السبت، 18 يوليو 2009

فيلم "خفي".. فرنسا- الجزائر: الأنا والآخر والمسكوت عنه

لم يعجبني فيلم مايكل هانيكه الجديد "الشريط الأبيض" الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير. وكان رأيي أنه أقل طموحا من ناحية الشكل واللغة والأسلوب بل والموضوع أيضا، من أفلام سابقة له اعتبرها علامات في تكور السينما.
من هذه الأفلام فيلمه البارز "خفي" Hidden أو "دفين" وهو من الإنتاج الفرنسي أخرجه هانيكه الذي يعمل منذ أكثر من خمس عشرة سنة في نطاق السينما الفرنسي عام 2005. وقد حصل على ست من جوائز السينما الأوروبية في تلك السنة منها أحسن فيلم. وهذا ماكتبته عنه في حينه:
للوهلة الأولى يبدو كما لو كنا أمام أحد أفلام التشويق والإثارة البوليسية، فعناصر الفيلم البوليسي المشوق تبدو متوفرة هنا:
* الحبكة التي تدور حول أسرة من الطبقة الوسطى الفرنسية: "جورج" مقدم تليفزيوني ناجح لبرامج الحوارات الحية وزوجته "آن" التي تعمل في إحدى دور النشر الباريسية، وكيف تبدأ هذه الأسرة في تلقي شرائط فيديو تصور المسكن الذي تقطن فيه من الخارج، ثم تتطور أكثر إلى تلقي مكالمات هاتفية غامضة، ثم وصول شرائط تصور أشياء تحمل إشارات إلى الماضي من حياة الزوج "جورج".
* من هنا يبرز التساؤل التقليدي الذي يطرح عادة في الأفلام البوليسية: من الذي يرسل هذه الشرائط وماذا يريد؟
* حالة اضطراب تقترب من "البارانويا" تصيب الأسرة، ثم يبدأ الزوج في البحث عمن يمكن أن يكون وراء تلك التهديدات الغامضة.
* اختفاء الابن الصغير "بييرو" (12 سنة) بعد خروجه من المدرسة وانقطاع أي خبر عنه عن والديه مما يؤدي إلى مزيد من التخبط والاضطراب.
هذه العناصر كلها ليست سوى حيلة خارجية من مؤلف ومخرج الفيلم مايكل هانيكه، لاستدراج المتفرج إلى موضوع فيلمه الذي يتناول قضايا أبعد ما تكون عن ما يطرح عادة في الفيلم البوليسي الذي لا هدف له إلا التشويق في حد ذاته.
ما هو الموضوع إذن؟ ولماذا هذه الطريقة في معالجته؟

أشباح الماضي
شرائط الفيديو التي يتعاقب وصولها إلى عتبة باب مسكن الأسرة تستدعي كوابيس من الماضي المدفون داخل مكنون بطلنا "جورج".
ثقة جورج بنفسه تبدأ تدريجيا في التراجع إلى أن يكاد يصل إلى الانهيار.
علاقة جورج بزوجته تبدو لنا في البداية علاقة متماسكة بين زوجين لا ينقصهما شئ لتحقيق السعادة: البيت الجميل والعمل المثمر والإبن ومجموعة من الأصدقاء من صفوة الطبقة الوسطى الباريسية.
وتحت وطأة ذلك التهديد الخارجي أو ذلك المجهول الذي يقتحم حياتهما بقسوة، تتأزم العلاقة بينهما ويتضح مدى ضعفها رغم تماسكها الظاهري.
جورج تطارده ذكريات من طفولته عندما كان عمره 6 سنوات، وكانت هناك أسرة جزائرية تعمل في خدمة والديه في الريف. وكان للأسرة الجزائرية ولد يدعى "مجيد" هو في عمر جورج تماما.
مجيد يظهر في أحد كوايبس جورج وهو يهوي على رأس دجاجة بمعول حاد فيفصله عن جسدها.
هذا المشهد المروع سنعود في مسار الفيلم فيما بعد عندما يرضخ جورج لإلحاح زوجته ويقبل أن يقص عليها من ماضيه، فنعرف أنه مسؤول عن هذا لأنه أدخل في روع الفتى أن هذه الدجاجة تجلب الشر إلى الأسرة وأن والده يريد منه (أي من مجيد) أن يقطع رأسها لاستئصال الشر نهائيا.
ويعترف جورج أنه اخترع الحكاية، وأنه قال لوالديه حكاية مخالفة عن روح الشر المتأصلة داخل مجيد.
ويروي جورج أيضا كيف التحق والدا مجيد بمظاهرة ضخمة من الجزائريين في باريس لدعم مطلب الاستقلال عن فرنسا وما انتهت إليه من إغراق الشرطة 200 جزائري في نهر السين، بينهم والدا مجيد.


المشكلة الآن أن جورج يشك في أن مجيد هو الذي يطارده بشرائط الفيديو، لتعميق عقدة الإحساس بالذنب لديه، بغرض ابتزازه.
أحد شرائط الفيديو يصور رواقا داخل مبنى سكني في أحد ضواحي باريس، بكاميرا تتحرك إلى أن تستقر على باب مسكن من المساكن.
يفحص جورج وزوجته الشريط مرات على أن يتمكنا من تحديد الشارع، ويذهب جورج يطرق باب المسكن فيجد مجيد في انتظاره.
يرفض الجزائري رفضا تاما اتهامات جورج له، ويؤكد أنه سعيد باللقاء، وأنه لا يريد منه شيئا، لكن حزنا نبيلا كبيرا يشع من عينيه.
يتعمق بنا الفيلم أكثر فأكثر ويكبر السؤال نفسه: من وراء إرسال الشرائط؟
جورج يبدو واثقا إن المسؤول هو مجيد أو ربما ابنه الذي يكتشف وجوده عندما يعود فيما بعد لتهديد مجيد.
أما نحن المشاهدون فيبدو لنا مسار الفيلم يبتعد تماما عن الإشارة بإصبع الاتهام إلى مجيد، بل إن الفيلم لا يبدو معنيا على الإطلاق بالأمر برمته.


مواجهة الذات
المخرج مايكل هانيكه، يستخدم الحيلة لكي يطرح المخفي والمسكوت عنه على المستوى الأعم والأشمل:
عقدة الذنب الفرنسية إزاء الجزائر، العلاقة الشائكة المعقدة بين الشمال الغني والجنوب الفقير: جورج يعيش حياة مرفهة مع أسرته يتمتع بالزوجة والابن والعمل الجيد والشهرة والمال والأصدقاء، في حين يعيش مجيد في مسكن بائس، بلا عمل وبلا أسرة، باستثناء ابنه الوحيد وبدون زوجة.
بعد المدخل الأول المعقد تبدأ أطراف الفيلم في مواجهة نفسها.
جورج يواجه مسؤوليته الآثمة عما وقع في الماضي، موهما نفسه بالطبع بأن ما فات ولى وانقضى وليس هناك أي مبرر للعودة والتكفير عما وقع.
الزوجة "آن" تواجه حياتها التي قامت على الزيف والتظاهر، مع زوج يفضل أن يخفي عنها أشياء تتعلق بحياتهما المشتركة معا وبما يواجهانه من خطر وتهديد.
الابن الذي يعجز عن التحقق وسط والدين انشغلا بأزمتهما عنه فيفضل الهرب من المنزل عن صحبتهما.

مجيد الذي لا يمكنه أن ينسى حتى لو اختار الغفران والاندماج، فهو على الهامش بكل معنى الكلمة. والدة جورج العجوز التي ترقد على فراش الموت لا ترغب في الخروج لأنها تشعر بوحدة أكثر مما تشعر به من وحدة أمام جهاز تستطيع أن تتخلص من سطوته بضغطة بسيطة على "الريموت كنترول". يتجه جورج إلى مسكن مجيد بعد أن اتصل به الأخير يدعوه لزيارته لكي يوضح له أمرا.


نهاية مفتوحة
مجيد يقول لجورج إن لا شأن له إطلاقا بشرائط الفيديو. ويضيف "أردت فقط أن تكون حاضرا"، ويقوم بقطع رقبته بموسى حادة فيتصاعد الدم مغرقا الجدار ويسقط الرجل على الأرض جثة هامدة، في واحد من أكثر المشاهد إثارة للفزع.
وينتهي الفيلم دون أن يصل المتفرجون إلى غرضهم المشروع: معرفة من الفاعل؟
ولا يجيب هانيكه عن السؤال بل يترك نهاية فيلمه مفتوحة، فالهدف ليس معرفة الجاني والقبض عليه وتقديمه لكي ينال جزاءه أما العدالة، فما هي العدالة هنا، وهل الأمر يتوقف عند حدود العامل الشخصي، وهل هناك جريمة أصلا، أم أننا أمام "فكرة" تقوم على عناصر تتوازن مع بعضها البعض لكي نتعرف من خلالها على صورة أعمق واشمل لما يدور في العالم؟
ما هي حقيقة ذلك الإرهاب الذي يتحدثون عنه في الفيلم، من المسؤول عنه، ومن أين أتى، وهل هناك فكرة أحادية مجردة تجيب عن كل شئ.
جورج يتلقى "نصيحة" من رئيسه في العمل بألا يعرض عمله للانهيار جراء ذلك كله.
إنه إذن مهدد. والشاب الجزائري (ابن مجيد) يحاصره في مكتبه قرب النهاية لا لشئ كما يقول له إلا لكي يرى كيف يواجه أمثاله ما حدث، فتكون الإجابة الواثقة من جانب جورج أن ما حدث حدث ولا شأن له به ولا ينبغي أن يكون هذا مدعاة للابتزاز وإلا!
ما هي العلاقة بين وعي جورج المدفون في سبات عميق بصورة إرادية، واللقطات التي يبثها التليفزيون عن وجود القوات الإيطالية في الناصرية وتعيين امرأة إيطالية قائدا عسكريا على الناصرية تحت إشراف البريطانيين!
ما علاقة اللقطات الثابتة الطويلة المصورة لمنزل الأسرة الفرنسية من الخارج، وما يقال من أن السينما هي الحقيقة 24 مرة في الثانية، وإلى أي حد يصدق هذا القول؟

24 كذبة في الثانية
يقول المخرج مايكل هانيكه: "في كل أفلامي أفحص ماهية الحقيقة في السينما والإعلام. وأشك كثيرا في يكون بوسع المرء العثور على الحقيقة من خلال مشاهدة فيلم.
"ودائما ما أقول إن الفيلم الروائي هو 24 كذبة في الثانية، وهي أكاذيب قد تروى بغرض الوصول إلى الحقيقة، بيد أن الأمر ليس كذلك دائما.
"أعتقد أن الطريقة التي استخدمت بها شرائط الفيديو هنا تهز ثقة المتفرج في الواقع. إن المشهد الأول في الفيلم هو واقع مجرد (مسكن الأسرة من الخارج) بينما هو في الواقع صور مسروقة بكاميرا فيديو. إنني واع بالطبع بحقيقة الواقع الذي يُفترض أننا نشاهده من خلال وسائل الإعلام".
في أفلام مايكل هانيكه لا يوجد تفسير درامي سهل واضح معتاد، بل تساؤلات مقلقة ومضنية تنطلق من منطلقات أخلاقية لتصل إلى آفاق تتعلق بالوجود الإنساني نفسه ومغزاه، في علاقته بالآخر.
إنها سينما قلقة معذبة تفتح الأبواب لتدخلك معها، غير أنها لا تكشف لك تماما عما في الداخل.
في المشهد الأخير من الفيلم نرى جورج يعود إلى مسكنه، يتناول قرصين من الأدوية المهدئة، يتصل بزوجته هاتفيا ليقول لها إنه يرغب في أن ينال قسطا من الراحة، ويود ألا يزعجه "بييرو" عندما يعود.
ويتجه إلى نوافذ الحجرة فيسدل الستائر السميكة فوقها، ويدلف إلى الفراش، يغطي نفسه جيدا ويرقد في الظلام.. لقد عاد إلى التقوقع على نفسه ورفض مواجهة الضوء ، وفضل أن تبقى الأشياء مخبأة مدفونة!


((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger