شاهدت فيلم "موسم المسوخ" Season of Monsters في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1987 وأثار وقتها الكثير من الجدل والمناقشات حول التغير الكبير الذي طرأ على مسيرة مخرجه ميكلوش يانتشو الذي يعد من أهم مخرجي سينما الفن الرفيع في تاريخ السينما (وهو لايزال على قيد الحياة في الثامنة والثمانين من عمره)، وقد أعيد طبع عدد من أفلامه البارزة أخيرا على الاسطوانات الرقمية المدمجة. هنا المقال الذي كتبته عن الفيلم ونشر في حينه.
مخرج فيلم "موسم المسوخ" هو المخرج السينمائي المجري الكبير ميكلوش يانشتو MIKLOS JANCSÓ ، المولود في 1921، والحاصل على الدكتوراه في القانون، وبعد ذلك درس الأدب الشعبي وتاريخ الفن، وحصل على الدبلوم عام 1944. وفي عام 1950 تخرج من أكاديمية المسرح والسينما في بودابست، والتحق بالعمل مخرجا لأفلام الجريدة السينمائية.
أخرج يانتشو عددا من الأفلام القصيرة قبل أن يقدم فيلمه الروائي الأول "الأجراس ذهبت إلى روما" The Bells Have Gone to Rome عام 1958. أنتخب عام 1976 رئيسا لاتحاد السينمائيين المجريين، تعاون في معظم أفلامه مع رفيقه وصديقه، كاتب السيناريو جيولا هرنادي، الذي قضى فترة معه في السجن. وقد عرف الاثنان منذ الخمسينيات بمواقفهما المناهضة للستالينية، وتعرضا للسجن بسبب اعتراضهما على الغزو السوفيتي للمجر عام 1956.
أخرج يانتشو خمسة أفلام من الإنتاج الإيطالي إضافة إلى فيلمين من الانتاج المجري- الايطالي المشترك. أهم أفلامه هي "الأحمر والأبيض" (The Red and the White (1967، "صمت وبكاء" Silence (and Cry (1968، و"المواجهة" (The Confrontation (1968، "المزمور الأحمر" Red (Psalm (1971، "روما تريد قيصرا آخر"(Rome Wants Another Caesar (1973، "إليكترا" (1974)، و"رابسودي مجرية" (Hungarian Rhapsody (1978. وقد حصل فيلمه "المزمور الأحمر" على جائزة الاخراج في مهرجان كان السينمائي.
أما فيلم "موسم المسوخ" فقد حصل عن جدارة، على جائزة الإخراج في مهرجان فينيسيا، وكان بلاشك يستحق الحصول على الجائزة الكبرى.
يتمير أسلوب يانتشو الخاص بالاعتماد على الصورة واللقطات الطويلة، وحركة الكاميرا الدائمة، وتحطيم الشكل التقليدي للسرد. وهو أيضا مخرج مثقف، يمتلك خبرة كبيرة، ورؤية خاصة، واسلوبا ممتعا مثيرا للعقل والذهن.
يعتبر فيلم "موسم المسوخ" أحد الأفلام الصعبة بالنسبة للمتفرج المعتاد على مشاهدة قصة درامية تلعب فيها شخصيات رئيسية محدودة، الأدوار الأولى، تسندها شخصيات ثانوية، وتحكمها أحداث معينة تصل إلى العقدة أو الذروة إلى أن ينفك الصراع الدرامي بينها في النهاية. وقد يستخدم المخرج أسلوب التداعي الحر أحيانا، وتداخل الأزمنة أحيانا أخرى، دون أن يفقد المشاهدة القدرة على القراءة البصرية السهلة للفيلم.
أما "موسم المسوخ" فمن المؤكد أنه لا ينتمي إلى ذلك النوع من السينما. إنه عمل أكثر تعقيدا في جزئياته وتفاصيله، الدرامية والبصرية. وهو ينتمي إلى ما يمكن تسميته بالسينما الفلسفية أي السينما التي لا تعتمد على الفكرة أو الموضوع والحوار المحمل بعشرات الرموز والإيحاءات، بقدر اعتمادها على رؤية بصرية متحررة تمتليء بالعديد من التفاصيل الصغيرة، كما تهتم بالضوء والحركة داخل الصورة، وتكوين اللقطات، وزوايا التصوير، ولكن بطريقة تختلف عن مجرد توظيف كل عنصر من هذه العناصر لتحقيق السلاسة في رواية الموضوع. وفضلا عن هذا، تطرح هذه السينما عشرات الأسئلة حول الكثير من الأمور المجردة في حياتنا: الموت والوجود وقيمة العلم ومصير الإنسان، كما تحاول طرح بعض النبؤات المستقبلية.
"موسم المسوخ" يبتعد إذن في مضمونه، عن الواقعية، مقتربا من الفوضوية، ويبتعد في شكله عن الأسلوب التقليدي متجها بشدة نحو السيريالية.
ويظل السؤال البديهي هنا: ولكن هل هناك بالرغم من هذا كله، قصة يرويها الفيلم؟
نعم.. هناك قصة ولكنها ليست القصة التقليدية في بنائها الشائع، فهي لا تعتمد على شخصيات رئيسية وثانوية، بل ويمكن القول إنه لا توجد شخصيات في الفيلم كله تمتلك أبعادا درامية، فهناك أشباح لشخصيات، لا يهم هنا تحليل كل شخصية منها على حدة لكي نفهم دوافعها ومبررات وجودها وتصرفاتها، بقدر ما يهم النظر إلى العلاقات المرئية (الخفية أحيانا) بين أشباح تلك الشخصيات التي تتحرك أمامنا وكأنها تتحرك داخل حلبة سيرك كبير. وهو أسلوب يقصده المخرج تماما ويريدنا أن نرى فيلمه من خلاله.
في البداية نرى البروفيسور "زولتاي" وهو يدلي يحديث للتليفزيون، ثم تنتقل الكاميرا إلى منظر عام من بعيد لطائرة هليكوبتر تحلق فوق نهر الدانوب، ونرى ضفة النهر مزدحمة بالسيارات، والأعلام منتشرة في كل مكان. إنه يوم الاحتفال بالعيد الوطني للبلاد. الشمس ساطعة والجميع في حالة لهو وسعادة بالعطلة الرسمية. ونرى زولتاي يطل من نافذة مبنى فخم يطل على الدانوب. ونشاهد سيارة "فولكس" في سباق للسيارات في وسط المدينة تحرسها سيارة للشرطة.
وفي قاعة الاستقبال في أحد الفنادق الكبيرة يدخل الدكتور باردوش ويأخذه ضابط شرطة لمطابقة جثة قتيل في قاعة الاستقبال.. وهناك نرى جثة الدكتور زولتاي بعد أن أنهى حياته بالانتحار. ويراقب ضابط الشرطة الانفعالات على وجه باردوش على شاشة تليفزيون متصلة بدائرة داخلية للفيديو في غرفة أخرى. لقد كان باردوش وزولتاي زميلي دراسة. ونستمع إلى عزف موسيقي على آلة الساكسفون.
بعد هذه البداية التي توحي بأننا أمام فيلم بوليسي، تنتقل بنا الكاميرا إلى مكان آخر، حيث نرى التلاميذ السابقين للدكتور كوفاكس وهم يعدون احتفالا خاصا في منزل ريفي مطل على البحيرة بمناسبة بلوغ كوفاكس سن الستين. ونرى ثلاث فتيات يقفن في الطريق إلى المنزل، يرشدن الضيوف القادمين إلى الحفل. وتتجمع عشرات السيارات في ساحة المكان، والبروفيسور كوفاكس مسرور للغاية برؤية تلاميذه السابقين مرة أخرى وقد اجتمعوا معا بعد أن تفرقت بهم السبل وانتشروا في أرجاء العالم المختلفة.
ويقدم الدكتور كوفاكس فتاة ترتدي سترة جلدية سوداء إلى الضيوف باعتبارها ابنته. وتصبح هذه الفتاة منذ تلك اللحظة هي الدليل الذي سيصحب المجموعة، وتقوم الفتاة بالاشتراك مع تابع آخر يرتدي زيا أبيض، بأعمال التسلية والترفيه عن ضيوف الحفل.
والحفل هو محور بناء الفيلم، وهو المفجر لكل التناقضات والتداعيات المرئية التي تصل في النهاية إلى الفوضى التامة، المنظمة جدا بالطبع.
أولا هناك ثلاث فتيات هن "كاتي" و"آجي" و"أنا بليك"، يلعبن معا لعبة غريبة. وعندما يصل الدكتور كوموندي، وهو آخر من يصل من الضيوف إلى الحفل، يعرضن عليه فيلما مصورا بكاميرا الفيديو له وهو في طريقه إلى المنزل. ثم يشاهد تسجيلا للمقابلة التي أدلى بها الدكتور زولتاي للتليفزيون قبل انتحاره. ويكتشف أن كلمات زولتاي استبدلت بكلمات لكوموندي نفسه.
ويتفجر الجدل بين كوموندي الذي يؤمن بالجموع وبحقهم في التمثيل في السلطة، وباردوش الذي يؤمن بأحقية النخبة في إدارة الجموع. ويمتد الحفل حتى الصباح، ويتحول تدريجيا إلى الفوضى والصدام بين الجميع. وتبدأ الفتيات في إيذاء بعضهن البعض، وتقع أحداث عنيفة يروح ضحيتها رجال الاستعراض جميعا، وتتهم مجموعة الضيوف "كوموندي" بقتل رجال الاستعراض ودفن جثثهم في البحيرة بعد ان يغرق سيارته في جوفها وفيها جثث الرجال. ويصل مفتش الشرطة للتحقيق في الأمر، ويستعين برجل يعمل على آلة رافعة لرفع ما في أعماق البحيرة، وينتهي الأمر باستخراج حطام من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولكن لا أثر للجثث أو للسيارة.
مع انعدام الثقة وسيادة التشكك والرغبة في تدمير الذات بين الجميع، تقع مشاجرات عنيفة بين كوموندي وباردوش. ويعثر رئيس مجموعة التحقيق على الجثث، ويقوم بإحياء الموتى من جديد في شكل معجزة يشهق لها الجميع!
يترك المهرج خنجزا بالقرب من باردوش وكوموندي، ويقوم أحدهم بغرس الخنجر في رقبة أحد الأشقياء من الدخلاء المتطفلين على الحفل. وفي النهاية تصعد كل الشخصيات على ظهر ناقلة صغيرة لشحن الماشية، ويبتعدون وسط الضباب والانفجارات النارية التي تملأ المكان، وتحلق طائرة هليكوبتر فوق الجميع ولا تكف عن مطاردة الناقلة. ونسمع مجددا صوت آلة الساكسفون التي سبق أن استمعنا لها في افتتاحية الفيلم. تسقط الأمطار، وتضرب نافذة مكسورة، وينزل عنوان على الشاشة يتساءل: هل انتهت القصة أم أن هذه هي فقط البداية!
وينتهي الفيلم الغريب الممتع بكل ما يتضمنه من إثارة ذهنية، وتبقى عشرات التساؤلات: ما معنى هذا كله، وماذا يريد يانتشو أن يقول لنا، وعن ماذا تحديدا يتحدث، وهل هي رؤية للعالم أم للواقع أم لما بعد الموت؟
اللعبة الكبرى
فيلم "موسم المسوخ" يستخدم مخرجه شكل اللعبة لاستدراجنا إلى عالمه حيث يطرح تساؤلاته العميقة المقلقة حول حقيقة الوجود الإنساني، مغزاه طبيعته، حقيقة الحياة ومغزى الموت، والبحث الإنساني الشاق عن المعرفة والحقيقة، ورؤية يانتشو هنا رؤية فوضوية مخيفة للعالم تلخص رحلته في هذا الاتجاه، بدأها في أفلامه الأولى.
يانتشو لا يرى أملا كبيرا في النجاة، وهو يلخص في فيلمه رؤيته الخاصة عن الصراع الانساني ولكن باستخدام المجردات. إنه يستخدم أولا العناصر الثلاثة الرئيسية في الحياة (طبقا للنظرية القديمة) أي النار والماء والتربة. ويركز الكاميرا على كل عنصر من هذه العناصر ويستخدمه في تشكيلات سيريالية لكي يصور علاقته بالانسان أو علاقة الإنسان به، في إطار تلك اللعبة الغريبة التي يصورها ويلخص من خلالها فكرة الصراع.
الماء في البحيرة يخفي، كما تعتقد المجموعة، مسخا أو وحشا هائلا ينفث سمومه وأحقاده على العالم. والنار تشتعل من مكان إلى آخر بدون سبب، وتنطفيء من تلقاء نفسها لكي تشتعل في مكان آخر وهكذا. والساحر (أو رجل الاستعراض) يشير بإصبعه إلى مكان ما فتشتعل فيه النيران على الفور. والتربة أو الرمال، تستخدم لحفر القبور ودفن الموتى. وتغطيتهم بالعشب والتراب ثم تشتعل النار في الكومة الهائلة التي تغطي الجثث. وبعد ذلك يظهر من يحيي الموتى.
الفيلم والأسطورة
يتضمن الفيلم نقدا لاذعا للأساطير القديمة وأوهام "الميثولوجيا" المختلفة حول أصل الحياة، ويتهمها بالسخف، ويتخذها مادة للعبة ساخرة يمارسها الجميع. هناك أيضا فكرة يهوذا المعاصر الشرير، وفكرة البعث بعد الموت، وفكرة الكارثة النهائية التي تقضي على العالم أي فكرة نهاية العالم. وهناك أسطورة المسخ المجهول في أعماق البحيرة، التي يرد عليها يانتشو باظهار أن المسوخ الحقيقية موجودة داخل النفوس البشرية.
وفي الفيلم جرعة عالية من التمرد على فكرة الثورة وادارة المجموع التي يسخر منها يانشو بوضوح، وهو يصورالمجموع وهو يعاني من فراغ روحي كبير. ويكشف أن الإنسان يخضع للكثير من المعتقدات البالية الموروثة خضوعا آليا، ويصور كيف أن العالم يقترب من الكارثة دون أن يدرك أحد أنها قريبة، بل يستغرق الجميع في لعبة ممتدة مجنونة لاذاء النفس والغير، غير مبالين بما يرقد تحت السطح من خطر قريب.
في أفلامه السابقة كان يانتشو متمردا أصيلا، ولكنه كان يرى دائما بصيصا من الأمل والضوء في نهاية النفق.. في أعماق الصورة القاتمة.. قد يتمثل في شخصية ترشد الآخرين إلى طريق الخلاص. أما في هذا الفيلم فهو يغرق تماما في التشاؤم ويعبر عن رؤية فوضوية مخيفة يبررها بثقة شديدة أيضا. إنه نفس ما سبق أن انتهى إليه المخرج اليوغسلافي المتمرد دوسان ماكافييف في منتصف السبعينيات.
ويتفق يانتشو مع المخرج البريطاني ليندساي اندرسون- ذلك الفوضوي العظيم الذي رفع لافتة ضخمة في فيلمه "يالك من رجل محظوظ" تقول "الثورة أفيون المثقفين" ردا على مقولة ماركس الشهيرة.
أما على مستوى الأسلوب فقد كان محتما أن يصل يانتشو إلى السيريالية مذهبا، فهي الإطار الطبيعي لرؤيته الفوضوية العنيفة المقلقة.
إننا هنا أمام لوحات ضخمة تحتوي على كل العناصر السيريالية المعروفة: النار التي تشتعل في كل مكان ولا نعرف لها مصدرا، بل إنها تشتعل أيضا في الماء، والجثث التي تعود إلى الحياة، والأشخاص الذين يختفون فجأة، والهليكوبتر التي تحلق طوال الوقت في الجو دون أن نعرف ما هي وماذا تريد، وكأنها القدر الخارج عن نطاق الأفراد، والفتيات في ملابسهن البيضاء المثيرة وهن يقدمن عروضا استعراضية قريبة من فن "الايروتيك" دون أن نصل في أي مشهد في الفيلم إلى تصوير الجنس، فاللذة غائبة بعد أن حل محلها الاستعراض والتظاهر من على السطح، والاشباع مفتقد، والرغبة في تدمير الذات أصبحت هي محرك الشخصيات.
وتختلط الحقيقة بالخيال في الفيلم، والتكنولوجيا الحديثة بالأساطير القديمة، وتصبح جزءا من اللعبة، تساهم في تحقيق الكارثة أو التعجيل بوقوعها أو التعليق عليها. وفي الفيلم استخدامات واضحة لأجهزة التليفزيون والمراقبة والاستماع.
ما هو التفاؤل؟
في مقابلة معه يدافع يانتشو عن فيلمه ضد من يتهمونه بالتشاؤم فيقول:"إن فيلمي ليس متشائما.. إنه مثل أفلامي الأخرى السابقة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن وجودنا يستلزم نوعا من البحث الدائم عن الحلول فإن هذا يعتبر تفاؤلا في حد ذاته. وعلى أي حال ما هو التفاؤل؟ هل هو في الحديث عن الثورة؟ وأين كان التفاؤل في فيلمي "المزمور الأحمر" الذي ترى في نهايته 800 جثة ترقد وقد وقفت الطيور فوقها"؟
"إنني لا أنتمي إلى جيل يعتقد أن الفيلم يجب أن يأتي بنوع من الحلول لحياتنا. وفضلا عن ذلك فإن الوضع العام، الفلسفي والإنساني، مصور في فيلمي. إننا ننكر حقيقة أن مثل هذا النوع من الأفلام قد لا يكون متسقا مع الموضة الشائعة اليوم، طالما أن لا أحد يمكنه أن يدلي باجابات شافية حول الحالة الراهنة للعالم. لقد دأبت المجتمعات الإنسانية على الكذب على مدار التاريخ. وكانت هناك عصور اعتنق فيها الناس الأكاذيب متصورين أنهم عثروا على "حجر الفيلسوف" وأنهم سيصنعون عالما أفضل. ولكن من المؤكد أننا توصلنا إلى اكتشاف أن تلك القناعة بأسرها لم تكن سوى وهم آخر كبير"!
0 comments:
إرسال تعليق