الاثنين، 2 فبراير 2009

«فرنسية» فيلم مغربي يجسد أزمة الهوية وكراهية الذات




من الأفلام "العربية" التي عرضت بالدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان رورتردام السينمائي اخترت أن أتوقف أمام فيلم "فرنسية" Francaise، هذا الفيلم المصنف علي اعتبار أنه من الإنتاج المشترك بين فرنسا والمغرب، في حين أنه فيلم أجنبي بكل معني الكلمة، وإن كان أحد الأفلام التي تحصل علي دعم مالي من المركز السينمائي المغربي، التي أشار إليها الناقد مصطفي المسناوي، في مقال حديث له أثار ضجة كبيرة، حين قال (بالحرف) "إن كل الخطاب الرسمي الذي تم تداوله في وقت من الأوقات عن "دعم السينما المغربية" ( بأموال دافعي الضرائب) قد انتهي عمليا إلي دعم وتشجيع شركات الإنتاج الأجنبية خاصة الفرنسية".
وقال المسناوي أيضا في مقاله المشار إليه: إن السينما المغربية التي يحتفل البعض هذا العام بالذكري الخمسين لظهورها (وهو تاريخ غير صحيح) لم تنجح طيلة نصف قرن من الزمان في إعطائنا ولو تقنيا (أو فنيا) واحدا مختصا بالمونتاج (من مراجعة الأفلام الطويلة المشاركة في مهرجان طنجة ويبلغ عددها 14 فيلما نجد أن 10 من بينها أنجز عملية "مونتاجها" أجانب). الفيلم من سيناريو وإخراج سعاد البوحاطي، والفيلم الروائي الطويل الأول لهذه المخرجة المغربية، التي تقيم وتعمل في باريس منذ أن أنهت دراستها للسينما في السوربون. وباستثناء ذلك فكل العناصر الفنية في التصوير والمونتاج والديكور والموسيقي وغيرها، من الفرنسيين. وهو من إنتاج جاك كيرسنيه وديفيد لوفافر.

مشكلة الموضوع والفكر
لكن المشكلة لا تتمثل فقط في هذا الجانب، أي جانب الإنتاج والتقنيين، بل أساسا، في موضوع الفيلم نفسه.
يطرح الفيلم مشكلة عجز الجيل الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة، الذين ولدوا ونشأوا في فرنسا، عن قبول فكرة العودة إلي الوطن "الأصلي"، وعدم التكيف مع الواقع المغربي بعد العودة، والإحساس بالاغتراب عن الواقع ونمط الحياة المغربية، والحلم بالعودة إلي ما يعتبر "الوطن الحقيقي" أي فرنسا.
هذه الأزمة تعبر عنها مخرجة الفيلم ومؤلفته، من خلال الفتاة "صوفيا" التي تولد وتقضي سنوات عمرها الأولي في فرنسا، وترتبط بصداقة مع فتاة فرنسية من نفس عمرها، إلا أن والدها يقع في المشكلة التي قد تواجه المغتربين جميعا في أي وقت، أي البطالة، فيقرر العودة إلي المغرب مع أسرته المكونة من الزوجة والأبناء الثلاثة صوفيا وشقيقها وشقيقتها رغم احتجاج صوفيا ورفضها ومقاومتها الشديدة للرحيل.
وتعود الأسرة بالفعل إلي المغرب، ويتعاون أفرادها جميعا في زراعة قطعة من الأرض في منطقة ريفية خلابة بمناظرها الساحرة، وتقطن الأسرة في منزل يبدو كالقصر بمقاييس المغرب (والمشرق أيضا!)، وتمر عشر سنوات، وتكبر صوفيا وتصبح فتاة مراهقة متفتحة بالأنوثة وبالإحساس بذاتها وخصوصية شخصيتها.
ومرة أخري تعود صوفيا إلي التفكير في فرنسا التي تراها جنة الأرض بالنسبة لها، وتعبر بكل الطرق عن رفضها العيش في المغرب ورفض الارتباط بأي شخص فيها، وتتوتر علاقتها بشقيقتها وبوالدتها، وتتمرد حتي علي الدراسة في المدينة لأنها تعيش في بيت للطالبات تجده معادلا للسجن.

وطأة القيود
ولا تقدم المخرجة تفسيرا لهذا الرفض، ولا لذلك الحنين الذي لا يفتر أبدا إلي فرنسا، بل علي العكس مما يمكن أن يتوقعه المشاهد، يصور الفيلم التناقض بين الحياة الجافة للأسرة في فرنسا، كما يشير، وإن علي استحياء، إلي الروح العنصرية الكامنة لدي الفرنسيين تجاه المهاجرين من خلال طريقة تصرف المدرسة مع صوفيا، في حين يصور علي الجانب الآخر، كيف تتغير أحوال الأسرة إلي الأفضل بعد عودتها إلي المغرب، لكن إحساس صوفيا بالرفض يتصاعد، فهي تشعر بوطأة القيود التي يفرضها المجتمع علي الفتيات من سنها، فممنوع عليها الذهاب إلي المقهي، وممنوع أن تتأخر في الخارج بمفردها، والمصير الطبيعي لها أن ترتبط بشاب تتزوجه فيما بعد، وأن تواصل الدراسة، وتساعد الأسرة في العمل بالأرض، لكنها ترفض الاستسلام لهذه كله، وتواصل مسلسل الهرب من الواقع، وترفض الحديث إلي أفراد أسرتها، رغم معاملة والدها اللينة لها.
وأخيرا تنتصر إرادة الخروج، أي التحرر من أسر مجتمع المغرب، وتحصل صوفيا علي جواز سفرها، ونراها في المشهد الأخير من الفيلم بعد أن نضجت من خلال الاستقلال عن الأسرة، والعمل بإحدي الشركات في العاصمة، وهي تشق طريقها بعزم وتصميم، بعد أن حزمت أمرها علي الرحيل إلي فرنسا.

إشارات عابرة
مرة أخري ليست هناك مبررات "ظاهرية" أو خارجية في الفيلم لرفض صوفيا واقعها، مثل الفقر والتخلف، باستثناء إشارات عابرة كما في مشهد تستعرض فيه الكاميرا المتحركة من سيارة، مظاهر البؤس والبطالة والفقر والبيوت المهدمة وتجمعات الشباب العاطل، أو عندما تستعين الأم بامرأة عجوز تستشيرها في مشكلة صوفيا فتقترح المرأة وضع "تعويذة" في غرفة الفتاة.والواضح أن هذا القدر من التجريد الاجتماعي، إذا جاز التعبير، مقصود للإيحاء بأن هناك قوة أخري سحرية تربط بين الفتاة وبين فرنسا، قوة تتجاوز المادة المنظورة وتبدو كنداء غامض أقرب إلي"النداهة".
إن الفتاة تردد طوال الفيلم عبارة "أنا فرنسية.. وكني هناك.. لقد ولدت هناك وأنتمي إلي فرنسا". إنها بشكل واضح، ترفض هويتها المغربية "المكتسبة" بحكم العلاقة مع الأهل. فماذا يريد الفيلم أن يقول لنا من وراء هذه الفكرة؟
إن خطورة هذه "الرؤية" السينمائية لأزمة فتاة تنضج في مجتمع لم تولد فيه، أنه يروج لفكرة ضارة عن العلاقة بين الشرق والغرب، تتلخص في أن الشخص الذي يولد في الغرب يصبح منتميا "ثقافيا" رغما عنه وبقوة أكبر من أي قوة أخري، إلي ذلك الغرب حتي لو كان كل ما في جذوره وتاريخ عائلته يربطه ثقافيا ومعرفيا بالشرق.
"كراهية الذات" هذه تخلق إشكالية من نوع آخر، فإذا كان "الجيل الثاني" أو الثالث، يري أن وطنه الحقيقي في فرنسا وليس في المغرب، فهل ستقبل فرنسا بسعادة هذا الانتماء وتحتضنه وترحب به، بل تتعامل مع صاحبه علي قدم المساواة مع أبناء "السكان الأصليين"!
دور آخر يتناسب تماما مع شخصية حفظية حرزي التي تألقت في فيلم "كسكسي بالسمك" (يترجمه البعض في مصر "أسرار القمح"!) بتمردها وجموحها وصلابتها وقوة شخصيتها التي تجعلها تجرف في طريقها كل شيء، مصممة علي المضي قدما في مسعاها ومبتغاها، حتي يتحقق لها ما تريد. تري.. ماذا حققت بعد ذلك ياتري!

الأحد، 1 فبراير 2009

موسم جوائز السينما: العم أوسكار واخواته

ماريون كوتيار بعد حصولها على الأوسكار


موسم الجوائز بدأ قبل فترة مع الإعلان عن جوائز ما يسمى بجولدن جلوب ثم ترشيحات جوائز الأوسكار الأمريكية، وبافتا البريطانية وسيزار الفرنسية.. أشهر ثلاث مسابقات للجوائز في العالم بحكم التاريخ الكبير للسينما في الدول الثلاث.
الغريب في أمر الأوسكار الأمريكي أنه قرر منذ سنوات عديدة منح جائزة لأحسن فيلم أجنبي (أي غير ناطق بالانجليزية فاللغة هنا هي المعادل للقومية وهذا تصنيف واضح على الأقل وليس شأن السائد لدينا من فوضى، فنحن نقول فيلما عربيا لكل ما ينتج في أي مكان في العالم من إخراج مصطفى أو رشاد أو جميل حتى لو كان ناطقا بلغة الجن والعفاريت!).
أما الغريب أن الأوسكار الأمريكي قرر في السنوات الأخيرة منح جوائز أخرى قد تكون أفضل فيلم مثلا أو أفضل تمثيل لفنيين وممثلين في هذا الفيلم نفسه المصنف باعتباره أجنبيا كما حدث العام الماضي عندما حصلت الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار على جائزة أحسن ممثلة عن دورها في الفيلم الفرنسي "الحياة وردية"، وهو نوع من الفوضى التي لا يمكن تبريرها.
وقد فشل الاتحاد الأوروبي في إقامة "صرح" يضارع الأوسكار الأمريكي بجوائزه التي تمنح سنويا أيضا وتحاط بالأضواء، لكن لم يعد أحد ينتظرها منذ فترة طويلة أو يهتم بها.
وكان الأوروبيون قد أطلقوا على جوائزهم في البداية، عند تأسيس المسابقة عام 1988، اسم "فيليكس" (اسم سخيف قد يصلح اسما لكلب أو قط) ثم أقلعوا عن استخدام فيليكس وأصبحوا يكتفون بأن يطلقوا عليها "جوائز السينما الأوروبية". وقد منحت آخر مرة في ديسمبر 2008 ونال فيلم "جومورا" الإيطالي جائزة أحسن فيلم.
وأسخف ما وجدت أن البريطانيين رشحوا تقريبا نفس الترشيحات الرئيسية التي رشحها الأمريكيون للأوسكار مع بعض التنويعات البسيطة في الفروع الأخرى، لكي يثبتوا أنهم "مستقلين"، وهو المبدأ المتبع في السياسة البريطانية منذ تشرشل، فبريطانيا معروفة كـ "ذيل" لأمريكا سياسيا لكنها تحب أن توهم نفسها وشعبها بأنها مستقلة ولو حفاظا على الشكل.
أما الفرنسيون فهم من أنصار "التميز الخاص" المفتعل بحكم الاصطناع الكامن في اللغة نفسها وطريقة التعبير، فلو قلت لأي فرنسي من الطبقة الوسطى المثقفة مثلا أنك معجب بالخبز الفرنسي لربما يرد عليك بسؤال مثل: وهل تحب اختلاس القبلات؟
وكان يوسف شاهين – رحمه الله- يميل إلى كتابة السيناريو والحوار بالفرنسية أولا لكي يعرضه على الفرنسيين للحصول على التمويل، ولذلك كان يمكنك أن تجد في حواراته بعض الطرائف، كان تسأل داليدا مثلا محسن محيي الدين في فيلم "اليوم السادس" قائلة: إنت بتبصلي في عينية كده ليه؟
فيرد عليها قائلا: علشان ما بعرفش أطلع على اكتاف حد!
ما هي العلاقة؟ ابحث في طريقة التعبير "البورجوازية" الفرنسية.
وحسب التميز الخاص يختار الفرنسيون منح جوائزهم لأفلامهم ولا يخصصون جائزة لأحسن فيلم أجنبي ربما لأن معظم المخرجين المتميزين في السينما الفرنسية عمليا من الأجانب (جول داسان الأمريكي، جودار السويسري، كوستا جافراس اليوناني، عبد اللطيف قشيش التونسي، راؤول رويز التشيلي، رشاد بوشارب الجزائري، رومان بولانسكي البولندي، أندريه ديلفو البلجيكي، أوتار يوسيلياني الجورجي، وغيرهم كثيرون).
في مصر مهرجان للسينما المصرية تقيمه الدولة سنويا يعرف باسم المهرجان القومي للسينما المصرية ويمنح جوائز مالية لكن سمعته سيئة لأنه حكر على شخص واحد يديره، هذا الشخص مهما حاول أن يبدو نزيها لا يستطيع، ليس فقط بحكم تربعه على المنصب منذ سنوات طويلة تماما مثلما يحتكر شخص آخر السلطة السياسية لنفسه (وربما لأولاده من بعده)، ويحتكر وزيره "الفنان" السلطة منذ 22 عاما، ولكن أيضا بسبب مصالحه الشخصية التي باتت متعددة ومتشعبة وتداخلت معا بطريقة شائنة في عهد "الفنان". أما المهرجان الأهم الذي يلقى احترام كل السينمائيين المصريين فهو مهرجان جمعية الفيلم الذي لا يمنح جوائز مالية بل مجرد شهادات ورقية، من خلال لجنة تحكيم متخصصة تتمتع بالمصداقية لا يعينها جهاز حكومي بل أعضاء مجلس ادارة تلك الجمعية التي نشأت أصلا كجمعية لهواة السينما.
أما في المغرب فقد أصبح يقام بانتظام منذ عشر سنوات مهرجان الفيلم الوطني في طنجة. وقد منح هذا المهرجان جائزة أحسن فيلم لفيلم "أجنبي" ناطق بالانجليزية يدعى "كل ما تريده لولا" الذي سبق أن أوليناه اهتماما كافيا في هذه المدونة.. وابحث تجد ما تريد!

السبت، 31 يناير 2009

ذاكرة السينما والتاريخ في روتردام



عودة رائد السينما التشيكية الجديدة - القديمة


من أهم "الأحداث" السينمائية هنا في مهرجان روتردام السينمائي هذا العام عرض الفيلم التشيكي "فتاة دينو فيراري" The Ferrari Dino Girl (لا أدري لماذا أصبح المخرجون الكبار يفضلون إطلاق أسماء طرز سيارات شهيرة قديمة على أفلامهم فقد أطلق كلينت إيستوود على أحدث أفلامه كمخرج اسم "جران تورينو" Gran Torino).
أما "فتاة الفيراري" فهو فيلم غير خيالي non- fiction للمخرج الأسطور التشيكي يان نيمتش Jan Nemec الذي اعتبر رائدا حقيقيا للسينما التشيكية الجديدة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي متأثرة بالموجة الجديدة الفرنسية، وكانت تقدم أفكارا شديدة الجرأة، شكلا ومضمونا- وتسبح ضد التيار السائد في السينما الذي عرف باسم "الواقعية الاشتراكية".
الحفل الضيوف
كان نيمتش صاحب فيلم "تقرير عن الحفل والضيوف" O slavnosti a hostech الذي اعتبر من أكثر الأفلام التشيكية نقدا للستالينية، بل وكانت الشخصية الرئيسية فيه ترمز إلى لينين نفسه.
وقد ظهر الفيلم عام 1966 أي قبل عامين من "ربيع براغ" أي تلك الحركة التي تزعمها الأمين العام للحزب الشيوعي نفسه الكسندر دوبتشك لتجديد الاشتراكية وجعلها ديمقراطية شعبية عن حق، والاستجابة لمطالب النخبة في ضرورة إتاحة حرية الفكر والنقد والانتقال.
وكانت أساسا حركة مثقفين لاقت تأييدا كبيرا وانتهت كما هو معروف تاريخيا، بدخول قوات حلف وارسو العاصمة التشيكية براغ، وإخماد الحركة واعتقال زعمائها وإعادة النظام القديم، فقد كانت نظرة الكرملين أنها "ثورة مضادة" يجب قمعها كما فعلوا في المجر عام 1956.
يان نيمتش من مواليد 1936 أي أنه كان في الثلاثين من عمره وهو يتألق ويقدم تحفته السينمائية "تقرير عن الحفل والضيوف" لكنه حاضر في روتردام بفيلمه الأحدث (يقول هو إنه قد يكون الأخير فالرجل يعاني من تدهور في حالته الصحة وقد أجرى جراحتين في الفترة الأخيرة، وبالتالي غاب بشخصه عن المهرجان وحضر بتاريخه وفيلمه).
الغزو السوفيتي
والفيلم يقدم ويروي ويستعرض تفصيلا .. كيف كان نيمتش السينمائي التشيكي الوحيد الذي تجرأ وصور فيلما وثائقيا عن الغزو السوفيتي (أو اقتحام قوات حلف وارسو) عاصمة بلاده.
وكان من أوائل الذين عرفوا بوصول القوات في الرابعة صباحا، وسار مع رفاقه في الشوارع وهم يصيحون بأعلى أصواتهم، ينبهون السكان إلى الخطر القادم، والسكان، كما يروي في الفيلم، ينهروهم باعتبارهم مجموعة من الشباب العابث فلم يكن أحد يتخيل أن موسكو ستجنح إلى على اختيار التدخل العسكري.
يعود نيمتش اليوم في هذا الفيلم، من خلال شخصية مخرج يلعبها ممثل، إلى الأماكن الحقيقية التي صور فيها ومنها الدبابات السوفيتية والناس يتجمهرون حولها، حرق الحافلات، واطلاق الرصاص، محاصرة جسور براغ الشهيرة ومنها أشهر وأعرق جسر في العالم وهو جسر تشارلز أو فاكلاف الذي يعود إلى القرن الرابع عشر (قمت بزيارة براغ مرتين واعتبرها من أجمل مدن أوروبا).
رحلة فيلم
ويروي الفيلم أيضا كيف تم تهريب نيجاتيف الفيلم وتسليمه للتليفزيون النمساوي قبل أن تصبح اللقطات التي صورها نيمتش أشهر اللقطات التي عرضت في العالم كله لدخول القوات إلى براغ. وقد تمكن نيمتش من اخراجها من تشيكوسلوفاكيا مع صديقة له، مشروع ممثلة شقراء برفقة صديق لها، بينما منعته السلطات من الخروج لكنه عاد وتحايل حتى يمر عبر الحدود وقام بنفسه بتسليم الفيلم إلى المسؤول النمساوي ولم يعد نيمتش إلى بلاده إلا عام 1989 بعد سقوط النظام السابق، وعمل وعاش أولا في ألمانيا ثم في الولايات المتحدة.
شخصية الممثلة والصديق يعاد تجسيدهما في الفيلم بممثلة وممثل، ويعود نيمتش إلى المنطقة الحدودية التي شهدت خروجهما، ويروي عن طريق صوت المعلق الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفترة، ويشرح كيف أنه فشل أولا في إقناع حراس الحدود بأنه إيطالي بعد أن ظل يردد كلمات إيطالية لا معنى لها واضح أنه حفظها من الأفلام، ثم كيف عاد واعترف بأنه تشيكي وقدم لهم جواز سفره.
ويروي أن الجنود السوفيت لم يفهموا شيئا مما حدث وكانوا يتطلعون إلى زملائهم التشيك الذين كان واضحا أنهم متعاطفين مع نيمتش بل إن أحدهم اقل له في النهاية: إن الجمهورية التشيكية ستبقى، وهو ما يدل على اشتعال الروح الوطنية بسبب صدمة الغزو السوفيتي.
مؤخرا فقط تمكن نيمتش من العثور على النسخة السلبية من فيلمه الوثائقي عن اقتحام براغ أو "اغتصاب تشيكوسلوفاكيا" كما يصفه هو. وهو يستخدم ذلك الفيلم القديم داخل الفيلم الجديد ويعرض كامل اللقطات التي اقتنصها بصحبة مصور بارع كان يصور أحيانا من داخل سيارة، وأحيانا في عرض الطريق، وتعرض الاثنان للموت عدة مرات، وكانا يلجآن إلى التصوير من داخل مساكن لا يعرفون أصحابها بل كان نيمتش يدق الباب وتفتح له سيدة مثلا، فيطلب الدخول للتصوير من شرفة مسكنها.. وهكذا.
خفة غير محتملة
لم تكن كاميرا الفيديو قد ظهرت وانتشرت على نحو ما نعرف اليوم، وكان نيمتش قد اتصل بمدير شاب للاستديو السينمائي الذي كان يعمل له وكان بالطبع من القطاع العام أي خاضع للدولة، وطلب منه ارسال مصور مع بعض عُلب الفيلم الخام على الفور، واستقل الاثنان سيارة نيمتش وشرعا في تصوير تلك الأحداث التاريخية الدرامية التي أعاد المخرج الأمريكي فيليب كوفمان تجسيدها في فيلمه الشهير "خفة الكائن غير المحتملة" The Unbearable Lightness of Being المقتبس من راوية للكاتب التشيكي الاصل ميلان كونديرا.
أما الفتاة الشقراء التي حملت نسخة الفيلم في حقيبة وتمكنت من خداع السلطات زاعمة أنها ايطالية الجنسية فقد كانت تقود سيارة فيراري، في حين أن نيمتش، كما يقول في فيلمه الجديد، كان يقود الطبعة الشعبية أي سيارة من نوع فيات.. لعله لايزال يحتفظ بها حتى اليوم!
لقاء مع شابرول
ولعل من أكثر الجوانب طرافة في الفيلم ما يرويه نيمتش عن أنه عندما كان في نيويورك، طلب المخرج الفرنسي الشهير كلود شابرول، وهو أحد رواد الموجة الجديدة مقابلته، وعندما التقيا بادره شابرول بالتساؤل عن الفيلم الوثائقي الذي سمع أنه صوره.. فأخذ نيمتش يروي له تجربته في تصوير الفيلم، فلم يبد أي حماس على شابرول الذي علق قائلا بنوع من الدهشة: ولكن السوفيت على حق فتشيكوسلوفاكيا تابعة لهم.. لقد كسبوها.
وكان رد نيمتش: كلا.. نحن لسنا تابعين لهم. فقال شابرول: لقد جاءت الدبابات عام 1945 لكي تحرر تشيكوسلوفاكيا من النازية.. فرد نيمتش قائلا: لكنهم انسحبوا وتركونا. فعلق شابرول دون يأس: لكنها أصبحت تابعة لهم هم حرروها بالدبابات وبالتالي أصبح هناك قانون الدبابات التي يمكنها أن تحضر في أي وقت.. فما هي المشكلة، تماما كما أصبحت بلدان أخرى تابعة للأمريكيين الذين اكتسبوها بالحرب. هذا قانون المنتصر في الحرب.
بعد برهة قال له شابرول: أنت مخرج موهوب قدمت "تقرير عن الحفل" الذي أعرف أنه كان فيلما جيدا، وأنت تستطيع أن تقدم أفلاما فيها الكثير من الجرأة من خلال خيالك الفني الخصب، فلماذا تشغل نفسك بأفلام وثائقية حول قضايا تحسمها الدبابات سيختلف حولها التاريخ، فضلا عن أن أحدا لا يريد أن يراها!
يعلق نيمتش في الفيلم على عبارة شابرول الأخيرة قائلا: ربما كان شابرول على حق!

الجمعة، 30 يناير 2009

روتردام: إغلاق مجلة سينمائية عظيمة


* مسلسل توقف وإغلاق مجلات السينما المتخصصة في الثقافة السينمائية الرفيعة مستمر مع الإعلان خلال مهرجان روتردام المنعقد حاليا عن توقف إحدى أهم مجلات السينما الأوروبية وهي مجلة "سكرين" Skrien أو الشاشة الهولندية بعد أربعين عاما من الصدور المنتظم شهريا.
وأعلن رئيس تحرير المجلة، أندريه واردين، أن "مجلس الثقافة" الحكومي الذي كان يدعم المجلة ماليا قد أبلغ هيئة التحرير قبل ستة أشهر من احتفالها بعيد ميلادها الأربعين في نوفمبر الماضي، أن الدعم سيتوقف.
هل هذا نتاج للأزمة الاقتصادية العالمية؟ رئيس تحرير "سكرين" يستبعد أن تكون الأزمة هي السبب، ويضيف أن المجلس الحكومي لدعم الثقافة لا يرغب في دعم مشاريع ثقافية بل يفضل الاستثمار في مشاريع تحقق ربحا من الناحية التجارية.
بعد أن أبلغت ادارة المجلة من طرف وزارة الثقافة الهولندية بوقف الدعم اعتبارا من أول يناير الجاري بحثت هيئة التحرير عن جهة أخرى تدعمها لكي تستمر في الوجود لكنهم فشلوا في ذلك.
هذا هو الجانب السيء من الخبر.
أما الجانب الجيد فيتلخص في أن المديرة السابقة لمهرجان روتردام (أجريت معها مقابلة منشورة قبل 3 سنوات) ساندرا دن هامر التي تركت المهرجان لكي تتولى إدارة متحف السينما في أمستردام، تعتزم إصدار مجلة جديدة بعنوان جديد وقد عرضت أن يتعاون طاقم تحرير مجلة "سكرين" مع المجلة الجديدة التي ستصدر على غرار "سايت آند ساوند" التي يصدرها مركز الفيلم البريطاني الذي يحصل على دعم مالي من وزارة الثقافة البريطانية ومهمته الحفاظ على السينما كثقافة وتاريخ، ورعاية دار المحفوظات السينمائية (الأرشيف)، وعرض مختارات من الأعمال السينمائية الفنية على مدار العام من خلال نافذة عروضه في "مسرح الفيلم الوطني".
يقول أندريه واردين إن المجلة السينمائية الجديدة ستصدر اعتبارا من الخريف القادم، وسيتركز اهتمامها أيضا على قضايا السينما الفنية، سينما المؤلف، وتاريخ السينما، وقضايا الثقافة السينمائية والتذوق.
لكنه يعلق بحزن قائلا إن النقاد في هولندا يفقدون وظائفهم، والصحف لم تعد ترحب بالنقد بل تفضل الكتابة عن نجوم السينما.. أليس الحال من بعضه كما يقولون!
* سوق الأفلام في روتردام اختتمت أمس، ولوحظ احجام الموزعين البريطانيين الباحثين عن الأفلام الفنية المتميزة عن الدخول في صفقات هنا ، والسبب الأساسي اقتصادي بحت أيضا، أي تدهور قيمة الجنيه الاسترليني أمام العملية الأوروبية (اليورو) وامام الدولار الأمريكي. وهو ما يجعل الأسعار أكثر ارتفاعا عما كانت عليه بكثير في الصيف الماضي قبل أن تلقي الأزمة العالمية بثقلها.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger