السبت، 11 يوليو 2015

هل المسلسل التليفزيوني فن؟





يطلق الكثيرون على المسلسلات التليفزيونية "الدراما" أو "الأعمال الدرامية"، وهو في رأيي، تعبير خاطيء لأن الدراما موجودة أساسا في المسرح وكذلك في الأفلام السينمائية. ولذلك يظل التعبير الأكثر دقة هو "المسلسل التليفزيوني"، وليس الدراما. ولاشك أن المسلسل التليفزيوني يلقى إقبالا كبيرا من جانب الجمهور في العالم العربي، بعد أن تقلصت فرص الذهاب لمشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي، إما لقلة دور العرض أو غيابها بالكامل، أو عدم ملائمتها، كما أن المسلسل التليفزيوني يجذب أفراد الأسرة جميعا، لمشاهدته "مجانا" دون حاجة للخروج من المنزل، أو بسبب سهولة متابعة أحداثه، وبساطة بنائه الدرامي وعنصر التشويق الذي يدخله صناع المسلسلات في كل حلقة لكي يضمنوا عودة المشاهدين لمتابعة الحلقات التالية.

يختلف المسلسل التليفزيوني كثيرا عن الفيلم السينمائي، فبينما يعتبر الفيلم عملا مغلقا، أي يمكنك مشاهدته في جلسة واحدة تستغرق ساعتين أو ثلاث ساعات على الأكثر، يمكن للمسلسل التليفزيوني أن يمتد لأشهر بل لسنوات عدة. والفيلم السينمائي عمل فني له أصول وأسس علمية، وهو عادة ما يعبر عن رؤية مؤلفه ومخرجه، التي ترتبط باختيار الشكل الفني المناسب للتعبير عن موضوعه، ولكن يمكن القول إن المسلسل التليفزيوني، شكل فني "مبتدع"، هدفه الأساسي الترويج للإعلانات التجارية التي تعرض على شاشة التليفزيون. أي أن ظهور المسلسل لم يكن نتيجة تطور فني طبيعي، أو كنتاج لحاجة فنية إبداعية تلح على المبدع وتدفعه للتعبير من خلال ذلك الشكل المتسلسل، فليس هناك شكل فني متسلسل، فإذا جعله المبدع كذلك، فلكي يلبي احتياجات أخرى خارجة عن نطاق وجوهر عملية الإبداع الفني.

ولعل من الطريف أن نعرف أن التعبير الشائع لوصف المسلسل التليفزيوني في الولايات المتحدة هو "سوب أوبرا" soap opera أي "أوبرا الصابون"، وهو تعبير نشأ من ارتباط هذا النوع من الأعمال الدرامية المصورة في بدايته بإعلانات الصابون في الراديو ثم التليفزيون، ولأن شركات إنتاج الصابون، كانت هي الجهات الراعية لانتاج المسلسلات، وكانت تلك المسلسلات تصمم وتنتج أساسا، لكي تخاطب النساء وتخضع لذوقهن السائد، أو تستخدم للترويج للسلع "النسائية". وقد تميزت "أوبرات الصابون" باحتوائها على الكثير من المبالغات الميلودررامية، والشخصيات التي تستدر التعاطف والدموع، وهي تدور عادة حول حياة "نجوم المجتمع" من الأثرياء والفنانين الذين يعيشون حياة مرفهة، ولكنهم رغم ذلك، يعانون من أزمات اجتماعية ونفسية في علاقاتهم العاطفية والزوجية.

كان الهدف من ظهور المسلسل في البداية إذن، هدفا تجاريا لخدمة شركات الإعلانات، وهو لايزال كذلك حتى اليوم، أي أن المسلسل ظاهرة تجارية وليس ظاهرة فنية، على العكس من الفيلم السينمائي الذي ظهر أساسا كظاهرة فنية ثم استغلته الصناعة للترويج لسلع كثيرة أخرى. وإذا تأملنا تكوين الفنون السبعة المعروفة مثل العمارة والفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والسينما، لما عثرنا على أي شكل من أشكال التسلسل يرتبط بهذه الفنون، فالأصل في الفن هو التعبير الذاتي من جانب الفنان عن رؤيته الاجتماعية الفلسفية والفنية. والإبداع الفني موقف فلسفي وجمالي، لا يخضع لدراسات الجدوى الاقتصادية، وإن كان هذا لم يمنع من ظهور نوعية معينة من أفلام هوليوود تنتج طبقا لمواصفات محددة سلفا، لجذب قطاعات عريضة من المستهلكين، وهي ما تعرف بأفلام "بلوك باستر" blockbusters التي تنتمي لصناعة السينما أكثر من صلتها بفن السينما. وتظل فكرة المسلسل أو الحلقات المتسلسلة شكلا مفتعلا لا نظير له في الفنون المعروفة، فلا توجد لوحة فنية، أو مسرحية، أو قصيدة، أو مقطوعة موسيقية متسلسلة.

ويقتضي المسلسل متابعة حلقاته لا يفوتك منها شئ لمدة قد تمتد لسنوات، كما في حالة المسلسل الأمريكي "الضوء الهادي" The guiding light الذي بدأ أولا في الراديو عام 1937 ثم انتقل للتليفزيون عام 1952، وعرضت الحلقة الأخيرة منه في سبتمبر 2009. وبلغ عدد حلقاته 16 ألف و792 حلقة!

أما المسلسلات العربية التي تنتج في ثلاثين وأربعين حلقة، وترصد لها ميزانيات ضخمة، فيتعين عليك العودة كل ليلة، خصوصا خلال ليالي شهر رمضان، لكي تعرف ما الذي سيحدث لأبطالها في صراعاتهم وتناقضاتهم، من سيعيش ومن سيموت، ومن سيدخل السجن، ومن سينتصر على الواقع ويحقق حلمه. ويتعمد المخرج والمؤلف، الإطالة، حتى لو ابتعدا عن بؤرة العمل الدرامية، للدخول في تفاصيل جانبية مفتعلة، مع إيقاع بطيء يعتمد على المشاهد الطويلة التي يستغرق الواحد منها أحيانا تسع دقائق أو أكثر على الشاشة، ولا يزيد عدد لقطاته عن 3 أو 4 لقطات، بينما لا يستغرق المشهد السينمائي عادة أكثر من دقيقتين أو ثلاث دقائق، وقد يتضمن 10 أو 20 لقطة.

ورغم ضرورة متابعة المسلسلات حلقة بعد أخرى، لكي لا تفوتك منها حلقة، إلا أن ظهور وسائل التسجيل الحديثة، جعل من الممكن تسجيل ما فات من حلقات والعودة لمشاهدته، وأحيانا مشاهدة جميع حلقات المسلسل مرةواحدة عبر موقع يوتيوب مثلا. لكن هذه الوسيلة، تزعج شركات الإعلانات، لأنها تحرمها من قطاع كبير من الجمهور، فتنخفض بالتالي نسبة المشاهدة، وينخفض دخلها، فهدفها هو جذب المشاهد للمتابعة اليومية، لكي "يبتلع" إعلاناتها!

لاشك في وجود بعض المسلسلات المتميزة فنيا، التي تتبع أسلوبا يقترب من طريقة العمل في السينما، وتتميز بالاتقان الحرفي والبراعة الفنية أيضا. لكننا نناقش هنا مقالي مفهوم "التسلسل" في العمل الدرامي، ومدى قربه أو بعده عن الإبداع الفني بالمعنى الشابق شرحه.

ولعل غياب نقد المسلسلات و"نقاد المسلسلات" المتخصصين، يرجع إلى صعوبة أو استحالة التقييم الفني للمسلسل التليفزيوني الذي يمتد لحلقات طويلة، فكيف يمكن للناقد أن يحكم على الإيقاع العام للمسلسل في حين أنه مكون من حلقات متصلة- ومنفصلة، فقد يصعد الإيقاع هنا، ثم يهبط وينحدر في الحلقة التالية، وكيف يمكن له أن يحكم على تناغم الضوء ومستوى الصوت وعلاقة الممثل بالمكان، وغير ذلك، في حين أن هذه العناصر تتغير من حلقة إلى أخرى. وربما يكون مقبولا التعامل النقدي مع المسلسل المنفصل الحلقات، أي الذي تروي كل حلقة من حلقاته قصة ما، تدور حول شخصية من شخصياته، ويمكن أيضا أن يتناوب على إخراج حلقاته عدد من المخرجين، ولكن هذا النوع من المسلسلات غائب بكل أسف، عن الساحة العربية.

على أي حال، ما عرضته هنا ليست سوى افكار قابلة للمناقشة والبحث وإعادة النظر. وأيا كان الأمر، يظل من المهم  دراسة التأثير الكبير للمسلسلات على الجمهور العربي.

نشر في شبكة الجزيرة دوت نت بتاريخ 7 يوليو


السبت، 4 يوليو 2015

مليار دولار من أجل الديناصورات!




في أحد المشاهد المبكرة من فيلم "العالم الجوراسي" Jurassic World يقول عرفان خان- الذي يقوم بدور المستثمر الرئيسي في حديقة الديناصورات المخصصة لتسلية السياح والأطفال على شاكلة ديزني لاند ولكن بديناصورات حقيقية، يقول لمديرة الحديقة الشاسعة: "إننا نريد أن نرى "ديناصورات أكبر.. بأسنان أكبر". وهذا تحديدا ما يبدو لي أنه كان الهدف الأساسي من وراء إنتاج هذا الفيلم، وهو الرابع في سلسلة أفلام الديناصورات التي بدأها المخرج ستيفن سبيلبرغ عام 1993 بفيلمه الشهير "العالم الجوراسي".

ديناصورات أكبر، وأسنان أكبر، ومناظر أكثر إثارة، تجسد الصراع بين الإنسان والديناصور الشرير، وكيف يمكن للإنسان ترويض الديناصورات الطيبة، وتطويعها لخدمته في الخير، وليس في الحرب كما يرغب أحد القادة العسكريين الذي يضع خطة "شريرة" للتحكم في الديناصورات واستخدامها في الحروب التي تشنها الولايات المتحدة لتقليل الخسائر البشرية، وعندما يشاهد الديناصورات العملاقة وقد انطلقت من عقالها، وأصبحت تعيث دمارا وتخريبا وقتلا في الناس، يعلق في حسرة واضحة: "آه لو كنا استخدمناها في تورا بورا"!

تعتمد "التركيبة" هنا على استخدام الأطفال كالعادة، والمرأة ولكن كنموذج جاف معقد في البداية، ترفض الانصياع للرجل- الفتوة، ثم تنصاع أمام قوته وشجاعته، وتقبل الانضواء تحت معطفه، كاشفة عن ضعفها التقليدي الذي تكمن فيه جاذبيتها الجنسية!

ليس سهلا أن يقاوم المرء الذهاب لمشاهدة هذا الفيلم الجديد، رغم أنك تعرف مسبقا محتواه، وتدرك سذاجة فكرته، ولكن ما يدفعك لمشاهدته الإطلاع على ما يمكن أن يضيفه للقصة التطور الكبير الذي حدث في مجال تكنولوجيا الصورة، وبعد أن بلغت تكاليف إنتاج الفيلم ما يقرب من 200 مليون دولار، معظمها أنفق على المؤثرات، وحقق الفيلم حتى كتابة هذه السطور، أي بعد عشرة أيام من بدء عروضه العالمية، مليار دولار!

المؤسف بعد ذلك أنني وجدت أن قصة الديناصورات والعالم الجوراسي الخيالية، التي لقيت من قبل اقبالا من جانب الكبار والصغار، فقدت طزاجتها وحيويتها، بل وبراءتها، ففي هذا الفيلم الجديد، لا يجب أن تسأل عن السيناريو، فليست هناك شخصيات مقنعة تتمتع بأبعاد وملامح واضحة، وليس هناك إخراج يضارع على الأقل أو يقترب من مستوى إخراج سبيلبرغ في الفيلم الأول. وستجد أن البطولة الحقيقية في الفيلم للمؤثرات الخاصة، التي تعتمد بالطبع على تقنية توليد الصور المتحركة من أنظمة الكومبيوتر أو ما يعرف بـ "CGI"، لدرجة أنك تشعر بأن الحديقة التي يفترض أنها تدار بأحدث أنظمة التحكم الالكتروني وأكثرها دقة في العالم، كان من الأفضل تجسيدها وتجسيد أحداث وشخصيات الفيلم، من خلال عالم الرسوم "الكارتون"، أوما يعرف بـ "التحريك"، ولاشك أن الفيلم كان سيصبح أكثر إقناعا وقدرة على الإمتاع لو كان قد صنع كفيلم من أفلام الرسوم المتحركة.

الفيلم يصيب عشاق السينما الحقيقية الرفيعة بالاحباط الشديد، فعندما يصبح "العالم الجوراسي" هو النموذج الذي يندفع لمشاهدته الملايين من جمهور السينما في العالم، وعندما تجد أن ديناصورات السينما تخرج ألسنتها لأفلام الفن الرفيع وتدفع بها إلى الظل والظلام، فلابد أن تشعر بنوع من الإحباط، فهل هذا ما وصلنا إليه بعد كل ما كشفت عنه السنيما من قدرات هائلة على تصوير أكثر المواضيع حساسية ورهافة، بما يتجاوز لغة الشعر والأدب الرفيع والفن التشكيلي والموسيقى؟ لاشك أن ديناصورات العالم الجوراسي تضعنا اليوم أمام مأزق كبير!

 

السبت، 27 يونيو 2015

عن النقد السينمائي والصحافة والسيميائيات







منذ أن وعينا على الكتابة وعالم النقد السينمائي، ونحن نرى ونسمع ونقرأ ويمر علينا بين كل يوم وآخر، من يخصصون وقتهم لنقد النقاد العرب، والتقليل من قيمة ما يكتبونه.
وبدلا من أن يركز هؤلاء جهودهم على تطوير مناهجهم ولغة كتاباتهم ويتوسعون في الإطلاع على أعمال السينما العالمية ويعودون للقراءة في شتى مجالات المعرفة خصوصا التاريخ والفلسفة والأدب، يأتي هؤلاء ليعطونا دروسا في النقد، مع إبداء الازدراء للنقد القائم بل والشطب عليه بالكامل، أو إعتباره مجرد "مراجعات" سينمائية وليس نقدا. وعادة ما تتم أيضا مقارنته مع النقد الغربي (خصوصا الفرنسي) الذي أصبح "كعبة" لدى البعض ممن يدورون في فلك تلك الثقافة الأخرى.
ينسى هؤلاء أو يتجاهلون عمدا، أن هناك مستويات للنقد، وأن ما يمكن نشره في مقال من 1000 كلمة مثلا في صحيفة ما، يختلف بالضرورة عن دراسة منهجية عميقة من عشرة آلاف كلمة مثلا، أو عن كتاب متخصص في موضوع واحد، فليس من الممكن أن يحتوي مقال من هذا النوع على ما يريدونه من "تنظير"، لكن الأهم أن يكون مستندا إلى منهج واضح في فهم وقراءة وتفكيك العمل وتحليل العلاقات بين الصور في داخله، من دون تقعر، وفي حدود المساحة التي يتحملها "القاريء المتوسط" الذي يتوجه إليه الناقد بل ويجب أن يكون توجهه الأساسي إليه، كما أن مقالا كهذا من الممكن أيضا أن تتحمله الصحيفة أو المطبوعة أو الموقع، خصوصا إذا لم يكن من النوع المتخصص في النقد السينمائي.
يتصور البعض أن "النقد العلمي" الصحيح يجب أن يعتمد على السيميائيات أو علوم السميوطيقا، أي التحليل الذي يرتبط بنظريات ظهرت في عالم نقد النصوص واللسانيات، وتهتم بنظام الإشارات والعلامات الكامنة داخل النصوص الأدبية وبالعلاقات التي تربط بين المفاهيم والعلامات والأفكار. وكلها يمكن أن يشملها المقال النقدي من دون أن يتباهى بالإشارة إلى أنه يعتمد على "السيميائيات" أو يردها إلى أساتذتها الغربيين الذين يغرم كثير من مثقفي العرب بذكر أسمائهم في ثنايا مقالاتهم حتى يضفوا عليها نوعا من الأهمية، أمثال فردينان دو سوسيور ورولان بارت وكلود ليفي شتراوس وغيرهم. كما أن هناك أيضا من يعتقدون أن ذكر اقتباسات (عادية تماما) من أقوال سينمائيين معروفين عالميا، يضفي على مقالاتهم أهمية خاصة رغم أن الناقد يمكنه أن يعبر عن المعنى ذاته دون أن يشير إلى اقتباسه من مخرج معين، لكنها تلك الحالة من الدونية التي تسيطر على الكثير من الكتاب!
لاشك أن منهج البنيوية والتفكيكية الذي يرتبط بالأبحاث السيميائية التي تهتم أساسا باللغة وتدور في دائرة "فلسفة اللغة"، قد أضافت إلى علوم النقد الأدبي والسينمائي أيضا، لكن بعض الأساتذة العرب من القادمين إلى نقد السينما من أجناس أخرى، يميلون إلى الاعتقاد ان النقد السينمائي الوحيد الصحيح هو النقد الذي يقوم على السيميائية، وماعداه لا يعد نقدا بل مجرد انطباعات صحفية، وذلك لاضفاء العظمة على ما يقدموه من دراسات، معظمها مكتوب بلغة لا يفهمها القاريء العربي بحكم أن معظمها ترجمات واقتباسات اجتهد الكاتب أو الباحث في نقلها عن لغات أجنبية لا يجيدها عادة ولم يدرسها في بلادها الأصلية لكي يدرك مغزى تلك المصطلحات والكلمات في إطار تطور ثقافتها ولغتها.
يعتقد كثير من المغرمين بتلك النظريات أن الفيلم السينمائي مثله مثل الكتاب أو الرواية، أي مجرد نص يمكن تفسيره طبقا لعلوم اللسانيات، وهو نزوع متعسف لا يؤدي سوى إلى تضليل القاريء، بل إنك حينما تطبق المنهج البنيوي مثلا على فيلم بسيط من الأفلام التي يخرجها الشباب العرب هنا أو هناك، ستبدو كما لو كنت تطبق بهيكل عملاق على صدر كائن هش ضعيف يهتم بالوصف أكثر من اهتمامه بالتفلسف والتأمل والإحالات المعقدة كونه نابعا من بيئة ثقافية محدودة للغاية. وتكون النتيجة تدمير الكائن الهش، وانهيار الهيكل العملاق!
من المهم أن ينفتح الناقد على كل المذاهب والاتجاهات النقدية ويستفيد منها، غير أن من الخطأ أن يغلق نفسه على مذهب واحد يعتبره "مقدسا" فيصبح مثله مثل عبيد الأيديولوجيا، الذين يرفضون الاستفادة من أي مذهب خارج نطاق أيديولوجيتهم التي يعتقدون أنها تقدم تفسيرا شاملا للعالم.
والمشكلة أن من يكتبون هذه الانتقادات يكتفون عادة بالتنظير والاكتفاء بنقد النقد، ولدون أن يتصدوا لنقد الأفلام بينما الوظيفة الأساسية لأي ناقد سينمائي هي "نقد الفيلم". وإذا كان من الممكن تطبيق أرقى النظريات النقدية على الأفلام الفلسفية التي تبتكر وتطور أساليب سينمائية مركبة مثل أفلام جودار أو ديفيد لينش أو جريناواي، فليس من الممكن تطبيق المنهج السيميائي على كل ما هو شائع من أفلام تجارية بسيطة التركيب، وإلا فلماذا لا يكلف أحد من هؤلاء الناقدين نفسه تقديم تحليل سيميائي مثلا لفيلم لأفلام "تتح"  و"سالم ابن أخته" و"الألماني" و"صنع في مصر"!

إن النقد السينمائي الذي ينشر في الصحافة أكثر تأثيرا على القاريء- المشاهد للأفلام، من النقد الأكاديمي الذي يعتمد على النقل من المراجع الأجنبية ويكتب عادة في استطرادات طويلة مليئة بالألفاظ الاستعراضية. فكيف سيفهم القاريء المتوسط  كلمات مثل "التمفصلية" و"الابستمولوجية" و"الظاهراتية" و"المتغيرات الدلالية" و"المدلول التجاوزي"؟!
خارج الصحافة لا وجود للنقد السينمائي ولا تأثير له، فالدراسات والأبحاث التي تنتج لكي ينال أصحابها الدرجات العلمية، تظل عادة حبيسة الأدراج، وإذا صدرت في كتب فهي لا تنتشر بل تصدر في طبعات محدودة للغاية، كما أنها لا تصل إلى القاريء المتوسط الذي يحجم عنها لتعقيدها واستغلاقها عليه سواء من ناحية المادة أو اللغة.
حري بنا أن نطالب الصحافة بالاهتمام بتخصيص مساحات أكبر للنقد السينمائي، وباصدار المطبوعات والمواقع الالكترونية المتخصصة في النقد السينمائي (وليس في نشر أخبار النجوم والفضائح) بدلا من أن نشطب على النقد الذي ينشر في الصحف والترويج لمنهج واحد ووحيد سيظل للأسف، يُتداول داخل دائرة محدودة من المتخصصين دون أن يكون له تأثير حقيقي على تطور السينما والجمهور وصناع الأفلام، وهم- في النهاية- الهدف الأساسي للنقد.
 

الأربعاء، 3 يونيو 2015

حول إيقاف مهرجان أبوظبي السينمائي







مهرجانات السينما في العالم تتوسع، في برامجها وأقسامها وطموحاتها بل وتتجه أيضا إلى عرض الأفلام في مدن أخرى غير المدينة التي يقام فيها المهرجان، ومهرجانات السينما تنشر الثقافة السينمائية وثقافة الصورة، وتساهم في محاربة الفكر المتطرف، وتلعب دورا حضاريا من خلال عرض أفلام العالم، من تواصل بين الثقافات. وهي ليست فقط مناسبات احتفالية بانجازات الفن السابع، لكنها أرضية صلبة للمناقشة والبحث وأساس حقيقي لدعم صناعة السينما في البلد الذي يقام فيه المهرجان.
وقد جاء خبر إيقاف مهرجان أبوظبي السينمائي مفاجئا وصادما لكل عشاق السينما ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم. فهذا مهرجان أثبت خلال ثماني دورات، أنه ولد ليعيش ويستمر، وقد لعب بالفعل دورا رائدا في دعم الإنتاج السينمائي العربي من خلال المنح المالية والفنية التي يقدمها "صندوق سند" الذراع الإنتاجية التابعة له. وكان من المدهش أن يصدر بيان من الجهة التي تنظم المهرجان يقول إن إيقاف المهرجان جاء بسبب الرغبة في التركيز على نشاط "صندوق سند" ونظام دعم الأفلام!
فهل كان وجود المهرجان عائقا أمام نشاط صندوق الدعم (سند) أم أن "الصندوق" كان يستند عمليا إلى كيان المهرجان ويحقق ما يحققه بفضل ما اكتسبه المهرجان من سمعة دولية بفضل جهود عشرات الأشخاص الذين عملوا في إدارته وعلى رأسهم المخرج الإماراتي الشاب علي الجابري، الذي أدار الدورات الثلاث الأخيرة، ومن قبله المدير الأمريكي بيتر سكارليت،. والغريب أن إيقاف المهرجان يأتي بعد أن كان قد أصبح حدثا سنويا راسخا متميزا ببرنامجه وأفلامه وندواته ومطبوعاته، على نحو لا يتوفر لكثير من المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي.
لقد توقف مهرجان دمشق السينمائي منذ فترة بسبب الأوضاع المضطربة في سورية، ووصل مهرجان قرطاج العجوز إلى حالة من الإرهاق والتعب أصبح يحتاج معها الى دخول "العناية المركزة"، وتوقف مهرجان ترايبكا – الدوحة بعد فشل التجربة التي حاولت استنساخ تجربة المهرجان الأمريكي الشهير في نيويورك، غافلة عن طبيعة المنطقة التي يقام فيها المهرجان، ودوره الأساسي في جمع شمل السينمائيين العرب والأجانب معا، كما توقف منذ العام الماضي مهرجان أفلام الخليج، ولم يعد هناك سوى مهرجان دبي السينمائي الذي شهد خفضا في ميزانيته من العام الماضي بنسبة كبيرة أدت إلى الغاء بعض أقسامه وإلغاء السوق الدولية التي كانت تقام على هامشه.
لم يعد يقام في المنطقة حاليا سوى مهرجان القاهرة السينمائي الذي يكافح من أجل استعادة دور سابق له كان قد ولى بعد ذلك التراجع الكبير في مستوى السينما المصرية بشكل عام والثقافة السينمائية في مصر بوجه خاص، وفساد المؤسسات الرسمية على أكثر من صعيد. كما يستمر مهرجان آخر ولد ميتا في مصر هو مهرجان الاسكندرية السينمائي، ويحاول مهرجان مستجد هو الاقصر للسينما الإفريقية أن يعلب الدور الذي كان لمهرجان قرطاج في الماضي ولكن في ظروف متغيرة عسيرة.
يأتي توقف مهرجان أبوظبي يأتي في الوقت الذي كان قد بدأ يصبح نافذة مهمة للأفلام التي تظهر في المنطقة بل وفي الإمارات أيضا حينما عرض في افتتاح دورته الماضية فيلما إماراتيا روائيا طويلة من "من ألف إلى باء" يعتبر رغم أي ملاحظات سلبية عليه، خطوة إيجابية على طريق التأسيس لسينما روائية في الإمارات. كيف يمكننا أن نستوعب فكرة أن إيقاف مهرجان أبوظبي يمكن أن يخدم ويفيد المؤسسات الإنتاجية التي تركز أساسا على دعم مشاريع الأفلام سواء من خلال "سند" أو الأفلام الأجنبية التي تصور في الإمارات وتمولها شركة "إيماج نايشن" الإماراتية؟
كيف يصدر قرار كهذا في وقت تشهد المنطقة هجمة من التطرف السياسي باسم الدين، بينما يمكن أن تصبح السينما حاجزا منيعا في وجهه؟ وهل من الممكن إعادة النظر في هذا القرار الذي أرى صادقا- أنه يؤدي إلى خسارة فادحة بالنسبة لدولة الإمارات، وهي في النهاية خسارة تتجاوز كثيرا أضعاف ما كان ينفق من مال على إقامة المهرجان!

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger