الجمعة، 21 يونيو 2019

مشكلة الترجمة





بعض من يكتبون عن السينما لا يحترمون الترجمة، بل إن "المجتمع الثقافي" العربي بشكل عام، لم يعد يحترم الترجمة، فقد صارت الترجمة مهنة على المشاع، أي مهنة يمارسها كل من يعرف، ومن لا يعرف. والمقصود بالمعرفة ليس فقط معرفة اللغة الأجنبية التي يترجم عنها، أو أصول اللغة العربية التي يترجم إليها، بل معرفة وإلمام كاف بالمادة موضوع الترجمة، فترجمة كتاب في جانب من جوانب الفن السينمائي مثلا، ليس مثل ترجمة كتاب في العلوم الطبيعية. فلكل مادة المتخصصون فيها.

لم يعد هذا، بكل أسف، هو الحال، بل أصبحنا نرى الكثير من الكتب التي تصدر في الغرب، سرعان ما يتم تعليبها في ترجمات عربية سريعة، رديئة، استهلاكية، فيها قدر كبير من الضحك على ذقون القراء.

من هذه الكتب، على سبيل المثال، كتاب روجيه جارودي "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" الذي صدرت منه فور صدوره في فرنسا، ترجمة عربية رديئة للغاية، معظمها كلام خاطيء أوغير دقيق، وكان الهدف انتهاز فرصة ما أثاره الكتاب من ضجة في فرنسا والعالم، لبيع أكبر كمية منه دون تدقيق بل ودون فهم لمادة الكتاب ممن تولى الترجمة. بعد ذلك، صدرت ترجمة جيدة من الكتاب نفسه، ولكن بعد ان كانت الترجمة الرديئة قد انتشرت وثرأها الكثيرون، فأدت الغرض منها، أي إفساد مضمون الكتاب وتقديم مادة مثيرة حراقة يريدها بعض القراء وينتظرونها، وتدفع من أجلها بعض دور النشر وترحب بنشرها، ولتذهب الأمانة والدقة العلمية إلىالجحيم!

وهناك أحيانا مترجمون من الكبار، أي من أساتذة الأدب الانجليزي، قد لا يعرفون جيدا المادة التي يترجمونها أو يقتبسون منها في كتبهم، رغم معرفتهم باللغة الإنجليزية وآدابها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتوفرة لمن يبحث ويجتهد. وقد لمست بنفسي نموذجا لما أقوله، كتابا صدر منذ سنوات عن "الهولوكوست" مبني بكامله على ما يدعوه مؤلفه، وهو من أساتذة الأدب الإنجليزي طمحاكمة ديفيد إرفنج في لندن" عام 2000 في حين أن إرفنج لم يكن يحاكم بل هو الذي قاضى أساتذة الأدب اليهودية الأمريكية ديبور ليبشتادت، بسبب اتهاماها له علاية، بالكذب والتضليل.

ولعل من أجمل ما قرأت في معرض التعبير عن فوضى الترجمة والكتابة، ما قاله محمد حسنين هيكل ذات مرة: "نحن نؤلف ونحن نترجم، ونترجم بينما نؤلف"!

أما ترجمة الكتاب السينمائي فمأساة أخرى، فالكثير من المترجمين "الهواة" يتطوعون ويطرحون أنفسهم على بعض دور النشر باعتبارهم ضالعين في المجال، لكي يحصلوا على ترجمات لكتب السينما، لا تعكس أي فهم أو معرفة بعالم السينما، وفنها وأبجدياتها، بل تأتي كل أسماء الأفلام مضحكة، وأسماء المخرجين المرموقين، هزلية، والكثير من المعلومات التي تكتب تناقض الحقيقة تماما، فهناك- على سبيل المثال من ترجم تعبير "لا نوفيل فاج" ومعناها "الموجة الجديدة"، وهو تعبير فرنسي شهير يعرفه كل دارسي السينما في العالم، إلى "الرواية الغامضة". وهناك من يترجم مصطلح "الترافلنج" المقصود به حركة الكاميرا في متابعة لحركة شخصية أو أكثر، إلى "حركة الرحيل".. وهكذا!

والمشكلة أن لا أحد يهتم بأن يلفت النظر إلى هذا التهريج باسم الترجمة، فالمهم أن تتراص الكتب ويباع منها أكبر كمية بفعل العناوين الجذابة والصور المثيرة، ولا يهم أن تنتشر بين القراء مفاهيم مغلوطة، ومصطلحات لا معنى لها. فالسينما - كما يراها البعض في عالمنا العربي- مجرد رجز من عمل الشيطان!

الأحد، 2 يونيو 2019


ولغة النقد لا يجب أن تكون مجرد لغة انشائية أدبية مفتعلة تتلاعب بالألفاظ وتدخلك في سياق من العبارات المبهمة المنفصلة العمومية التي تبدو من الظاهر تقليدا باهتا لبعض ما ينشر في مجال الشعر المنثور الشعوائي الذي يفتقد للمعنى أصلا.. ففي حالة مثل هذا النقد، لا يمكنك أن تضع يدك على مفاصل العمل الفني، ولا أن تفهم لماذا يطنب الكاتب في مديحه على نحو ما يفعل، ولا أن ترصد عناصر الجمال فيه، فهي مجرد تهويمات من خيال شخص إما أغرق نفسه في الخمر قبل أن يبدأ في كتابة "تجلياته" الشخصية الانطباعية الساذجة، أو قرر مسبقا أنه لابد أن يعجب بل ويترك نفسه أيضا ينتحر في في ثقافة معينة، خاصة كل ما يأتي من اسرائيل التي يشعر امامها بالدونية والانسحاق والانبهار مع كراهيته لمحيطه وثقافته ورفضه لكل ما يصدر عن المحيط الذي يعيش فيه، أو من فرنسا وثقافتها التي يسبح بحمد كل ما يأتيه منها باعتباره "غير قابل للنقد" أصلا، ومن لا فهمه أن يستوعبه أو يدبي اعجابه به كما يفعل المنبطح، فهو لا يفهم، ولا يعرف، ولا يمتلك الأدوات الانبطاحية التي يمتلكها هو بعقده النفسية الخطيرة النابعة من وجوده الملفق بل وأحيانا أيضا اسمه الملفق ووضعه (القدري) في مجتمع ثقافي يعجز عن التآلف معه بل وينفر منه ويعاديه، وكلما وجد غيره يكتب ما يعتبره كشفا لضحالته وجهله تزداد عدوانتيه تجاه الآخر. وكلها ظواهر هلامية طفحت فوق جلد واقعنا الثقافي بسبب غياب الجرأة على التصدي لها وفضح تهافتها أمام القاريء، لكن القاريء أذكى ممن يحاولون الضحك عليه بالعبارات الانشائية الفارغة من المعنى.

السبت، 12 يناير 2019

المهرجانات بين المدفع والعامة




حضرت الكثير من المهرجانات السينمائية التي تقام في الشرق والغرب، في العالم العربي وخارجه، وشاهدت كيف تُفتتح المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم، مثل مهرجانات كان وفينيسيا وبرلين وسان سباستيان وغيرها، ولاحظت أن مقدم (أو مقدمة) الحفل، يكون عادة هو نجم حفل الافتتاح، شخصية إعلامية لامعة محبوبة من طرف الجمهور في البلد المضيف. وقد يقدم هذا "النجم الإعلامي" المحترف رئيس المهرجان الذي يقدم بدوره لجان التحكيم، وربما يلقي كلمة مقتضبة يرحب فيها بالضيوف ويعلن افتتاح الدورة قبل أن يبدأ عرض فيلم الافتتاح.
وفي حالة حضور وزير الثقافة إلى حفل الافتتاح، لا يصعد على خشبة المسرح، ولا يلقي خطبة إنشائية حول "دور السينما في إعادة بناء الإنسان".. وكل هذا اللغو الذي يتكرر في البلاد التي مازال يسيطر على عقول المسؤولين فيها هاجس توجيه الفنون للدعاية لمنجزات السلطة السياسية.
من بين الكثير الذي شهدته شرقا وغربا، هناك حالتان استثنائيتان تختلفان عما يحدث في العالم كله، الحالة الإيرانية والحالة المصرية.  ففي إيران التي تخضع فيها جميع مؤسسات الثقافة وغير الثقافة للمؤسسة الدينية، تُفتتح مهرجانات السينما بتلاوة القرآن الكريم حيث يجلس مقرئ فوق مقعد منصة المسرح، ويقرأ أمام الجمهور لعدة دقائق. وفي مصر التي تخضع مجريات الأحوال فيها للمؤسستين الأمنية- العسكرية، تفتتح المهرجانات بالنشيد الوطني، هنا يهب جميع الحاضرين بمن فيهم الضيوف الأجانب، واقفين تحية للوطن أي للدولة المضيفة.
في الحالة الأولى، يعلو المفهوم الديني فوق الفن بل وفوق كل شيء، وفي الحالة الثانية،  يعلو مفهوم الوطن بمعناه الضيق الذي يتمثل في الجيش، خاصة وأن السلطة المصرية تتدخل في جميع المهرجانات الدولية التي تقام في مصر، فتخضع أفلامها للرقابة، وتعتبرها ملكا لها، سواء حصلت على دعم منها أو لم تحصل، ولذلك يحرص وزير الثقافة على افتتاح كل ما يقام من مهرجانات سينمائية بما في ذلك التي لا تنظمها وزارته، ولابد أن يصعد الوزير إلى المنصة، لكي يلقي خطبة طويلة حول دور السينما في "إعادة بناء الإنسان".
لا يوجد اختلاف كبير بين ما يحدث في إيران وما يحدث في مصر، ففي إيران في خضم حالة "الهستيريا الدينية" المهيمنة، يصعد ممثلو السلطة الدينية إلى المنصة بأزيائهم التقليدية وعماماتهم يتناوبون على إلقاء خطابات تمتليء بالعبارات الدينية، وكلما وردت في سياق خطاب المسؤولين ذكر رسول الله (ًص) إلا ونهض الحاضرون جميعا ليرددوا في نفس واحد "الله صلي على محمد وعلى آل محمد"، وهو سلوك يرغم الحاضرين من الضيوف الأجانب، على الوقوف وهم يتطلعون حولهم في خوف ووجل دون أن يفهموا بالطبع، هل هم في حفل افتتاح مهرجان سينمائي أم في مسجد وسط حشد يستعد للصلاة.
أذكر أنه في حفل افتتاح أحد مهرجانات السينما (الدولية) التي تقام في مصر، احتفل المنظمون وقتها بمرور خمسين عاما على "ثورة" 23 يوليو 1952، فأعدوا احتفالية خاصة بنجوم السينما الذين كانوا في الأصل ضباطا في الجيش، ثم عرضوا فيلما وثائقيا حربيا من حرب أكتوبر 1973 في إطار تحية الضباط والجنرالات السابقين الذين تراصوا فوق خشبة المسرح، ووسطهم وقف "السيد اللواء المحافظ"، وفوجئ ضيوف المهرجان من الأوروبيين والآسيويين بما يحدث، وخصوصا بالفيلم الذي يمتليء بقصف الطائرات الحربية، وهدير الدبابات، والقذائف المدفعية والصاروخية، وكأنهم أصبحوا فجأة وسط تظاهرة عسكرية: فعلى المسرح ضباط أو ممثلون كانوا ضباطا، وعلى الشاشة فيلم حربي تصحبه موسيقى عسكرية صاخبة.
لم يدرك المسؤولون عن المهرجان والاحتفالية أن هذا الاستعراض فيه إساءة كبيرة للمهرجان فمعروف أن المهرجانات تقام عادة في أجواء مدنية من السلام والاسترخاء والأمن، لا في أجواء الحرب والعسكرة!
وطرائف المهرجانات العربية كثيرة على أي حال، نكتفي بهذا القدر منها.

مفارقات في التاريخ






لم أفهم أبدا مواقف بعض أصدقائي المثقفين من الأحداث السياسية ولم أستوعب أبدا أن يكون للمرء موقفان، واحد معلن والثاني سري أو جاهز للإعلان عندما يقتضي الأمر أو عندما تقتضي الظروف وتسمح.

كان هذا على سبيل المثال موقف الكثير من "المثقفين" من ثورة يناير 2011 في مصر التي بدأها شباب لا ينتمي لكتل أو تنظيمات سياسية، وكانت شعاراتهم بسيطة للغاية، فقد كانوا يطالبون بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولم يكن هؤلاء الشباب سوى تعبير عن الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري، بل ربما كانوا في مطالبتهم بـ "الخبز" تحديدا يطالبون به لغيرهم من سواد الشعب، فهم من أبناء الطبقة الميسورة الذين تلقوا تعليما عاليا وكانوا في معظمهم يشغلون مناصب ومواقع مرموقة أي لم يكونوا يعانون أساسا من ضيق ذات اليد، لذلك كانت مطالبهم الأخرى استكمالا لمطلب العيش أو الخبز، تتعلق بالحرية والكرامة وهي من أوليات حقوق الإنسان.

وعندما كانت الصورة تعكس انتصار الثورة وتشير إلى أن التغيير قادم لا محالة، اتخذ عدد من المثقفين مواقف مؤيدة للثورة ومنحازة لمن قاموا بها بعد أن كانوا يشككون ويتشككون فيها، بل وهناك البعض منهم أدانوا أنفسهم وعبروا عن شعورهم بالخزي والعار أمام هؤلاء الشباب الذين كشفت مواجهتهم البطولية مبادرتهم بإعلان الغضب، عن تخاذل وضعف الكثير من المثقفين الذين رضخوا وروجوا طويلا للخضوع للسلطة.

وعندما بدا أن جماعة الإخوان المسلمين توشك أن تقفز على السلطة في ظروف مريبة عجيبة أثارت الكثير من التساؤلات، كتبت وقتها مرارا وتكرارا على مدونتي الخاصة، أحذر من احتمال أن تنتهي الثورة لصالح قوة رجعية معادية للتاريخ مثل الاخوان المسلمين. وفي فترة الغموض والاضطراب التي جاءت بعد رحيل مبارك، تحدثت عبر شاشة قناة محسوبة على تيار إسلامي في لندن، وفندت أكاذيب الاخوان ومزاعمهم مما أحرج المذيع الذي استضافني في برنامجه، وكان لعودتي للظهور فيما بعد ونقدي الشديد لفكر الإخوان، سببا في إلغاء البرنامج.

وقد توقفت أمام مشهد "هبوط" يوسف القرضاوي الزعيم الروحي للإخوان، على منصة الخطابة في ميدان التحرير فيما عرف بـ "جمعة النصر" وهو ما شبهته بعودة الخميني من باريس إلى طهران وركوبه الثورة الإيرانية.

وأسعدني أن يتفق معي في هذا الحدث، محمد حسنين هيكل الذي استخدم نفس الوصف في مقابلة أجراها معه محمود سعد في التليفزيون المصري (بتاريخ 20 فبراير 2011)، لكن ما كان صادما بالنسبة لي هو موقف الصديق الناقد الراحل سمير فريد الذي لم أفهمه أبدا، فقد كتب مقالا في "المصري اليوم" بتاريخ 19 فبراير 2011، تحت عنوان "القرضاوي في إحدى أعظم خطب العصر الحديث يؤكد استمرار الثورة" قال فيه:

"خطبة القرضاوي في ميدان التحرير، أمس، أمام ما يقرب من ثلاثة ملايين مصري في احتفال جمعة النصر، من النصوص التي يجب أن تدرس للطلبة والطالبات مع استئناف الدراسة في المدارس والجامعات بعد نجاح الثورة". ثم مضى يقول:

"كم ابتذل تعبير "خطاب تاريخي"، حيث أطلق على أي كلام فارغ يردده أي ديكتاتور يحكم بالقوة المسلحة ضد إرادة الشعب، ولكن ها هو خطاب القرضاوي يعيد المعنى الحقيقي لعبارة "الخطاب التاريخي"، بل إنه من أعظم الخطابات في العصر الحديث، في مصر والعالم، مثل خطاب مارتن لوثر كينج في أمريكا "لدىّ حلم"، ومن قبله خطاب غاندي في الهند، ومن بعده خطاب مانديلا في جنوب أفريقيا".

ولم يكن أمامي سوى أن أتذرع بالصمت، ولم يكن لدى سمير ما يقوله بعدما أسفر القرضاوي وجماعته عن وجوههم القبيحة. وكنت أعلم جيدا أن للتاريخ أكثر من وجه، ومن وجوهه الظالمة أن يصبح أشد أعداء الإخوان، "محسوبا على الإخوان" كما روج بعض المنتفعين والمرتزقة فيما بعد. وهو موضوع يطول فيه الحديث!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger