يطلق الكثيرون على
المسلسلات التليفزيونية "الدراما" أو "الأعمال الدرامية"، وهو
في رأيي، تعبير خاطيء لأن الدراما موجودة أساسا في المسرح وكذلك في الأفلام
السينمائية. ولذلك يظل التعبير الأكثر دقة هو "المسلسل التليفزيوني"،
وليس الدراما. ولاشك أن المسلسل التليفزيوني يلقى إقبالا كبيرا من جانب الجمهور في
العالم العربي، بعد أن تقلصت فرص الذهاب لمشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي،
إما لقلة دور العرض أو غيابها بالكامل، أو عدم ملائمتها، كما أن المسلسل التليفزيوني
يجذب أفراد الأسرة جميعا، لمشاهدته "مجانا" دون حاجة للخروج من المنزل،
أو بسبب سهولة متابعة أحداثه، وبساطة بنائه الدرامي وعنصر التشويق الذي يدخله صناع
المسلسلات في كل حلقة لكي يضمنوا عودة المشاهدين لمتابعة الحلقات التالية.
يختلف المسلسل التليفزيوني
كثيرا عن الفيلم السينمائي، فبينما يعتبر الفيلم عملا مغلقا، أي يمكنك مشاهدته في
جلسة واحدة تستغرق ساعتين أو ثلاث ساعات على الأكثر، يمكن للمسلسل التليفزيوني أن
يمتد لأشهر بل لسنوات عدة. والفيلم السينمائي عمل فني له أصول وأسس علمية، وهو
عادة ما يعبر عن رؤية مؤلفه ومخرجه، التي ترتبط باختيار الشكل الفني المناسب للتعبير
عن موضوعه، ولكن يمكن القول إن المسلسل التليفزيوني، شكل فني "مبتدع"،
هدفه الأساسي الترويج للإعلانات التجارية التي تعرض على شاشة التليفزيون. أي أن
ظهور المسلسل لم يكن نتيجة تطور فني طبيعي، أو كنتاج لحاجة فنية إبداعية تلح على
المبدع وتدفعه للتعبير من خلال ذلك الشكل المتسلسل، فليس هناك شكل فني متسلسل،
فإذا جعله المبدع كذلك، فلكي يلبي احتياجات أخرى خارجة عن نطاق وجوهر عملية
الإبداع الفني.
ولعل من الطريف أن
نعرف أن التعبير الشائع لوصف المسلسل التليفزيوني في الولايات المتحدة هو "سوب
أوبرا" soap opera أي "أوبرا
الصابون"، وهو تعبير نشأ من ارتباط هذا النوع من الأعمال الدرامية المصورة في
بدايته بإعلانات الصابون في الراديو ثم التليفزيون، ولأن شركات إنتاج الصابون، كانت
هي الجهات الراعية لانتاج المسلسلات، وكانت تلك المسلسلات تصمم وتنتج أساسا، لكي تخاطب
النساء وتخضع لذوقهن السائد، أو تستخدم للترويج للسلع "النسائية". وقد
تميزت "أوبرات الصابون" باحتوائها على الكثير من المبالغات الميلودررامية،
والشخصيات التي تستدر التعاطف والدموع، وهي تدور عادة حول حياة "نجوم
المجتمع" من الأثرياء والفنانين الذين يعيشون حياة مرفهة، ولكنهم رغم ذلك،
يعانون من أزمات اجتماعية ونفسية في علاقاتهم العاطفية والزوجية.
كان الهدف من ظهور
المسلسل في البداية إذن، هدفا تجاريا لخدمة شركات الإعلانات، وهو لايزال كذلك حتى
اليوم، أي أن المسلسل ظاهرة تجارية وليس ظاهرة فنية، على العكس من الفيلم
السينمائي الذي ظهر أساسا كظاهرة فنية ثم استغلته الصناعة للترويج لسلع كثيرة
أخرى. وإذا تأملنا تكوين الفنون السبعة المعروفة مثل العمارة والفن التشكيلي
والموسيقى والمسرح والسينما، لما عثرنا على أي شكل من أشكال التسلسل يرتبط بهذه
الفنون، فالأصل في الفن هو التعبير الذاتي من جانب الفنان عن رؤيته الاجتماعية
الفلسفية والفنية. والإبداع الفني موقف فلسفي وجمالي، لا يخضع لدراسات الجدوى
الاقتصادية، وإن كان هذا لم يمنع من ظهور نوعية معينة من أفلام هوليوود تنتج طبقا
لمواصفات محددة سلفا، لجذب قطاعات عريضة من المستهلكين، وهي ما تعرف بأفلام
"بلوك باستر" blockbusters التي
تنتمي لصناعة السينما أكثر من صلتها بفن السينما. وتظل فكرة المسلسل أو الحلقات
المتسلسلة شكلا مفتعلا لا نظير له في الفنون المعروفة، فلا توجد لوحة فنية، أو
مسرحية، أو قصيدة، أو مقطوعة موسيقية متسلسلة.
ويقتضي المسلسل متابعة
حلقاته لا يفوتك منها شئ لمدة قد تمتد لسنوات، كما في حالة المسلسل الأمريكي
"الضوء الهادي" The guiding light الذي بدأ أولا في الراديو عام 1937 ثم انتقل
للتليفزيون عام 1952، وعرضت الحلقة الأخيرة منه في سبتمبر 2009. وبلغ عدد حلقاته 16
ألف و792 حلقة!
أما المسلسلات
العربية التي تنتج في ثلاثين وأربعين حلقة، وترصد لها ميزانيات ضخمة، فيتعين عليك
العودة كل ليلة، خصوصا خلال ليالي شهر رمضان، لكي تعرف ما الذي سيحدث لأبطالها في
صراعاتهم وتناقضاتهم، من سيعيش ومن سيموت، ومن سيدخل السجن، ومن سينتصر على الواقع
ويحقق حلمه. ويتعمد المخرج والمؤلف، الإطالة، حتى لو ابتعدا عن بؤرة العمل
الدرامية، للدخول في تفاصيل جانبية مفتعلة، مع إيقاع بطيء يعتمد على المشاهد الطويلة
التي يستغرق الواحد منها أحيانا تسع دقائق أو أكثر على الشاشة، ولا يزيد عدد
لقطاته عن 3 أو 4 لقطات، بينما لا يستغرق المشهد السينمائي عادة أكثر من دقيقتين
أو ثلاث دقائق، وقد يتضمن 10 أو 20 لقطة.
ورغم ضرورة متابعة
المسلسلات حلقة بعد أخرى، لكي لا تفوتك منها حلقة، إلا أن ظهور وسائل التسجيل الحديثة،
جعل من الممكن تسجيل ما فات من حلقات والعودة لمشاهدته، وأحيانا مشاهدة جميع حلقات
المسلسل مرةواحدة عبر موقع يوتيوب مثلا. لكن هذه الوسيلة، تزعج شركات الإعلانات، لأنها
تحرمها من قطاع كبير من الجمهور، فتنخفض بالتالي نسبة المشاهدة، وينخفض دخلها،
فهدفها هو جذب المشاهد للمتابعة اليومية، لكي "يبتلع" إعلاناتها!
لاشك في وجود بعض
المسلسلات المتميزة فنيا، التي تتبع أسلوبا يقترب من طريقة العمل في السينما،
وتتميز بالاتقان الحرفي والبراعة الفنية أيضا. لكننا نناقش هنا مقالي مفهوم "التسلسل"
في العمل الدرامي، ومدى قربه أو بعده عن الإبداع الفني بالمعنى الشابق شرحه.
ولعل غياب نقد
المسلسلات و"نقاد المسلسلات" المتخصصين، يرجع إلى صعوبة أو استحالة
التقييم الفني للمسلسل التليفزيوني الذي يمتد لحلقات طويلة، فكيف يمكن للناقد أن
يحكم على الإيقاع العام للمسلسل في حين أنه مكون من حلقات متصلة- ومنفصلة، فقد
يصعد الإيقاع هنا، ثم يهبط وينحدر في الحلقة التالية، وكيف يمكن له أن يحكم على تناغم
الضوء ومستوى الصوت وعلاقة الممثل بالمكان، وغير ذلك، في حين أن هذه العناصر تتغير
من حلقة إلى أخرى. وربما يكون مقبولا التعامل النقدي مع المسلسل المنفصل الحلقات،
أي الذي تروي كل حلقة من حلقاته قصة ما، تدور حول شخصية من شخصياته، ويمكن أيضا أن
يتناوب على إخراج حلقاته عدد من المخرجين، ولكن هذا النوع من المسلسلات غائب بكل
أسف، عن الساحة العربية.
على أي حال، ما
عرضته هنا ليست سوى افكار قابلة للمناقشة والبحث وإعادة النظر. وأيا كان الأمر، يظل
من المهم دراسة التأثير الكبير للمسلسلات
على الجمهور العربي.
نشر في شبكة الجزيرة دوت نت بتاريخ 7 يوليو
0 comments:
إرسال تعليق