إذا لم يملك عاشق السينما أو الناقد المحترف أو أي شخص يريد التردد لمتابعة أفلام المهرجان، برنامجا دقيقا، يبذل وقتا وجهدا كبيرا في وضعه والتدقيق في، لفاته الكثير، وشعر بالضياع وسط هذا المهرجان الكبير وكل المهرجانات الكبيرة التي تزدحم بعروض الأفلام بما يزيد عن الطاقة البشرية أحيانا.
ازدحام البرنامج هنا ملحوظ لدرجة أن من الممكن أن يواصل المرء المشاهدة لسبع أفلام يوميا، شريط أن يتوقف عن تناول الطعام والشراب ولقاء البشر ويستغني عن الراحة، وعن العمل، بل وعن التفكير فيما يشاهده. وقد كان رأيي دائما أن كثرة المشاهدة ليست دليلا على أن "الناقد يقوم بدوره" كما يتخيل البعض، بل العبرة بماذا يشاهد، وكيف يشاهد، وما الذي يبقى في رأسه من المشاهدة، وكيف يتعامل مع ما شاهده تعاملا نقديا جادا في النهاية بحيث يفيد القاريء.
وهذا هو الفرق بين الناقد وبين"هاوي السينما" cinephil فالأخير يسعد كثيرا بالمشاهدة لمجرد المشاهدة، وبالخروج من فيلم لكي يدلف لمشاهدة الفيلم التالي، فهو ستمتع بالتواجد داخل قاعة العرض، ويحتفل بالسينا أكثر كثيرا ا يحتفل بالحياة التي تصنع منها السينما، كما تصنع حولها وحول تعقيداتها. وشخصيا لو خيرت بين تجربة إنسانية جميلة تثري معرفتي بالدنيا والعالم، وبين أن أشاهد فيلما عظيما، سأختار بلا تردد، التجربة الإنسانية، أو "المغامرة" لأن الفيلم يمكن الحصول عليه ومشاهدته فيما بعد، أما اللحظة الإنسانية الخاصة فلا يمكن تعويضها.. أليس كذلك؟!
من الناحية الأخرى، يجب أن يمارس الناقد أيشاء أخرى كثيرى أكثر من مجرد المشاهدة، فهو لابد أن يقرأ، وأن يتذوق الموسيقى، وأن يشاهد المسرح، وأن يستمع إلى الشعر، وأن يتردد على المعارض لمشاهدة أعمال الفن التشكيلي وفن التصوير التي هي كما نعرف، أساس السينما كفن يعتمد بالدرجة الأولى على الصورة.
وهذه كلها بديهيات معروفة وليست اختراعا، لكنها تداعت إلى ذهني وأنا هنا في روتردام الآن، بعد أن رأيت كيف "يعسكر" بعض هواة السينما داخل قصر المهرجان، ويظل كل منهم يدخل ويخرج إلى قاعات العرض طوال اليوم، وبعضهم يتبارى مع رفقائه في عدد الأفلام التي يساهدونها، وكم يمكن لكل منهم أن يشاهد في اليوم الواحد، وبعض النقاد أيضا يفعل للأسف، وكأننا نخوض سباقا، لنرى من منا سيربحه ويخرج بجائزة أكثر مشاهدي الأفلام عددا.. والعدد بعد ذلك، كما نعرف، في الليمون!
المهم، أنني أجد زحام الأفلام أيضا زحاما مفتعلا، أقصد الكثيرة الهائلة في عدد الأفلام التي تعرض في برامج المهرجان، فالكثير جدا من هذه الأفلام متوسط أو حتى ضعيف المستوى، والمهرجانات الكبيرة مثل كان وفينيسيا وبرلين، تعاني عادة في العثور على الأفلام الجيدة التي تدرجها في برنامجها الذي لا يزيد في كل أقسامه عن 80 فيلما. أما مهرجانات الجمهور العريض، أي تلك التي تري أن تبيع لكل شرائح الجمهور وجنسياته وطبقاته، أفلاما يشاهدها على مدار 12 يوما كما في روتردام، أو 15 يوما كما في مهرجان لندن مثلا، فهي لا تهتم كثيرا بالمستوى بقدر ما تهتم بهذا التمثيل الذي يراعي التنوع، فهذه بلدان تعيش فيها أقليات من خلفيات ثقافية مختلفة، ولابد بالتالي أن تجد أفلاما تعبر عن ثقافاتها.
أما العرب الذين يمثلون ثلث سكان المدينة (عدد سكانها حوالي مليون نسمة) فسينماهم هذا العام تحديدا شبه غائبة كما اشرت أمس. هناك فقط فيلم المخرج الفلسطيني ايليا سليمان "الزمن الباقي" (باعتباره من الإنتاج الأوروبي- فرنسي – بريطانيا- ايطاليا- بلجيكا)، وفيلم "كل يوم عطلة" للمخرجة اللبنانية ديما الحر ومن الإنتاج الأوروبي أيضا (فرنسي، ألماني). وهي ظاهرة تتناقض في الواقع مع وجود عدد لا بأس به من الأفلام التي كانت جديرة بالعرض طالما أنهم "فتحوها" لعشرات الأفلام من جنوب شرق آسيا كالعادة دون أن تكون بالضرورة أفلاما جيدة.
من هذا الأفلام المخيبة للآمال بشدة، فيلم الافتتاح "باجو" للمخرجة بارك تشان أوك من كوريا الجنوبية. وربما يكون هذا هو أسوأ فيلم يفتتح به مهرجان روتردام على ما أعي، ومنذ أن بدأت في التردد عليه في 2002.
الفيلم يدور حول موضوع إنساني من زاوية اجتماعية نفسية، وأسلوب تقليدي سبقت تجربته في آلاف الأفلام هو أسلوب الفلاش باك المتعدد المتقطع على مدار الفيلم. لكن المشكلة الرئيسية أن الفيلم يفشل في جذا المتفرج إلى تلك الشخصيات المعذبة التي تبدو كما لو كان قد كتب عليها أن تعاني وتتألم. رجل تهجره صديقته بعد أن يتسبب في حادث يصيب طفلها الصغير (يصاب بحروق نتيجة إنشغال الرجل وفتاته في ممارسة الحب على نحو ما يفتتح فيلم "ضد المسيح" للمخرج الدنماركي لارس فون ترايير).. ويتوجه الرجل بعد ذلك إلى بلد باجو حيث يتزوج لكن زوجته تموت بعد أن ينفجر امسكن بفعل انفجار أنبوب للغاز، ثم يجد صاحبنا نفسه مشدودا إلى شقيقة زوجته الصغيرة، ويخوض في الوقت نفسه معارك ضارية ضد السلطات التي تسعى لهدم منازل المنطقة لصالح طبقة المستثمرين.. وأحداث كثيرة ندور حول هذه النقطة تحديدا وكيف يمكن للفتاة أن تنجو وتحتفظ بالمنزل الذي ورثته عن والديها، وموقف شركات التأمين، وموقف البلدية، واحتجاجات الناشطين، وأشياء أخرى لا تدعو للاكتراث، بل إن الفيلم الذي يبدأ بداية قوية موحية بتناقض إنساني شيق، سرعان ما يتحول إلى أحد أفلام الاحتجاج ولكن بدون قوة ولا اقناع، لا في الاخراج ولا في التمثيل. ومع ذلك، يقال لنا إن هذا الفيلم استقبل استقبالا حماسيا في مهرجان بوسان في كوريا الجنوبية!
الفيلم الذي أعجبني من عروض اليوم هو الفيلم المجري "أنت لست صديقي" الذي يجسد من خلال تصوير تناقضات العلاقة بين 4 رجال و4 نساء، أزمة الخواء الروحي والعاطفي، وغلبة الحسابات الخاصة الصغيرة، وتفشي الخيانات الكبيرة، التي تتوالد وتتداخل بطريقة مستعصية على الفهم أحيانا، وكيف تحول الرجال إلى "خنازير" يمعنى الكلمة، بل وحتى من خلال الصورة التي يظهرون عليها في هذا الفيلم: كل همهم التلاعب بالمرأة واستغلالها كأبشع ما يكون، والسعي وراء أي فرصة لهدر الوقت، والاستيلاء على المال، والعجز عن مواجهة المرأة في النهاية سواء في الفراش، أم في الدنيا الواسعة. وهذا بالطبع هو الإطار النظري للفيلم. أما عظمة هذا العمل وبلاغته، فتمكننان في طريقة استخدام الممثلين والسيطرة المدهشة عليهم رغم كونهم جميعا من غير المحترفين، والتفاصيل التي يمتليء بها السيناريو، وهي تحمل من السخرية بقدر ما تحمل من قسوة، والربط بين كل هذه الشخصيات معا في شكل أقرب إلى "اللعبة" التي لا تنتهي إلا بانتقام النساء من الرجال، كل واحدة على طريقتها الخاصة!
هذا الفيلم الذي أخرجه العبقري جيورجي بالفي Georgy Palfi يمتليء بالمفارقات الكوميدية على طريقة الكوميديا السوداء، ولكن الممزوجة بالحزن، على ما آلت إليه العلاقات في مجتمع بودابست اليوم "بعد التحرر" أي بعد سقوط النظام الاشتراكي، ودخول الرأسمالية ومعها كل قيم "السوبرماركت"!
ازدحام البرنامج هنا ملحوظ لدرجة أن من الممكن أن يواصل المرء المشاهدة لسبع أفلام يوميا، شريط أن يتوقف عن تناول الطعام والشراب ولقاء البشر ويستغني عن الراحة، وعن العمل، بل وعن التفكير فيما يشاهده. وقد كان رأيي دائما أن كثرة المشاهدة ليست دليلا على أن "الناقد يقوم بدوره" كما يتخيل البعض، بل العبرة بماذا يشاهد، وكيف يشاهد، وما الذي يبقى في رأسه من المشاهدة، وكيف يتعامل مع ما شاهده تعاملا نقديا جادا في النهاية بحيث يفيد القاريء.
وهذا هو الفرق بين الناقد وبين"هاوي السينما" cinephil فالأخير يسعد كثيرا بالمشاهدة لمجرد المشاهدة، وبالخروج من فيلم لكي يدلف لمشاهدة الفيلم التالي، فهو ستمتع بالتواجد داخل قاعة العرض، ويحتفل بالسينا أكثر كثيرا ا يحتفل بالحياة التي تصنع منها السينما، كما تصنع حولها وحول تعقيداتها. وشخصيا لو خيرت بين تجربة إنسانية جميلة تثري معرفتي بالدنيا والعالم، وبين أن أشاهد فيلما عظيما، سأختار بلا تردد، التجربة الإنسانية، أو "المغامرة" لأن الفيلم يمكن الحصول عليه ومشاهدته فيما بعد، أما اللحظة الإنسانية الخاصة فلا يمكن تعويضها.. أليس كذلك؟!
من الناحية الأخرى، يجب أن يمارس الناقد أيشاء أخرى كثيرى أكثر من مجرد المشاهدة، فهو لابد أن يقرأ، وأن يتذوق الموسيقى، وأن يشاهد المسرح، وأن يستمع إلى الشعر، وأن يتردد على المعارض لمشاهدة أعمال الفن التشكيلي وفن التصوير التي هي كما نعرف، أساس السينما كفن يعتمد بالدرجة الأولى على الصورة.
وهذه كلها بديهيات معروفة وليست اختراعا، لكنها تداعت إلى ذهني وأنا هنا في روتردام الآن، بعد أن رأيت كيف "يعسكر" بعض هواة السينما داخل قصر المهرجان، ويظل كل منهم يدخل ويخرج إلى قاعات العرض طوال اليوم، وبعضهم يتبارى مع رفقائه في عدد الأفلام التي يساهدونها، وكم يمكن لكل منهم أن يشاهد في اليوم الواحد، وبعض النقاد أيضا يفعل للأسف، وكأننا نخوض سباقا، لنرى من منا سيربحه ويخرج بجائزة أكثر مشاهدي الأفلام عددا.. والعدد بعد ذلك، كما نعرف، في الليمون!
المهم، أنني أجد زحام الأفلام أيضا زحاما مفتعلا، أقصد الكثيرة الهائلة في عدد الأفلام التي تعرض في برامج المهرجان، فالكثير جدا من هذه الأفلام متوسط أو حتى ضعيف المستوى، والمهرجانات الكبيرة مثل كان وفينيسيا وبرلين، تعاني عادة في العثور على الأفلام الجيدة التي تدرجها في برنامجها الذي لا يزيد في كل أقسامه عن 80 فيلما. أما مهرجانات الجمهور العريض، أي تلك التي تري أن تبيع لكل شرائح الجمهور وجنسياته وطبقاته، أفلاما يشاهدها على مدار 12 يوما كما في روتردام، أو 15 يوما كما في مهرجان لندن مثلا، فهي لا تهتم كثيرا بالمستوى بقدر ما تهتم بهذا التمثيل الذي يراعي التنوع، فهذه بلدان تعيش فيها أقليات من خلفيات ثقافية مختلفة، ولابد بالتالي أن تجد أفلاما تعبر عن ثقافاتها.
أما العرب الذين يمثلون ثلث سكان المدينة (عدد سكانها حوالي مليون نسمة) فسينماهم هذا العام تحديدا شبه غائبة كما اشرت أمس. هناك فقط فيلم المخرج الفلسطيني ايليا سليمان "الزمن الباقي" (باعتباره من الإنتاج الأوروبي- فرنسي – بريطانيا- ايطاليا- بلجيكا)، وفيلم "كل يوم عطلة" للمخرجة اللبنانية ديما الحر ومن الإنتاج الأوروبي أيضا (فرنسي، ألماني). وهي ظاهرة تتناقض في الواقع مع وجود عدد لا بأس به من الأفلام التي كانت جديرة بالعرض طالما أنهم "فتحوها" لعشرات الأفلام من جنوب شرق آسيا كالعادة دون أن تكون بالضرورة أفلاما جيدة.
من هذا الأفلام المخيبة للآمال بشدة، فيلم الافتتاح "باجو" للمخرجة بارك تشان أوك من كوريا الجنوبية. وربما يكون هذا هو أسوأ فيلم يفتتح به مهرجان روتردام على ما أعي، ومنذ أن بدأت في التردد عليه في 2002.
الفيلم يدور حول موضوع إنساني من زاوية اجتماعية نفسية، وأسلوب تقليدي سبقت تجربته في آلاف الأفلام هو أسلوب الفلاش باك المتعدد المتقطع على مدار الفيلم. لكن المشكلة الرئيسية أن الفيلم يفشل في جذا المتفرج إلى تلك الشخصيات المعذبة التي تبدو كما لو كان قد كتب عليها أن تعاني وتتألم. رجل تهجره صديقته بعد أن يتسبب في حادث يصيب طفلها الصغير (يصاب بحروق نتيجة إنشغال الرجل وفتاته في ممارسة الحب على نحو ما يفتتح فيلم "ضد المسيح" للمخرج الدنماركي لارس فون ترايير).. ويتوجه الرجل بعد ذلك إلى بلد باجو حيث يتزوج لكن زوجته تموت بعد أن ينفجر امسكن بفعل انفجار أنبوب للغاز، ثم يجد صاحبنا نفسه مشدودا إلى شقيقة زوجته الصغيرة، ويخوض في الوقت نفسه معارك ضارية ضد السلطات التي تسعى لهدم منازل المنطقة لصالح طبقة المستثمرين.. وأحداث كثيرة ندور حول هذه النقطة تحديدا وكيف يمكن للفتاة أن تنجو وتحتفظ بالمنزل الذي ورثته عن والديها، وموقف شركات التأمين، وموقف البلدية، واحتجاجات الناشطين، وأشياء أخرى لا تدعو للاكتراث، بل إن الفيلم الذي يبدأ بداية قوية موحية بتناقض إنساني شيق، سرعان ما يتحول إلى أحد أفلام الاحتجاج ولكن بدون قوة ولا اقناع، لا في الاخراج ولا في التمثيل. ومع ذلك، يقال لنا إن هذا الفيلم استقبل استقبالا حماسيا في مهرجان بوسان في كوريا الجنوبية!
الفيلم الذي أعجبني من عروض اليوم هو الفيلم المجري "أنت لست صديقي" الذي يجسد من خلال تصوير تناقضات العلاقة بين 4 رجال و4 نساء، أزمة الخواء الروحي والعاطفي، وغلبة الحسابات الخاصة الصغيرة، وتفشي الخيانات الكبيرة، التي تتوالد وتتداخل بطريقة مستعصية على الفهم أحيانا، وكيف تحول الرجال إلى "خنازير" يمعنى الكلمة، بل وحتى من خلال الصورة التي يظهرون عليها في هذا الفيلم: كل همهم التلاعب بالمرأة واستغلالها كأبشع ما يكون، والسعي وراء أي فرصة لهدر الوقت، والاستيلاء على المال، والعجز عن مواجهة المرأة في النهاية سواء في الفراش، أم في الدنيا الواسعة. وهذا بالطبع هو الإطار النظري للفيلم. أما عظمة هذا العمل وبلاغته، فتمكننان في طريقة استخدام الممثلين والسيطرة المدهشة عليهم رغم كونهم جميعا من غير المحترفين، والتفاصيل التي يمتليء بها السيناريو، وهي تحمل من السخرية بقدر ما تحمل من قسوة، والربط بين كل هذه الشخصيات معا في شكل أقرب إلى "اللعبة" التي لا تنتهي إلا بانتقام النساء من الرجال، كل واحدة على طريقتها الخاصة!
هذا الفيلم الذي أخرجه العبقري جيورجي بالفي Georgy Palfi يمتليء بالمفارقات الكوميدية على طريقة الكوميديا السوداء، ولكن الممزوجة بالحزن، على ما آلت إليه العلاقات في مجتمع بودابست اليوم "بعد التحرر" أي بعد سقوط النظام الاشتراكي، ودخول الرأسمالية ومعها كل قيم "السوبرماركت"!
1 comments:
اعتقد يا استاذ امير ان حتي المشاهد العادي من المفروض ألا يشاهد اكثر من فيلم متتابعين,فما بالك بالناقد المحترف مثل حضرتك,ولكني مندهش من كلامك عن التجربة الانسانية والفيلم العظيم
حقا ستختار التجربة الانسانية؟؟؟؟؟
إرسال تعليق