الأحد، 8 نوفمبر 2009

حياة في السينما .. شهادة جيل

بقلم: خالد السرجاني

منذ أيام صدر عن مكتبة مدبولي كتاب للزميل والصديق الناقد السينمائي والثقافي الكبير «أمير العمري» بعنوان «حياة في السينما» وهو نفس عنوان مدونته علي الإنترنت التي تعتبر من أكثر المدونات انتشارا لدي شباب السينمائيين ومن أفضل المدونات أيضا . والكتاب ليس في النقد السينمائي ولا سيرة ذاتية حسبما قد يعتقد من يطلع علي العنوان، ولكنه شهادة من جيل السبعينيات علي ما جري في مصر خلال هذا العقد، وكيف تحول الحراك السياسي الذي شهدته إلي موات ثقافي بفضل أجهزة الدولة من جهة وبعض المنتمين اسما إلي المثقفين من جهة أخري، وبعض أخطاء أبناء الجيل نفسه من جهة ثالثة.
والكتاب يمثل أيضا شهادة علي تحولات بعض المثقفين والكتاب الذين أظهروا لنا في فترة من الزمن أنهم ينتمون لنا نحن عامة الشعب ثم انتقلوا فجأة وبلا مقدمات إلي المعسكر الآخر: السلطة.
و«أمير العمري» عاشق حقيقي للسينما، وناقد كبير، لكنه في الوقت نفسه لا يتعامل مع السينما باعتبارها «عملاً تقنياً» إنما هي فن مرتبط بالمجتمع، والناقد السينمائي من هذا المنطلق يجب أن يكون كأمير العمري موسوعي الثقافة مطلعاً علي التاريخ وعلم الجمال والموسيقي وغيرها من العلوم الاجتماعية والفنون وهو ما التزم به الناقد الكبير مؤلف الكتاب الذي يحكي فيه عن محاولات تأسيس سينما مستقلة في مصر من خلال جماعة السينما الجديدة، أو تأسيس جمعيات سينمائية متعددة مثل جمعية سينما الغد لتضاف لما هو موجود من جمعيات مثل نادي السينما وجمعية الفيلم، ويحكي أيضا عن كيف تدخلت الدولة لوأد بعض هذه الجمعيات، وكيف تآمر البعض علي الجمعيات الأخري من أجل أن تظل المؤسسات الثقافية تابعة للدولة وحتي لا يصبح للمثقفين مؤسساتهم المستقلة.
والكتاب ضم وثيقة تنشر لأول مرة في مصر، وهو محضر اجتماع مهم عقدته جماعة نقاد السينما لمناقشة مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأولى، والذي كان يعرف لدي الأوساط السينمائية في ذلك الحين باسم «مهرجان شيراتون»، وقد حضر الاجتماع نقاد ومثقفون عرب، ومن يتابع المناقشات التي جرت في عام 1976 سيجد أننا لم نتقدم خطوة واحدة إلي الأمام، كذلك فإن أكثر النقاد انتقادا للمهرجان لأسباب مبدئية كانوا هم الأكثر تعاونا معه فيما بعد.
ومؤلف الكتاب لا يقدم أحكاما قيمية وإنما يقدم شهادة حول ما جري من أحداث، وعلي القارئ الفطن أن يصدر أحكاما أو تصورات حول الواقع الثقافي المصري انطلاقا من الشهادة التي يوجد لها شهود أحياء. وهو كتب شهاداته بلغة جميلة سيالة، خاصة الشهادات الخاصة بعلاقات إنسانية حميمية مع أفراد نحبهم مثل ما كتبه تحت عنوان «ذكريات عن شلة المنيل ورضوان الكاشف».
كذلك أوضح «أمير» الأفلام التي أثرت في الحركة السينمائية المستقلة في مصر وفيه شخصيا، مثل الأفلام الإيطالية أو فيلم «الترتيب» المعروف أيضا باسم «قلوب في دوامة» أو المدرعة بوتميكن وغيرها من تلك الأفلام المنتشرة أفقيا في الكتاب والتي يوضح كلما ذكر اسماً واحدا منها كيف تأثر به وكيف كان يعبر عن نقلة نوعية في فنيات السينما.
والشهادة التي يقدمها العمري في كتابه المهم ليست عن السينما، ولا عن السينمائيين، وإنما هي شهادة مثقف من جيل السبعينيات عن الحركة الثقافية في هذة الفترة بشخوصها ومؤسساتها وإبداعاتها، وكيف كان يسعي الجيل الذي ينتمي إليه من أجل تأسيس ثقافة مستقلة ومن أجل تغيير الواقع لآخر أكثر إنسانية وجمالا. فيه نطالع عن محاولات تأسيس نادٍ للسينما في كلية طب عين شمس حيث كان يدرس المؤلف، وذكريات المؤلف مع المخرج المصري العالمي يوسف شاهين، وعن عبد الفتاح الجمل ذلك المثقف الذي فتح صفحات ملحق الثقافة في جريدة المساء للكتابة الجديدة والكتاب الجدد وأثر في الثقافة المصرية بل غيرها من خلال احتوائه لجيل الستينيات وبعض رموز جيل السبعينيات، وعن السينمائي الإسرائيلي الذي قاد طائرة الرئيس السادات وهو ذاهب إلي القدس عام 1979، ومحاولات المخرجة عطيات الأبنودي لتصوير أفلام تخرج علي السائد .
ومن المهم أيضا في كتاب «أمير العمري »ما كتبه حول تجاربه في لجان تحكيم المهرجانات السينمائية الكبري، حيث يوضح للقارئ كيف تمنح الجوائز وكيف تحدث المفاوضات بل المساومات والضغوط داخل لجان التحكيم من أجل منح فيلم ما جائزة وحجبها عن آخر، وهو أمر لا أعتقد أن أحدا غيره كتبها بالعربية من قبل.
والكتاب شيق، ومهم، سواء للمتخصص في السينما أو الذي يريد أن يطلع علي جزء من التاريخ الثقافي لمصر في الفترة منذ منتصف السبعينيات حتي اليوم وهو يفتح المجال لشهادات أخري مكملة له أو مناقضة له بما ينير الرأي العام حول الثقافة المصرية غير الرسمية، أو لنقل الثقافة المضادة التي تم وأدها في مهدها من خلال أجهزة الدولة حيث تدخلت أجهزة الأمن في بعض المواضع لتمنع بعض المبادرات المستقلة، وكان سيف الاتهام بالشيوعية والعمالة لدول الكتلة الشرقية مسلطا علي رقبة كل مثقف مستقل يسعي لأن يكون صوته من دماغه وليس قادما من جهة ما سواء رسمية أو حزبية ضيقة الأفق . فالكتاب شهادة لا غني عنها لمن يريد أن يعرف تاريخ سبعينيات القرن الماضي لأن الكاتب يربط بين التجربة الشخصية التي يسردها وبين تحولات السياسة والمجتمع في مصر في الفترة التي جرت فيها الأحداث الشخصية التي يتعرض لها.
هناك شخصيات وردت أسماؤها في الكتاب كشهود علي عصر مثل حسين وحسن بيومي، وأحمد قاسم، ومصطفي درويش ، ومحمد حسن خليل، وشحاتة هارون، وعطيات الأبنودي، ومحمد خان، ويسري نصر الله، ورضوان الكاشف، ومحمد حلمي هلال، ومحمد كامل القليوبي، وسيد سعيد، وغيرهم من كبار المثقفين الذين ساهموا بجهودهم في كتابة تاريخ مصر في مرحلة تحول مهمة في تاريخها. فضلا عن عرب آخرين مثل محمد رضا ونوري أبوزيد ورشيد مشهراوي وغيرهم أيضا. ولا أريد أن أطيل حتي لا أحرق علي القراء ما ورد في الكتاب من تفاصيل مهمة، خاصة أن الكتاب الذي صاغه مؤلفه بسهولة يضم تفاصيل مكثفة لا يمكن تلخيصها في مقال صحفي.

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger