الجمعة، 3 ديسمبر 2010

كلمات ساخنة: على هامش هذا المهرجان


ادعاء رعاية الفنون تمثيلا لسلطة مفلسة

* أفضل ما يمكن أن يفعله وزير الحظيرة (وهذا هو الإسم الذي نعتمده في هذا الموقع لفاروق حسني الذي يجثم على صدر وزارة الثقافة في مصر) هو ان يترك مهرجان القاهرة السينمائي وشأنه، ويبتعد تماما عن الظهور في حفلي الافتتاح والختام لكي لا يسيء إلى سمعة هذا المهرجان الذي يعاني منذ سنوات بعيدة من سوء السمعة على أي حال، بسبب التدخلات الإدارية، والصبغة الرسمية التي تضفيها الدولة عليه قسرا، ويكتفي فقط بظهور عمر الشريف كرئيس شرف للمهرجان، وإعفاء الممثل نصف المغمور نصف المعروف، عزت أبو عوف، من مهمة تبدو أوسع كثيرا منه ومن قدراته ومعارفه، وإلغاء منصب نائب رئيس المهرجان، وهو منصب مبتدع لا مثيل له في العالم، الذي تحتله "امرأة من الصفيح الصديء" تدعى سهير عبد القادر، وصرف الست سهير إلى البيت حتى تتمكن من قضاء وقت أطول من أسرتها التي حرمت منها ومن تميزها في فنون طهي الطعام.

* المخرج الصديق ابراهيم البطوط يقترح إغلاق حي كامل من أحياء القاهرة على المهرجان كطريقة لجعله أكثر حيوية، كان
تغلق منطقة وسط القاهرة مثلا أمام حركة المواصلات وتصبح منطقة مخصصة للمهرجان فقط وبؤرة لتجمع عشاق السينما، بحيث تظهر أجواء المهرجان فيها، وهو ما يؤكد رؤيتي الشخصية الثابتة في ان مهرجانات المدن الكبرى أقل نجاحا من مهرجانات المدن الصغيرة أو المنتجعات مثل كان وفينيسيا- الليدو، وكارلو فيفاري وغيرها، ولكن ياعزيزي ابراهيم أنت تعرف جيدا أن السلطة "الفاشية" لا يمكن ان تسمح بهذا، فقد دمرت ميادين وساحات القاهرة وقضت على المساحات الخضراء التي كانت تميزها، لكي تحول بينها وبين أن تصبح مناطق لتجمع الشباب، وحولتها إلى مجرد أشكال تفتقر للجمال وتخدم فقط وسيلة تسيير السيارات، ووضعت على جانبيها المتاريس تحسبا لأي هبة جماهيرية، ووضعت أسرابا من سيارات الأمن المركزي بجوار المتحف المصري مثلا لترويع الجماهير، بل وجعلت منطقة المتحف بأسرها ثكنة عسكرية. وليس من المتصور أن يقوم نظام عسكري تافه يكره الجمال ويعادي الثقافة بتفريغ جزء من العاصمة من السيارات (وسيارات الأمن المركزي أيضا!) لكي ينعم الناس بالثقافة والفن!
قبح البلاستيك
* أكثر ما لفت نظري في الكلمة التي ألقتها الممثلة الفرنسية الموهوبة جوليت بينوش عند ظهورها في حفل الافتتاح تجاهلها للسينما والمهرجان والبشر ولكل ما لا صلة بمصر المعاصرة، وعدم توجهها بالشكر لأي من المسؤولين الرسميين الذين يفرضون أنفسهم على المهرجان فيسيؤون إلى سمعته أكثر ويجعلونه مهرجانا "لعساكر الفكر"، بل تحدثت فقط عن إعجابها بشعار المهرجان أي بتمثال نفرتيتي، أي أنها مرة أخرى، لخصت مصر في الماضي الذي كان، في ملكة فرعونية لا ينتمي لها بكل تأكيد، عساكر التتار الذي يحكمون قبضتهم بشكل غير شرعي على السلطة في مصر منذ ستين عاما، ويديرون كل شيء فيها بما في ذلك شؤون الثقافة، معتمدين في ذلك على بعض أزلامهم وصنائعهم من المتثاقفين. ومن ينظر إلى تلك "الشريحة" ممن يدعون أنفسم وأنفسهن "فنانين" في حفل الافتتاح لا يشعر سوى بالخجل وبالعار، تماما كما هو إحساسك وأن ترى أن رئيس اتحاد نقابات الفنانين سبق أن صدر ضده حكم في جريمة مخلة بالشرف!

الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

لعنة الحياة الطويلة: الميتة التراجيدية لماريو مونتشيللي

عاش المخرج الإيطالي العظيم ماريو مونتشيلي 95 عاما (من مواليد 1915). وأنهى حياته بالانتحار مساء الإثنين بعد ان ألقى بنفسه من شرفة في مستشفى بروما كان يعالج به من مرض سرطان البروستاتا.
وهكذا لقي مونتشيللي مصير والده الذي أنهى حياته بالانتحار عام 1946.
مونتشيللي صاحب الأفلام البديعة التي وضعت السينما الإيطالية على خريطة السينما في العالم ربما أكثر من أي مخرج سينمائي آخر في ايطاليا، لاشك أنه كان يعاني من تلك اللعنة التي يصاب بها البعض عندما يعيشون حياة طويلة ممتدة ولكن بلا أمل في استعادة القدرة على الإبداع، على العمل، وعلى الحركة كما كانوا وهم يتمتعون بالصحة والعافية. ولاشك أن الاكتئاب وراء الدافع إلى انتحار مونتشيللو، وإحساسه بالأسى على مصيره الشخصي وعلى ما حل بالعالم من حوله، وهو مصير مشابه، لمصير الكاتب الياباني الكبير كاواباتا (حائز جائزة بول في الآداب عام 1968) الذي انتحر عام 1972.
حصل مونتشيللي على جائزة الأسد الذهبي من مهرجان فينيسيا السينمائي عن مجمل أعماله عام 1990، كما رشح للأوسكار عن فيلم "صفقة كبرى في شارع مادورنا" الذي اقتبسه لوي مال في فيلم Crackers عام 1986، وتحول بعدها الى مسرحية موسيقية أيضا قدمت في برودواي، ثم بوب فوس في فيلم "الصفقة الكبرى" عام 1986.
كرمه مهرجان فينيسيا في 2009 عندما عرض فيلمه الكلاسيكي الكبير "الحرب العظمى" (1959) في اليوم السابق للافتتاح الرسمي، وهذا يعد إحدى التحف التي أخرجها مونتشيلي والذي جاء الى المهرجان وهو في الرابعة والتسعين من عمره، لحضور عرض فيلمه الذي تمكنت ستديوهات مدينة السينما في روما من استعادته وانقاذ الأجزاء التالفة منه، بمساعدة مصوره العظيم جيوسيبي روتونو الذي تمكن بفضل التقنيات الحديثة في مدينة السينما، كما استعادت الطابع الخاص لمشاهده ولقطاه، والرونق القديم الساحر للتصوير بالأبيض والأسود.
وكان هذا الفيلم، الذي يقوم بدوري البطولة فيه ألبرتو سوردي وفيتوريو جاسمان، قد حصل مناصفة، على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا 1959 مناصفة مع فيلم "الجنرال فيلا روفييري" للمخرج الكبيرالراحل روبرتو روسيلليني الذي يعد رائد الواقعية الجديدة في السينما الايطالية.
مونتشيللي الذي قدم الكثير من كبار نجوم السينما الايطالية مثل فيتوريو جاسمان وتوتو ومارشيللو ماستروياني وكلاوديا كاردينالي، وقدم اجمل الكوميديات، كان أيضا متمردا عظيما على النظام السياسي العتيق في بلاده. وكان دائم السخرية والهجوم على رئيس الحكومة الايطالية بيرلسكوني في السنوات الأأخيرة، كما قام بتحريض الطلاب العام الماضي على التمرد ضد اللوائح الجديدة للتعليم.
وكان آخر أفلامه فيلم "أزهار الصحراء" عام 2006.
ولاشك أن مونتشيللي الذي لم يستطع البقاء على قيد الحياة عاجزا بفعل المرض، عن الإبداع، مفضلا أن يأخذ حياته بيده، قد نقش اسمه بحروف من الذهب في تاريخ السينما إيطاليا والعالم.

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

هاملت يدخن السجائر وجيرترود تشرب الويسكي على خشبة المسرح القومي البريطاني!



معالجة جديدة للمسرحية الشهيرة

استمتعت أخيرا بمشاهدة الإنتاج الجديد لمسرحية شكسبير الشهيرة "هاملت" التي تعرض حاليا على مسرح أوليفييه التابع لدار المسرح القومي البريطاني National theatre في لندن.
قدمت هاملت منذ أن كتبها شكسبير عام في 1601 آلاف المرات، في المسرح وفي السينما، في معالجات وتفسيرات مختلفة، وقام بالدور الرئيسي عدد من ألمع الممثلين في تاريخ المسرح البريطاني مثل لورنس أوليفييه وجون جيلجود وكنيث برانا وغيرهم.
أما العرض الجديد فيقدم هاملت مختلفا تماما عما سبق تقديمه. إنه هاملت عصري بكل معنى الكلمة، فهو أقرب الى طالب يعيش في غرفة غير منظمة، يلقي الكتب هنا وهناك، يدخل السجائر، يسعى بكل الطرق لمعرفة من الذي قتل والده ملك الدنمارك، ويصر على إنزال العقاب بالقاتل وهو عمه كلاوديوس الذي تزوج والدته جيرترود.
هاملت العصري هنا، شاب متمرد يعيش في عالم أصبح يمتليء بالعنف. كلاوديوس يبدو مثل حاكم ديكتاتور أو رجل أعمال يمتلك امبراطورية صناعية، يوظف حراسا مدججين بالسلاح، وشرطة خاصة تراقب هاملت وجميع الشخصيات الأخرى في المسرحية، تستخدم أجهزة الاتصال الحديثة.
هذه المعالجة العصرية، بالملابس الحديثة، وبلغة رفيعة ولكن قريبة من المشاهد العادي، لغة كل يوم مع إيحاءات شعرية خاصة، تنجح تماما في تقديم مضمون معاصر للدراما الشهيرة.
عندما ينطق هاملت بمونولوجه الشهير "تكون أو لا تكون" يجعله المخرج نيكولاس هيتنر يدخن سيجارة، بل هو يشعل كثيرا من السجائر خلال العرض، كما يجعل أمه جيرترود وقد أقبلت على احتساء الويسكي في محاولة للتغلب على احساسها بالذنب إزاء ابنها، بعد ان تزوجت قاتل أبيه.
أما أوفيليا هنا فهي فتاة من الممكن أن تكون ابنة الجيران: وعندما تفقد عقلها تجوب خشيبة المسرح وهي تدفع عربة من عربات التسوق التي نستخدمها في"السوبرماركيت". وبدلا من أن تموت غرقا في حادث عرضي، هناك اشارات واضحة الى أن الشرطة الخاصة التابعة لكلاوديوس هي التي قامت باغراقها.
وعلى الرغم من الطابع التراجيدي المعروف لمأساة "هاملت" أمير الدنمارك- وهو العنوان الأصلي للمسرحية، إلا أن شخصية هاملت بتكوينها الخاص، كشاب شديد الحساسية، يمتلك خليطا من البراءة والتمرد على الواقع، بين ذكاء المثقف وحسه الساخر، وجموح الابن الذي يرغب في انزال الانتقام بخصمه.

الإعداد الدرمي والمعالجة الدرامية تجعل شخصيات "هاملت" متعددة الأجناس فدور أوفيليا مثلا تؤديه ممثلة هندية بلكنتها، وهوراشيو يؤديه ممثل أسود، ولاريتيس يؤدي دوره ممثل من أصول لاتينية ينطق الانجليزية أيضا بلكنة اجنبية واضحة، وهكذا، في إشارة لا تخفي دلالتها على أننا أمام لوحة درامية معاصرة لما يحدث في العالم.
هذا العرض لاشك ان من أهم ما يميزه ذلك الأداء المميز للممثل الشاب روي كينيار في دور هاملت، فهو يحمل العرض باكمله على كتفيه، ينوع ويجدد في استخدام الحوار، يعرف أين يتوقف، وكيف يمط الكلمات حينا، أو يضغط عليها حينا آخر، يمزج بين الحس المأساوي والحس الكوميدي، يبدو واعيا بما يوجد حوله من شرور، لكنه أيضا يتمتع بوجود أقرب الأصدقاء بالقرب منه "هوراشيو".
إن هذا العرض يعد ميلادا حقيقيا لممثل كبير سيمضي موهبة راسخة في المسرح والسينما البريطانية بلاشك.
ولعل من المثير للاهتمام أيضا أن نعرف أنه بدءا من التاسع من الشهر القادم ستعرض هذه المسرحية في مئات من دور العرض السينمائي في الولايات المتحدة وبريطانيا على الشاشات بعد تصويرها بكاميرا الفيديو، في تطور من الواضح أنه سيصبح سمة راسخة من سمات العلاقة بين المسرح والسينما في المستقبل.

الجمعة، 12 نوفمبر 2010

"فينوس السوداء": بلاغة الأسلوب

كان الفيلم الفرنسي "فينوس السوداء" Venus noire للمخرج التونسي الأصل عبد اللطيف كشيش، أحد أهم وأفضل ما عرض من أفلام في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير.
هذا فيلم من عالمنا، وعن عالمنا.عن تجبر الإنسان وجبروته واعتدائه المنظم على أخيه الإنسان، عن ذلك الاستغلال البشع للإنسان مع غض النظر عن كل القيم والمعايير الأخلاقية التي أرستها الأديان السماوية.
يعيدنا فيلم فينوس السوداء الذي يناقش موضوع العنصرية، إلى تأمل تلك العلاقة المعقدة بين افريقيا وأوروبا، إلى عصر العبودية، واستغلال الإنسان الأبيض للإنسان الأسود استنادا إلى بعض النظريات التي تدعي "العلمية" التي وضعها الغربيون، والتي تبرر تفوق جنس على جنس آخر.
المشهد الأول من الفيلم، الذي يدور داخل قاعة للمحاضرات في الأكاديمية الفرنسية للعلوم الطبية في باريس عام 1817 يعتبر تمهيدا مباشرا لموضوع الفيلم الذي يستغرق عرضه 160 دقيقة.
في هذا المشهد يقف بروفيسور لكي يشرح الفرق بين الأجناس ويتوقف أمام الجنس الزنجي ليثبت أنه جنس "متخلف" عن الجنس الأوروبي، استنادا إلى الخلافات التشريحية، في شكل الجمجمة ونسبة بروز الفك ونتوء عظام الأنف. وهو يستخدم نموذجا هو تمثال لامرأة "زنجية" خلال شرحه. والمرأة صاحبة التمثال هي بطلة فيلمنا هذا ومحور موضوعه.
ننتقل بعد ذلك مباشرة، أو بالأحرى، نعود إلى لندن عام 1810، وإلى بطلة هذا الفيلم وهي فتاة سوداء تدعى سارتيجي بارتمان (يختصرون اسمها إلى ساره) جاء بها شخص يدعى هندريك سيزار من جنوب افريقيا، حيث كانت تعمل خادمة (في الغالب جارية مستعبدة) تحت إغراء الثروة والشهرة، لكي يستغلها في عروض أقرب إلى عروض السيرك، بل هي عروض السيرك نفسها، فهو يقوم بعرضها داخل قفص مثل القرود والحيوانات المفترسة، ويستخدم سوطا في التعامل معها وترويضها وحثها على أن تفعل ما يأمرها به، ولكن ما يثير اهتمام جمهور لندن من الطبقة الفقيرة بهذه الفتاة أكثر، هو تكوينها الجسماني، وخاصة مؤخرتها وأردافها الكبيرة بشكل غير عادي، وعضوها التناسلي الضخم، وهو ما اعتبر وقتها، دليلا على اختلاف السود عن البيض في كونهم أقرب إلى "الحيوانات"، وأن نساءهم يتمتعن بطاقة جنسية خاصة مثل حيوانات الغابة. وكانت تلك "الأفكار المسبقة" مغروسة عن"الأخر" المختلف من السود، لدى الكثير من الفئات في مجتمعات الغرب، وربما لاتزال حتى يومنا هذا.
ولعل هدف فيلمنا هذا، كشف هذه النظرة الفوقية المسبقة وفضح وحشيتها وعدوانها على الإنسان، ولكن من خلال خصوصية الشكل السينمائي.
تتعرض ساره في عروض السيرك في قلب لندن، لشتى أنواع الانتهاكات الجسدية من جانب الجمهور، ولكنها تبدو رغم ذلك، راضخة، مستسلمة لمصيرها. وهذا هو اللغز الذي لا يكشف لنا الفيلم عن كنهه أبدا. إن "سيدها" يبتزها ابتزازا تارة، ويقدم لها الهدايا تارة أخرى، ثم يخصص لها خادمين (من السود أيضا) لقضاء حاجياتها، ويغريها بالمال الوفير الذي ستدره عليها تلك العروض، مما يمكنها من العودة إلى بلدها حيث "سيصطف الرجال للزواج منها". لكننا نعلم علم اليقين، أنه لا يمنحها سوى ما يبقيها على قيد الحياة وعند اول بادرة للرفض أو إبداء التذمر والتعب، يقوم بالتنكيل بها بوحشية باستخدم اقسى ما يمكن تخيله من عنف بدني ولفظي. لقد أصبحت على ما يبدو، أسيرة لشخص سادي لا تستطيع مقاومته.

 ساره المهمومة المجهدة التي تنتهي آخر الليل في غرفتها، تقبل على الشراب والتدخين بكثافة تخفيفا عن نفسها، حتى تتمكن من النوم استعدادا ليوم آخر شاق.
غير أن هذه المعاملة القاسية أمام الجمهور: استخدام السوط، حث جمهور السكارى من الطبقة العاملة على تحسس مؤخرتها وقرصها والتعامل معها بخشونة والتهليل والهتاف في وجهها، كل هذه الأفعال تلفت أنظار بعض المناهضين للعبودية في لندن خاصة بعد نشر مقال صحفي عن تلك المرأة "النموذجية في سخونتها" التي أصبحوا يلقبونها بـ"فينوس السوداء" أو فينوس الهوتنتوت hottentot، والكلمة الأخيرة مستمدة من لغة بعض قبائل سكان جنوب افريقيا أو من طريقتهم في النطق، وأطلق عليهم هذا الوصف بسبب طريقتهم في الحديث التي بدت للأوروبيين كما لو كانت مجرد لغو فارغ مثل كلمة "هوتنتوت"!.
يصل اعتراض الليبراليين الانجليز إلى مقاضاة سيزار وتنظر الدعوى أمام المحكمة إلا أن ساره تقر أمام القضاة بأنها جاءت من بلدها إلى انجلترا بارادتها الحرة، وأن ما تفعله يوميا أمام الناس ما هو سوى عرض فني، وأنها "فنانة" ولا تعتبر أن العرض يمثل أي اهانة لها. ولا نعرف ما السبب الذي يجعلها تقر بذلك. هل هو الخوف من التشرد والضياع في بلاد غريبة.. ربما.
من لندن ينتقل سيزار بساره بعد تعميدها، إلى باريس حيث يتسلمها منه هناك مساعده رو Reaux الذي يقوم بعرضها في أوساط الطبقة الأرستقراطية فتحقق نجاحا كبيرا وإعجابا من جانب النساء الرجال. هنا يسهب الفيلم كثيرا في رسم صور تفصيلية لمباذل الطبقة العليا الفرنسية، وإستغراقها في العبث واللهو بدرجة جنونية. وينتهي الأمر بعد ذلك بساره إلى العمل في أحد بيوت الدعارة حيث تمرض بعد فترة وجيزة وتموت.
كانت ساره قد رفضت رغبة سيدها المثول أمام مجموعة من العلماء في أكاديمية الطب الفرنسية، والكشف عن أعضائها الجنسية والسماح لهم بفحصها، والآن بعد موتها، يبيع سيدها جثمانها لهؤلاء العلماء لكي يتولوا تشريحه وعمل تمثال مطابق لها يبقى داخل الأكاديمية، باعتبارها نوعا فريدا من الأجناس البشرية!
وفي نهاية الفيلم، من خلال العبارات التي تظهر على الشاشة نعرف أن هذا التمثال ظل في مكانه لمدة 160 عاما إلى أن أزيح من العرض عام 1974. وفي 1994 طالب الرئيس نيسلون مانديلا الفرنسيين بإعادة جثمانها إلى جنوب افريقيا، إلا أن السلطات الفرنسية رفضت، وبعد 8 سنوات، أي في 2002 وضع قانون جديد في فرنسا يسمح باعادة جثمان ساره بارتمان إلى بلدها، ولكن يقيد هذا الحق بالنسبة للآخرين. وقد أعيد الجثمان بالفعل وأعيد دفنه هناك، وتحولت ساره وقصتها إلى أسطورة، صنع عنها فيلم تسجيلي طويل بعنوان "حياة وزمن ساره بارتما"، وصدر عنها عدد من الكتب.
وقد كتب عبد اللطيف كشيش سيناريو الفيلم بالاشتراك مع غالية لاكروا (التي سبق أن شاهدناها كممثلة في عدد من الأفلام مثل "صمت القصور" لمفيدة التلاتلي، و"بزناس" لنور بوزيد، و"موزار إلى الأبد" لكشيش نفسه.
وأهم ملامح السيناريو اهتمامه الشديد بالتفاصيل، بأجواء الفترة، بملامح الشخصيات، بالحرص على الواقعية، بخلق حبكة تقوم على التفاعل المستمر مع الحدث، مع الصورة، وإغناء الصور بالمزيد من التفاصيل، وشحن المتفرج من خلال التأمل العقلي المتأني فيما يشاهده وليس من خلال التصاعد الدرامي العنيف.
ويتطابق أسلوب كشيش في إخراج الفيلم مع أسلوبه الذي بلغ قمته في فيلمه السابق "كسكسي بالسمك": الاعتماد على تجسيد التفاصيل والتناقضات بشكل محسوس، من خلال كاميرا تراقب، وتتسلل، وترقب كل لفتة وحركة وايماءة، مع الاهتمام الشديد بتفاصيل اللقطة، بالتكوين، بقطع الديكور، بحركة الكاميرا في هذا الديكور، بعلاقة الشخصيات الثانوية بالشخصيات الرئيسية، بعلاقة الشخصيات عموما بالمكان، وهو أسلوب يعتمد أيضا على خلق الإيهام بأننا نشاهد ما يجري في الزمن الفعلي الحقيقي، دون تدخل كبير من المونتاج، وهو بالطبع مجرد "إيهام"، فالمونتاج موجود، ودوره لاشك فيه، لكنه لا يرمي إلى الانتقالات السريعة بين اللقطات، ولا يعتمد على التداخل، بل على الربط بين اللقطات والمشاهد في سلاسة كما لو كنا نشاهد الفيلم كله في مجموعة من اللقطات- المشاهد الطويلة، التي تبقى اللقطة فيها على الشاشة لمسافة زمنية أطول من المعتاد، والهدف هو اتاحة الفرصة للتأمل فيما نشاهده، للإحاطة بكل التفاصيل، للتأثير في المتفرج، كما لو كان المخرج يرغب في جعل المتفرج شاهدا على ما يجري داخل المشهد نفسه.
ولاشك أن تجربة كشيش التمثيلية تجعله أيضا يجيد التعامل مع الممثلين، ويتمكن من استخراج أقصى ما لديهم من قدرات على الأداء في مشاهد لا يمكن نسيانها في الفيلم. إنه مثلا يقوم بتدريب وتأهيل تلك الممثلة القادمة من المجهول، أي ياهيما توريس التي قامت بدور ساره، ويدربها ويجعلها تتمكن من التعبير بالفرنسية ولغة الأفريكانا (لغة بيض جنوب افريقيا)، والانجليزية والهولندية، كما تتعرض لمواقف أثناء التمثيل يصعب على أي ممثلة محترفة الصمود فيها، خاصة في لقطات الكلوز أب أي اللقطات القريبة الطويلة المرهقة، لكنها تنجح بل وتتألق في أداء الدور الرئيسي.
أسلوب كشيش قد لا يعجب بعض المشاهدين بسبب ما يعتبرونه نوعا من الإطالة التي لا ضرورة لها، ويعتقدون أن من الأفضل للفيلم لو كانت اللقطات أقصر. وهو رأي لا أتفق معه، فالأسلوب هو الفيلم، والفيلم هو الأسلوب، وليس من الممكن معاملة فيلم مثل هذا كما نتعامل مع أفلام الحبكة التقليدية التي تخضع لنمط محدد خلقته ورسخته هوليوود عبر تاريخها الطويل، وإن كانت لكل قاعدة استثناءاتها، وإلا فكيف يمكننا أن ننظر مثلا إلى فيلم أمريكي خارج عن النمط وعن النوع genre هو فيلم "الثور الهائج" The Raging Bull لسكورسيزي، وقبله إلى فيلم "بوابة الجنة" Heaven’s Gate لمايكل شيمينو، وهما يتجاوزان كثيرا النقاط المحددة لـ"القطع" cut أو الانتقال من لقطة إلى أخرى، حسب قواعد المونتاج في هوليوود؟
إن متابعة مشاهد فيلم "فينوس السوداء" قد تكون مرهقة، ليس بسبب طولها، بل بسبب قسوتها، وخدشها لما أصبح مستقرا الآن في الأذهان من استهجان ذلك السلوك الهمجي الذي كان يصدر حتى من أرقى الأوساط الباريسية كما يصوره كشيش. لكن في تلك القسوة تكمن تحديدا الفكرة التي يرغب في ترسيخها.
ولاشك أن الطاقم الفني الذي تعاون مع كشيش في تجسيد رؤيته قد أبلى بلاء حسنا. خذ مثلا مهندسي الديكور اللذين برعا كثيرا، سواء في إعادة تشييد ديكورات مدينة لندن أوائل القرن التاسع عشر، وكيف كانت تبدو حاناتها الشعبية وساحاتها وبيوتها، أو في تشييد صالونات الأرستقراطية الباريسية ومنتدياتها، كما تمكن مصمم الملابس فابيو بيرون من تقديم ملابس وأزياء الفترة بصورة أخاذة ولكن دون أن تشتت الرؤية. واستخدم مؤلف موسيقى الفيلم، صلاح الدين كشيش، تيمات كلاسيكية تفيض بالحزن والشجن، تسرع إيقاعاتها وقت الحاجة إلى السرعة وتبطيء وقتما يتعين البطء.
ربما تكون الشحنة العاطفية في الفيلم أقل من نظيرتها في فيلم كشيش السابق، وربما يكون تعاطف المخرج أقل مع شخصياته، ونظرته إليها أكثر حسما وبرودة عما كان في افلامه السابقة، لكن طبيعة الموضوع تفرض مثل هذه النظرة. فهو يتجاوز العاطفة، ولا يستدعيها من المتفرج بقدر ما يستدعي العقل والفكر والتأمل. وتلك هي روعة الفيلم.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger