الأربعاء، 22 يوليو 2009

"جنس وفلسفة"من إيران: البحث عن السعادة في الحب

سبق نشر هذا المقال في موقع بي بي سي الذي يشهد حاليا تطويرا وإعادة بناء، ولذا أعيد نشره هنا حتى يتمكن قراء هذه المدونة خاصة من الوافدين الجدد عليها من قرائته ويبقى في أرشيف المدونة للمستقبل.
جنس وفلسفة" Sex And Philosophy ليس فيلما إيرانيا عاديا، بل لأحد أعلام السينما الإيرانية الجديدة التي برزت بقوة على خريطة السينما في العالم خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، وهو المخرج محسن مخملباف صاحب "كان يا ما كان سينما" و"سلام ياسينما" و"الصمت" و"قندهار".
مخملباف الذي ينتمي إلى تيار "سينما المؤلف" صاحب الرؤية، يكتب أفلامه بنفسه ويقوم بعمل المونتاج لها. وقد اختار منذ سنوات الإقامة خارج إيران، في أفغانستان التي صور فيها فيلمه السابق "قندهار" (2001) الذي أثار اهتماما عالميا كبيرا، وأثارت أفلامه ولا تزال، تثير له المتاعب داخل إيران.
إلا أن شهرة مخملباف وعلاقاته الدولية وما حققه من نجاح كبير خارج إيران، ثم نجاح ابنته سميرة مخملباف كمخرجة متميزة (في أفلامها الثلاثة حتى الآن) جعله يتحول إلى "مؤسسة" خاصة مستقلة، فهو ينتج أفلامه بنفسه بعد أن أصبح بوسعه الحصول على ما يشاء من تمويل.
وفيلم "جنس وفلسفة" من التمويل الفرنسي، أخرجه مخملباف في طاجيكتسان وفيه يتجاوز المحظور أي "التابو" المحرم في السينما الإيرانية السائدة منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
وليس معنى هذا أن الفيلم يصور العلاقات الجنسية أو تظهر فيه مشاهد عارية، بل المقصود أنه يتناول فيه بصراحة موضوعا يعد من المحرمات في السينما الإيرانية الحديثة وهو موضوع العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة.

منظور شخصي
مخملباف يقدم فيلمه الجرئ من منظور شخصي فيه الكثير من التأملات الفلسفية التي ترتبط برجل تجاوز ما يسمى "منتصف العمر" ووجد لزاما عليه أن يبدأ في طرح التساؤلات حول الجنس وعلاقته بالحب، وهل هناك حقا حب يدوم إلى الأبد أم أنه وهم كبير، وبما يرتبط الوقوع في الحب، وغير ذلك من التساؤلات.
غير أن ما يجعل هذا الفيلم متميزا، ليس فقط ما يدور فيه من أفكار وقضايا مجردة لا يخجل المخرج- المؤلف من طرحها ومواجهة نفسه بها في شكل أشبه بـ "المونولوج"، بل أساسا في شكله السينمائي.
فالفيلم يستند إلى بناء موسيقي يستخدم فيه الرقص التعبيري أي التعبير بالجسد الأنثوي في تكوينات موحية خلابة، وهو ما تسبب في منع عرض الفيلم في إيران منذ أن انتهى المخرج من صنعه عام 2003.
وليس معروفا سبب عدم عرض هذا الفيلم من قبل أو حتى ظهوره في مهرجانات سينمائية دولية قبل خريف 2005 حيث عرض للمرة الأولى في مهرجان مونتريال السينمائي الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول).
لا يروي الفيلم قصة بالمعنى المألوف، بل يقوم على فكرة تتردد حولها أصداء عديدة خلال مسار الفيلم هي فكرة الحب الدائم المستمر المتجدد عندما يصطدم بمحدودية اللحظة.
بطل الفيلم - المعادل الدرامي لشخصية مخملباف نفسه الذي لا شك أن فيلمه يحمل رؤية شخصية - يدعى "جان" وهو اسم غير إيراني وغير طاجيكستاني أيضا وربما يكون المقصود أن يكون مرادفا للرجل عموما، أي رجل.. بل إن البطل يكرر في سياق الفيلم مرات عديدة أنه يفضل الحديث باللغة الروسية على اللغة الفارسية.
يفتتح الفيلم بطلنا هذا يقود سيارة في شارع فسيح مصفوف بالأشجار الكثيفة، وقد أشعل 40 شمعة وضعها أمامه في مقدمة السيارة، فهو يحتفل ببلوغه الأربعين.
ونحن لا نرى البطل في البداية بل نرى الشموع والطريق من خلال زجاج السيارة الأمامي، ونسمع صوته عبر الهاتف المحمول وهو يتصل بالنساء الأربع اللاتي ارتبط بهن عاطفيا في حياته يطلب من كل واحدة - دون معرفة الأخريات- التوجه للقائه في مدرسة الرقص التعبيري التي يفترض أنه يشرف عليها.

ثورة على النفس
ويردد "جان" العبارة نفسها للنساء الأربع: "لقد قررت الثورة على نفسي" أي أنه قرر مواجهة نفسه بالحقيقة ومواجهتهن بأسباب انتهاء علاقته بهن.
ويقدم مخملباف أربعة فصول مع كل واحدة من النساء الأربع، داخل مدرسة الرقص ولكن دون أن يكرر نفسه أبدا، من خلال مشاهد الرقص التي تشترك فيها - إلى جانب البطل والمرأة- مجموعة من الفتيات.
ويختلط الماضي بالحاضر من خلال العودة إلى لحظة الوقوع في الحب التي يصر بطلنا طوال الفيلم على أنه نتيجة "أمر تافه الشأن".
وحسب ما يوضح مع الحبيبة الثالثة "لولا أنني أصبت بإسهال وذهبت إلى المستشفى الذي كنت تعملين به لما كان الحب"!
أما الحبيبة الرابعة فتفاجئه عندما تدعو ثلاثة رجال للاحتفال بعيد ميلاده وتعترف أمام الجميع بأنها كانت تتخذ الأربعة عشاقا في وقت واحد حيث كانت تبحث عن الحب في كل منهم، وهي نفس فلسفة بطلنا في البحث عن السعادة.
يستخدم مخملباف تناول العشاق للخمر كمعادل للمتعة، والرقص التعبيري كمعادل للجنس، والموسيقى والشعر كمعادل للوجود من خلال الآخر.
ويطرح مخملباف رؤيته من خلال طرح التساؤلات حول مغزى الحب: كيف ينتقل من مستوى إلى آخر، من الحب الرومانسي المطلق إلى الغيرة والرغبة في السيطرة إلى إعلاء الجنس على قيمة الحب إلى محاولة إعادة خلق الحب.
ويذهب مخملباف أكثر من ذلك عندما يجعل بطله المتشكك في مفهوم السعادة عن طريق الحب يستخدم ساعة يمكن التحكم فيها لقياس لحظات السعادة في لحظات الحب.
وفي مشهد من الفيلم تحسب له الحبيبة الأولى لحظات سعادته حسب منطقه فتقول إنها لا تزيد عن 40 ساعة، أي بمعدل ساعة واحدة كل سنة من عمره!
مفهوم الحب
هناك بالتأكيد رغبة في اعتبار الحب بمفهوم مخملباف متعارضا - على نحو ما - مع الجنس- حسب مفهومه الشخصي النابع من ثقافته، وانعكاس هذا على الفيلم باستبعاد كل احتمال لمشاهدة لقطات حميمية بين الرجل والمرأة.
إلا أنه ترك المجال متاحا في مشاهد أخرى عديدة للتفسير والتأويل من خلال إشارات عديدة كامنة.
ويستخدم مخملباف تناول العشاق للخمر كمعادل للمتعة، والرقص التعبيري كمعادل للجنس، والموسيقى والشعر كمعادل للوجود من خلال الآخر.

يبدأ الفيلم ببطلنا وهو ينشد الخروج من الشعور بالوحدة فيبحث - كما يقول - عن موسيقيين أو مغنين يذكرونه بوالديه، ثم يعثر على أحد جانبي الطريق على مغن عجوز أعمى يحمل آلة الأكورديون وزوجته تمسك بيده، ويصعد الاثنان يركبان السيارة خلفه ويأخذ الرجل في العزف والغناء.
وفي المشهد النهائي من الفيلم نرى البطل وقد أصبح أكثر إحساسا بالوحدة عما كان، وهو يعود فيلتقي مجددا بالمغني الأعمى وزوجته وينتهي الفيلم بالغناء.
وقد يكون فيلم "جنس وفلسفة" من أكثر أفلام مخملباف تحررا وجرأة في السرد والشكل الفني. هنا لا يتميز الفيلم بما يميز عادة أفلام مخملباف أي المزج بين الطابع التسجيلي والطابع القصصي بل هناك تداعيات حرة تدور حول الفكرة التي تتركز حول الذات.

تكوينات مدهشة
هذا الطابع المختلف يجعل مخملباف يعتمد هنا على التشكيل بالألوان والتكوين باستخدام كتل الراقصات ويطوع الكاميرا، ويجعلها تلتقط فقط ما يريده ويبرزه في المنظور الأمامي بينما يشحب المنظور الخلفي.
ويكرر أحيانا الحركة مرات عدة ويميل إلى الإيقاع البطئ واللقطات الطويلة لاتاحة مساحة للتأمل.

ويستخدم مخملباف اللونين الأبيض والأحمر طوال الفيلم: لون هادئ ولون مشتعل، أو الهدوء الخارجي الظاهري والاشتعال الداخلي.
ويصور لقطة فراق الحبيبة الثالثة من أعلى، من عين طائر يحلق فوق المكان (غالبا من طائرة هليكوبتر لا نلحظ أي أثر يدل على وجودها). يسير الرجل مبتعدا في شارع ملتو بينما تغطي الثلوج أسقف المنازل وحواف الطريق وقد فقدت الأشجار أوراقها.
يحمل الرجل مظلة حمراء (دائما هناك مظلة في هذا الفيلم رغم عدم هطول المطر) ويسير مبتعدا مسافة طويلة ثم يتوقف ويعود مجددا من حيث أتى وتتابعه الكاميرا مرة أخرى من نفس الزاوية المرتفعة القريبة للغاية من أسقف المنازل وحواف الأشجار، إلى أن يلتقي بالمرأة التي تتوقف لكي يناولها المظلة ثم يستدير ليعود يواصل طريقه.
ولا شك أن الصورة الخلابة الأخاذة والتكوينات البصرية المدهشة في هذا الفيلم تعود للتعاون المتكامل بين مخملباف ومصوره المفضل ابراهيم غفوري.
"جنس وفلسفة" بموضوعه الجرئ الذي يتردد الكثيرون في طرحه، وبأسلوبه الفني والبصري المدهش وتمكن مخرجه في التعبير بالجسد والحركة والتكوين، ربما يكون أكثر الأفلام الإيرانية إثارة للفكر والخيال، غير أنه لهذه العوامل تحديدا ضمن أن يظل ممنوعا من العرض في إيران حتى إشعار آخر.

((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger