الاثنين، 4 أكتوبر 2010

أيام قرطاج السينمائية: خبر وتعليق

تقام الدورة الـ23 من أيام قرطاج السينمائية (مهرجان قرطاج السينمائي) في الفترة من 23 حتى 30 أكتوبر الجاري. وقد أعلنت إدارة المهرجان برئاسة درة بوشوشة عن أسماء معظم الأفلام المشاركة باستثناء الأفلام التونسية التي ستشارك في المسابقة.
الأفلام العربية التي أعلن عنها هي "ميكروفون" لأحمد عبد الله من مصر، و"يوم آخر" لجود سعيد من سورية، و"كل يوم عيد" لديما الحر من لبنان، و"رحلة إلى الجزائر" لعبد الكريم بهلول من الجزائر، و"مدن الترانزيت" لمحمد هسكي من الأردن. ولاشيء حتى الآن من المغرب أكبر بلد عربي بعد مصر من ناحية كم الإنتاج السينمائي.

يتوقع عرض فيلمان على الأقل من تونس بالمسابقة الرسمية التي تضم أيضا افلاما افريقية، والفيلمان التونسيان اللذان نتوقع عرضهما هما "النخيل الجريح" لعبد اللطيف بن عمار، و"وقائع احتضار" لعائدة بن علية.
ويحتفي المهرجان بالمخرج الجزائي رشيد بوشارب بعرض كل أفلامه، كما يعرض فيلم "فينوس السوداء" للمخرج التونسي الذي يعمل في نطاق السينما الفرنسية، عبد اللطيف كشيش.
وقد تقرر افتتاح المهرجان بالفيلم الافريقي (من تشاد بتمويل فرنسي) "الرجل الذي يصرخ" للمخرج محمد صالح هارون، وقد سبق عرضه في مسابقة مهرجان كان هذا العام.

ويرأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الموسيقار التونسي أنور براهم، أما أعضاء اللجنة فهم المخرج الاثيوبي الكبير هايلا جيريما (الحاصل على التانيت الذهبي في الدورة الماضية عن فيلمه "تيزا")، والمخرج عبد الرحمن سيساكو من موريتانيا، والكاتب عتيق رحيمي من أفغانستان والممثلة ناتالي باي من فرنسا، والممثلة المصرية الهام شاهين.

مشكلة مهرجان قرطاج السينمائي مثل مشاكل المهرجانات التي تقام في العالم العربي، التي تخلو من قاعة مخصصة للعروض الصحفية للنقاد والمهتمين والدارسين، تتمثل في اهتمامه الشديد بإشراك شخصيات سينمائية ثابتة من مصر تحديدا، يتم تبادلها فيما بين المهرجانات (ثم قذفها بالأحجار في الصحافة المحلية بعد أن ينتهي المهرجان)، ولدينا مثال واضح على ما نقول هنا أي الممثلة الهام شاهين التي يختزلون من خلالها- منذ نحو 20 عاما - السينما المصرية والثقافة السينمائية في مصر، مما اعتبره شخصيا إساءة لهذه الثقافة وللحركة السينمائية الممتدة في هذا البلد منذ أكثر من 80 عاما.

إن الهام شاهين تجسد الصورة النمطية السائدة للتمثيل في السينما والتليفزيون في مصر، وليس التمثيل الحديث، ولا السينما الحديثة. وفكرة الاستغناء عن ضم مخرجين مصريين مشهود لهم إلى لجان التحكيم العربية، والاكتفاء دائما بممثلة- نجمة، هي فكرة تقوم على "التسليع" أي على أن المهرجان سلعة لا يصلح الترويج لها إلا من خلال "نجوم" من مصر مثل حسين فهمي والهام شاهين وهما قاسمان مشتركان في معظم المهرجانات السينمائية العربية حتى الجاد منها مثل مهرجان دبي، في حين أنهما ليسا من أفضل الممثلين في مصر ولا يمثلان الفيلم المصري الحديث الذي تحرص المهرجانات على الحصول عليها مثل "رسائل البحر" و"ميكروفون" و"الحاوي" و"عين شمس" و"جنينة الأسماك" (الفيلمان الأخيران مثلا من الدورة الماضية من قرطاج).
هذا التناقض بين الحرص على اختيار أفلام ذات قيمة فنية، وفي الوقت نفسه، إشراك ممثلات متخصصات في الظهور في أفلام تجارية سائدة، يعكس نوعا من الازدواجية في الفكر والهدف. فما المقصود من وجود الهام شاهين في لجان تحكيم معظم مهرجانات السينما التي تقام في العالم العربي: القاهرة والاسكندرية وأبو ظبي وتطوان ودمشق وسلا ووهران (الذي توفي بالسكتة القلبية!)؟
وما المقصود من غياب السينمائيين المصريين الحقيقيين عن لجان التحكيم؟ لست بالطبع أشير إلى مؤامرة من نوع ما، بل يقينا إلى تدخلات تأتي من سلطات خارج سلطة إدارة المهرجان وتفرض مثل هذه الشخصيات على لجان التحكيم. ولدي في هذا المجال الكثير من القصص التي سمعتها من مديري بعض المهرجانات.. وهي قصص ليس من الممكن روايتها هنا بالطبع!

الأحد، 3 أكتوبر 2010

موسم مهرجانات السينما في العالم العربي

بيتر سكارليت مدير مهرجان أبو ظبي

من أبو ظبي إلى مراكش

الثلث الأخير من العام، كالعادة، تزدحم فيه المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي، ويقال إنها "تتنافس"، لا أدري على أي شيء التنافس، فالتنافس عادة ما يكون حول هدف معين تبذل الأطراف المتنافسة جهدها من أجل تحقيق هذا الهدف أو الفوز به. غير أنني لا أدري كنه التنافس المقصود في هذه الحالة؟
هل هو تنافس على الجمهور مثلا؟ لا يمكن، لأن جمهور الخليج غير جمهور المغرب، غير جمهور تونس، غير جمهور سورية.
هل هو تنافس على الأفلام، أي للحصول على أحدثها وأهمها؟
ربما.. لكن الأفلام تتقاطع في معظم هذه المهرجانات بدرجة كبيرة، فهناك قواسم مشتركة عديدة بين مهرجانات أبو ظبي (الذي عاد إلى اسمه الحقيقي وودع تسمية "الشرق الأوسط" التي لا معنى لها)، والدوحة- ترايبيكا الذي لايزال متمسكا باسم يثير من الالتباس والابتسام أكثر مما يحمل من معنى، وقرطاج الذي لايزال مصرا على أن يقام كل سنتين بالتوازي مع مهرجان المسرح الدولي (على الأقل هذه هي المهرجانات التي أعلنت عن برامجها أو عن جزء منها حتى الآن).
أيا كان الأمر، فالملاحظ أن هذا الازدحام الكبير لا يترك فرصة حقيقية أمام المتخصص الراغب في متابعة هذه المهرجانات عن كثب بشكل جاد، سواء بسبب تقاطعها وتداخلها معا من ناحية، أو بسبب ازدحامها بدرجة كبيرة باعتبارها تشترك في سمة واحدة هي الرغبة في الاستحواذ على أكبر عدد من الأفلام التي تتجاوز عادة المائة فيلم مثلا، بينما ينفرد مهرجان فقير الموارد، ضعيف الامكانيات هو مهرجان دمشق السينمائي، بنوع من الحماقة التي لا تتناسب مع ما يفرض عادة من رقابة بوليسية مشددة على اختياراته للأفلام، عندما يعلن عن برنامج يحتوي على أكثر من 325 فيلما سرعان ما سيتضح بالطبع، أن معظمها نسخ من الأسطوانات الرقمية المدمجة DVD التي تباع على أرصفة المدينة العتيقة، والعهدة علىالراوي!
مهرجان الاسماعيلية السينمائي للأفلام القصيرة والتسجيلية، (3- 9 اكتوبر) هو أول المهرجانات التي تأتي في موسم الخريف هذا العام لكنه مهرجان متميز بنوعية عروضه التي لا يقابلها مهرجان آخر في المنطقة، يليه مباشرة مهرجان أبو ظبي وهو مهرجان كبير بكل المقاييس، في برامجه وطموحه ومساندته المرموقة لصناع الأفلام من العرب، سواء مخرجي الأفلام التسجيلية أو الروائية، عن طريق الصندوق الخاص الذي خصصه لدعم المشاريع الطموحة للسينمائيين في عموم العالم العربي بل وبعض السينمائيين المقيمين في أوروبا، وهي خطوة لابد من الترحيب بها، فها نحن نرى ما كنا دائما نطالب به وندعو إليه، ونشرح لمن يريد أن يفهم ويدرك، أن دعم السينما، أي الإنتاج نفسه، يجب أن يكون هدفا أساسيا بالنسبة لمهرجانات السينما التي تقام في منطقتنا التي تعد منطقة "ناشئة، جنينية" في مجال الإنتاج أو الحركة السينمائية، ولا تقتصر المهرجانات فقط على الاستهلاك، أي العرض والتصفيق وتوزيع الجوائز.

من "نسخة طبق الأصل" لكياروستامي الذي سيعرض في الدوحة

ولاشك أن من الإيجابي تماما أن يحصل السينمائيون العرب على دعم مالي ولو مبدئي، لمشاريعهم، من أبو ظبي أسوة بما يأتي من دعم من مهرجانات أوروبية مرموقة مثل روتردام الدولي.
ومن واجب الناقد بكل تأكيد، أن يسعى بكل قوته إلى دعم السينما المحلية والاقليمية في المحيط الثقافي الذي ينتمي إليه، أما موضوع تعامل الناقد مع هذه الافلام بالنقد فيما بعد، فامر آخر. فمن حق السينمائي أن يصنع أفلامه، ومن حق الناقد أن يمارس مهمته في نقدها وتقويمها بل ومن واجبه، دون أن يكون في هذا أي تناقض، فإذا كان من واجب الناقد أن يدعم حق أي سينمائي عربي في الحصول على فرصة لإخراج فيلمه، فمن واجبه أيضا نقد هذا الفيلم بعد أن يكتمل بكل موضوعية وصراحة، وليس في هذا أي تناقض، فهناك فارق كبير بين مدير "البروباجندا"، أي أن يتحول صحفي ما، إلى مندوب دعاية للأفلام، وبين أن يكون مخلصا لقرائه، أي لجمهور المشاهدين الذين يوجه كتاباته إليهم، فيتعامل مع الأفلام بالنقد استنادا إلى رؤيته وثقافته الخاصة. وهذه كلها من الأمور المسلم بها المعروفة في العالم، لكن يبدو أننا في حاجة دائما، إلى التأكيد عليها حتى لا يسيء البعض الفهم، سواء عن سوء قصد أو عن حسن نية.
بعد مهرجان أبو ظبي (14- 23 أكتوبر) الذي يمتلك برنامجا حافلا في أقسامه المختلفة للأفلام الروائية والتسجيلية والقصيرة والتجريبية وأفلام من الإمارات (المسابقة القديمة التي تم ضمها إليه هذا العام)، يأتي مهرجان الدوحة- ترايبيكا (26- 30 أكتوبر)، الذي يمكن أن نطلق عليه "ميني مهرجان" فهو يستغرق أربعة أيام فقط يعرض خلالها 30 فيلما.
 يفتتح مهرجان أبو ظبي (الرابع) بالفيلم الأمريكي الجديد "السكرتارية" للمخرج راندال والاس، ويختتم بفيلم "المفتش دي ولغز لهيب الشبح" للمخرج الصيني تسوي هارك.
أما مهرجان الدوحة (الثاني) فيفتتح بالفيلم الفرنسي "الخارجون عن القانون" للمخرج الجزائري رشيد بوشارب.
وبينما تحتوي مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان أبو ظبي على 15 فيلما، تحتوي مسابقة الدوحة للأفلام العربية (وهي مسابقة جديدة لم يكن لها وجود العام الماضي أي في الدورة الأولى) على 10 أفلام فقط منها 4 تعرض عرضا أول. وهذا تقدم كبير يحققه مهرجان الدوحة في مجال الاهتمام بسينما المنطقة التي يقام فيها، بعد ما وجه إليه من نقد العام الماضي بسبب غلبة العنصر الاجنبي الذي لا يتمتع بخبرة ما، على تشكيلة إدارته بقيادة مقدمة برنامج السينما في قناة الجزيرة الدولية الناطقة بالانجليزية الاسترالية أماندا بالمر.
أما مسابقة مهرجان أبو ظبي فهي دولية تماما، أي مفتوحة على أفلام العالم، وفيها من الأفلام العربية ثلاثة أفلام هي "رسائل البحر" لداود عبد السيد من مصر، و"الترويض" أو (روداج) لنضال الدبس من سورية، و"شتي يادنيا" لبهيج حجيج من لبنان.
وجدير بالذكر أن المهرجانان سيعرضان الفيلم الأمريكي "ميرال" الذي يتناول القضية الفلسطينية وتاريخها وكان قد عرض في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير. سيعرضه ابو ظبي في مسابقته وهو أمر غريب لأنه سبق أن شارك في مسابقة مهرجان دولي، وسيعرض الفيلم أيضا في مهرجان لندن الذي يفتتح قبل أبو ظبي بيوم واحد (13- 28 أكتوبر) ولاشك أن الكثير من النقاد الانجليز في لندن سيجدون صعوبة في المواءمة بين المهرجانين لكن الإيجابي أن العروض الصحفية لمهرجان لندن بدأت بالفعل في 28 سبتمبر بمعدل ثلاثة أفلام يوميا.
مسابقة أبوظبي فيها أفلام جيدة جدا منها ما سبق أن شاهدناه في فينيسيا مثل "سيرك كولومبيا" للمخرج البوسني دانيش تانوفيتش، والفيلم الصيني – الفرنسي "الخندق" (او الحفرة" The Ditch والفيلم الروسي البديع "أرواح ساكنة". والفيلم الكندي من تأليف كاتب لبناني، هو فيلم "خدمات إنقاذ"، وهناك افلام جديدة مثل الفيلم الدنماركي "في عالم أفضل". ولكن المهرجان أعلن عن عرض الفيلم الفرنسي "كارلوس" في نسخة تقع في 159 دقيقة بينما المعروف أن زمن عرض الفيلم يتجاوز خمس ساعات ونصف الساعة وكان قد عرض في مهرجان كان الماضي. فهل اختصر المخرج فيلمه إلى نسخة تصلح للعرض في دور السينما التجارية هي التي سيعرضها المهرجان؟ ربما!
المخرج المصري ابراهيم البطوط أحد رواد ما يسمى بتيار السينما المستقلة في مصر (التي تصور عادة بكاميرا الديجيتال) سيعرض فيمه الجديد "الحاوي" في الدوحة، في حين سيذهب فيلم داود عبد السيد للعرض في مسابقة مهرجان قرطاج أيضا الذي سيقام في الفترة من 23 إلى 30 أكتوبر أي أن لدينا أربعة مهرجانات في شهر واحد (لا تنسوا الاسماعيلية الذي أطلق عليه الناقد الكبير مصطفى درويش مداعبا (مهرجان اسماعيلية- رايح جاي)!

من فيلم "ميرال" أكثر الأفلام إثارة للنقاش هذا العام

بعد قرطاج لدينا مهرجان القاهرة (غير القابل للتطور بسبب هيمنة امرأة لا تفهم شيئا في السينما على أموره ومقدراته منذ 30 سنة!) وسيقام في الفترة (30 نوفمبر- 9 ديسمبر)، ثم يأتي مهرجان دبي (12- 19 ديسمبر) الذي يعد أحد أبرز وأهم مهرجانات العالم العربي ولاشك أنه سيدخر مفاجآت كثيرة لجمهوره في جعبته، ثم تختتم السنة بمهرجان مراكش في أقصى المغرب العربي (من 3 إلى11 ديسمبر).
الطريف أن القائمين على أمر مهرجان الدوحة جعلوا شعاره "أنا الفيلم". ونسوا أن يضيفوا: "والفيلم أنا". وياله من تواضع!
سنتوقف قريبا أمام برنامج مهرجان أبو ظبي لاكتشاف مناطق القوة والضعف فيه، وخصوصا أمام ما سيقدمه من مفاجآت منها مثلا عرض فيلم "اليازرلي" السوري لقيس الزبيدي الذي لم يعرض قط منذ أكثر من ثلاثين عاما!
وكل عام وانتم بخير......

الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

المؤثرات التسجيلية في فيلم "بيوتيفول"

فيلم "بيوتيفول" Biutiful هو أحدث أفلام المخرج المكسيكي الشهير أليخاندرو إيناريتو جونزاليس صاحب ثلاثية الموت "أموروس بيروس" (ملعون الحب)، "21 جراما"، و"بابل"، والفيلم، على نحو ما، امتداد لتلك الثلاثية. غير أنه الفيلم الأول لمخرجه، الذي لا يكتب له السيناريو الكاتب المكسيكي جيلرمو أرياجا، بل كتبه إيناريتو نفسه بالتعاون مع كاتب أرجنتيني. وهو أيضا فيلمه الأول الذي تدور أحداثه في إسبانيا.
أسلوب الإخراج المميز لأفلام إيناريتو واضح هنا رغم اختلاف طريقة السرد، الذي يقوم على محاور عدة، تلتقي وتتقاطع معا حول شخصية اللابطل، الفرد، المهزوم من البداية، المقضي عليه أيضا بالموت، فهو يعاني من سرطان المثانة ولم يعد أمامه سوى شهرين في الحياة، كما يقول له الأطباء.
"أوكسبال" (الذي يقوم بدوره الممثل الإسباني خافيير بارديم) لا يعاني فقط من المرض العضال الذي يأكل حياته ساعة بعد أخرى، بل من تمزق علاقته بزوجته (عاهرة سابقة، مدمنة خمر، مريضة بمرض ازدواج الرؤية، تعاني من نوبات توتر عصبي حاد).. وقد انفصل عنها منذ فترة، لكنها تتردد على مسكنه الضيق لرؤية طفليها منه، تريد العودة إليه، لكنها لا تستطيع رعاية الطفلين بعد أن قضت المحكمة بإسناد حضانة الطفلين إليه. وهي ايضا تخونه مع شقيقه.
ولكن كيف يعيش "أوكسبال".. هذا الرجل الذي فقد الأب أخيرا، وفقد الزوجة من قبل على نحو ما، والآن هو مهدد بفقدان الحياة نفسها وترك طفليه خلفه؟
إنه نموذج واقعي تماما للرجل الهامشي الضائع، الذي يعيش على هامش مجتمع الحياة في مدينة برشلونة. من هذا المدخل، أي من مدخل العلاقة بين الرجل والمدينة، يكثف إيناريتو (المكسيكي) رؤيته الخاصة لبرشلونة التي تختلف تمام هنا، عن برشلونة "السياحية" الملونة التي رأيناها في فيلم وودي ألين "برشلونة فيكي كريستينا".
إن "برشلونة إيناريتو" يناسبها أكثر الطابع التسجيلي المباشر، الذي يجعل بطله- اللابطل، شاهدا على هذا الواقع، ومنغمسا فيه أيضا: إنها برشلونة المهاجرين غير الشرعيين، والمطاردت بين الشرطة وهؤلاء، وبائعي المخدرات في الزوايا والأركان المظلمة من الشوارع، وكيف امتد الفساد إلى الشرطة، وأصبح هناك من الضباط من يتستر على ممارسات البعض من المهاجرين غير الشرعيين في مجال توزيع المخدرات مقابل الحصول على المال، والظروف الشاقة التي يعيش فيها المهاجرون على هامش الحياة..إلخ
يبدأ الفيلم بداية شاعرية ناعمة في مشهد يبدو كما لو كان يدور بين الحلم واليقظة، نرى فيه بطلنا "أوكسبال"، يقف في غابة في الصباح الباكر، يتأمل الطبيعة، ويرى جثة بومة ماتت لتوها، ويتبدى له شاب افريقي الأصل، يقول له كيف أن البومة قبل أن تموت تنفث شعيرات من أنفها وتلصقها بالأشجار، لتخلق حياة جديدة، ثم يقلد له أصوات الثعالب والريح.. وتتداعى الصور في مخيلة أوكسبال، الذي أصبح مشرفا على الموت، ويتكرر هذا المشهد عند النهاية، بعد ان أصبح أوكسبال متأهبا لاستقبال الموت.
الحي الذي يقيم فيه "أوكسبال" في برشلونة هو حي معروف بكثرة المهاجرين الوافدين الذين يقيمون فيه، من الآسيويين، والصينيين تحديدا، إلى الأفارقة من السنغال ووسط أفريقيا، إلى الرومانيين والبولنديين، وغيرهم.
تتقاطع حياة أوكسبال تقاطعا أصيلا مع حياة الكثير من هؤلاء المهاجرين، فهو مسؤول عن 24 صينيا استقدمهم للعمل أو ضمن دخولهم البلاد، ولكنه يبقيهم تحت رحمة اثنين من أقرانهم يستغلونهم أبشع استغلال ويبقونهم تحت خط الحياة في مخزن بارد تحت الأرض.
وفي الوقت نفسه يستخدم بعض المهاجرين الافارقة في بيع السلع التي يصنعها الصينيون في الشوارع. وهو بالتالي يلهث طيلة الوقت لتدبير الأمور، الحصول على المقابل المالي من الذين يشغلون الصينيين، ورعاية طفليه، واسكات الشرطي الذي يطالب بالمال وإلا أبلغ عن المخالفات العديدة المتراكمة التي يقوم بها، واللهاث وراء علاج قد يطيل بعضة أيام من عمره وهو الذي يتبول دما.
وفي مشهد يمتليء بالحيوية مصور في الشارع، نرى الباعة الأفارقة من المهاجرين غير الشرعيين، يحملون سلالهم الشهيرة، وفجأة تهاجم الشرطة الحي، ويحدث هرج ومرج، وتقع مطاردات وتعتدي الشرطة بوحشية على المهاجرين البؤساء، وتعتقل الكثيرين منهم، ويشهد بطلنا ما يجري وعندما يحاول التدخل يلقى القبض عليه أيضا.
هنا يطغى أسلوب الفيلم التسجيلي على المشهد تماما بكل عناصره: الكاميرا المحمولة على الكتف التي تضفي اهتزازاتها الطابع الواقعي التسجيلي على المشهد كما لو كنا نشاهد لقطات من الجريدة السينمائية أو من التقارير التليفزيونية الاخبارية، وزوايا التصوير المتنوعة التي تساعد في الإحاطة بكافة أركان المشهد، والانتقالات السريعة بين اللقطات، لتغطية المكان بما يحدث فيه في لقطات متنوعة، استخدام المجموعات الحقيقية من المهاجرين وتصوير كيف يتعرضون للمطاردة والمداهمة بالتفصيل وبكل ما يحمله المشهد من عنف بالغ.
وفي مشهد آخر نرى العمال الصينيين وهم يرقدون مكدسين في المخرن البارد، بينهم نساء وأطفال يبكون، وصاحب العمل يوقظهم في غلظة لكي يبدأوا العمل. وإلى مسكن جماعي يقيم فيه عدد كبير من المهاجرين الأفارقة، يتوجه بطلنا لكي يقدم مساعدة مالية لزوجة أحد المقبوض عليهم وكان من ضمن الذين يعملون لحسابه في توزيع المنتجات، ونرى كيف يتكدس المكان بالبشر في ظروف متدنية للغاية، آيات قرآنية معلقة على الحائط، امرأة افريقية تغسل الملابس، دورات مياه قذرة، أطفال يبكون. وعندما ينتهي هذا المشهد، ينتقل المخرج إلى منظر للكاتدرائية الشهيرة المميزة لمدينة برشلونة، أي كاتدرائية "العائلة المقدسة" التي تعد العلامة السياحية الشهيرة للمدينة، تجسيدا للتناقض الفاضح بين العالمين.
وفي مشهد آخر نرى مخيما كبيرا لإيواء المهاجرين الأفارقة، حيث يذهب أوكسبال للبحث عن الرجل السنغالي المسلم الذي ألقي القبض عليه، وهناك يعلم أنهم يقومون بترحيل المهاجرين دون النظر إلى وضعهم العائلي وظروفهم الشخصية، فزوجة هذا الرجل حصلت على اقامة شرعية، وهي ترعة ابنه، وهي التي سيوكل لها أوكسبال في النهاية رعاية طفليه قبيل رحيله عن الحياة، لكن صديق أوكسبال الشرطي يقول له بوضوح إنه لا يمكنه أن يفعل شيئا في هذه الحالة، أي لا يملك أن يغير من قرار الترحيل.
أجهزة التدفئة الرخيصة التي لا تتوفر فيها ضمانات الأمان التي يشتريها أوكسبال لتدفئة المخرن الذي يتكدس فيه العمال الصينيون، تتسبب في مأساة، عندما يتسرب الغاز منها ليلا، فيقضي 24 صينيا بينهم نساء وأطفال، حتفهم في مشهد مروع. وتتفجر الفضيحة في أجهزة الإعلام عندما تطفو جثث الصينيين فوق سطح البحر، ويتضح أن الرجلين الصينيين اللذين يقوما بتشغيلهم قاما بنقل الجثث وألقيا بها في مياه البحر لإخفاء حقيقة ما وقع.
أوكسبال إذن نموذج مكثف للبريء- المذنب، فهو مسؤول عما آلت إليه الأمور، لكنه أيضا البريء الذي يتحايل لكي يساعد نفسه ويساعد الآخرين على النجاة من هذا الواقع الكابوسي الذي يشده إلى أسفل. إنه الأب الذي يكتشف معنى الأبوة متأخرا، ربما بعد أن توفي والده، ويكتشف أنه أهدر حياته فيما لا ينفع، وأن وناياه الطيبة لا تؤدي دائما إلى الخلاص بل يمكن أن تقود إلى المآسي سواء لنفسه أو للآخرين.
ولعل من مشاكل البناء في الفيلم الافراط كثيرا في التفريعات والتعرجات الدرامية. صحيح أنها تخدم الفكرة، لكنها تنحرف بالفيلم في اتجاهات فرعية بعيدة عن البؤرة الدرامية الأساسية. إننا نرى مثلا، كيف يمتلك أوكسبال، رغم إغراقه في العالم السفلي الواقعي الصرف، قدرة روحية خاصة على محادثة الأرواح والاتصال بها، وكيف يستعين به الكثير من اقاربه ومعارفه لتسكين أرواح أحيائهم قبيل مغادرتهم الحياة وهم على فراش الموت.
ونرى أيضا كيف أنه في غمرة لهاثه من أجل البقاء في الحياة، لا يمانع من بيع قبر والده لشركة تقيم فوقه سوقا تجاريا كبيرا، مقابل الحصول على بعض المال، على أن يقوم بحرق الجثة، رغم ارتباطه الشخصي بوالده الذي توفي حديثا في المكسيك ونقلت جثته إلى اسبانيا.
وهناك أيضا المشهد الطويل الذي يدور في المرقص حيث يذهب للبحث عن شقيقه، والحديث الذي يدور بينه وبين إحدى العاهرات اللاتي يجالسهن شقيقه، وأوكسبال يحدثها عن الموت، وكيف أن نهاية حياته قد اقتربت، في حين تطالبه الفتاة بالرقص وتناول الشراب، دون أن تفهم بالضبط ما يتحدث عنه، وهو من المشاهد الزائدة التي كان من الأفضل التحلص منها.
ولعل أهم ما يبقى في الذاكرة من هذا الفيلم تلك المشاهد الخارجية التسجيلية الطابع التي تصبغ الفيلم بصبغة واقعية وتجعل الشخصية جزءا لا يتجزأ من المكان، من المحيط المتدني، وكأننا نشهد "الجحيم الأرضي" خاصة وأن شخصية أوكسبال تبدو لرجل باحث عن الخلاص، كما أنه يدرك متأخرا أن عليه دينا يتعين تسديده، لولديه أساسا، اللذين يجب أن يترك لهما أكبر مبلغ ممكن من المال قبل أن يودع الحياة.
وشأن افلام إيناريتو الأخرى، ليست هناك مساحة كبيرة للتفاؤل في هذا الفيلم، لكن ليس هناك أيضا فزع من فكرة الموت، فالدنيا التي يصورها لا تغري بالبقاء فيها طويلا، في حين أن الصورة العذبة النقية التي يقدمها في مشهد ما قبل البداية وهو نفسه مشهد النهاية، لعالم ما بعد الموت، تبعث على الإحساس بالراحة والانسجام مع النفس. إنها رؤية الفنان وفلسفته الخاصة تتجسد هنا بأبلغ ما يمكن من خلال الصور واللقطات والموسيقى الحزينة لنغمات البيانو أو الأورج، والإضاءة الشاحبة الداكنة، والأبخرة المتصاعدة في قاع مدينة برشلونة، ولعل المدينة هنا تصبح على نحو ما أيضا، وعاء يحتوي مختلف الأجناس كمعادل للدنيا.
والمؤكد ايضا أن هذا الفيلم ما كان لياتي على هذا النحو من التجسيد المكثف المعبر الموحي بعشرات المشاعر إلا بفضل الأداء التمثيلي المتميز كثيرا، للممثل الاسباني خاييم بارديم في الدور الرئيسي، فهو يحمل الدور بل الفيلم بأسره، على كتفيه، ويتعايش مع الشخصية من الداخل، ويعبر عن الألم البدني المباشر بتعبيرات الوجه وتأوهات الجسد كابلغ ما يكون، ولذا استحق عن دوره هذا جائزة التمثيل في مهرجان كان.
أخيرا، كلمة "بيوتيفول" (أي جميلة ولكن مكتوبة بخطأ في أحد الأحرف) هي في النهاية تعليق ساخر على الحياة في برشلونة.. التي نراها في هذا الفيلم كما لم نرها من قبل.. وهي كلمة تكتبها ابنة اوكسبال وبها الخطأ الإملائي، تعبيرا عن تلك الصورة المقلوبة للواقع.. الصورة الصادمة التي يقدمها لنا الفيلم.

الأحد، 26 سبتمبر 2010

"جولى وجوليا".. اكتشاف الذات فى مطبخ "أبلة نظيرة"!


بقلم: محمود عبد الشكور


لوأردت رأياً مختصراً فى الفيلم الأمريكى "جولى وجوليا" الذى كتبته "نورا إيفرون" سأقول لك أنه عمل متواضع من الناحية الفنية ، مملّ ويبعث على التثاؤب ، ويشبه الطبخة الرديئة التى تثير الإزعاج من حيث المذاق والنتائج ، ومع ذلك فإن الفيلم يقدم نقاطاً هامة يمكن أن يستفيد منها صنّاع السينما المصرية والعربية لو أرادوا: الدرس الأول هو توظيف موهبة كبارالنجوم لصالح العمل وخاصة الرائعة "ميريل ستريب" التى فاززت عن دورها بالفيلم بجائزة الكرة الذهبية ، كما رُشحت عن دورها (وهو أهم وأفضل ما فى الفيلم) للفوز بجائزتى الأوسكار والبافتا لأفضل ممثلة .
إنها ممثلة استثنائية تستطيع أن تصنع كل شئ ،ويمكنها أن تقدم أىّ شخصية. الدرس الثانى هو فى الجدية الشديدة الت تُصنع بها الأفلام مهما كان مستوى السيناريو . فيلمنا المتواضع مثلاً يدور فى عالم الطهى والوجبات الفرنسية ، وتشاهد فيه أكبر كمية متنوعة من أصناف الطعام ، وأظن أن الفيلم له "مستشارغذائى" مثلما يوجد خبير للمعارك فى الأفلام الحربية! أما الدرس الثالث فهو فى استلهام الأفلام من مصادر متنوعة وتعددة مما يوسع من دائرة الخيال والمعالجات في حين نقتصر نحن على السناريوهات المكتوبة مباشرة للسينما ، أو القليل جداً المأخوذ عن أعمال أدبية ،دون الإلتفات الى كتب التجارب الشخصية ،أو حتى التجارب الخاصة المكتوبة فى شكل مذكرات شخصية.
فيلم "جولى وجوليا" مأخوذ عن كتابين هما :"حياتى فى فرنسا" لمؤلفته "جوليا تشايلد" بالإشتراك مع أحد الكتّاب ، ويتناول هذا الكتاب حياة أشهر مقدمى برامج الطهى فى التليفزيون الأمريكى ، وهى أيضاً مؤلفة أشهر مرجع لإعداد الأكلات الفرنسية لستّ البيت الأمريكية بعنوان "إتقان فن الطهى الفرنسى" ، أى أننا أمام " أبلة نظيرة نقولا" المصرية الرائدة فى مجال فن الطهى ولكن على الطريقة الأمريكية ، أما الكتاب الثانى المأخوذ عنه الفيلم فهو بعنوان "جولى وجوليا" ، ومؤلفته شابة أمريكية لها مدونة شهيرة جداً اسمها "جولى بويل" حاولت من خلالها تنفيذ 524 وجبة طعام فرنسية سجلتها "جوليا" الرائدة فى كتابها القديم بشرط أن يتم تنفيذ هذه الوجبات المتتالية خلال 365 يوماً فقط.
لم تكن المشكلة فى الفكرة ،ولكنها فى المعالجة السينمائية وفى طبيعة الكتابة التى تاه منها الخط الفاصل بين متابعى برامج الطهى ومشاهدى أفلام السينما ..
كانت هناك محاولة طموحة للربط بين الشخصيتين :"جولى" الشابة التى تبدأ مدونتها عام2002 لتنفيذ ما جاء فى الكتاب الشهير للمأكولات الفرنسية ،و"جوليا" التى بدأت عام 1949 فى تعلم الطبخ على الطريقة الفرنسية بتشجيع من زوجها الدبوماسى "بول تشايلد" . من الناحية النظرية الفكرة برّاقة بل ومُلهمة ، ولكن من الناحية العملية بدا الأمر وكأننا أمام فيلمين متقاطعين : أولهما عن حياة سيدة المطبخ العجوز "جوليا تشايلد" (ميريل ستريب) أقوى وأفضل بكثير من كل الوجوه من حكاية الفيلم الثانى عن "جولى بويل" (آمى آدامز) التى تعيش فى "نيويورك" فى عام 2002 . فى كل لحظة نعود فيها الى "جولى" كنا نشعر بالملل الشديد رغم اجتهاد "آمى آدامز" ، ولكن لا مقارنة تقريباً مع حضور "ميريل " الخارق ولمساتها الكاريكاتورية فى أداء شخصية "جوليا"، ولم يكن كافياً على الإطلاق لهذا الربط القول بأن المرأتين متشابهتين فى أمور كثيرة : كلتاهما كانتا سكرتيرتين فى وكالة حكومية ، وكلتاهما عانت من الفراغ ، وكلتاهما تحققتا من خلال المطبخ ، وكلتاهما نجحتا من خلال زوجيهما حيث يلعب "ستانلى توتشى" دور الدبلوماسى "بول تشايلد" زوج "جوليا" ، ويلعب "كريس ماسينا" دور "إيريك" زوج "جولى" التى تعمل فى وكالة لمساعدة أهالى ضحايا 11 سبتمبر.
ظلت حياة "جوليا" هى الأكثر ثراء طوال الوقت ، وكان مثيراً للملل أن نشاهد "جولى بويل" لا تفعل شيئاً تقريباً غير تنفيذ عشرات الأصناف الفرنسية اوالمنقولة من كتاب "جوليا" ، والحقيقة أن كلا الحكايتين لا تخلوان من مشكلات إضافية داخل كل واحدة منهما : الفيلم الذى تلعبه "جوليا" ومعظم أحاثه فى "باريس" سرعان ما امتلأ أيضاً بالحشو والإستطراد والتكرار بتقديم تفصيلات عن رغبة "جوليا" شغل وقت فراغها فى "باريس" ، وفى علاقتها بأختها "دوروثى" التى تزورها فى فرنسا ، ويجون لها عريساً فرنسياً لا علاقة له بموضوعنا ،ثم تتكرر خطابات "جوليا" لصديقتها بالمراسلة "أفيس" ، وندخل فى مشاكل زوجها الدبلوماسى الذى ينتقل الى عدة أماكن من ألمانيا الى فنلندا ، ثم استجوابه أمام لجان الماكارثية الرهيبة فى الخمسينات ، ثم محاولة "جوليا" البحث عن ناشر لكتابها الضخم (أكثر من 700صفحة ووزنه أكثر من كيلو جرام) ، وهناك تفصيلات أخرى عن كفاحها لتعلم فن الطهى وسط الرجال المحترفين ، ومشاكلها مع اثنتين من زميلاتها اللاتى قمن بمشاركتها فى تأليف الكتاب.

على الجانب الآخر الصورة أكثر سوءا ، "جولى" تتابع الطبخ المتكرر من كتاب "جوليا" ، ثم تنشر على مدونتها حكايتها مع كل طبخة سواء نجحت أو فشلت ، وتحكى عن زوجها المحرر فى مجلة للآثار وتصفه بالقديس ، وفى منتصف هذه الثرثرة لجأت كاتبة السيناريو ( وهى أيضا مخرجة الفيلم "نورا إيفرون") الى اختراع مشكلة بين "جولى" وزوجها "إيريك" لمجرد أن يترك المنزل كنوع من تسخين المواقف المكررة والباردة ، والحقيقة أننى لا أعرف لماذا تشاجر "إيريك" مع زوجته الطبّاخة الشابة خاصة أنه صاحب فكرة مدونتها التى حققت لها شهرة واسعة ، كما أننى لم أعرف لماذ عاد الزوج فجأة الى زوجته ، على الأرجح قد يكون اكتشف أنه سيضيع على نفسه فرصة تناول الوجبات اليومية التى تطبخها "جولى" من كتاب "جوليا" .

كان متوقعاً أن تلتقى "جولى" فى النهاية مع "جوليا" فنظفر أخيراً بحوار الأجيال وخلاصة الحكايتين ، ولكن ما حدث فعلاً أن "جوليا" التى كانت فى سن التسعين عام 2002 أثناء نشر مدونة "جولى" عن أصنافها لم ترغب أبداً فى مقابلة الطبّاخة الشابة، بل إنها أدلت بحوار استنكرت فيه مدونة "جولى" ، واعتبرتها استغلالاً تجارياً لكتابها الضخم الصادر فى العام 1961، وهكذا ضاعت الفرصة الأخيرة لكسر الشعور بالملل والتكرار والإحساس التزايد بأننا نشاهد تجميعاً لفقرات فى فن الطهى وليس فيلماً روائياً طويلاً عن أشهر نجمات هذا الفن .
فى التحليل الأخير ، أصبح لدينا فكرة طموحة جداً تصلح لصناعة فيلم جيد عن الرغبة فى التحقق واكتشاف الذات حتى داخل حجرة المطبخ ، ولكن لدينا سيناريو مُفرط فى الطول يشيبه الوجبة الباردة الخالية من المشهيات ومن الملح والطعم ، وقد تساءلت بعد مشاهدة الفيلم لماذا لم يتم صنع فيلم وثائقى عن "جولى" و"جوليا" بدلاً من هذا الحشو والإستطراد . طبعاً لا يجب التقليل من فرصة مشاهدة أداء "ميريل ستريب" ولمساتها فى التعامل مع الشخصية ، ولا التقليل من متعة مشاهدة الوجبات الفرنسية رغم أنها متاحة فى برامج التليفزيون ، ولكن لا يجب أيضاً التقليل من صعوبة احتمال ساعتين من الطبخ المتواصل لأكلات لم نتذوق منها شيئاً ، لنُصبح فى النهاية أمام فيلم عجيب :"ستّات بتُطبُخ ..ورجّالة بتاكل .. واحنا قاعدين نتفرّج"!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger