كان لابد أن يكون اليوم مختلفا عما سبقه من أيام. استيقظنا على موجة هطول كثيف للجليد استمرت طيلة انهار، وخرجت أمشي بصعوبة وبحذر شديد فوق الثلوج التي انتشرت وغطت المدينة بأكملها. لكن هذا لم يمنع خروج عشاق السينما أفواجا، وجدت فوجا كبيرا منهم يصطف أمام قصر المهرجان (بداخله قاعتان للعرض السينمائي) في انتظار أن يفتح ابوابه في التاسعة صباحا.
هذا الاقبال الكبير من جانب جمهور روتردام هو إحدى العلامات المميزة لهذا المهرجان الذي يحقق سنويا طفرة في عدد مرات الدخول التي تتجاوز 336 ألف تذكرة دخول للقاعات.
موجود هنا من بين أصدقائنا السينمائيين والنقاد (وهم قليلون جدا) السينمائي العراقي قتيبة الجنابي الذي حضر أساسا لاجراء اتصالات للحصول على تمويل لفيلم يعتزم اخراجه ليكون فيلمه الأول كمخرج بعد أن صور 7 افلام.
قتيبة مصور عظيم درس التصوير السينائي في معهد السينما ببوادبست، لكنه يريد أن يصبح مخرجا ويترك التصوير وهو ما دعاني إلى أن أقول له: كلكم تريدون هجر التصوير والتحول للإخراج فمن الذي سيصور الأفلام إذن؟ وكان زميله الصديق قاسم عبد قد هجر أيضا التصوير وأخرج فيلمه الطويل الأول من النوزع التسجيلي وهو فيلم "زمن السقوط".
قتيبة قال لي ردا على استفساري إنه لم يعد يطيق أن ينتظر وراء المخرج سنوات حتى تتاح له فرصة العمل بالتصوير، أي أنه يرفض تلك التبعية للمخرجين وانتظار أن تنفذ مشاريعهم، ويرغب بالتالي في تولي أموره بنفسه. وقد حصل بالفعل على جزء من التمويل من مؤسسة هيوبرت بالس الهولندية، ويسعى حاليا لتسويق مشروع فيلمه هنا في سوق روتردام الشهير.
رغم الثلوج، أو ربما بسبب الثلوج، قررت أن أشاهد اليوم ستة أفلام، أي أن أقضي اليوم كله في الخارج. وقد نجحت التجربة وشاهدت الأفلام الستة من التاسعة صباحا حتى الحادية عشرة مساء دون أن أغادر أي عرض من العروض قبل نهايته.
وعلى العكس من أفلام الأمس، كان هناك عدد لا بأس به من الأفلام الجيدة اليوم، منها الفيلم الإيراني "طهران للبيع My Tegran for Sale الذي يستحق مقالا خاصا نظرا لأهميته ولأنه اكتشاف حقيقي. ويكفي أن أقول إن الفيلنم صور بكامله في طهران (سرا بالطبع) ويتضمن الكثير من المشاهد الجريئة التي لم يسبق ظهورها في فيلم ايراني من قبل، كما أنه رغم جرأته السياسية، لا يبيع باستخذاء بضاعته للغرب للحصول على مباركته، بل على العكس تماما من الفيلم سيء الصيت "لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية" لبهمن قبادي الذي سبق أن عرض للمرة الأولى في مهرجان كان، وطاف بعد ذلك عددا من المهرجانات آخرها هنا في روتردام. وشتان ما بين الفيلمين في اللغة والأسلوب الفني بل وتفاصيل الموضوع. إنه عمل هجائي آسر من خلال أسلوب شعري مبتكر يجعلك لا تستطيع أن ترفع عينيك دقيقة واحدة بعيدا عن الشاشة.
الفيلم الثاني المتميز هو فيلم من الانتاج السلوفيني الألماني الصربي الكرواتي المشترك. وهو بعنوان "فتاة سلوفينية" Slovenian Girl للمخرج دميان كوزول. ويصور كيف تتحول طالبة في الجامعة في الثالثة والعشرين من عمرها إلى عاهرة محترفة تتردد على الفنادق الفاخرة، تختار زبائنها من الأوروبيين الأجانب لطن أحد هؤلاء الزبائن يسقط ميتا قبل أن يمارس معها الجنس في غرفته بالفندق، فتبلغ الإسعاف وتهرب لكي تصبح بعد ذلك مطارة من جانب الشرطة. هذا الموضوع ينجح السيناريو الممتاز في جعله عملا يحمل في طياته الكثير من التفصيل الانسانية المهمة، وينتقل من أسرة الفتاة الممزقة، إلى علاقتها بأستاذها في الجامعة، إلى تطلعها لشراء شقة في المدينة، إلى محاولات مستميتة من جانب اثنين من القوادين لتطويعها والسيطرة عليها بالقوة، إلى علاقة فاشلة لها مع رجل ترك زوجته بسببها دون أن يعرف بالطبع أنها تمتهن الدعارة. الحياة المزدوجة للفتاة مقدمة هنا على صعيد الدراما الاجتماعية النفسية، ومن خلال اسلوب واقعي تماما، وليس على طريقة العبقري لوي بونويل في "حسناء النهار" Belle de Jour مثلا. ولعل أهم جانب في الفيلم هو ذلك الأداء العبقري من جانب الممثلة المسرحية نينا إيفانسين التي تتحكم في أداء دور الفتاة التي تختار عن وعي وعن تصميم وعن حسابات دقيقة الانتقال إلى الجانب الآخر، ولكنها تظل أساسا نموذجا إنسانيا يفتقر إلى الحب وإلى الإحساس بالحياة.
وكان هناك أيضا فيلم ثالث بعنوان "رابيا" Rabia مكسيكي (مشترك مع كولومبيا واسبانيا) أعتبره تحفة في موضوعه المثير الذي يذكرك بشبح الأوبرا ولكنه يؤنسن الموضوع أكثر ويجعله قريبا من قلوب المشاهدين ويدخل عليه الكثير من التفاصيل المتعلقة بالواقع الذي تدور في اطاره الأحداث. إنها قصة حب بين شاب وفتاة يصيبها من البداية سوء الطالع مما يؤدي إلى ارتكاب الشاب جريمة قتل عن طريق الخطأ ثم الهرب والاختباء في غرفة علوية في منزل السادة الذين تعمل لديهم حبيبته الفتاة الجميلة البريئة "روزا" خادمة.
الشاب مهاجر غير شرعي يطرد من عمله بسبب تأديبه لرجلين تهكما على علاقته بالفتاة، ثم يتشاجر مع رئيسه في العمل الذي يطرده ويحرمه بالتالي من المسكن غير الانساني الذي وضعه فيه مع غيره من المهاجرين غير الشرعيين (ستة أفراد في غرفة واحدة)، ثم ينتقم من ابن أصحاب المنزل بعد أن يغتصب روزا، بأن يخنقه ويصور الأمر على أنه حادثة. وهو لا يجرؤ أبدا على النزول من مخبئه هذؤا والاعتراف ذلرزوا بما فعله بل يفضل العيش مع الفئران، وتقاسم فضلات الطعام معها على أن يعرض روزا للخطر بسببه.
الفيلم بالطبع لا ينتهي هنا لكنه يحمل في كل مشهد من مشاهده مفاجأة تطور الحبكة وتدفع الفيلم إلى الأمام، لتجل المشاهدين يتابعون باهتمام تفاصيل السيناريو المحكم والاخراج الذي لا يسقط في أي خطأ، حيث لا توجد لقطة أو مشهد أطول مما ينبغي، أو أقصر مما كان يجب.
ولعل أفلام اليوم المتميزة جاءت في معظمها، من السينما التقليدية التي تعتمد على رواية قصة وليس على الأفلام التي تسعى إلى تجاوز الأشكال التقليدية والسباحة في عوالم أكثر رحابة، فهذه النوعية فشلت من خلال ما شاهدته هنا حتى الآن في اقناعي بأنني أمام عمل متماسك يبشر بموهبة حقيقة، باستثناء الفيلم الإيراني الذي أخرجته الشاعرة جراناز موسوي التي تقف وراء الكاميرا للمرة الأولى كمخرجة. ولنا حديث آخر حول هذا الفيلم تحديدا.
3 comments:
تحياتى أستاذ أمير على التغطية المميزة لهذا المهرجان الذى ربما لم أتابع أحداثه من قبل الا من أخبار أراها صدفة. بالمناسبة أكبر عدد من الأفلام شاهدته فى يوم واحد كان ثلاثة أفلام ولدى سؤال بهذا الخصوص, هل ذلك الازدحام يسبب مشكلة فى تذكر تفاصيل الأفلام, بمعنى عندما قررت حضرتك الكتابة عن ذلك الفيلم الايرانى , هلى تمكنت من الاستعادةالصافية للأحداث ولانطباع حضرتك أثناء المشاهدة؟ هذا ليس من قبيل الحسد أستاذى...بل فضول التجربة. تحياتى
عمر
مرحبا أستاذي
نفس السؤال كنت أود طرحه عليك ، لأنني وكما أتذكر أكبر عدد من الأفلام شاهدته في يوم واحد كان أربعة أفلام و أمام شاشة الحاسوب وليس السينما ...
طلب آخر ممكن أن تكتب لنا عناوين الأفلام بالإنجليزية أو بلغتها الأصلية لكي يسهل علينا ايجادها ...
شكرا ...
الأخ عمر منجونة يبدو أنه نسى وضع اسمه فظهر هنا عير المعرف ولذا اجيبه فأقول إن النقاد المحترفين لا يذهبون إلى المهرجانات الدولية الكبيرة لكي يشاهدوا فيلمين أو ثلاثة في اليوم فقط، بل يشاهدون من 4 إلى 6 افلام عادة.والسبب أن هذا ما يجب أن يفعلوه والا يكون هناك تفاعس، لأنك تشاعد 10 افلام مثلا حتى تعثر على 3 منها صالحة للكتابة النقدية التفصيلية عادة. وسر القدرة على الاستيعاب والكتابة الدقيقة أنني أدون ملاحظاتي، سواء أثناء المشاهدة أو بعدها مباشرة، مما يتيح لي القدرة على الكتابة تفصيلا، هذا بالطبع بالاضافة إلى تدريب الذاكرة البصرية على التقاط التفاصيل والقدرة على استعادتها في الذهن وهي عملية شاقة استغرقت سنوات طويلة.
٣١ يناير، ٢٠١٠ ٧:٠٦ م
إرسال تعليق