الخميس، 21 أكتوبر 2010

من أفلام مهرجان أبو ظبي السينمائي

"جلد حي"*
هذا هو عنوان الفيلم التسجيلي الأول للمخرج الشاب فوزي صالح. يصور الفيلم بواقعية مدهشة مأساة العمل والعيش في منطقة المدابغ بوسط القاهرة حيث يجري جمع قطع من جلود الحيوانات ودبغها أي إعدادها للاستخدام بشكل جديد باستخدام طرق بدائية ومواد كيميائية شديدة الخطورة علىة الصحة العامة، واعتمادا على الأطفال تحت سن العمل القانوني، وتشغيلهم سواء في جمع الجلود من شتى المناطق وإحضارها بالعربات التي تجرها حمير هزيلة، أو في الإعداد لعملية الدباغة نفسها.
صورة واقعية هائلة لعالم خاص جدا رغم كونه موجودا أمام عيوننا طوال الوقت، عالم الدنيا السفلى إذا جاز القول، حارات ضيقة تنساب فيها مياه الصرف الصحي، وبيوت متداعية متراصة كأنها تتحدى القدر رغم هزالها الشديد، وأكوام من القمامة لا قبل لمخلوق بها، وأسطح شديدة الوعورة، وابتكارات إنسانية مرعبة  للتحايل على قسوة الحياة، والاستمرار في العمل الذي تم توارثه جيلا بعد جيل دون اي تطور حقيقي، ودون أن تلتفت السلطات إلى ما يمثله من خطورة على الحياة في مدينة القاهرة عموما ولى المنغمسين مباشرة، فيه وبوجه خاص الأطفال.
إنها ترجيديا إنسانية لكنها مروية بلغة الفيلم التسجيلي الحديث الذي لا يقوم على التعليق الصوتي المباشر من خرج الصورة، بل على جعل الصورة تعبر عن نفسها مباشرة، ومن خلال كاميرا لا تهدأ، تعرف كيف تتسلل داخل الأماكن الوعرة الضيقة، ترصد وتحلل وتتوقف أمام التفاصيل.
إحساس المخرج واضح بالإيقاع، بتكوين اللقطات، بتشكيل علاقة بين اللقطات التي قد تتخذ صبغة "تجريدية" أحيانا، من خلال التوقف أمام تكوينات خاصة جدا، لكنها مجرد لحظات نكتشف بعدها أن ما نشاهده ليس سوى لقطات شديدة الواقعية لأشياء في عمق المكان الغريب الذي يبدو كمأزق متكرر مستمر لا يملك المرء منه فكاكا.
* "المبايعة"
أطلقوا على هذا الفيلم في كتالوج المهرجان "القسم" The Oath والمقصود المابعة على الطريقة الإسلامية الأصولية لأمير الجماعة من قبل أتباعه. والتابع هنا هو الحارس الشخصي السابق لأسامة بن لادن الذي يقال لنا إنه زعيم تنظيم القاعدة، اليمني المعروف باسم أبو جندل كان قد قبض عليه (ربما لحسن حظه) قبل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 .
أبو جندل قضى عدة سنوات في السجن، تعرض خلالها لاستجوابات عنيفة، ثم أطلق سراحه بعد أن ثبتت براءته. لكن الرجل رغم حرصه الشديد على تجنب الدعوة إلى العنف، يبدو شديد الإيمان بمعتقدات "القاعدة" في رفض الآخر واعتباره عدوا، يشن حربا ضد المسلمين ومن ثم يتعين "الجهاد" ضده. وهو رغم بؤسه الظاهر، بعد أن اضطر لفترة للعمل كسائق للتاكسي في اليمن، قبل أن يجد نفسه عاطلا، يبث في الكثير من الشباب الذين يتلحقون حوله افكارا تحض على الكراهية والقناعة بضرورة التصدي لـ"الآخر" وضربه، ولكنه يقول إنه يكتفي فقط بتوضيح الصورة لهم وإنه يتعين على كل منهم أن يتوصل إلى قراراته بنفسه.
كاميرا المخرجة لورا بويتراس ترصد وتتوقف أمام الشخصية في حياتها اليومة، أبو جندي يقود سيارته، كيف يتعامل مع الزبائ، مع المشاكل التي تصادفه على الطريق يوميا، مع أبنائه بعد عودته إلى المنزل، كيف تنظر إليه زوجته الثانية التي تزوجها بعد وفاة الزوجة الأولى، كيف يفكر، كيف يرى أسامة بن لادن (لايزال بالطبع يعتبره مثلا أعلى وزعيما روحيا!) وكيف يرى مستقبله.
فيلم يعتمد على تقديم "بورتريه" لشخصية غير عادية أفسدها اهتمام المخرجة بمتابعة خط ثان لشخص غائب عن الفيلم تماما باستثناء لقطة واحدة له، هو سليم حمدان سائق أسامة بن لادن المسجون في جونتانامو والذي نظرت قضيته أمام القضاء العسكري الأمريكي ونجح محاميه في استصدار حكم برفض المحاكمة وهو ما اعتبر وقتها ضربة قوية لإدارة الرئيس بوش الإبن.
الفيلم بشكل عام يتضح فيه جهد البحث، والاعتماد على عدد من الوثائق المصورة المأخوذة مما قدمته محطات تليفزيونية عن الشخصية ومنها الحوار الشهير مع قناة العربية، ولكنه بشكل عام فيلم يسير "على الكتاب" أي تقليدي في بنائه وطريقته، لا يضيف جديدا إلى ما سبق أن شاهدناه في الإطار نفسه.

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

في مهرجان أبو ظبي: عودة اليازرلي، وأفلام أخرى!


لاشك أنه مما يحسب لمهرجان أبو ظبي وهيئة التراث والثقافة، الجهة المنظمة للمهرجان، إحضار نسخة جديدة من فيلم "اليازرلي" أحد الكلاسيكيات الكبير في السينما العربية للعرض في المهرجان، وبالتالي إحياء هذا العمل الكبير الذي لم يشاهد منذ سنوات بعيدة، خصوصا وأنه ضرورة فنية بالنسبة للأجيال الجديدة من هواة السينما الفنية الرفيعة.
إن "اليازرلي" الذي أخرجه قيس الزبيدي قبل نحو 34 عاما، من إنتاج مؤسسة السينما السورية في عصرها الذهبي، دليل بارز على قدرة السينمائي العربي الموهوب على أن يصبح جزءا من عصره، عصر بونويل وخودوروفسكي، ولكن قدرته أيضا على الاستفادة من تراث السينما السوفيتية الصامتة في أهم نماذجها أي أيزنشتاين وفيرتوف بودوفكين.

ينسج قيس الزبيدي هنا قصيدة سينمائية تشع بالجمال، وتعيد اكتشاف الإنسان من خلال الصورة والإيقاع والعلاقة الحيوية بين الصورة والموسيقى، وبين التكوين والمونتاج، وإعادة خلق الزمن بحيث لا يصبح هو نفسه الزمن الحقيقي أو الذي يريد السينمائي الإيهام بواقعيته، بل زمنه الخاص الذي يختاره لكل لقطاته ومشاهده المنسوجة ببراعة بكاميرا ترصد وتتابع وتعبر عن القلق الذي تشعر به الشخصيات، تقترب وتبتعد، تخترق وتكاد تتسلل أحيانا إلى ما تحت جلد الشخصيات البسيطة ولكن المعبرة عن قسوة الحياة، وعن الاضطهاد الطبقي، عن المشاعر الإنسانية: الرغبة الجنسية، الحب الصامت، الألم، الغيرة، الجشع، عبودية الخاضع لسيده وتبعيته التي يرغب في التخلص منها لكنه لا يستطيع.

ليس من الممكن تلخيص هذا العمل البديع الذي يفيض بالمشاعر ويدعو إلى التأملات. إن مشاهدته بعد كل هذه السنوات تؤكد أنه لايزال يتمتع بروح الحداثة أكثر من كل أفلامنا الحديثة. إنه درس في البلاغة السينمائية. ولاشك أن خروج قيس الزبيدي من حلبة السينما الروائية مبكرا يعد من أكبر ما منيت به السينما في العالم العربي من نكسات وخيبات جاءت بفعل التراجع المستمر في الطموح الثقافي، وزحف القيم الاستهلاكية المريضة على الحياة العربية عموما. لكني آمل أن تكون لي عودة للتوقف أمام هذا الفيلم بالتحليل.
شاهدت أيضا فيلم "داخل خارج الغرفة" وهو وثائقي جديد للمخرجة المصرية الشابة دينا حمزة.
الفكرة جريئة ومثيرة، وتعكس قلقا فلسفيا ربما كان من الصعب التعبير عنه بسبب طغيان الصور المباشرة القاسية والشخصية البسيطة- المركبة لبطل الفيلم، وهو جلاد حقق رقما قياسيا في شنق نحو ألف شخص من الذين حكم عليهم بالإعدام شنقا.

أرادت دينا حمزة التوقف أمام نموذج إنساني غير عادي، لا نقابله بالطبع في كل يوم، وصورته وهو بين أسرته، وبين أصدقائه، على المقهى يتسامر ويلعب الطاولة، في الشارع وسط أهل المنطقة، يروي لها أمام الكاميرا، كيف كنت تجربته في عالم الإعدام، وكيف أمكن أن يواصل حياته العادية رغم عمله الصارم والقاسي.

لاشك في أن "البورتريه" الذي تقدمه لنا المخرجة الشابة موحيا، يدفع إلى الكثير من التساؤلات عن معنى الحياة والموت. لكن بطل القصة، لا يترك أمامنا مجالا كبيرا عندما يختم قصته بالاستتناد إلى "الدين" أي إرجاع كل ما يقوم به إلى إرادة الله، وإلى أنه إنما ينفذ هذه الإرادة الإلهية، أي أنه أصبح كما يقول حفيا في الفيلم "يد الله" التي تنزل العقاب بالمذنب.

أحد أبناء الجلاد يعبر عن تعاطفه الشديد مع ما يقوم به والده فيقول إنه أحيانا يرغب في أن يشنق المجرمين بيديه بسبب ما ارتكبوه من بشاعات، أما الولد الأصغر، فيعبر عن رفضه القيام بما يقوم به والده، معربا بوضوح عن رفضه قتل الآخري بموجب أي مبرر.
إنها "حالة" إنسانية خاصة كانت دائما تثير اهتمام الناس في بلادنا، حالة ذلك الجلاد الذي يقول بوضوح إنه يجد الشنق أسهل ألف مرة من جلد إنسان. فيلم معبر، مصنوع باتقان، وجرأة، وقدرة على التعامل البصري مع اللقطات القريبة للشخصيات الكثيرة التي تظهر في الفيلم.

 
أما فيلم "بحبك ياوحش" للمخرج اللبناني محمد سويد، فمن الممكن القول إنه يدور في اتجاه البحث المرهق لسويد عن الشخصية اللبنانية من خلال المكان: بيروت، صيدا، لبنان الكبير.

إنه يتوقف أمام عدد من الشخصيات العادية، التي يسجل شهاداتها عن الواقع، عن الحياة، عن معنى الحياة، عن الحب، عن الحرب، وعن الماضي والحاضر وكيف يرون المستبقل، ولكن في بناء مفتوح، يمزج بين الشخصيات اللبنانية، والفلسطينية، وبين أهل البلد، والمهاجرين الباحثين عن عمل. لكن يعيب الفيلم أنه يفتقد إلى حد كبير إلى وحدة الموضوع، فالمنهج الذي يستخدمه سويد في بناء الفيلم يجعلك تتساءل كثيرا عما يشير إليه، فهو أيضا ينحرف كثيرا عن الموضوع عندما يتوقف طويلا مثلا، أمام شخصية مهاجر سوداني يعمل في بيروت، يتحدث عن حياته السابقة في سورية ويعقد مقارنات بين الحالتين. والواضح أن محمد سويد يريد ن يقدم لبنان بسكانه المختلطين من اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم، لكن الفكرة لا تتجسد بوضوح، والفصول التي تتعاقب تحت أسماء محددة مثل "الحرب، الحب، طق طق، بحبك ياوحش (في اشارة بالطبع إلى وحش الشاشة الراحل فريد شوقي).. إلخ تبدو أحيانا مضللة أكثر مما هي مضيئة، فمن الممكن أن يستمر الفيلم هكذا، أي في هذه الاستطرادات إلى ما لانهاية، ومن الممكن أيضا أن ينتهي في أي لحظة، وهو ما يعكس غياب البناء القصصي المحدد حتى في فيلم تسجيلي، وخلل الايقاع.

أخيرا جاء الفيلم الدنماركي "دموع غزة" وهو وثائقي طويل (90 دقيقة) للمخرجة الدنماركية فبيكة لوكزبرج عملا تقليديا عن الأوضاع الفلسطينية المأساوية في غزة قبل وأثناء وبعد التوغل الاسرائيلي في القطاع في أواخر 2008 وأوائل 2009، من خلال التركيز على مصائر ثلاثة شخصيات لأطفال فلسطينيين.

هناك الكثير من المشاهد الدامية التي تدمي القلب وتقتحم العين، والكثير من اللقطات المقتنصة من قلب الحدث رغم ما فرضته السلطات الإسرائيلية العسكرية من تعتيم على حملتها الدموية. لكن رغم ذلك يبدو أن لا جديد يقدمه لنا هذا الفيلم، فأنت تخرج بانطباع أنك سبق أن شاهدت كل هذه اللقطات في سياق مشابه من قبل. لكنه بلاشك، مفيد بالنسبة للمشاهد الأوروبي الذي يتوجه إليه بالدرجة الأولى.

السبت، 16 أكتوبر 2010

"الغرب هو الغرب": بريطانيا الحلم والألم والزواج المختلط

من الأفلام التي يحتفي بها كثيرا مهرجان أبو ظبي الفيلم البريطاني الجديد "الغرب هو الغرب"، بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان تورنتو، ثم في مهرجان لندن السينمائي المستمر في نفس الوقت مع مهرجان أبو ظبي.
قبل أكثر من عشر سنوات حقق فيلم "الشرق هو الشرق" East is East نجاحا تجاريا كبيرا في دور العرض البريطانية رغم أنه يقوم على الكشف عن التناقضات بين الشخصية الانجليزية والشخصية الباكستانية، من خلال كوميديا خفيفة ساخرة، تسعى لسبر أغوار المشاكل التي يمكن أن تنتج عن الزواج المختلط، بين رجل باكستاني، وامرأة انجليزية، ينجبان أطفالا يتمسكون بتقاليد البيئة التي نشأوا فيها، أي البيئة الانجليزية، ويرفضون الخضوع للتقاليد الباكستانية المختلفة تماما، التي يحاول الأب أن يلقنهم إياها ولو قسرا.
الآن، في "الغرب هو الغرب" West is West نعود إلى نفس البطلين، أي الزوج والزوجة بعد مرور 11 عاما على قيامهما بالدورين، إلا أن أحداث الفيلم تدور في منتصف السبعينيات، حينما يدرك الأب الذي يطلق على نفسه اسم "جورج خان"- مقتبسا الاسم الأول من البيئة الانجليزية، والثاني يحافظ على لقب العائلة الأصلي، أن ابنه الأصغر "ساجد" لا يعرف شيئا عن وطنه الأصلي، فيقرر القيام برحلة معه إلى البلدة التي ينتمي إليها الأب، في باكستان، رغم رفض ساجد وتمرده بل وسخريته المريرة في النصف الأول من الفيلم، من اللغة والعادات والتقاليد قبل أن يلتقي بولد من عمره، وكهل من المنطقة، ويحتك بهما ويتعلم منهما الحكمة ويتعرف على تقاليد بلد والده.
بالطبع تقع مفارقات عديدة بعد حضور الزوجة الانجليزية ومواجهتها مه الزوجة الباكستانية التي هجرها "جورج" قبل ثلاثين عاما، مع بناته منها، مكتفيا بارسال بعض المال بين حين وآخر. ولكن الأحداث تنتهي نهاية سعيدة، غالأب الذي يشعر بأنه غريب في بلاد الانجليز وغريب في وطنه أيضا، يكفر عن فعلته باقامة منزل حديث لأسرته الأصلية، والإبن الثاني الشاب من الزوجة الانجليزية، يجد عروسا ملائمة له، باكستانية عادت إلى بلدها لكي تتزوج من أحد أبناء بلدها، والإبن الأصغر ساجد يحقق نوعا من التوازن بين ثقافته الأصلية وثقافتة البيئة التي نشأ فيها، والزوجتان تحققان مصالحة من نوع ما.. ويعود جورج مع "إيلا" إلى بريطانيا، وتبقى الزوجة الهندية مع بناتها بعد أن تدرك أن الماضي لن يعود، وأن جورج اختار لنفسه حياة جديدة مختلفة من دهر وبات من المستحيل تغيير دفة الأحداث.
وحسب طبيعة الموضوع الذي تتفجر من خلاله الكثير من المفارقات والتناقضات والأحداث الطريفة، كان الطابع الكوميدي هو الأنسب.. ولكن لأنه موجه أساسا إلى جمهور بريطانيا، سواء من الأصليين أو المهاجرين من باكستان أو الأجيال الاجديدة التي تنتمي إلى ثقافة باكستان دون أن تكون قد نشأت على ترابها بالضرورة، يلعب سيناريو الفيلم على إبراز هذه التناقضات لكي يضحكنا عليها، ولكي يكشف كيف أن الصورة النمطية الراسخة في خيال كل طرف عن الآخر ليست بالضرورة الصورة الصحيحة، وأن التعايش والتسامح أفضل من البقاء داخل سجن الذات الحديدي.
أسلوب إخراج قريب من مسلسلات "السوب أوبرا" التليفزيونية التي يشاهدها الملايين يوميا، وأداء تمثيلي لافت من كل الممثلين المشاركين في الفيلم، واستخدام موفق كثيرا للموسيقى والأغاني والايقاعات الباكستانية.
أما إذا كانت هذه الخلطة ستنجح في تكرار ما حققه الفيلم السابق من نجاح، فأمر يظل محل اختبار حقيقي عند نزول الفيلم إلى أسواق بريطانيا التي تغيرت نظرة جمهور السينما فيها مثيرا خلال العقد الماضي، واختلفت اهتماماته. لكن العرض التليفزيوني قد يكون مناسبا أكثر، ولذلك دخل بي بي سي طرفا مباشرا في إنتاج الفيلم.

الخميس، 14 أكتوبر 2010

افتتاح تقليدي لمهرجان أبو ظبي


افتتحت الدورة الرابعة لمهرجان أبو ظبي السينمائي مساء الخميس 14 أكتوبر، وتمتد حتى الثالث والعشرين من الشهر نفسه. وكما هي العادة في المهرجانات التي تقام في البلدان العربية بلا استثناء، يتقدم مسؤول كبير يمثل الدولة التي يقام فيها المهرجان، لكي يلقي كلمة طويلة، تتطرق كالعادة إلى أهمية السينما للإنسان، وأهميتها في التواصل بين البشر، وكوسيلة للتعبير. هذه الأفكار نفسها عادت مجددا فترددت في الكلمة التي ألقاها المدير التنفيذي للمهرجان الأمريكي بيتر سكارليت.
لكن سكارليت أعد فقرة لتسليط الأضواء على المهرجان بالاشتراك مع أحد مقدمي البرامج في التليفزيون المحلي، قام خلالها باستعراض قدراته التمثيلية الفكاهية، لتقديم الأنواع المختلفة من الأفلام التي سيقدمها المهرجان لجمهوره عبر أيامه العشرة، من الفيلم الوثائقي الذي يهتم بالبيئة، إلى أفلام الرعب.
بطبيعة الحال لا يجرؤ مدير أي مهرجان دولي يقام في العالم العربي على القيام بهذا الدور الذي قام به سكارليت، فعادة ما يترك مديرو المهرجانات ذلك النوع من التقديم التمثيلي لأشخاص محترفين من الممثلين أو غيرهم. ولو فعل أي مدير عربي مثلما فعل سكارليت فربما تعرض لهجوم شرس من جانب الصحافة السائدة اتي تميل إلى المحافظة بشكل عام، بل وربما أعفي أيضا من مهمته بدعوى خروجه عن التقاليد (التي يجب أن تكون دائما جادة، متجهمة، رسمية، تعرض أرقاما يتصور المدير- الموظف (في معظم الأحيان) أنه يقدمها لإرضاء الوزير، الذي قد يكون فنانا أو معاديا للفنون!
المهم أن بيتر سكارليت أقر من العام الماضي، هذا المبدأ الذي يخلط بين دور المدير الفني، ورجل الاستعراض، وبين المسؤول المهرجاني، والممثل. ولا أعرف مقدار نجاحه في هذا الدور الأخير، لكن المؤكد أنه أعد للمناسبة بشكل جاد جدا، واستعد لها.
نجح سكارليت العام الماضي في تقديم دورة غير عادية في مستواها، أو متقدمة جدا بنوعية ما عرض من أفلام، كان بينها عدد كبير لافت من أفلام شهدت عرضها العالمي الأول في أبو ظبي، غير أن هذا النجاح لا أظن أنه قادر على تكراره بنفس الدرجة العام الحالي، وذلك استنادا إلى برنامج الأفلام المعلن، وأسماء لجان التحكيم، التي زاد عددها بموجب لجنتين لتحكيم أفلام قسم آفاق جديدة، ومسابقة أفلام من الإمارات.
لاشك أن هناك جهدا كبيرا في الاختيار والمحاولة والتنويع والانفتاح على ثقافات عديدة في الشرق والغرب، لكن أفلام العرض العالمي الأول تكاد تغيب كمثال، عن أفلام المسابقة الرسمية الرئيسية للأفلام الروائية الطويلة، فمعظمها أفلام عرضت في مهرجانات أخرى بل وداخل مسابقات دولية أخرى أيضا مثل "الحفرة" الصيني، و"سيرك كولومبيا" البوسني، وميرال" الأمريكي الفرنسي، و"أرواح صامتة" الروسي، و"مزهرية" الفرنسي (وبالمناسبة الترجمة خاطئة لأن التعبير الفرنسي potiche مقصود به في هذه الحالة تحديدا المرأة المعتدة بنفسها كثيرا التي تتدلل على زوجها وتسبب له المتاعب، ويصلح بالتالي أن نطلق عليه "المرأة المدللة" أو صعبة المراس. لكن ليست هذه هي المشكلة على أي حال.
المشكلة أيضا أن فيلم الافتتاح الأمريكي "سكريتاريا" Secretariat للمخرج راندال والاس، بدأت عروضه الأمريكية بالفعل، أي أن عرضه في افتتاح مهرجان كبير مثل مهرجان أبو ظبي، ليس العرض العالمي الأول، كما أنه ليس من الأفلام التي تظل طويلا في الذاكرة، بل سبق أن شاهدنا عشرات الأفلام المشابهة التي تدور عادة، حول فكرته أي فكرة القدرة الخاصة لـ "الحلم الأمريكي"، فكرة "التحدي"، والرغبة في التفوق، والمنافسة، وتحقيق المستحيل. ولكن بدلا من وجود ملاكم فردي عنيد شرس مثل "روكي" مثلا، هنا امرأة (ربة منزل) تمتلك حصانا تطلق عليه اسما سخيفا هو "سكريتاريا"، وهذه المرأة تحاول أن تثبت لنفسها ولأبنائها كيف يمكنها أن تحقق المستحيل وأن تحعل هذا الحصان يتفوق ويحقق ما لم يحققه أي حصان قبله في الفوز بأهم ثلاثة سباقات في أمريكا، وتحقق بذلك ما عجز والدها الراحل عن تحقيقه، وهو الذي ترك لها تلك الثروة من الخيول والممتلكات التي ترفض أن تتخلى عنها حتى لو كان معنى هذا أن تغامر أو بالأحرى، تقامر وتتعرض لخسارة كل شيء (مرة أخرى، المغامرة فكرة عميقة في الفكر الأمريكي الفردي، يحتفي بها الفيلم كثيرا بل ويمجدها في شخص المرأة التي تبرع ديان لين في أداء دورها أمام جون مالكوفيتش الذي يلعب دور مدرب الخيول المغرم بارتداء قبعات رديئة الذوق، والذي ينجح في تدريب "سكريتاريا" حتى يحقق ما يحققه من تفوق ونجاح مبهر.
أسلوب إخراج الفيلم لا يخرج، عن أسلوب إخراج أفلام الملاكمة أو سباق السيارات أو البطولات الرياضية عموما، التي تدور حول بطل فردي، يسعى لتحقيق ما يتصور الجميع من حوله أنه من المستحيلات، بالعزيمة والإصرار وعدم اليأس، مع مزج "البيزينس" بفكرة التفوق الفردي، والتلويح للمشاهدين بإمكانية تحقيق الحلم الأمريكي اعتمادا على الإرادة والعزيمة، رغم أن الفيلم يدور بالطبع في أوساط طبقة تتمتع بالثراء والجاه.
معظم مشاهد الفيلم في نصفه الثاني وما تنتهي إليه، متوقع سلفا: الهزيمة المريرة، ثم التغلب عليها بالإرادة الحديدية، ومن ثم الفوز الساحق المبهر على الخصم في منافسة لم يتردد سيناريو الفيلم في تشبيهها بالصراع بين اثنين من الملاكمين فعلا.
تبرير بيتر سكارليت لاختياره هذا الفيلم في الافتتاح تبرير لم يتعاطف معه أحد فقد قال إنه يعلم حب الناس في الشرق الأوسط للخيول، وخصوصا في منطقة الخليج، وحماسهم الكبير لها، أو شيئا بهذا المعنى، وهي نظرة نمطية ضيقة للعلاقة بين الناس والسينما في العالم العربي، أو فكرة نمطية تقليدية عن العربي عموما وثقافته "المحدودة".
وعلى أي حال، سوف نتفق ونختلف حول مستوى الكثير من الأفلام في هذا المهرجان، وهو أمر طبيعي، لكن لا خلاف على أن أهم ما يميزه عن سائر المهرجانات التي تقام في المنطقة، ليس فقط جوائزه المالية الضخمة أو الأكبر في العالم (مليون دولار بالتمام والكمال لصناع الأفلام الفائزة أصحاب الخظ السعيد جدا)، بل النصف مليون دولار التي يقدمها الصندوق الخاص الذي أنشأه المهرجان لدعم عدد من المشاريع المتنوعة السينمائية للمخرجين العرب. وهو بلاشك أمر يستحق التقدير والإشادة والاحترام. فهذا مهرجان يحتفي بالسينما بشكل جاد، ليس فقط عن طريق استهلاكها، بل والمساهمة في صنعها وتطويرها أيضا.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger