بقلم: محمود عبد الشكور
وكأنّ "عمارة يعقوبيان" الفيلم والرواية، ليسا إلا خريطة لحالة عبثية ومحمومة للصعود "الى أسفل" فى مصر المحروسة . تخيل حشداً وخليطاً من طوائف شتى تهرب عدواً فى اتجاه سلم متحرك ، تدفعهم حلاوة الروح الى القفز على الدرجات ، ولكن المراقب من بعيد يكتشف عبثية المحاولة إذ أن السلم ذاته ليس إلا سلم النزول ، كما أنه يتحرّك فى عكس اتجاه حركة صعودهم !
هكذا يتصرف كل أبطال يعقوبيان : أحلامهم صغيرة، وحلولهم فردية ، والظروف قاهرة، والأزمة لاحل لها سوى بالتغيير الكامل .
رواية علاء الأسوانى ، والفيلم المأخوذ عنها بسيناريو المتألق وحيد حامد، وببطولة نوابغ المشخصاتية المصريين يحتاجان الى رؤية أكثر عمقاً وتفصيلاًخاصة أن الرواية أغادت قطاعاَ كبيراَالى قراءة هذا الفن ، أما الفيلم فسيدخل تاريخ السينما المصرية من أوسع أبوابه – أولاً وقبل كل شئ – لمستواه الفنى الرفيع .
الرواية
عندما صدرت الطبعة الأولى من عمارة يعقوبيان ( دار ميريت يناير 2002 ) أحدثت ضجة غير مسبوقة ، وتحول كل قارئ لها الى مندوب للدعاية يستوقفك فى الشارع ليسألك : "هل قرأت يعقوبيان ؟" خلال شهرين فقط نفذت أول طبعة ، وفى غضون عامين صدرت خمس طبعات أخرى وكتبت عنها الكثير من الدراسات بالعربية والإنجلزية والفرنسية .
المؤلف علاء الأسوانى كان قد صدرت له قبل( يعقوبيان ) مجموعتان قصصيتان طبعت المجموعة الأولى مرتين وهى بعنوان ( الذى اقترب ورأى ) . يعمل طبيبا للأسنان ، وهو ابن الراحل الكبير عباس الأسوانى، وقد أصبح بعد نجاح روايته الأولى مقترن الذكر والسيرة بها ، انه صاحب يعقوبيان مثلما أصبح يحيى حقى صاحب ( القنديل ).
هكذا يتصرف كل أبطال يعقوبيان : أحلامهم صغيرة، وحلولهم فردية ، والظروف قاهرة، والأزمة لاحل لها سوى بالتغيير الكامل .
رواية علاء الأسوانى ، والفيلم المأخوذ عنها بسيناريو المتألق وحيد حامد، وببطولة نوابغ المشخصاتية المصريين يحتاجان الى رؤية أكثر عمقاً وتفصيلاًخاصة أن الرواية أغادت قطاعاَ كبيراَالى قراءة هذا الفن ، أما الفيلم فسيدخل تاريخ السينما المصرية من أوسع أبوابه – أولاً وقبل كل شئ – لمستواه الفنى الرفيع .
الرواية
عندما صدرت الطبعة الأولى من عمارة يعقوبيان ( دار ميريت يناير 2002 ) أحدثت ضجة غير مسبوقة ، وتحول كل قارئ لها الى مندوب للدعاية يستوقفك فى الشارع ليسألك : "هل قرأت يعقوبيان ؟" خلال شهرين فقط نفذت أول طبعة ، وفى غضون عامين صدرت خمس طبعات أخرى وكتبت عنها الكثير من الدراسات بالعربية والإنجلزية والفرنسية .
المؤلف علاء الأسوانى كان قد صدرت له قبل( يعقوبيان ) مجموعتان قصصيتان طبعت المجموعة الأولى مرتين وهى بعنوان ( الذى اقترب ورأى ) . يعمل طبيبا للأسنان ، وهو ابن الراحل الكبير عباس الأسوانى، وقد أصبح بعد نجاح روايته الأولى مقترن الذكر والسيرة بها ، انه صاحب يعقوبيان مثلما أصبح يحيى حقى صاحب ( القنديل ).
حصلت( يعقوبيان) على تقريظ نقدى مستحق باعتبارها شهادة اجتماعية دالة على زمنها وإن كان بعض النقاد لم يروا فيها مايستحق كل هذه الضجة ، واعتبرت يعقوبيان أحيانا نموذجا لأدب" التلسين "حيث توجد ملامح تشابه بين شخصياتها وشخوص حية تعيش بيننا . الحقيقة أن "التلسين" أو الإسقاط على شخصيات معروفة – بافتراض صحته – ليس عيبا فى ذاته ولاهو أيضا مصدر قوة إذ يظل معيار التقييم دائما هو مستوى العمل من الناحية الفنية أو الأدبية ، ولوكان" التلسين "عيبا مطلقا يقلل من شأن العمل ويصمه تلقائيا بالضعف والركاكة لكان الفيلم العظيم ( المواطن كين ) أسوأ أفلام القرن العشرين إذ يبدو فيه التلسين واضحا على أسطون الصحافة الشهير " راندولف هيرست ".
مع مرور الزمن على الأعمال الهامة (ويعقوبيان تستحق هذا الوصف) سينسى القارئ الأصل الحقيقى للشخصية ، وستصبح الشخصية الروائية التى أبدعها المؤلف الأكثر خلودا وبقاء كما حدث بالفعل مع شخصية" سعيد مهران" التى تبدو اقوى وأروع كثرا من أصلها المعروف " محمود أمين سليمان ".
قوة "عمارة يعقوبيان" الرواية لاتكمن فقط فى نماذجها الإنسانية التى رسمها الأسوانى بعناية مما استدعى الى الأذهان أشخاصاً حقيقيين ، ولكن النجاح الأهم – فى رأيى – يكمن فى أمرين : تقديم عمل معاصر ، بل معاصر جداً ،دون الوقوع فى تقديم رواية سطحية كتلك التى يكتبها الصحفيون الأدباء (باستثناء الروائى والصحفى الكبير الراحل فتحى غانم) .. والأمر الثانى هو نجاح الأسوانى فى رسم حالة من الفوضى الإجتماعية التى توفر مناخاً مثالياً لظهور عدد لانهائى من الشخصيات المماثلة مستقبلاً .
على سبيل المثال : فإن الظروف التى صنعت المصير المأساوى ل " طه الشن الملابس لتُاذلى " ما زالت قائمة ويمكنها أن تصنع عشرات مثله ، وإذا كانت "بثينة " قد هربت من القهر النفسى والإنتهاك الجسدى بالزواج من زكى الدسوقى فإن زميلة لها تقبع فى ذات اللحظة فى مخزن الملابس لتُشبع غريزة صاحب المحل مقابل عشرة جنيهات . هذا المناخ يمكنه أن يفرز عشرت من أمثال الجندى البائس عبد ربه أو الضابط السادى صلاح رشوان أو حتى الزعيم الدينى الذى يهتف (نريدها إسلامية ..إسلامية) .
عمارة يعقوبيان تعبر عن أشخاص من لحم ودم بقدر ما ترصد أعراضاً لمرض مجتمع يعيش حالة من الفوضى ، ولذلك ستظل هذه الرواية وثيقة لاغنى عنها لكل من يحاول دراسة حالة مصر فى التسعينات من القن العشرين وما بعدهامثلما اعتبرنا رواية مثل "ذات" للروائى الكبير صنع الله ابراهيم وثيقة لاغنى عنها فى وصف حال المحروسة فى ثمانينات القرن العشرين .
يعتمد بناء الرواية على اللوحات المستقلة والقفزات والإنتقالات السردية من شخصية الى أخرى مع اللجوء الى أسلوب بسيط فى الحكى والوصف بل وتقديم بعض المعلومات التقريرية أحياناً مثل المعلومات عن تاريخ العمارة ، ورغم أن أبطال الرواية يجمعهم المكان الواحد ، فإن العلاقات بينهم ضعيفة أو واهية (عكس رواية ميرامار) ، ولذلك تبدو شخوص يعقوبيان كما لوكانت حبات مسبحة انفرطت ، ولكن القراءة الأعمق للرواية تكشف عن خيط قوى غريب يجمع بينها يمكن أن نسميه " حلم الصعود الى أسفل ". هناك حالة غريبة من القلق تحاصر كل الشخوص وكأن الجميع يهربون من طوفان قادم التماسا لخلاصهم الشخصى . زكى الدسوقى يبحث عن خلاصه فى الحانات ومع الساقطات ، ودولت شقيقته تبحث عن خلاصها بالحصول على ثروة أخيها ، وكريستين تبحث عن خلاصها بالهروب الى الماضى المفقود ، وطه الشاذلى يبحث عن خلاصه بالعنف المقدس ، والحاج عزام يبحث عن خلاصه بالجنس الشرعى والبيزنس غير الشرعى، وكمال المنوفى يبحث عن خلاصه بتحويل المنصب الى تجارة ، وحاتم رشيد يبحث عن خلاصه بالشذوذ ، والجندى عبد ربه يبحث عن خلاصه بوجوده فى العاصمة حتى لو كان الثمن جسده.
هناك فى الرواية صدامات حادة بين بعض الشخوص تجعل العلاقات اوثق حتى مما تتصور هى نفسها : الدسوقى مثلا ينحدر تقريبا بنفس السرعة التى يصعد بها الحاج عزام ، وطه الشاذلى يُنتهك جسديا بطريقة لاتقل بشاعة عن الطريقة التى يُنتهك بها جسد خطيبته بثينة ، وسعاد تبيع نفسها بيعا شرعيا بالزوج ولكن الأمر لايختلف كثيرا عن طريقة بيع فتاة الحانة لجسدها مع الدسوقى أو طريقة بيع عسكرى الأمن المركزى لجسده ، وقلة وفاء دولت وخادم المكتب أبسخرون أوفانوس كما سماه الفيلم ، يقابلها وفاء كريستين التى تبدو كإحدى اميرات عصر الرومانسة المفقود ، وطه الشاذلى كان يحلم أن يكون ضابطا ، فهل لوحدث ذلك لأصبح يتصرف مع المتهمين مثلما تصرف معه الضابط صلاح رشوان ؟!قوة "عمارة يعقوبيان" الرواية لاتكمن فقط فى نماذجها الإنسانية التى رسمها الأسوانى بعناية مما استدعى الى الأذهان أشخاصاً حقيقيين ، ولكن النجاح الأهم – فى رأيى – يكمن فى أمرين : تقديم عمل معاصر ، بل معاصر جداً ،دون الوقوع فى تقديم رواية سطحية كتلك التى يكتبها الصحفيون الأدباء (باستثناء الروائى والصحفى الكبير الراحل فتحى غانم) .. والأمر الثانى هو نجاح الأسوانى فى رسم حالة من الفوضى الإجتماعية التى توفر مناخاً مثالياً لظهور عدد لانهائى من الشخصيات المماثلة مستقبلاً .
على سبيل المثال : فإن الظروف التى صنعت المصير المأساوى ل " طه الشن الملابس لتُاذلى " ما زالت قائمة ويمكنها أن تصنع عشرات مثله ، وإذا كانت "بثينة " قد هربت من القهر النفسى والإنتهاك الجسدى بالزواج من زكى الدسوقى فإن زميلة لها تقبع فى ذات اللحظة فى مخزن الملابس لتُشبع غريزة صاحب المحل مقابل عشرة جنيهات . هذا المناخ يمكنه أن يفرز عشرت من أمثال الجندى البائس عبد ربه أو الضابط السادى صلاح رشوان أو حتى الزعيم الدينى الذى يهتف (نريدها إسلامية ..إسلامية) .
عمارة يعقوبيان تعبر عن أشخاص من لحم ودم بقدر ما ترصد أعراضاً لمرض مجتمع يعيش حالة من الفوضى ، ولذلك ستظل هذه الرواية وثيقة لاغنى عنها لكل من يحاول دراسة حالة مصر فى التسعينات من القن العشرين وما بعدهامثلما اعتبرنا رواية مثل "ذات" للروائى الكبير صنع الله ابراهيم وثيقة لاغنى عنها فى وصف حال المحروسة فى ثمانينات القرن العشرين .
يعتمد بناء الرواية على اللوحات المستقلة والقفزات والإنتقالات السردية من شخصية الى أخرى مع اللجوء الى أسلوب بسيط فى الحكى والوصف بل وتقديم بعض المعلومات التقريرية أحياناً مثل المعلومات عن تاريخ العمارة ، ورغم أن أبطال الرواية يجمعهم المكان الواحد ، فإن العلاقات بينهم ضعيفة أو واهية (عكس رواية ميرامار) ، ولذلك تبدو شخوص يعقوبيان كما لوكانت حبات مسبحة انفرطت ، ولكن القراءة الأعمق للرواية تكشف عن خيط قوى غريب يجمع بينها يمكن أن نسميه " حلم الصعود الى أسفل ". هناك حالة غريبة من القلق تحاصر كل الشخوص وكأن الجميع يهربون من طوفان قادم التماسا لخلاصهم الشخصى . زكى الدسوقى يبحث عن خلاصه فى الحانات ومع الساقطات ، ودولت شقيقته تبحث عن خلاصها بالحصول على ثروة أخيها ، وكريستين تبحث عن خلاصها بالهروب الى الماضى المفقود ، وطه الشاذلى يبحث عن خلاصه بالعنف المقدس ، والحاج عزام يبحث عن خلاصه بالجنس الشرعى والبيزنس غير الشرعى، وكمال المنوفى يبحث عن خلاصه بتحويل المنصب الى تجارة ، وحاتم رشيد يبحث عن خلاصه بالشذوذ ، والجندى عبد ربه يبحث عن خلاصه بوجوده فى العاصمة حتى لو كان الثمن جسده.
ان التناقض الحاد يبدو أيضا بوضوح بين رسوخ المبنى العمارة القديمة وبين هذه التغيرات والإنقلابات التى تجعلهم وكأنهم يجلسون فوق ارجوحة لاتتوقف .
تبقى مسألة انتهاك الجسد التى منحت يعقوبيان طابعها الجرئ ، انه التعبير المادى المحسوس عن الإستباحة فى ظل الفوضى وغياب المعايير ، وهذا الإستخدام ليس جديدا وانما يمكن ان تجده فى اعمال فنية مثل الفيلم المصرى الأشهر المذنبون حيث تحول منزل الممثلة الفاتنة سناء كامل الى ماخور ، وتحول جسدها الى مزار سياحى ينتهكه الجميع ، ولسان حال ( المذنبون ) ويعقوبيان يقول بوضوح :" اذا ماتت النفوس واصبح الانسان سلعة ، فكيف تسلم الأجساد من الإنتهاك "؟!
الفيلم
منذ فيلم "المذنبون " عام 1976 للمخرج الكبير سعيد مرزوق لم يحدث أن قدمت السينما المصرية فيلما يرصد بجرأة الخريطة الشاملة لأمراض المجتمع مثل فيلم (عمارة يعقوبيان) للسيناريست الكبير وحيد حامد وللمخرج الصغير الكبير مروان حامد. كانت هناك على الطريق أفلام مهمة تنتقى زاوية أو أكثر من مناطق الخلل ثم تطلق جرس إنذارها كما فى سواق الأتوبيس ( حيث يموت الأب قهرا وسط أبنائه ) ومثل أهل القمة ( حيث يصعد اللصوص ويضيع حُماة القوانين )، وفيلم الطوفان (حيث يضحى الأبناء بالأم من أجل المال ) وفيلم العار ( حيث يستقيل وكيل نيابة لأول وآخر مرة فى تاريخ الفيلم المصرى للمساهمة فى استقبال وتخزين شحنة مخدرات )، ولكن الأبعاد الكاملة لخريطة الفساد والمفسدين والصاعدين الى أسفل تجدها فى فيلم "عمارة يعقوبيان".
نقل الروايات الناجحة ا لى السينما ليس أمرا سهلا كما يعتقد البعض ، ولكنه فى نماذجه الناضجة ابداع مواز لإبداع صاحب الرواية نظرا لاختلاف طبيعة الوسيط بين العمل المكتوب و الفيلم المرئى ، وقد نجح وحيد حامد الى درجة كبيرة فى تجسيد الرواية فى عمل قوى ومؤثر وشيق لدرجة أن قارئ الرواية لن يشعر أبدا بالملل من المشاهدة ولن يفتقد الدهشة التى صاحبته عند القراءة . حافظ وحيد حامد على طبيعة الشخصيات ومصائرها فبدا الجميع كأنه خرجوا لتوهم من الكتاب ، وقد أسرف فى الإلتزام بالرواية الى درجة الإلتزام بمحاكاة بنائها الذى يعتمد على الإنتقال بين قصص منفصلة مع أنه كان يستطيع أن يترجم بشكل أفضل الخيوط غير المرئية بين الشخصيات كما شرحنا من قبل . مرتان فقط فعلها فى مشهد لقاء الدسوقى و رشيد امام الأسانسير ، وفى مشهد تعليق الدسوقى على ظهور عزام فى التليفزيون .
وفى حين تبدو دوافع الشخصيات الأساسية واضحة ، فإن دوافع بعض الشخصيات الثانوية تبدو غامضة فى الفيلم مقارنة بالرواية . على سبيل المثال : فإن فانوس خادم المكتب يبدو جشعا وخائنا ولئيما دون مبرر منطقى مع أن أبسخرون فى الرواية شخصية أكثر ثراء تتحايل على المعايش لتربية البنات الثلاثة ولرعاية شقيقه ملاك وأولاده ، ودولت التى تبدو فى الفيلم شديدة العنف مع أخيهاتكشف الرواية تاريخها الشخصى الملئ بالإحباط بعد هجرة ابنها وابنتها إثر زواجهما ، وبعد فشلها فى زيجتين إثر وفاة زوجها الأول ، وفى هذا الفراغ وذلك الإحباط ما يفسر الكثير . وهناك ملاحظة أخرى لاتقلل من الجهد المبذول هى التخفيف من بعض مناطق الجرأة السياسية فى الرواية حتى لايزيد استفزاز الرقابة مثل حذف لقاء الحاج عزام مع الرجل الكبير الذي يقتسم الرشاوي مع كمال المنوفى ، وحذف واقعة كتابة طه الشاذلى لخطاب تظلم لرئيس الجمهورية بعد رفض قبول الشاب فى كلية الشرطة ، وحتى الحوار الأكثر جرأة كان فى الرواية وليس الفيلم .
بثينة مثلا تصف بلدها فى يأس وقرف "بالمخروبة "، وتقول لزكى الدسوقى : " كنتم بتعملوا مظاهرات عشان تطردوا الإنجليز ؟ أهم خرجوا .. يعنى البلد حالها انصلح ؟" ، وتعبر فى ثورة عن غضبها فتقول : " أنا ما شفتش من البلد دى حاجة عشان أحبها ". كلها عبارات قد تكون قاسية ولكنها أكثر تعبيرا عن الثورة التى تشتعل داخل بثينة ، وأكثر تجسيدا لمأساتها من عبارة مخففة جدا مثل : "مصر بقت قاسية قوى على أهلها ".
فيما عدا ذلك فإن وحيد حامد فى ملعبه المفضل : الدراما الإجتماعية ذات الخلفية السياسية التى قدم منها روائع حقيقية مثل "دم الغزال"، رغم أننى لم أبتلع أن تكون نهاية حاتم رشيد على يد شخص آخر غير عبد ربه. وجه الإعتراض هنا ليس عدم الإلتزام بالرواية ولكن لأن هذا الفعل يكتسب مغزى أكبر من مجرد العقاب الأخلاقى لرجل شاذ، إنه فى الرواية يعبر عن فشل عبد ربه فى حل ماساته إلابقتل المسئول عنها . لم يعد جندى الأمن البائس قادرا على العودة الى الصعيد بعد أن ذاق الحياة الأفضل فى العاصمة بمساعدة رشيد ، ولكنه يعد قادرا أيضا على أن تعود العلاقة به كما كانت بعد أن فقد طفله الوحيد . فعل القتل يبدو بالنسبة له مريحا لانه سيخلصه من سبب مأساته ، ولأن عقابه على جريمة القتل سيخفف من شعوره بالذنب لعلاقته الشاذة ، أما قيام شخص آخر بقتل حاتم رشيد من أجل السرقة كماحدث فى الفيلم فهى نهاية أخلاقية لاترضى سوى الجمهور المصرى.
لكن وحيد حامد نجح فى المقابل فى تطوير شخصيات أخرى على نحو مبدع مثل كمال المنوفى الذى بدا فى الفيلم فى مكانة أكبر ومتمتعا بنفوذ أخطر من الرواية ، ومثل الحاج عزام تاجر المخدرات الذى لفقت له قضية مخدرات ، بل ان مشهد النهاية الأخير (العروسان الدسوقى وبثينة يتساندان وسط الضباب فى ميدان طلعت حرب فى اتجاه العمارة) يبدو أكثر توافقا مع مغزى الرواية من أي مشهد آخر بديل ،باشوات الأمس وفقراء اليوم يحاولون النجاة من انسحاقهم بزواج عجيب لا يوجد فى الرواية ولافى الفيلم ما ينبيء بنجاحه ، والملاحظ أن كل علاقات الحب فى الفيلم والرواية إما فاشلة أوغير مكتملة ( طه وبثينة ،طه وزوجته المحجبة رضوى ، الحاج عزام وسعاد ،الدسوقى وكريستين ، الحاج عزام وزوجته الأولى ، عبد ربه وزوجته الصعيدية ... إلخ ) .
على مستوى أداء أساتذة التشخيص الذين جسدوا أدوارهم باقتدار فقد كان كل شيء رائعا بل ومذهلا : عادل امام فى أحد أفضل أدواره . إنه أحد كبار المشخصاتية المعاصرين الذين استهلكتهم الأعمال التجارية الرديئة ، ولكن موهبته بلا ضفاف وحضوره بلا سقف ، لاحظ –على سبيل المثال – تعبير وجهه حال طرده من الحانة عن طريق طلعت زكريا . يسرا الرائعة التى ملأت الفيلم حضورا وحسرا رغم ظهورها القصير ولكنها نقلت إلينا عطر عصر كامل لم يعد موجودا . هند صبرى التى عبرت عن انسحاق الفتاة المصرية الفقيرة . نور الشريف فى دور جيد خاصة فى مشاهد العجوز الباحث عن زوجة جديدة . الواعد محمد عادل إمام الذى أقنعنا فى أول أدواره بشخصية صعبه ضائعة بين الحلم والواقع . الرائعان الجريئان باسم سمرة وخالد الصاوى فى شخصيات شاقة وتراجيدية بامتياز ، والصاوي تحديدا يستحق جائزة خاصة لبراعته فى أداء دور حاتم رشيد ،أما المخرج الواعد مروان حامد فقد أدهشنا فى "لى لى "، ولكنه نجح هنا باقتدار فى السيطرة على كل هؤلاء النجوم واستخراج أفضل مالديهم . لم يستعرض ولم يبهر بقدر ما قام بتوظيف كل ادواته لخدمة السيناريو وساعده على ذلك العناصر الإحترافية التى عملت معه : ديكورات فوزى العوامرى المتميزة خاصة فى مشاهد شقة السوقى وشقة حاتم رشيد . إضاءة سامح سليم المدروسة خاصة فى مشاهد تعذيب طه ومشاهد لقاءات رشيد وعبد ربه فى الشقة . ملابس ناهد نصر الله التى ترتبط بالشخصيات ومستواها الإجتماعى والإقتصادى مثل ملابس بثينة المتواضعة وفساتين يسرا التى جعلتها خارج الزمن الذى نعيشه . موسيقى خالد حماد التى تترجم لحالة هروب فوضوية من سفينة فى طريقها الى الغرق المحتوم ! قبل كل هؤلاء ، لابد من توجيه التحية الى عماد أديب وجودنيوز على توظيف الإمكانيات المادية والشرية لكى تُقدّم الرواية الناجحة بهذه الصورة الممتازة على الشاشة الكبيرة .
"عمارة يعقوبيان" الفيلم القذيفة والرواية الوثيقة يكشفان عن عبثية الحل والخلاص الفردى ، ويشرّحان جُثثا حية ونفوساً ميتة بلا هوادة . صحيح أن الرائحة بشعة ، ولكن على الذين تزعجهم الرائحة المنبعثة من الشاشة أن يسألوا أنفسهم أولاً كيف تحمّلوها من قبل فى الواقع المُعاش ؟!
فيما عدا ذلك فإن وحيد حامد فى ملعبه المفضل : الدراما الإجتماعية ذات الخلفية السياسية التى قدم منها روائع حقيقية مثل "دم الغزال"، رغم أننى لم أبتلع أن تكون نهاية حاتم رشيد على يد شخص آخر غير عبد ربه. وجه الإعتراض هنا ليس عدم الإلتزام بالرواية ولكن لأن هذا الفعل يكتسب مغزى أكبر من مجرد العقاب الأخلاقى لرجل شاذ، إنه فى الرواية يعبر عن فشل عبد ربه فى حل ماساته إلابقتل المسئول عنها . لم يعد جندى الأمن البائس قادرا على العودة الى الصعيد بعد أن ذاق الحياة الأفضل فى العاصمة بمساعدة رشيد ، ولكنه يعد قادرا أيضا على أن تعود العلاقة به كما كانت بعد أن فقد طفله الوحيد . فعل القتل يبدو بالنسبة له مريحا لانه سيخلصه من سبب مأساته ، ولأن عقابه على جريمة القتل سيخفف من شعوره بالذنب لعلاقته الشاذة ، أما قيام شخص آخر بقتل حاتم رشيد من أجل السرقة كماحدث فى الفيلم فهى نهاية أخلاقية لاترضى سوى الجمهور المصرى.
لكن وحيد حامد نجح فى المقابل فى تطوير شخصيات أخرى على نحو مبدع مثل كمال المنوفى الذى بدا فى الفيلم فى مكانة أكبر ومتمتعا بنفوذ أخطر من الرواية ، ومثل الحاج عزام تاجر المخدرات الذى لفقت له قضية مخدرات ، بل ان مشهد النهاية الأخير (العروسان الدسوقى وبثينة يتساندان وسط الضباب فى ميدان طلعت حرب فى اتجاه العمارة) يبدو أكثر توافقا مع مغزى الرواية من أي مشهد آخر بديل ،باشوات الأمس وفقراء اليوم يحاولون النجاة من انسحاقهم بزواج عجيب لا يوجد فى الرواية ولافى الفيلم ما ينبيء بنجاحه ، والملاحظ أن كل علاقات الحب فى الفيلم والرواية إما فاشلة أوغير مكتملة ( طه وبثينة ،طه وزوجته المحجبة رضوى ، الحاج عزام وسعاد ،الدسوقى وكريستين ، الحاج عزام وزوجته الأولى ، عبد ربه وزوجته الصعيدية ... إلخ ) .
على مستوى أداء أساتذة التشخيص الذين جسدوا أدوارهم باقتدار فقد كان كل شيء رائعا بل ومذهلا : عادل امام فى أحد أفضل أدواره . إنه أحد كبار المشخصاتية المعاصرين الذين استهلكتهم الأعمال التجارية الرديئة ، ولكن موهبته بلا ضفاف وحضوره بلا سقف ، لاحظ –على سبيل المثال – تعبير وجهه حال طرده من الحانة عن طريق طلعت زكريا . يسرا الرائعة التى ملأت الفيلم حضورا وحسرا رغم ظهورها القصير ولكنها نقلت إلينا عطر عصر كامل لم يعد موجودا . هند صبرى التى عبرت عن انسحاق الفتاة المصرية الفقيرة . نور الشريف فى دور جيد خاصة فى مشاهد العجوز الباحث عن زوجة جديدة . الواعد محمد عادل إمام الذى أقنعنا فى أول أدواره بشخصية صعبه ضائعة بين الحلم والواقع . الرائعان الجريئان باسم سمرة وخالد الصاوى فى شخصيات شاقة وتراجيدية بامتياز ، والصاوي تحديدا يستحق جائزة خاصة لبراعته فى أداء دور حاتم رشيد ،أما المخرج الواعد مروان حامد فقد أدهشنا فى "لى لى "، ولكنه نجح هنا باقتدار فى السيطرة على كل هؤلاء النجوم واستخراج أفضل مالديهم . لم يستعرض ولم يبهر بقدر ما قام بتوظيف كل ادواته لخدمة السيناريو وساعده على ذلك العناصر الإحترافية التى عملت معه : ديكورات فوزى العوامرى المتميزة خاصة فى مشاهد شقة السوقى وشقة حاتم رشيد . إضاءة سامح سليم المدروسة خاصة فى مشاهد تعذيب طه ومشاهد لقاءات رشيد وعبد ربه فى الشقة . ملابس ناهد نصر الله التى ترتبط بالشخصيات ومستواها الإجتماعى والإقتصادى مثل ملابس بثينة المتواضعة وفساتين يسرا التى جعلتها خارج الزمن الذى نعيشه . موسيقى خالد حماد التى تترجم لحالة هروب فوضوية من سفينة فى طريقها الى الغرق المحتوم ! قبل كل هؤلاء ، لابد من توجيه التحية الى عماد أديب وجودنيوز على توظيف الإمكانيات المادية والشرية لكى تُقدّم الرواية الناجحة بهذه الصورة الممتازة على الشاشة الكبيرة .
"عمارة يعقوبيان" الفيلم القذيفة والرواية الوثيقة يكشفان عن عبثية الحل والخلاص الفردى ، ويشرّحان جُثثا حية ونفوساً ميتة بلا هوادة . صحيح أن الرائحة بشعة ، ولكن على الذين تزعجهم الرائحة المنبعثة من الشاشة أن يسألوا أنفسهم أولاً كيف تحمّلوها من قبل فى الواقع المُعاش ؟!
(هذا المقال لم يسبق نشره من قبل)
1 comments:
حتى الآن لم أقرأ الرواية رغم قرائتي لكل أعمال الأسواني الأخرى والتي رغم تفاوت مستواها يبقى أهمها -في رأيي- رواية (شيكاغو)..لكن بخصوص الفيلم اضافة الى الملاحظات التي ذكرها الأستاذ محمود أرى أن شخصية طه الشاذلي لم يكن بناءها موفقا على الاطلاق في الفيلم فانضمامه إلى الجماعات الإسلامية و علاقته بصديقه (الذي أخذ بطريقه إلى الهداية) و أيضا علاقته بشيخه ينقصها الكثير من التفاصيل فكل التحولات التي مر بها تبدو مبسطة إلى حد السطحية .. وعلى المستوى العام يبقى الفيلم أفضل انتاجات أو ربما (الانتاج الوحيد الجيد) لشركة جود نيوز ويبقى أيضا التجربة الوحيدة الجيدة لمروان حامد في رأيي الذي لم يعجبني أي من أعماله الأخرى.
تحيّاتي لك أستاذ الأمير و للأستاذ محمود عبد الشكور على قراءته المتميزة للفيلم و الرواية. عمر
إرسال تعليق