السبت، 28 يوليو 2012

في الاسماعيلية.. السينما تجرّب قرب بحيرة التمساح





بقلم: فجر يعقوب



اختتمت قبل أيام فعاليات الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الإسماعيلية الدولي للسينما التسجيلية والقصيرة بتوزيع الجوائز على مستحقيها، وبعضها رعته جهات متخصصة في هذا النوع من الأفلام في تعاون أول لها مع إدارة المهرجان الجديدة المؤلفة من المخرج مجدي أحمد علي (رئيساً)، والناقد السينمائي أمير العمري (مديراً) له. هنا ثمّة رسائل جديدة طافية على سطح القناة البحرية الخالدة، أو بمحاذاة بحيرة التمساح التي تدخل هنا عنصراً إضافياً في تلوين صفحة المهرجان،

وهو يستعيد ألقه هذا العام، بعد أن توقف قسراً في العام الماضي بحكم الظروف التي مرّت بها “أم الدنيا”. بعض هذه الرسائل يجيء من السينما الجديدة التي ينبّه إليها المهرجان، وبعضها يجيء من استعادات وتجارب لا يمكن نكرانها في سياق الزمن السينمائي “الجميل”، مع أنّه ثمّة من حاول، في السياق ذاته، التشويش وإرباك البرنامج من خلال الأعداد من خارج جسم المهرجان لقسم ملتبس عن السينما التجريبية، رغم أنّ معظم الأفلام التي عُرضت تحوي نفساًَ تجريبياً باهراً، وليس بحاجة إلى مزاعم من هذا النوع تحت أيّ بند أو مسمّى. باءت المحاولة بالفشل طبعاً، فليس ثمّة هنا من يرهن برامجه لمحاولات فقيرة لاتؤدي بأصحابها إلا إلى الإفلاس، وانتظار المهرجان التالي، بغية الترزّق والنوم في “عسل” النقد السينمائي المريض القائم على الوهم والخيالات المجدبة. 

بالنسبة إلى الضيوف العرب الذين سبق لهم أن حضروا بعض الدورات السابقة، سيبدو سهلاً أمامهم ملاحظة بعض الفروقات الجوهرية التي شابت هذه الدورة، حتى مع تخفيض ميزانية المهرجان إلى النصف تقريباً بحكم الظروف الاستثنائية والطارئة التي يمرّ بها البلد المضيف. وبالطبع لم يكن التخفيض الاضطراري هو العلامة الفارقة هنا، فهي بالكاد لوحظت من قبل الضيوف العرب والأجانب، وظلّت محصورة بأهل المهرجان فقط؛ إذ وجدت الإدارة الجديدة “ضالتها” في بعض المشاركات من قبل بعض الجهات الراعية، وهو قد انعكس إيجاباً على التحديات التي فرضتها تعقيدات الوضع الحالي الذي تلا انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، وحجم التحديات المفروضة على مختلف مناحي المجتمع والدولة.
الدورة الخامسة عشرة من المهرجان ستشكّل انعطافة في تاريخه، ليس لجهة اختيار رئيس ومدير جديد له فقط. هذه ربما تلحظ في الدورات القادمة أكثر، فلا أحد ينكر هنا أنّ الظروف التي تمر بها البلاد، بالفعل، استثنائية، وتأخذ طابعاً يغالبه التحدي والمكابرة، فالأخبار التي تتوزعها البلاد، أو حتى في المدينة البحرية التي تستضيف فعالياته كانت مقلقة إلى حدّ ما، فبعد أيام فقط من اختتام المهرجان نقلت وسائل الإعلام خبراً عن قيام ثلاثة متشددين من جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقلاً عن شهود عيان بقتل شاب من “ثوار” السويس بالسيف كان برفقة خطيبته بالقرب من الكورنيش المحاذي لسينما رينسانس نفسها التي شهدت على برامج العروض، ما يعني أنّ المدينة البحرية الوادعة تمرّ بانعطافة جديدة ومسار مختلف، ربّما، يفرض تحديات أكبر على الدورات القادمة من الآن فصاعداً، وهذا بالتأكيد ستلحظه إدارة المهرجان، وتأخذه في الاعتبار، فحتى حادثة من هذا النوع، لا يمكن تجاهلها، بخاصة أنّ أحاديث جانبية كانت تدور هنا وهناك عن محاولات “متشددين” من أهل المدينة تنظيم مظاهرات احتجاجية ضدّ المهرجان بذريعة “الميزانيات الضخمة” التي يصرفها على فعالياته وضيوفه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.

ربما تكون المصادفة وحدها هي ما دفع باتجاه تنظيم العروض في سينما “النهضة “. ربما لايتعدّى الأمر تضامن المنتجة السينمائية إسعاد يونس “صاحبة الصالة” مع السينما والسينمائيين، بعد أن “فشل” قصر الثقافة سابقاً في حلّ عقدة التواصل بين الجمهور الاسماعيلي والنشاطات السينمائية التي يجيء عليها المهرجان سنوياً، وظلّت “حكراً” دائماً على الضيوف. ومع ذلك بدا لافتاً أنّ تقريب هذه الفعاليات التسجيلية من المدينة قد غيّر قليلاً  في شكل هذه العلاقة الملتبسة، وربما أوجد حلولاً في منتصف الطريق إن أمكن قول ذلك، وهذا قد يفوسط رض تحديات أكبر في ظلّ ظروف بالغة التعقيد، لا يمكن نكرانها أو القفز عنها، فحتى اللحظة لم يكن ممكناً التكهن بالنظرة الجديدة التي أخذت بالتكون حول الفن والسينما والمهرجانات في البلاد، وهذا أمر لم تغفله الإدارة الجديدة، فقد لحظته في الافتتاح، وفي الختام، وحتى من طريقة برمجة العروض نفسها، كان ثمّة رسالة واضحة، من نوعية التوجه الذي سيحكم إيقاع السينما والسينمائيين المصريين المعنيين، مثل شرائح مجتمعية أخرى، وربما أكثر من غيرهم، بالتوجهات السياسية للحكام الجدد. ربما جاءت “نوستالجيا مصرية” في هذا السياق لتؤكد على عمق هذه النظرة من خلال أفلام قصيرة لسينمائيين مصريين روّاد وطليعيين، تؤكد على الولاء للسينما بمختلف وجوهها، وهذا ما لحظه الضيوف في طبيعة الأفلام نفسها التي عرضت وشكّلت مناسبة مهمّة للتعريف بالجوانب المنسية لمخرجين كبار من وزن صلاح أبو سيف، وخيري بشارة، وداود عبد السيد، ومحمد خان، وهاشم النحاس، وعلي بدرخان، ونبيهة لطفي، وعاطف الطيب، وآخرين. هل في الأمر إعادة هنا؟ وربما لا، ففي الأمر استزادة، بخاصة أنّ تنظيم مثل هذه النظرة السينمائية على ماضٍ سينمائي “جميل” يحمل في طيّاته رسالة مهمّة على هذا الصعيد لا تقل عن رسائل الأفلام نفسها التي واكبت “ثورة” 25 يناير، وأطاحت نظام الرئيس حسني مبارك، وتشي بتحديات جديدة، جسيمة وصعبة ومنفردة بتعقيدات لاحصر لها، ربما تزيد في دقة الأفلام التسجيلية التي يَعِد المهرجان باستضافتها في دوراته القادمة، بعد أن تيقن الجميع هنا في المدينة البحرية من أنّ الواقع لايغلبه غلاب، وأنّ سينمائيي البلد المضيف عازمون على قبول مثل هذه التحديات.

الأربعاء، 25 يوليو 2012

البطيخة في الاسماعيلية!




بقلم: محمد خان



فكرة تقديم برنامج «نظرة إلى الماضى» من ضمن برامج مهرجان الإسماعيلية الخامس عشر فى ثوبه الجديد الذى أقيم الأسبوع الماضى من ٢٣ إلى ٢٨ يونيو تحت إدارة أمير العمرى ورئاسة مجدى أحمد على، كانت دون شك فكرة جهنمية. أن تجمع فى حوالى ٩٠ دقيقة أفلاما قصيرة، بعضها أعمال أولى لأصحابها، كادت تكون منسية أو ضلت طريقها أو فى بعض الأحيان اعتبرت ضائعة لمخرجين من أجيال مختلفة، أمثال صلاح أبو سيف وأشرف فهمى وعلى بدرخان وهاشم النحاس ونبيهة لطفى وعبد المنعم عثمان وعاطف الطيب وداوود عبد السيد وخيرى بشارة وأنا، هى ضربة معلم، بمعنى الكلمة، لأى مهرجان فى العالم. بحثى عن نسخة لفيلمى المتواضع «البطيخة» (إنتاج ١٩٧٢) لم يكن عملية سلسة بتاتا.

فمنذ بضع سنوات وأنا فى شوق لمشاهدة الفيلم الذى أصبح مجرد شريط فى الذاكرة، أستعيد لقطات منفصلة فى ذهنى أو أكتفى بالحديث عن التجربة ذاتها فى صيف ١٩٧٢، حين كنت فى زيارة إلى القاهرة فى أثناء استقرارى المؤقت فى لندن، وكيف بالتعاون مع صديق الطفولة المصور سعيد شيمى والمونتير أحمد متولى الذى حول العطلة إلى مشروع فيلم حققته فى أيام معدودة؟ لم أدرِ حينذاك أنه بعد خمس سنوات سأخرج أول أفلامى الروائية «ضربة شمس»، وكلما تذكرت «البطيخة»، فقدت أمل العثور على نسخة من الفيلم إلى أن فوجئت منذ بضع سنوات، وبمناسبة أحد أعياد ميلادى، أهدانى معجب بأفلامى بوبينة، أى علبة فيلم، مؤكدا أن الفيلم الذى بداخلها هو «البطيخة»، ولم يبُح لى من أين حصل عليها، ولم أجد فرصة لفحص النسخة، خصوصا أن الفيلم على شريط سينمائى ٣٥ مم، وهناك غياب لإمكانية فحصها.

 

طلب منى الفيلم فى ما بعد ليشترك فى مهرجان الإسماعيلية فاكتشف أن النسخة التى لدىّ هى مجرد نيجاتيف صورة فقط دون نيجاتيف الصوت. فى سباق مع الزمن وبعد مزيد من البحث فى مخازن مونتير الفيلم أحمد متولى عثر على نسخة للفيلم فى حالة مقبولة، تعهدت إدارة المهرجان مشكورة بترميمها إذا لزم الأمر، وتحضير نسخة خاصة لى، إلى جانب ماستر ديجيتال لنسخ الدى فى دى بعد ذلك. وأخيرا وبعد حوالى أربعين عاما التقيت بفيلمى على الشاشة.
 
جريدة "التحرير" 4 يوليو 2012

الجمعة، 20 يوليو 2012

الاسماعيلية 15: دورة "المعجزات" السينمائية حقا وعن جدارة

                   

                                    
              
صلاح هاشم

               

ترددت كثيرا قبل الكتابة عن دورة مهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي للافلام الوثائقية والقصيرة التي أقيمت في الفترة من 23 الى 28 يونيو 2012 في مدينة الاسماعيلية الجميلة والرشيدة التي تربطني ببحرها وأناسها وسمكها ذكريات جد عزيزة، ومنذ زمن غارق في القدم.

كنت أتردد  في فترة الخمسينيات على مدينة الاسماعيلية مع والدتي، لزيارة بعض أقاربها هناك، وقضاء فترة الصيف في ضيافتهم، وكانت تلك الفترات التي أمضيتها في الاسماعيلية، وداخل معسكر للجيش الانجليزي، انتقلت ادارته الى أحد أقارب أمي، وكنا نهبط في الشقة الكبيرة المخصصة له ولعائلته الكبيرة في المعسكر كل سنة، من أجمل فترات سنوات عمري التي قضيتها في مصر، وكانت الاسماعيلية هي أول مدينة أزورها، خارج نطاق مدينة القاهرة التي نشأت وكبرت وتربيت في أزقتها وحواريها.

 ومنذ تلك الفترة بدأت أتعرف على مدينة الاسماعيلية الهادئة الصغيرة على حافة القنال، وأعجب بنظافتها وشوارعها ومساكنها ومعمارها الفرنسي الكلاسيكي ببيوتاته العريقة التي كانت محلا لسكن العائلات الفرنسية العاملة في هيئة القناة في الاسماعيلية.

وكانت المدينة تضم الكثير من الجاليات الاجنبية المهاجرة التي تعمل في مصر واندمجت مع أهلها في النسيج العرقي المصري العام للشعب المصري وشبعت من الاندماج حتى صار بعض افرادها يتحدثون العامية المصري بطلاقة مثل ابن البلد المصري الأصيل القادم من الأحياء الشعبية المصرية العريقة في السيدة زينب والحسين وباب الفتوح والموسكي.

 كانت الاسماعيلية في الخمسينيات والستينيات كما تمثلتها في ذهني أشبه ما تكون بمدينة قد خلقت أساسا وشيدت للأجانب، ومازال ذلك الطابع العام ولحسن الحظ هو المهيمن على روحها، كما خبرته وعهدته أثناء زيارتي الأخيرة للاسماعيلية لحضور الدورة الـ15 لمهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، برئاسة المخرج السينمائي مجدي أحمد على، وإدارة الناقد السينمائي الكبير أمير العمري. وتجمعني بهما الاثنان صداقة تاريخية أصيلة وعميقة من جهة، كما أني تشرفت بالعمل معهما  كمندوب لمهرجان الاسماعيلية في أوروبا، وكنت مشاركا هكذا في الاعداد لانطلاقة المهرجان الجديدة.

ولهذا كنت اتردد في الكتابة بموضوعية وواقعية عن المهرجان، اذ كيف يمكن للمرء – رحت هكذا  أتساءل-  أن يكتب بوضوعية عن شيء شخصي يحبه ويهتم به وينحاز اليه، ووجدت أنه، و من باب الحرص على الموضوعية فقط، من غير اللائق ابدا أن أقحم نفسي في مهمة تقييم المهرجان، والكتابة عن اضافاته وانجازاته، وأن أترك هذه المهمة للصحفيين والنقاد الحاضرين، وبخاصة بعد أن انتهيت من مسئولياتي والمهام الملقاة على عاتقي تجاه المهرجان، وصرت حرا وطليقا مثل بروميثيوس الذي سرق النار من الالهة، ولم أعد خاضعا من جهة الادارة لأية محاسبة.

لكني بعد طول تأمل وتفكير قررت أن أتراجع عن موقفي ذاك، بعد أن عشت خلال المهرجان  تجربة "سينمائية فريدة" من نوعها، تجربة سمحت لي بمتابعة ورصد حركة تأسيس المهرجان ومن عند درجة الصفر تقريبا، ورفعه في زمن قياسي، من مجرد فكرة "حول أهمية وجدوى تأسيس مهرجان جد جديد  ومغاير للسينما الوثائقية أو "سينما الواقع" في مصر، ويعود الفضل في مشاركتي كمندوب للمهرجان في أوروبا إلى الزميل الناقد الصديق أمير العمري الذي طلب مني ومنذ شهر فبراير الماضي وبمجرد صدور قرار بتعيينه مديرا للمهرجان، التفكير معه والتخطيط للـ"المولود" الجديد، والاستفادة من خبرتي كمندوب لمهرجان الاسكندرية السينمائي في فرنسا، وعلاقاتي بالاوساط السينمائية الغربية ومهرجاناتها.



غير أن ما شجعني على الكتابة عن المهرجان كوني عشت من الخارج  تلك التجربة السينمائية المهمة التي تقع في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير المصرية، الا وهي التأسيس لمهرجان سينمائي جديد في مصر، وباتجاه احداث تغيير جذري مهم وفاعل وحقيقي، في المشهد السينمائي المصري بعد الثورة.

ووجدت انها تجربة تستحق بالفعل أن يكتب عنها المرء كمراقب الآن و"موضوعي" من الخارج، لتكون شهادة  تاريخية لمصر السينما،  وحكاية للمغرمين بحكايات مصر الجديدة بعد الثورة، التي بدأت بدأت تتشكل وتخرج للنور من تحت الانقاض، وتشارك في التعمير والتغيير والتثوير الذي نحتاجه، في كل مجالات الحياة في مصر وبعد الثورة.

 ولذلك لم يكن غريبا أن يجد بعض النقاد أيضا ان الدورة 15 لمهرجان الاسماعيلية كانت جديدة و"ثورية" على عدة مستويات – انظر مقال الناقد أسامة عبد الفتاح في جريدة "القاهرة" بعنوان "مهرجان الاسماعيلية: دورة ثورية وجوائز عادلة"، وكنت علقت على مقال أسامة على صفحة الفيس بوك المخصصة للمدونة، وقلت في تعليقي على المقال في سطرين: "لقد كانت دورة المهرجان 15 رائعة عن حق كما كتب أسامة بنزاهة وموضوعية، وقد تشرفت فيها بالعمل مع الصديقين أمير العمري ومجدي أحمد علي، وسعدت بلقاء زملاء وأصدقاء أعزاء كثر، والتعرف ايضا على أصدقاء جدد. لقد كانت "دورة المعجزات" كما أحب أن أسميها بالنظر الى الظرف التي عاشتها، والانجازات ايضا التي حققتها و في زمن قياسي.. الف مبروك للعمري ومجدي أحمد على ومصر السينما والأمل في التغيير".

نجحت دورة المهرجان 15 التي حضرتها وتابعتها كمراقب من الخارج – بعد ان انتهت تكليفاتي –  نجحت في تحقيق وانجاز عدة "معجزات " بسبب ظروف الواقع السياسي الذي خاضته، وتشكلت خلاله، وقد حققت الدورة 15 تلك الانجازات بشهادة جميع من حضروا المهرجان وكتبوا عنه في زمن قياسي فقد كانت مصر أنذاك تعاني الكثير في أجواء تخبط و بلبلبة، وعدم وضوح في الرؤية  وكانت تقف على كف عفريت وكنا جميعا نخشى على وطننا من وقوع كارثة وندعو جميعا " ربنا يستر" حتى لاتقع حرب أهلية.

وهذا عن أول "معجزة" تحققت وأعني خلق كيان سينمائي مصري حقيقي أصيل من خلال مهرجان الاسماعيلية في ثوبه "المعاصر" الجديد، والتأكيد على أن صناعة المهرجانات لا تحتاج الى اعداد قائمة اختيار لمجموعة من الافلام الجديدة ومهما كانت قيمتها الفنية، بل لابد وأن تكون مؤسسة على "رؤية" VISION و"فكرة" محورية تدور حولها الافلام المختارة وقبل كل شيء، ومسنودة على "عامود" محوري وفلسفي، وبحيث تتحقق من مجموعة الافلام المعروضة في المهرجان، وتصب جميعها في نهر تلك الفكرة وتعمل على بلورتها.


وقد كانت "الفكرة" كما اعتمدها العمري للمهرجان هي النظر الى أفلام الدورة 15 المختارة من منظور "الثورة"، ولولا ان المهرجان قد استطاع أن يبلور بوضوح رؤيته هذه، ومن خلال خياراته ومطبوعاته وعروضه وندواته، لما كان له يقينا أن يحقق كل ذلك النجاح المدوي والباهر الذي حققه.


وكانت أول " ضربة " معلم لمهرجان الاسماعيلية في دورته الجديدة أن يؤسس لمهرجان على أسس علمية ومنهجية ترسخ لقيم ومفاهيم جديدة لصناعة المهرجانات في مصر بحرفية عالية وادارة ذكية في الادارة والتنظيم اعتمدت على الكفاءات صاحبة الخبرة في تلاحم وتضامن مع الكفاءات المصرية الشابة.

حقق مهرجان الاسماعيلية اذن في دورته الـ15 الجديدة الكثير ورسخ لذائقة جديدة من خلال خياراته السينمائية الصائبة لمجموعة كبيرة من الافلام المهمة – أكثر من مائة فيلم - التي أشاد الجميع بجديتها وتنوعها وجودتها.

ومثل ذلك الملاك الذي هبط في بابل كما في مسرحية الكاتب السويسري دورينمات حققت الدورة 15 عددا لابأس به من المعجزات، فقد رفعت لشادي عبد السلام فيلما عظيما من التراب في وصف مصر، يعيد اليها ذاكرتها المثقوبة، وهو يسأل من أين أتت يا ترى حكمة الحياة في مصر القديمة؟ وكيف أصبحت "مصر"  تشرق هكذا في وجوه الفلاحين الطيبين الذين يزرعون ويفلحون الأرض، ليجعل من أباطرة التراب هكذا ملوكا على ممالك الدلتا والصعيد وآخر نقطة على الحدود المصرية، ويجعلنا  نتأمل من خلال مشاهد فيلمه  البديع الأثير "هويتنا في مرآة المكان والزمان"، كاشفا على الطريق الى الله "رسالة" مصر الحضارية واستحوذ فيلمه على قلوبنا جميعا وجعلنا نشهق من عبقريته وجماله.


وكنت بعد مشاهدة الفيلم مباشرة ومفتونا بسحره وجماله في حفل افتتاح الدورة الجديدة اقترحت على رئيس المهرجان مجدي احمد على في التو توزيع الفيلم في المهرجانات الاوروبية والعالمية لعلمي بأنها سترحب بعرض ذلك العمل السينمائي الفذ على جمهورها، والتعريف بتراث واضافات السينما المصرية العظيمة والتذكير دوما بانجازاته، كما سمح المهرجان لمعجزة اخرى أن تتحقق في الدورة 15 وذلك بالظهور المفاجيء لسيدتنا العذراء مريم في المهرجان، وهذه قصة أخري سنعرض لفصولها ووقائعها المذهلة في وقفة قادمة".


والى جانب ندواته حول السينما الوثائقية واستعراض انجازاتها قبل وبعد الثورة في مصر والعالم العربي ودعوته  الناقد والمخرج قيس الزبيدي لالقاء "درس السينما" في المهرجان عبر مداخلة مهمة، أقام المهرجان معرضا تحية وتكريم للفنان ومهندس الديكور العبقري المصري الأصيل الراحل صلاح مرعي، وكرس لعرض أفلامه عن الثورة المصرية في عيون المخرجين الاجانب في حديقة في الهواء الطلق في قلب مدينة الاسماعيلية التي شهدت حضور جمهور غفير من أهل المدينة، واقبالا جماهيريا متزايدا يوما بعد يوم على مشاهدتها.


وكانت سعادتي كبيرة بالاختلاط في اطار المهرجان بالحشد الانساني الى جانب متعة مشاهدة الافلام، والتعرف على اصدقاء جدد في أجواء وقضاءات الصحبة التي استحدثها المهرجان، ومن ضمنهم المصور والمخرج السينمائي كمال عبد العزيز والكاتب الصحفي محمد الرفاعي وعالم الآثار على مجدي أحمد على، وكان المهرجان باجوائه الجميلة يشجع على توليد أفكار ومشروعات سينمائية جديدة وبطموح وأمل كبيرين في أن تخرج الى النور في أسرع وقت.

 وحسنا فعل المهرجان ايضا بتخصيص تظاهرة لعرض بعض افلام السينما المصرية الباهرة ولا أريد ان اقول القديمة مثل فيلم "نمرة 6"  للاستاذ المخرج الكبير صلاح أبو سيف ودعا بعض أصحاب هذه الافلام لحضور المهرجان مثل المخرج دواد عبد السيد، وكانت سهرة استرجاعية جميلة بعرض تلك الافلام التي ظلت لفترة طويلة "مهملة" وحبيسة العلب في عهد النظام البائد والاستماع الى مداخلات اصحابها.

الاثنين، 16 يوليو 2012

مهرجان الاسماعيلية يذيب المخاوف







 خالد محمود



استطاع مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية أن يعبر بدفة المهرجانات السينمائية المصرية  مهما كبر شأنها أو قل  إلى بر الأمان، ويتجاوز بدورته الأخيرة  هموم ومخاوف السينمائيين المصريين من إقامة مهرجاناتهم السينمائية وسط مناخ متخبط وانقسامات واتجاهات ومحاذير جراء الأحداث التى تمر بها البلاد، وأن يفتح المجال لباقى المهرجانات المصرية لتحقيق أحلامها وطموحاتها دون أى هواجس.

نعم لقد خرج مهرجان الإسماعيلية فى دورته الـ15 وسط مناخ صعب، وكان ذلك بفضل إصرار رئيسه المخرج مجدى أحمد على وإرادة مديره أمير العمرى الذى حاول أن تكون الدورة مشرفة حسب الامكانيات المتاحة، ولو كانت الظروف التى تمر بها مصر طبيعية لاقترب المهرجان من الكمال الذى كنا ننشده ولطموح مديره الذى يحمل رؤى خاصة من حيث التنظيم والفعاليات.

كانت المفاجأة السارة التى كشف عنها المهرجان ليلة افتتاحه هى عرض الثلاثية السينمائية للمخرج العبقرى شادى عبد السلام "الطريق إلى الله" والتى كانت بحق صورة سينمائية مميزة ومختلفة أعادتنا إلى حلم كبير وزمن جميل، فالجزء الأول "الحصن إدفو" كانت بداية قوية لوصف مصر سينمائيا، مصر بقوامها الدينى والاجتماعى والسياسى والبشرى، وهو ما لمسناه أيضا فى الجزءين الثانى والثالث "الدندراوية" و"ماساة البيت الكبير أخت آتون"، وحاول شادى عبد السلام تحقيق الحلم مع زملائه صلاح مرعى وأنسى أبوسيف، ومشكورا كان للراهب مجدى عبدالرحمن فضل كبير فى إعادتنا إلى روح شادى عبد السلام عبر شاشة مهرجان الإسماعيلية.

المفاجأة الأخرى التى أبهرتنا سينمائيا فيلم "العذراء والأقباط وأنا"، وهو شريط سينمائى ممتع عبر فكرته وحواره وصورته الذكية، لطرحها فكرة شائكة ومحيرة بلغة كوميدية ساخرة حول ظهور السيدة العذراء فى مصر، وأرى أن مخرجه الشاب نمير عبد المسيح  فرنسى مصرى الأصل  سوف يكون له مستقبل كبير، فقد نجح فى أن يقنع أمه وباقى أهله وجيرانه  بشر عاديون بالصعيد بأن يجسدوا الصورة والحدث بواقعية امام الكاميرا.. كان يريد أن يرسم ملامح لشائعة ظهور العذراء فى مصر والوقائع المحيطة بها، ووصلت رسالته  التى يؤمن بها كقبطى.. فهو من جعل الناس تصنع المشهد الخيالى وتؤمن به كواقع فى رؤية كوميدية فانتازية ساخرة.

أيضا كانت هناك رؤية تسجيلية صادمة بعنوان "تذكرة إلى عزرائيل" إنتاج مصرى فلسطينى من سيناريو وإخراج عبد الله الغول، كشف عن مجموعة من الأصدقاء الذين يروون حقيقة عملهم والمخاطرة التى تحيط به داخل الانفاق، وأن السلطات المصرية والفلسطينية تعلم بما يجرى جيدا من أعمال مشروعة  وغير مشروعة.

وللحق كان لاختيار مجموعة أفلام "الثورة كما يراها الآخر" رؤية ثاقبة، وأتمنى أن يتحقق حلم مدير المهرجان  أمير العمرى فى أنه يتعين على الحدث السينمائى أن تكون له اكتشافاته التى توطد العلاقة بينه وبين جماهيره المتعطشة لتسجيل وقائع الحياة على شاشة السينما.

جريدة الشروق بتاريخ 14 يوليو

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger