لماذا لا تشترك في هذا المهرجان الدول العربية هل لأنها توقفت عن صنع افلام للتليفزيون؟ هل لأنها لا تخجل من المشاركة بأعمالها إلى جانب العمالقة الكبار الذين صنعوا أعمالا درامية كبيرة من طراز "إليزابيث" أو "روما"، بينما نحن نتصارع حول أيهما أحسن: المسلسلات المصرية أم السورية.. أي مسلسلات؟

إن مسلسل الملك فاروق الذي تحدثوا عنه كثيرا لا يمكنه أن يصمد أمام اي عمل درامي حقيقي من الأعمال الكبيرة التي نشاهدها في روما، بل إنه يبدو عملا كاريكاتوريا مضحكا رغم ماأنفق عليه من أموال لأغراض سياسية واضحة.

الأهم أن فن الفيلم التلفزيوني الذي يروي موضوعا في أقل من ساعتين يبرز بقوة في هذا المهرجان، وهو الفن الغائب عن الشاشات العربية لأننا اصبحنا نفضل استيراد الأمريكاني والتركي.. فالأول حليف استراتيجي، والثاني لا يعرض سوى اللحم الحلال!ستكون لنا وقفة من روما.. قريبا.

الأربعاء، 24 يونيو 2009

خالد يوسف.. ماذا يحدث داخل "دكان شحاتة"؟


المخرج خالد يوسف متهم من قبل "بعض" صناع الأفلام في مصر بـ"إفساد السينما"، وجعلها "مبتذلة"، ومتهم من قبل بعض الذين يكتبون عن السينما أيضا، بأنه لا يصنع سوى أفلام "جنسية"، ويميل إلى الإثارة والمبالغة، وهو بالتالي يقوم بالتضليل بل و"الاستغلال" بمعنى exploitation سواء للذين يظهرون في أفلامه أو للجمهور. من جهة أخرى هناك من يعتبرونه زعيما سياسيا، ومصلحا اجتماعيا، يتناول قضايا المجتمع ويقوم بتشريحها بكل ما في ذلك من قسوة، ويرى هؤلاء أن هذا هو كل ما يهم، أي القدرة على توصيل رسالة سياسية شجاعة.
الجدل الدائر بين أنصار وأعداء خالد يوسف اشتد بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم "حين ميسرة"، ثم "الريس عمر حرب". وقد اتهم الفيلم الأول بتشويه سكان الأحياء العشوائية، والتحامل عليهم، انطلاقا من فكرة "شعباوية" ترى أن الفقراء أو المحرومين أو المهمشين هم بالضرورة، من الملائكة (ولعل المخرج الراحل الكبير صلاح أبو سيف كان مسؤولا على نحو ما عن شيوع تلك الفكرة)، أما الأثرياء فهم من الأشرار بالضرورة، خاصة إذا كانوا من طبقة رجال الأعمال، وهو تبسيط ساذج للأمور، وإن كانت الدراما التليفزيونية تحديدا، قامت ولا تزال على هذا النوع من المعادلات الساذجة.
لم يكن هناك أي استغلال في "حين ميسرة" ولا إساءة، بل "رؤية" تعبر عما يراه صاحبها، تماما كما كانت رؤية مجدي أحمد علي من خلال سيناريو هناء عطية الذي تبناه في "خلطة فوزية" تميل إلى إبراز الجوانب الإيجابية لدى سكان تلك المناطق، دون أن يعني هذا أن هذا على صواب وذاك على خطأ، أو أن هذا يلغي ذاك.
والحقيقة أن خالد يوسف ليس مخرجا "استغلاليا"، على الأقل ليس أكثر استغلالا- إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة أصلا- من غيره من المخرجين، كما انه ليس مصلحا اجتماعيا أو سياسيا، حتى لو كانت أحاديثه تمتليء بالآراء والأفكار السياسية، فهو أساسا، سينمائي، أداته الكاميرا وشريط الفيلم وليس العمل السياسي الحزبي المنظم أو غير المنظم.
وهو ليس من يتسبب في تدهور السينما المصرية، ولا أنه يقصد أن يستخدم الجنس من أجل دغدغة مشاعر الجماهير، بل لأنه يرى أن الجنس مكون أساسي في الإنسان، بل وعند البعض أيضا "هاجس" لا حيلة لهم فيه .
أستطيع القول إن خالد يوسف واحد من أهم المخرجين العاملين اليوم في السينما المصرية، رغم أن ما يقدمه من أفلام يقع في معظمه في دائرة "الميلودراما". وقد كانت معظم أفلام يوسف شاهين من نوع الميلودراما أيضا بل وأفلام صلاح أبو سيف أيضا. وقد أصبح صب اللعنات على خالد يوسف شبيها بما تعرض له في الماضي، المخرج الراحل حسن الإمام، صاحب البصمة المميزة في السينما المصرية بأفلامه الميلودامية الشهيرة، وقد أصبح في فترة ما "المشجب" الذي يعلق عليه السينمائيون خطاياهم.
ومهما قلنا عن أفلام خالد يوسف فهي تعبر عن رؤيته ونظرته للدنيا وللعالم، بصدق، ومن خلال "المنهج" أو الأسلوب السينمائي الذي يفضله. وليس هناك عيب في اختيار الميلودراما أسلوبا في السينما. ولعل أفلام السينمائي الإسباني الأشهر بيدرو ألمودوفار أفضل مثال على ذلك. وربما يمكن أن يصبح خالد يوسف "ألمودوفار السينما المصرية" إذا توخى الحذر في التعامل مع سيناريوهات أفلامه، بحيث يخلصها تماما من الإسقاطات والإحالات السياسية المباشرة، ويكتفي بالتعامل مع "الدراما" الكامنة في شخصياتها وبنيتها، بلغته وأسلوبه، وأن يعرف أين يتوقف ومتى، ويتيح مساحات للتنفس والتأمل في أفلامه.
ولعل هذا المدخل تحديدا ينطبق أفضل ما يكون، على فيلم خالد يوسف الأحدث "دكان شحاتة" الذي يعتمد على سيناريو لناصر عبد الرحمن.

الصراع على الملكية
يروي هذا الفيلم قصة صراع على الملكية: ملكية الدكان وملكية المرأة. هذا الصراع يدور بين ثلاثة أشقاء أصغرهم "شحاتة" الذي كان الأقرب إلى نفس والده "حجاج" البواب الذي يرحل بعد أن يخص ابنه الأثير إلى قلبه بالدكان، فيتآمر الشقيقان سالم وطالب على شقيقهما شحاتة ويلفقان له تهمة يسجن بسببها ثم يخرج بعد سنوات لكي يبحث عنهما، ليس بغرض الانتقام كما يمكن أن نتصور، بل للعودة بشكل ما، إلى كنف الأسرة، لرأب الصدع القائم بينه وبينهما، وتحقيق المصالحة، لكن الدماء تسيل لأن النصالحة بين الخير والشر مستحيلة، وتنتهي حياة شحاتة، كونه لا يدرك عمق ما وقع من تغيير المجتمع والأسرة والدنيا بأسرها.
تدور أحداث الفيلم في الفترة من 1981، أي منذ اعتيال الرئيس أنور السادات، إلى عام 2013 ، أي بعد سنوات قليلة من الزمن الحالي، وعندها يقدم الفيلم رؤيته أو تصوره المستقبلي لمسار الأزمة الاجتماعية في مصر، فنرى الرجال في نهاية الفيلم يتقاتلون في الشوارع بالسكاكين على شحنات القمح ويتصارعون من أجل الحصول على مياه الشرب.
وخلال تلك السنوات الثلاثة والثلاثين أو نحو ذلك، ينتقل السرد السينمائي بين الأزمنة مرات عدة، ويرصد الفيلم ويشير ويتوقف أمام عدد من التطورات أو المتغيرات ذات الطابع السياسي والاجتماعي في مصر، أو يحيلنا إليها: اعتقالات 1981، الانفتاح الاقتصادي وتأثيره على فئة الحرفيين وكيف يتحول شقيقا شحاتة (طالب وسالم) من طبقة بائعي الفاكهة إلى طبقة السمسارة والمقاولين، كيف يتزوج "البلطجي" الجاهل "كرم" من طالبة في الثانوي "إنجي" دلالة على الخلل الاجتماعي الذي حدث، وكيف تصبح هناك سفارة إسرائيلية في القاهرة، وكيف يصبح ابن اليساري المثالي السابق (الدكتور ونيس) وحشا من وحوش الانفتاح بعد وفاة والده، غرق العبارة المصرية في البحر الأحمر ومصرع أكثر من ألف شخص، حريق قصر ثقافة مدينة بني سويف، تزوير الانتخابات في 2005، وصولا إلى جنازة المخرج يوسف شاهين، وغير ذلك.
أما المحور التراجيدي للفيلم فيتركز حول علاقة الحب التي تربط بين شحاتة، والفتاة الحلوة "بيسة" (التي تقوم بدورها هيفاء وهبي)، بينما يرغب شقيق شحاتة "سالم" في بيسة ويريد أن ينتزعها من شقيقه، ويضغط على شقيقها "البلطجي" كرم ويغريه بالمال، لكي يزوجها له بعد أن يسجن شحاتة، ولكن بيسة لا تستسلم لسالم، فلا يصبح أمامه سوى أن ينالها بعد الزواج بالاغتصاب، وفي محاولة للهرب من الزواج الذي أرغمت عليه تحاول الانتحار بالقفز من الطابق السابع لكنها تنجو. وينتهي الفيلم بمقتل شحاتة على يدي شقيقه سالم.

الإحالات السياسية
كان من الممكن أن تنجح هذه "التركيبة" الميلودرامية التي تمتليء بالكثير من مشاهد العنف والمبالغات التي لا يمكن لأحد أن يصدق إمكانية حدوثها في الواقع، لو أن خالد يوسف ابتعد عن "تسييس" وقلص أو ألغى تماما إحالاته السياسية الآلية التي جعلت فيلمه يبدو كسلسلة من "الاسكتشات" المفككة التي لا تضيف جديدا على مستوى الوعي بالموضوع لأنها لا تقدم سوى شذرات عابرة سريعة ربما حتى تتوه من عين المتفرج في خضم المشاهد الكثيرة التي يزدحم بها الفيلم.
إن مشكلة خالد يوسف الحقيقية ليست في قدرته كسينمائي، فهو مخرج يملك بلاشك، القدرة على التعامل الجيد مع الممثلين بسيطرة مدهشة، وكذلك مع الكاميرا ويجيد استغلال امكانيات المكان، كما تتميز اختياراته لزوايا التصوير التي تمنح اللقطة أكبر شحنة عاطفية، ولديه أيضا قدرة على تنفيذ مشاهد العراك والمشاجرات والمشاهد التي يستخدم فيها أعدادا من الممثلين الثانويين (الكومبارس) وتقطيع لقطاتها ببراعة، ومنحها قوة تأثير على الجمهور. وهو أيضا يجيد التعبير عن المشاعر الداخلية كما يتبدى مثلا في مشهد مناجاة الأب "حجاج" (محمود حميدة) لولده شحاتة، حين يدور الحديث بينهما عن الموت، وفيه تتضح براعة الحوار وتلقائيته وجمال الأداء التمثلي بين محمود حميدة الذي يصل في هذا الفيلم إلى قمة النضج الفني، وعمرو سعد الموهية الجديدة الصاعدة بقوة في عالم التمثيل السينمائي.
أما المشكلة الحقيقية فتتجسد في أن خالد يوسف يتبنى نفس الحيلة الدرامية التي كان يتبناها يوسف شاهين في "أفلامه السياسية"- إذا جاز التعبير، مثل "العصفور" و"عودة الإبن الضال" و"اسكندرية ليه". هذه الحيلة تقوم أساسا، على فكرة المعنى المزدوج للشخصيات أو المستوى المتعدد لها، فالشخصيات الرئيسية (وأحيانا الثانوية أيضا) لها بعدين: بعد يتمثل في كونها شخصية تتحرك في الواقع ، وبعد آخر له دلالة رمزية يختزلها عادة في فكرة سياسية أو اجتماعية: هنا مثلا يمكن القول إن حجاج (الأب) هو نموذج لأبناء الطبقة المطحونة التي وجدت مجتمعا ينصفها في عهد جمال عبد الناصر، فقامت بدور إيجابي في ذلك العهد، ثم انحسر دورها في عهد السادات، فأصبح حجاج بوابا في "فيلا" يملكها يساري من الزمن الماضي أيضا هو الدكتور "ونيس". وحجاج يرفع صورة عبد الناصر على جدار الدكان زيادة في التأكيد على انتمائه. أما شحاتة الإبن المفضل عند حجاج الذي أنجبه من الزوجة الثانية بعد أن خانته الزوجة الأولى التي أنجب منها الشقيقان سالم وطالب، فهو امتداد لوعي حجاج الاجتماعي أيضا، في حين أن سالم وطالب: ابنا الخائنة، نموذجان للصعود الطبقي الشبق في زمن الانفتاح في عصر السادات. أما كرم غباوة الذي يردد أمثلة شعبية مبتورة لا يفهم معناها معظم الوقت، فهو نموذج العصر الحالي الذي لا يطرح رؤية ولا رؤية مضادة بل يسير سيرا عشوائيا تماما مثل كرم. وهو على استعداد لبيع شقيقته لمن يدفع أكثر، (أو من يملك العقد الصحيح للدكان.. الملكية.. المال). ويعرف كيف يلعب ويستغل الواقع المتحول الجديد في مصر، كما أنه على استعداد لتوظيف عنفه في خدمة الحكومة من أجل تزوير الانتخابات.
أما "بيسة" الحلوة الجذابة، فهي رمز البراءة المعتدى عليها في مصر، وإن كانت لا ترقى إلى أن تصبح رمزا لمصر نفسها على شاكلة بهية مثلا في "العصفور".
إن "دكان شحاتة" أقرب في إطاره العام إلى "عودة الإبن الضال" فهو مثله، صراع داخل أفراد أسرة واحدة تحت وطأة التحولات الاجتماعية أو بالأحرى هنا، التدهور الاجتماعي، كما كان فيلم يوسف شاهين صراعا داخل أسرة في اطار سياسي واضح بعد أن غاب الزعيم وضاعت البوصلة، وعاد الإبن الواعد الحالم مهزوما محطما عاجزا، وصعدت طبقة محل أخرى.
لكن الفرق أن شاهين كان يعرف كيف ينتقل بين الرمز والواقع، بين المعنى المباشر إلى الدلالة الرمزية، من الاجتماعي إلى السياسي، بعيدا عن المبالغات وعن الإحالات المباشرة، كما كان يعرف أيضا كيف يصوغ أفكارع في بناء سينمائي متماسك يملك، رغم إطاره الميلودرامي العام، لحظات تألق شعري أيضا خاصة في "عودة الإبن الضال" الذي اعتبره من أفضل أفلامه.

البطل والملحمة
أما خالد يوسف في "دكان شحاتة" فهو يلجأ إلى الإحالات السياسية المباشرة لكي يجعل فيلمه هذا أسهل في الوصول للجمهور، لكنه من الناحية الفنية يفقد تماسكه ويصبح أشبه بالتعليق الدرامي الثقيل على التطورات السياسية والاجتماعية، وعملا يفتقد رونق السينما وجمالها، الذي يكمن في الإيحاء، والهمس، والتوقف للتنفس والتأمل، كما أن حشد عشرات الشخصيات دون أي داع، فقط من أجل تأكيد الفكرة نفسها مجددا، يخرج الفيلم عن محوره الدرامي. هناك مثلا شخصيات لا أرى لها أي ضرورة في سياق الفيلم مثل الشقيقة نجاح (غادة عبد الرازق)، وشخصية "البرص" ومحاولته الاعتداء على شحاتة أولا ثم مصادقته له ودوره في المذبحة النهائية.
وهناك أيضا الكثير الاستطرادات والثرثرة البصرية تتمثل في عدد من المشاهد الزائدة عن الحاجة خصوصا مشهد العودة إلى الماضي أو المشاهد المتخيلة بين حجاج وشحاتة (في القبر بعد دفن الأب) كمثال. وهناك أيضا الكثير جدا من الصراخ والعويل والهستيريا والمبالغات في الأداء، وتكرار الرغبة في الاضحاك عن طريق تكرار التأكيد على غباء "كرم" وهو ما ينقلب إلى عكس المقصود فتصبح الشخصية محببة للجمهور، وبعض المشاهد الساذجة التي كان يتعين استبعادها في المونتاج مثل تهديد بيسة بالانتحار بصب الكيروسين على جسدها أكثر من مرة، والمبارزة بالتحطيب بين كرم وشحاتة قبل أن يوافق على زواجهما، بينما التعامل بلعبة التحطيب بهذا الشكل اختبار للرجولة في الأصل، في حين أنه ليس من الممكن اعتبار كرم "البلطجي" رمزا لأي رجولة بل للخسة والنذالة.
أعود مرة أخرى لكي أقول إن خالد يوسف يكون في أضعف أحواله، وهو يمزج أو بالأحرى، يقحم السياسي بالاجتماعي، وعندما يخلط بين الشخصية الواقعية والشخصية الرمزية.
وإذا كان خالد يوسف قد اتبع هذا الأسلوب من أجل صنع عمل ملحمي أقرب إلى السيرة الشعبية مثلا فهو لم يوفق في هذا. ومرجع ذلك أن السيرة الشعبية أو الملحمة، لا تصنع في سياق سردي narrative من هذا النوع أو على هذا النسق، بل يجب أن تروى في سياق له طابع واحد، وباستخدام الموسيقى والغناء بطل مختلف تماما، دون انتقالات وقفزات بين الأزمنة، ودون افراط في استخدام مشاهد الماضي، بل من الأفضل أن تسير الدراما دائما إلى الأمام، ومن المهم أن يتضح البعد الرمزي في الشخصية من البداية، وأن يتماثل المتفرج معه ويتوحد: فهل يمكن اعتبار "شحاتة" في إطار هذا الفيلم "بطلا شعبيا" يتوحد معه المتفرج بينما وعيه بالمحيط الاجتماعي مجرد صفر كبير، حتى بعد مروره بتجربة السجن؟
إنه لا يقاتل ضد أعداء طبقيين، ولا يتحدى سلطة ظالمة، ولا يرغب في الحصول على الحق لأصحابه، بل هو متنازل سلفا عن حقه حتى في الحب، فكل ما يريده هو الانتماء لأسرة تفككت بالفعل بعد موت الأب، بل إن كراهية أخويه له كانت واضحة من البداية. فعن أي شيء يدافع بطل خالد يوسف هذه المرة؟
إنه ليس "المخلص" الذي نعرفه في السيرة أو الملحمة الشعبية، فمن هو؟ إنه لا يخرج عن إطار "الضحية".. ضحية الظلم والتحولات.. فهل يصنع البطل- الضعيف- – الضحية- الذي لا يتطور وعيه بالدنيا من حوله، بطلا شعبيا في عمل ملحمي.
إنني مازلت بعد هذا كله، على قناعة بأن خالد يوسف مخرج جيد، يثير من خلال أفلامه الكثير من النقاش والفكر، ويجتريء على الكثير من المحرمات في السينما السائدة، وإن كان يعمل من داخل هذه السينما نفسها. ولو كان قد اكتفى فقط بالجانب الاجتماعي الذي يتعلق بالصراع داخل العائلة في فيلمه لربما جاء الفيلم أكثر قوة في دلالاته السياسية مما حدث بعد أن مزجه بالتعليقات والإحالات السياسية المباشرة، التي لم تأت من داخل العمل، ولا من بفعل الحتمية الدرامية للفيلم نفسه، بل من ذهنية خالد يوسف السينمائي "المثقف".
وأنا أخيرا، على قناعة بأن خالد يوسف سوف يصل إلى السيطرة على الأسلوب ويصبح مخرجا متفردا عندما يعثر على لغته الخاصة التي تعبر عنه بصدق، بعيدا عن أي إحالات قسرية.

إقرأ أيضا في هذه المدونة: عن خالد يوسف وافلامه الجنسية


((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger