الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

ذكريات حول تجربة نادي السينما



لقطة من فيلم "لا تلمس المرأة البيضاء"


 

بقلم: أمير العمري



بعض من يكتبون عن السينما لا يحترمون الترجمة، بل إن "المجتمع الثقافي" في مصر أصبح، بشكل عام، لا يحترم الترجمة، فقد صارت الترجمة مهنة على المشاع، أي أصبحت مهنة يمارسها كل من يعرف، ومن لا يعرف. والمقصود بالمعرفة ليس فقط معرفة اللغة الأجنبية التي يترجم عنها، أو أصول اللغة العربية التي تترجم إليها، بل معرفة وإلمام كاف بالمادة موضوع الترجمة، فترجمة كتاب في جانب من جوانب الفن السينمائي مثلا، ليس مثل ترجمة كتاب سياسي يقوم على التحقيق، أو المذكرات، وليس كترجمة كتاب في العلوم الطبيعية. فلكل مادة المتخصصون فيها. ولكن بكل أسف، لم يعد هذا قائما، بل أصبحنا نرى الكثير من الكتب التي تظهر في الغرب تصدر في ترجمات سريعة رديئة استهلاكية، فيها قدر كبير من الضحك على ذقون القراء. ومن هذه الكتب أتذكر على سبيل المثال، كتاب روجيه جارودي "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" الذي صدرت منه ترجمة رديئة للغاية، معظمها كلام خاطيء أوغير دقيق، إلى أن صدرت ترجمة جيدة منه عن إحدى دور النشر المحترمة في مصر. وهناك أحيانا مترجمون من الكبار، أي من أساتذة الأدب الانجليزي، قد لا يعرفون كنه المادة التي يترجمونها أو يقتبسون منها في كتبهم، رغم معرفتهم باللغة الإنجليزية وآدابها.
ولعل من أجمل ما قرأت في معرض التعبير عن فوضى الترجمة والكتابة، ما كتبه الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ذات مرة من أننا: "نؤلف في حين أننا نترجم، ونترجم بينما نحن في الحقيقة نؤلف"!
فيما يتعلق بترجمة النقد السينمائي وجوانب الثقافة السينمائية لعل من الغريب جدا أن أقرر هنا أن من أفضل من ترجموا في هذا المجال، ناقد وكاتب، لم يصدر له كتاب واحد، بينما كان يمكن أن يملأ ما ترجمه في السينما، مجلدات. والحديث هنا عن الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله.
كان يوسف يترجم أسبوعيا تقريبا لنشرة نادي السينما بالقاهرة في عصره الذهبي، أي لمدة عشرين عاما، من 1969 إلى 1989. وكانت ترجمات يوسف من مقالات ومقابلات وتقارير ومقالات نقدية ومعلومات وتحقيقات عميقة، متخصصة، عن الظواهر السينمائية في فرنسا والعالم، تثرينا وتغذي ثقافتنا. ويكفي أن يراجع المرء مجلدت نشرة نادي السينما في السنوات المشار إليها، لكي يقف على كنوز من المعلومات والتحليلات التي لم يوجد لها مثيل من بعد، بهذا الشكل الأسبوعي المنتظم والشامل.

كانت ثقافة يوسف السينمائية الموسوعية، وإجادته التامة للغتين، الفرنسية والإنجليزية، إلى جانب معرفته الممتازة باللغة العربية، تساعده على تقديم هذه الترجمات الجميلة، السلسة، الواضحة، الثرية. فضلا عن هذا كله، كان يوسف ولايزال أساسا، من هواة السينما الكبار بلا أدنى شك، ولولا حبه وإخلاصه لما يحب، لما أنتج كل ما أنتجه، بزهد واضح، ودون أي رغبة في الادعاء أو البحث عن الشهرة، فقد كان يكتفي بالنشر في نشرة نادي السينما التي كان يكتب لها أيضا الدراسات التفصيلية عن الأفلام أحيانا مع غيره من كبار النقاد، أو في مجلة "المسرح والسينما" ثم "السينما" إلى أن توقفت. وأظن أنه كتب أيضا لمجلة "الإذاعة والتليفزيون" لفترة، وكان بالطبع قطبا أساسيا في جريدة "السينما والفنون" الأسبوعية التي صدر منها 33 عددا عام 1977 ثم أغلقت بضغوط مباشرة من السلطة. ولم يحدث قط أن وضع يوسف اسمه على أي مادة مترجمة، باعتباره مؤلفها أو كاتبها، كما يفعل كثيرون حاليا، بل كانت المادة المنشورة دائما مشفوعة في النهاية بعبارة "ترجمة: يوسف شريف رزق الله".

السينما الأخرى
كان يوسف من أوائل الذين تولوا تعريفنا، من خلال ما نقله إلى العربية، بعدد من أبرز وأهم السينمائيين في فرنسا وأوروبا عموما، ليس فقط من الأجيال صاحبة التراث المؤثر، بل من التيارات الجديدة التي كانت تظهر من وقت إلى آخر. وقد كنا سعداء الحظ أن نشأنا ونشأ اهتمامنا بالسينما في تلك الفترة من أواخر الستينيات، عندما كانت حركة التجديد في السينما الأوروبية وسينما القارات الثلاث، في أوج مجدها وانتفاضتها على السينما التقليدية القادمة من هوليوود. وكانت فرنسا تحديدا، "كعبة" الحركات الجديدة في السينما، من الموجة الجديدة إلى سينما الحقيقة، إلى السينما النضالية، وغيرها. وكان المخرج الفرنسي الشهير جان لوك جودار قد أعلن وقتذاك، تمرده على السينما القديمة التي كان يصنعها واصفا إياها بـ"السينما البورجوازية"، وأقدم على إخراج تجارب جديدة "ثورية" في الشكل والمضمون. وكانت حركة الاحتجاج العالمية التي تصدرتها جماعات الشباب في العالم ضد حرب فيتنام والوحشية التي كانت تمارسها القوات الأمريكية هناك، قد أضافت رافدا فكريا مثيرا إلى حركات التجديد في السينما، التي بدا ميلها بوضوح في تلك الفترة، بل وربما منذ تلك الفترة أيضا، إلى اتباع أسلوب الفيلم التسجيلي في الأفلام الروائية الطويلة. وعلى سبيل المثال، لم يكن غريبا أن يظهر في تلك الفترة، فيلم مثل "معركة الجزائر" (1969) للمخرج الإيطالي الكبير جيلو بوتيكورفو، لايزال يعد نموذجا على تلك السينما المتمردة العظيمة.
كان يوسف أيضا جريئا جدا فيما ينقل لنا عن الفرنسية، عن مخرجين لم نكن نعرف عنهم كثيرا، مثل جورج كلوزو وجان بيير ميلفيل وأندريه ديلفو (البلجيكي) وماركو فيراري (الإيطالي) وبرتران تافرينييه وكوستا جافراس وبرتران بلييه وفرنسوا تريفو وكلود شابرول وكلود ليلوش، وغيرهم. ولعل من أهم ما نقله لنا يوسف أيضا، الكثير من أدبيات سينما التمرد والغضب التي ارتبطت بحركة التمرد المشهودة في مايو 1968 في فرنسا، بل كان يوسف من أوائل من كتبوا عن تأثير هذه الحركة على السينما، وقدم لنا سردا تفصيليا دقيقا لتطور الأحداث في باريس منذ إعفاء مدير السينماتيك الفرنسية هنري لانجلوا، من منصبه، إلى اندلاع غضب المثقفين والسينمائيين الذين تزعمهم جودار وتريفو، ثم انتفاضة الطلاب، وانضمام العمال إلى الطلاب وإقامة المتاريس في باريس وتحويلها إلى ثكنة عسكرية. وقد نشر هذا في مجلة "المسرح والسينما" وكان عضوا في هيئة تحريرها ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد.



صورة من الأرشيف الشخصي للكاتب من عام 1973 ليوسف شريف رزق الله (اليمين) مع فتحي فرج (الوسط) واحمد رأفت بهجت (على اليسار)



وكان ما عرضه يوسف يأسرنا، أبناء جيلي وأنا، فقد كنا مفتونين بقدرة السينمائيين الشباب على إشعال شرارة حركة ثورية في بلد من أعرق الديمقراطيات في العالم. وكانت ثورة الشباب وقتها في قمة مدها في أوروبا، وكانت مظاهرات الشباب في العواصم الأوروبية ترفع صور ماوتسي تونج (الذي كان قد بدأ الثورة الثقافية في الصين)، وصور ماركس ولينين وكاسترو وجيفارا. وقد امتدت الحركة الثورية أيضا إلى مصر في أول مظاهرات تندلع منذ استيلاء الجيش على السلطة في 1952، احتجاجا على "مجتمع القهر" و"زوار الفجر"، وتطالب بالديمقراطية، وتحمل المسؤولين فيما عرف بـ"الاتحاد الاشتراكي"، والدولة عموما، مسؤولية الهزيمة، بعد أن انكشف حجم ما يكمن من فساد تحت السطح البراق للشعارات السائدة في 1967.
كان يوسف شريف وراء اختيار عدد من أهم الافلام التي عرضت في "نادي السينما"، وهي في معظمها فرنسية، وكانت بالنسبة لأبناء جيلي، الذي جاء بعد جيل يوسف ورفاقه، اكتشافات حقيقية.

 

لا تلمس المرأة البيضاء
من هذه الافلام، التي لازلت أتذكرها وأتذكر ما كتبه وترجمه يوسف حولها، فيلم بديع بعنوان "لا تلمس المرأة البيضاء" Touche pas à la femme blanche لماركو فيراري، وهو من الإنتاج الفرنسي- الإيطالي المشترك.
لم أكن، في ذلك الوقت من عام 1974، قد ذهبت إلى باريس، أو قمت بزيارة أي بلد خارج مصر، فقد كنت في مرحلة الدراسة الجامعية. وكان الفيلم يدور في منطقة عرفت أنها شهيرة جدا في قلب باريس هي منطقة سوق الهال Les Halles وكان الفيلم مزيجا من الخيال المبني على التاريخ القديم والتاريخ الحديث، ففي هذا السوق القديم كان العمال والطلاب قد أقاموا المتاريس، وأخذوا يشنون الهجمات على قوات الأمن الفرنسية. وإذن فقد استخدم السوق كمكان محصن للاحتماء والهجوم المضاد. ولذلك كان من أول القرارات التي اتخذتها السلطات الفرنسية بعد مايو 1968، إزالة السوق من الوجود وفتح المنطقة وتحويلها إلى منطقة سياحية تمتليء بالبوتيكات الحديثة على نحو ما نرى الآن، وهو ما رأيته بعد أن قمت بأول زيارة لي إلى باريس عام 1981.
وفي الفيلم، وهو نوع من "البارودي" parody أي التصوير الساخر، والكثير من الإحالات الفكرية والتاريخية التي تربط بطريقة مضحكة، بين ما يحدث من هدم وتحطيم واقتحام بشع من جانب قوات الشرطة الفرنسية لسوق الهال وتدميره، وما حدث من إبادة للهنود الحمر في أمريكا على يدي الجنرال جورج أرمسترونج كاستر، الذي عرف بلقب "جزار الهنود الحمر". ولكننا نرى هنا "كاستر" معاصرا تماما (يقوم بدوره ميشيل بيكولي) وهو يقود قواته التي تركب الخيول في وسط باريس أثناء هجومها على المكان الذي تحصن فيه عدد من صغار النشطاء والتجار لحماية سوقهم الذي اشتهر تاريخيا، وأظنه كان يستخدم أيضا كمنطقة تحصن في زمن "كوميونة" باريس الشهيرة.
معركة تصفية سوق الهال تحال سينمائيا، إلى نموذج مضحك لما عرف تاريخيا باسم "معركة القرون الصغيرة"، آخر المعارك التي خاضها كاستر ضد الهنود الحمر والتي انتهت بهزيمة قواته ومقتله. وكانت هناك إحالات "بصرية" إلى حرب فيتنام. وفي أحد المشاهد الساخرة، تظهر صورة الرئيس الأمريكي نيسكون.
ومن الجدير بالذكر أن موجة الأفلام التي تعيد للهنود الحمر اعتبارهم، وتنتقد الوحشية التي تعامل بها الأمريكيون البيض مع السكان الأصليين في القارة الجديدة، كانت قد دشنت رسميا عام 1970 بفيلم آخر شهير هو "العسكري الأرزق" Solider Blue اهتم به يوسف شريف كثيرا هو وأبناء جيله من النقاد، بل وأتذكر أيضا أنه دارت حول هذا الفيلم في أوائل السبعينيات معركة نقدية في مصر، فهناك من كان يعتبره فيلما ثوريا جريئا يفضح الإمبريالية الأمريكية، وهناك من جهة أخرى، من اعتبره محاولة لتبرير بل وتجميل الطغيان الأمريكي، بدعوى أن هوليوود لا يمكنها أن تتناقض أصلا مع "المؤسسة" الحاكمة في واشنطن. وسيثبت الزمن وحده فيما بعد، خطأ تلك النظرية الأخيرة، وأن بداية السبعينيات كانت أيضا بداية ظهور "تيارات" متباينة داخل هوليوود، وإنه ليس من الممكن اعتبارها كيانا واحدا مصمتا خاليا من التناقضات.
وأذكر أنه كان هناك في ذلك الوقت، تقليد جميل اقتبسته "سينما مترو" تحديدا، يحاكي التقليد الذي نراه في دور العرض الأوروبية، والفرنسية بوجه خاص، هو أن تضع دور العرض إلى جانب الصور الموجودة للدعاية للفيلم المعروض في مدخلها، اقتباسات من مقالات النقاد البارزين وآرائهم عن الفيلم. وكان هذا على نحو ما، احتفاء بالنقد، وإعلاء من قيمة الكلمة المكتوبة وتأثيرها على مشاهدي السينما.
وكانت مقتطفات من مقالات وكتابات سمير فريد وسامي السلاموني ويوسف شريف وخيرية البشلاوي ومصطفى درويش توضع في مداخل سينما مترو، وكنا نتوقف ونقرأ، ولم تكن السينما تحرص فقط على وضع مقالات الإشادة بالفيلم، بل وأيضا ما يتعارض معه. وقد نال "العسكري الأزرق" نصيبه في هذا المجال.
ي نشرة نادي السينما، التي كانت مجلة سينمائية حقيقية، أسبوعية، عميقة، ومتخصصة، كانت مقالات ودراسات سمير فريد عن تاركوفسكي وجودار وبرتولوتشي وغيرهم، ومقالات فتحي فرج عن جوزيف لوزي وأعلام السينما البريطانية الجديدة مثل كاريل رايز وتوني ريتشاردسون وليندساي أندرسون وبيتر واتكنز وسيناريوهات العبقري الراحل هارولد بنتر، والتغطيات الدورية الحافلة لسمير فريد ورفيق الصبان ويوسف شريف وأحمد الحضري ثم سامي السلاموني في مرحلة لاحقة، لمهرجان كان، مرجعا رئيسيا لنا، نستمد منه معارفنا حول أبرز الاتجاهات في السينما العالمية. وكان الناقد الكبير رءوف توفيق ينشر مقالاته الممتعة عن أفلام مهرجان كان في مجلة "صباح الخير" ثم تصدر فيما بعد، في كتب بديعة.
ما الذي حدث بعد مرور السنين، أين ذهب حماس هؤلاء النقاد للكتابة الجادة عن الأفلام، وإعطاء الفيلم حقه من النقد والتحليل التفصيلي الذي كان يعد من أرقى أنواع النقد وأكثرها فائدة، ولماذا أصبح من ظلوا على قيد الحياة منهم، الذين تتوفر أمامهم فرصة للنشر بدون معوقات، يحجمون عن كتابة النقد السينمائي بهذا المفهوم، إكتفاء بكتابة الخواطر والانطباعات والتعليقات السريعة؟



ماذا حدث؟
أظن أنه تغير المناخ العام، وغياب الأطر التي كانت تجمع النقاد على أهداف واحدة، بغض النظر عن تحقيق المنفعة المادية، بل وغياب الهدف الثقافي الأكبر والأشمل، أي القيام بدور فاعل في الواقع، ونقل المعرفة إلى شرائح أوسع من الشباب، والهرولة بدلا من ذلك، إلى الدخول في "الحظيرة"، والحصول على نصيب من "الكعكة" الرسمية بأقل جهد ممكن، ومن خلال استخدام واستثمار الأسماء التي صنعها أصحابها في ظروف عمل جاد في الماضي، لخدمة المؤسسات الثقافية، الجديدة، الشكلية، التي تأسست دون فعالية، ودون مشروع، بل وفي غياب أصحاب المصلحة الحقيقية، أي الجمهور نفسه.
ولكن هل الذنب هو ذنب ذلك "الزمن" الجديد فقط؟ لاشك أيضا، أن الحياة اختيارات، وأن موقف المثقف يعكس اختياره، وكل مثقف مسؤول في النهاية، عن اختياراته. ولكن المجتمع كله هو الذي يدفع الثمن في النهاية.

صفحات من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"

السبت، 28 يوليو 2012

في الاسماعيلية.. السينما تجرّب قرب بحيرة التمساح





بقلم: فجر يعقوب



اختتمت قبل أيام فعاليات الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الإسماعيلية الدولي للسينما التسجيلية والقصيرة بتوزيع الجوائز على مستحقيها، وبعضها رعته جهات متخصصة في هذا النوع من الأفلام في تعاون أول لها مع إدارة المهرجان الجديدة المؤلفة من المخرج مجدي أحمد علي (رئيساً)، والناقد السينمائي أمير العمري (مديراً) له. هنا ثمّة رسائل جديدة طافية على سطح القناة البحرية الخالدة، أو بمحاذاة بحيرة التمساح التي تدخل هنا عنصراً إضافياً في تلوين صفحة المهرجان،

وهو يستعيد ألقه هذا العام، بعد أن توقف قسراً في العام الماضي بحكم الظروف التي مرّت بها “أم الدنيا”. بعض هذه الرسائل يجيء من السينما الجديدة التي ينبّه إليها المهرجان، وبعضها يجيء من استعادات وتجارب لا يمكن نكرانها في سياق الزمن السينمائي “الجميل”، مع أنّه ثمّة من حاول، في السياق ذاته، التشويش وإرباك البرنامج من خلال الأعداد من خارج جسم المهرجان لقسم ملتبس عن السينما التجريبية، رغم أنّ معظم الأفلام التي عُرضت تحوي نفساًَ تجريبياً باهراً، وليس بحاجة إلى مزاعم من هذا النوع تحت أيّ بند أو مسمّى. باءت المحاولة بالفشل طبعاً، فليس ثمّة هنا من يرهن برامجه لمحاولات فقيرة لاتؤدي بأصحابها إلا إلى الإفلاس، وانتظار المهرجان التالي، بغية الترزّق والنوم في “عسل” النقد السينمائي المريض القائم على الوهم والخيالات المجدبة. 

بالنسبة إلى الضيوف العرب الذين سبق لهم أن حضروا بعض الدورات السابقة، سيبدو سهلاً أمامهم ملاحظة بعض الفروقات الجوهرية التي شابت هذه الدورة، حتى مع تخفيض ميزانية المهرجان إلى النصف تقريباً بحكم الظروف الاستثنائية والطارئة التي يمرّ بها البلد المضيف. وبالطبع لم يكن التخفيض الاضطراري هو العلامة الفارقة هنا، فهي بالكاد لوحظت من قبل الضيوف العرب والأجانب، وظلّت محصورة بأهل المهرجان فقط؛ إذ وجدت الإدارة الجديدة “ضالتها” في بعض المشاركات من قبل بعض الجهات الراعية، وهو قد انعكس إيجاباً على التحديات التي فرضتها تعقيدات الوضع الحالي الذي تلا انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، وحجم التحديات المفروضة على مختلف مناحي المجتمع والدولة.
الدورة الخامسة عشرة من المهرجان ستشكّل انعطافة في تاريخه، ليس لجهة اختيار رئيس ومدير جديد له فقط. هذه ربما تلحظ في الدورات القادمة أكثر، فلا أحد ينكر هنا أنّ الظروف التي تمر بها البلاد، بالفعل، استثنائية، وتأخذ طابعاً يغالبه التحدي والمكابرة، فالأخبار التي تتوزعها البلاد، أو حتى في المدينة البحرية التي تستضيف فعالياته كانت مقلقة إلى حدّ ما، فبعد أيام فقط من اختتام المهرجان نقلت وسائل الإعلام خبراً عن قيام ثلاثة متشددين من جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقلاً عن شهود عيان بقتل شاب من “ثوار” السويس بالسيف كان برفقة خطيبته بالقرب من الكورنيش المحاذي لسينما رينسانس نفسها التي شهدت على برامج العروض، ما يعني أنّ المدينة البحرية الوادعة تمرّ بانعطافة جديدة ومسار مختلف، ربّما، يفرض تحديات أكبر على الدورات القادمة من الآن فصاعداً، وهذا بالتأكيد ستلحظه إدارة المهرجان، وتأخذه في الاعتبار، فحتى حادثة من هذا النوع، لا يمكن تجاهلها، بخاصة أنّ أحاديث جانبية كانت تدور هنا وهناك عن محاولات “متشددين” من أهل المدينة تنظيم مظاهرات احتجاجية ضدّ المهرجان بذريعة “الميزانيات الضخمة” التي يصرفها على فعالياته وضيوفه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.

ربما تكون المصادفة وحدها هي ما دفع باتجاه تنظيم العروض في سينما “النهضة “. ربما لايتعدّى الأمر تضامن المنتجة السينمائية إسعاد يونس “صاحبة الصالة” مع السينما والسينمائيين، بعد أن “فشل” قصر الثقافة سابقاً في حلّ عقدة التواصل بين الجمهور الاسماعيلي والنشاطات السينمائية التي يجيء عليها المهرجان سنوياً، وظلّت “حكراً” دائماً على الضيوف. ومع ذلك بدا لافتاً أنّ تقريب هذه الفعاليات التسجيلية من المدينة قد غيّر قليلاً  في شكل هذه العلاقة الملتبسة، وربما أوجد حلولاً في منتصف الطريق إن أمكن قول ذلك، وهذا قد يفوسط رض تحديات أكبر في ظلّ ظروف بالغة التعقيد، لا يمكن نكرانها أو القفز عنها، فحتى اللحظة لم يكن ممكناً التكهن بالنظرة الجديدة التي أخذت بالتكون حول الفن والسينما والمهرجانات في البلاد، وهذا أمر لم تغفله الإدارة الجديدة، فقد لحظته في الافتتاح، وفي الختام، وحتى من طريقة برمجة العروض نفسها، كان ثمّة رسالة واضحة، من نوعية التوجه الذي سيحكم إيقاع السينما والسينمائيين المصريين المعنيين، مثل شرائح مجتمعية أخرى، وربما أكثر من غيرهم، بالتوجهات السياسية للحكام الجدد. ربما جاءت “نوستالجيا مصرية” في هذا السياق لتؤكد على عمق هذه النظرة من خلال أفلام قصيرة لسينمائيين مصريين روّاد وطليعيين، تؤكد على الولاء للسينما بمختلف وجوهها، وهذا ما لحظه الضيوف في طبيعة الأفلام نفسها التي عرضت وشكّلت مناسبة مهمّة للتعريف بالجوانب المنسية لمخرجين كبار من وزن صلاح أبو سيف، وخيري بشارة، وداود عبد السيد، ومحمد خان، وهاشم النحاس، وعلي بدرخان، ونبيهة لطفي، وعاطف الطيب، وآخرين. هل في الأمر إعادة هنا؟ وربما لا، ففي الأمر استزادة، بخاصة أنّ تنظيم مثل هذه النظرة السينمائية على ماضٍ سينمائي “جميل” يحمل في طيّاته رسالة مهمّة على هذا الصعيد لا تقل عن رسائل الأفلام نفسها التي واكبت “ثورة” 25 يناير، وأطاحت نظام الرئيس حسني مبارك، وتشي بتحديات جديدة، جسيمة وصعبة ومنفردة بتعقيدات لاحصر لها، ربما تزيد في دقة الأفلام التسجيلية التي يَعِد المهرجان باستضافتها في دوراته القادمة، بعد أن تيقن الجميع هنا في المدينة البحرية من أنّ الواقع لايغلبه غلاب، وأنّ سينمائيي البلد المضيف عازمون على قبول مثل هذه التحديات.

الأربعاء، 25 يوليو 2012

البطيخة في الاسماعيلية!




بقلم: محمد خان



فكرة تقديم برنامج «نظرة إلى الماضى» من ضمن برامج مهرجان الإسماعيلية الخامس عشر فى ثوبه الجديد الذى أقيم الأسبوع الماضى من ٢٣ إلى ٢٨ يونيو تحت إدارة أمير العمرى ورئاسة مجدى أحمد على، كانت دون شك فكرة جهنمية. أن تجمع فى حوالى ٩٠ دقيقة أفلاما قصيرة، بعضها أعمال أولى لأصحابها، كادت تكون منسية أو ضلت طريقها أو فى بعض الأحيان اعتبرت ضائعة لمخرجين من أجيال مختلفة، أمثال صلاح أبو سيف وأشرف فهمى وعلى بدرخان وهاشم النحاس ونبيهة لطفى وعبد المنعم عثمان وعاطف الطيب وداوود عبد السيد وخيرى بشارة وأنا، هى ضربة معلم، بمعنى الكلمة، لأى مهرجان فى العالم. بحثى عن نسخة لفيلمى المتواضع «البطيخة» (إنتاج ١٩٧٢) لم يكن عملية سلسة بتاتا.

فمنذ بضع سنوات وأنا فى شوق لمشاهدة الفيلم الذى أصبح مجرد شريط فى الذاكرة، أستعيد لقطات منفصلة فى ذهنى أو أكتفى بالحديث عن التجربة ذاتها فى صيف ١٩٧٢، حين كنت فى زيارة إلى القاهرة فى أثناء استقرارى المؤقت فى لندن، وكيف بالتعاون مع صديق الطفولة المصور سعيد شيمى والمونتير أحمد متولى الذى حول العطلة إلى مشروع فيلم حققته فى أيام معدودة؟ لم أدرِ حينذاك أنه بعد خمس سنوات سأخرج أول أفلامى الروائية «ضربة شمس»، وكلما تذكرت «البطيخة»، فقدت أمل العثور على نسخة من الفيلم إلى أن فوجئت منذ بضع سنوات، وبمناسبة أحد أعياد ميلادى، أهدانى معجب بأفلامى بوبينة، أى علبة فيلم، مؤكدا أن الفيلم الذى بداخلها هو «البطيخة»، ولم يبُح لى من أين حصل عليها، ولم أجد فرصة لفحص النسخة، خصوصا أن الفيلم على شريط سينمائى ٣٥ مم، وهناك غياب لإمكانية فحصها.

 

طلب منى الفيلم فى ما بعد ليشترك فى مهرجان الإسماعيلية فاكتشف أن النسخة التى لدىّ هى مجرد نيجاتيف صورة فقط دون نيجاتيف الصوت. فى سباق مع الزمن وبعد مزيد من البحث فى مخازن مونتير الفيلم أحمد متولى عثر على نسخة للفيلم فى حالة مقبولة، تعهدت إدارة المهرجان مشكورة بترميمها إذا لزم الأمر، وتحضير نسخة خاصة لى، إلى جانب ماستر ديجيتال لنسخ الدى فى دى بعد ذلك. وأخيرا وبعد حوالى أربعين عاما التقيت بفيلمى على الشاشة.
 
جريدة "التحرير" 4 يوليو 2012

الجمعة، 20 يوليو 2012

الاسماعيلية 15: دورة "المعجزات" السينمائية حقا وعن جدارة

                   

                                    
              
صلاح هاشم

               

ترددت كثيرا قبل الكتابة عن دورة مهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي للافلام الوثائقية والقصيرة التي أقيمت في الفترة من 23 الى 28 يونيو 2012 في مدينة الاسماعيلية الجميلة والرشيدة التي تربطني ببحرها وأناسها وسمكها ذكريات جد عزيزة، ومنذ زمن غارق في القدم.

كنت أتردد  في فترة الخمسينيات على مدينة الاسماعيلية مع والدتي، لزيارة بعض أقاربها هناك، وقضاء فترة الصيف في ضيافتهم، وكانت تلك الفترات التي أمضيتها في الاسماعيلية، وداخل معسكر للجيش الانجليزي، انتقلت ادارته الى أحد أقارب أمي، وكنا نهبط في الشقة الكبيرة المخصصة له ولعائلته الكبيرة في المعسكر كل سنة، من أجمل فترات سنوات عمري التي قضيتها في مصر، وكانت الاسماعيلية هي أول مدينة أزورها، خارج نطاق مدينة القاهرة التي نشأت وكبرت وتربيت في أزقتها وحواريها.

 ومنذ تلك الفترة بدأت أتعرف على مدينة الاسماعيلية الهادئة الصغيرة على حافة القنال، وأعجب بنظافتها وشوارعها ومساكنها ومعمارها الفرنسي الكلاسيكي ببيوتاته العريقة التي كانت محلا لسكن العائلات الفرنسية العاملة في هيئة القناة في الاسماعيلية.

وكانت المدينة تضم الكثير من الجاليات الاجنبية المهاجرة التي تعمل في مصر واندمجت مع أهلها في النسيج العرقي المصري العام للشعب المصري وشبعت من الاندماج حتى صار بعض افرادها يتحدثون العامية المصري بطلاقة مثل ابن البلد المصري الأصيل القادم من الأحياء الشعبية المصرية العريقة في السيدة زينب والحسين وباب الفتوح والموسكي.

 كانت الاسماعيلية في الخمسينيات والستينيات كما تمثلتها في ذهني أشبه ما تكون بمدينة قد خلقت أساسا وشيدت للأجانب، ومازال ذلك الطابع العام ولحسن الحظ هو المهيمن على روحها، كما خبرته وعهدته أثناء زيارتي الأخيرة للاسماعيلية لحضور الدورة الـ15 لمهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، برئاسة المخرج السينمائي مجدي أحمد على، وإدارة الناقد السينمائي الكبير أمير العمري. وتجمعني بهما الاثنان صداقة تاريخية أصيلة وعميقة من جهة، كما أني تشرفت بالعمل معهما  كمندوب لمهرجان الاسماعيلية في أوروبا، وكنت مشاركا هكذا في الاعداد لانطلاقة المهرجان الجديدة.

ولهذا كنت اتردد في الكتابة بموضوعية وواقعية عن المهرجان، اذ كيف يمكن للمرء – رحت هكذا  أتساءل-  أن يكتب بوضوعية عن شيء شخصي يحبه ويهتم به وينحاز اليه، ووجدت أنه، و من باب الحرص على الموضوعية فقط، من غير اللائق ابدا أن أقحم نفسي في مهمة تقييم المهرجان، والكتابة عن اضافاته وانجازاته، وأن أترك هذه المهمة للصحفيين والنقاد الحاضرين، وبخاصة بعد أن انتهيت من مسئولياتي والمهام الملقاة على عاتقي تجاه المهرجان، وصرت حرا وطليقا مثل بروميثيوس الذي سرق النار من الالهة، ولم أعد خاضعا من جهة الادارة لأية محاسبة.

لكني بعد طول تأمل وتفكير قررت أن أتراجع عن موقفي ذاك، بعد أن عشت خلال المهرجان  تجربة "سينمائية فريدة" من نوعها، تجربة سمحت لي بمتابعة ورصد حركة تأسيس المهرجان ومن عند درجة الصفر تقريبا، ورفعه في زمن قياسي، من مجرد فكرة "حول أهمية وجدوى تأسيس مهرجان جد جديد  ومغاير للسينما الوثائقية أو "سينما الواقع" في مصر، ويعود الفضل في مشاركتي كمندوب للمهرجان في أوروبا إلى الزميل الناقد الصديق أمير العمري الذي طلب مني ومنذ شهر فبراير الماضي وبمجرد صدور قرار بتعيينه مديرا للمهرجان، التفكير معه والتخطيط للـ"المولود" الجديد، والاستفادة من خبرتي كمندوب لمهرجان الاسكندرية السينمائي في فرنسا، وعلاقاتي بالاوساط السينمائية الغربية ومهرجاناتها.



غير أن ما شجعني على الكتابة عن المهرجان كوني عشت من الخارج  تلك التجربة السينمائية المهمة التي تقع في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير المصرية، الا وهي التأسيس لمهرجان سينمائي جديد في مصر، وباتجاه احداث تغيير جذري مهم وفاعل وحقيقي، في المشهد السينمائي المصري بعد الثورة.

ووجدت انها تجربة تستحق بالفعل أن يكتب عنها المرء كمراقب الآن و"موضوعي" من الخارج، لتكون شهادة  تاريخية لمصر السينما،  وحكاية للمغرمين بحكايات مصر الجديدة بعد الثورة، التي بدأت بدأت تتشكل وتخرج للنور من تحت الانقاض، وتشارك في التعمير والتغيير والتثوير الذي نحتاجه، في كل مجالات الحياة في مصر وبعد الثورة.

 ولذلك لم يكن غريبا أن يجد بعض النقاد أيضا ان الدورة 15 لمهرجان الاسماعيلية كانت جديدة و"ثورية" على عدة مستويات – انظر مقال الناقد أسامة عبد الفتاح في جريدة "القاهرة" بعنوان "مهرجان الاسماعيلية: دورة ثورية وجوائز عادلة"، وكنت علقت على مقال أسامة على صفحة الفيس بوك المخصصة للمدونة، وقلت في تعليقي على المقال في سطرين: "لقد كانت دورة المهرجان 15 رائعة عن حق كما كتب أسامة بنزاهة وموضوعية، وقد تشرفت فيها بالعمل مع الصديقين أمير العمري ومجدي أحمد علي، وسعدت بلقاء زملاء وأصدقاء أعزاء كثر، والتعرف ايضا على أصدقاء جدد. لقد كانت "دورة المعجزات" كما أحب أن أسميها بالنظر الى الظرف التي عاشتها، والانجازات ايضا التي حققتها و في زمن قياسي.. الف مبروك للعمري ومجدي أحمد على ومصر السينما والأمل في التغيير".

نجحت دورة المهرجان 15 التي حضرتها وتابعتها كمراقب من الخارج – بعد ان انتهت تكليفاتي –  نجحت في تحقيق وانجاز عدة "معجزات " بسبب ظروف الواقع السياسي الذي خاضته، وتشكلت خلاله، وقد حققت الدورة 15 تلك الانجازات بشهادة جميع من حضروا المهرجان وكتبوا عنه في زمن قياسي فقد كانت مصر أنذاك تعاني الكثير في أجواء تخبط و بلبلبة، وعدم وضوح في الرؤية  وكانت تقف على كف عفريت وكنا جميعا نخشى على وطننا من وقوع كارثة وندعو جميعا " ربنا يستر" حتى لاتقع حرب أهلية.

وهذا عن أول "معجزة" تحققت وأعني خلق كيان سينمائي مصري حقيقي أصيل من خلال مهرجان الاسماعيلية في ثوبه "المعاصر" الجديد، والتأكيد على أن صناعة المهرجانات لا تحتاج الى اعداد قائمة اختيار لمجموعة من الافلام الجديدة ومهما كانت قيمتها الفنية، بل لابد وأن تكون مؤسسة على "رؤية" VISION و"فكرة" محورية تدور حولها الافلام المختارة وقبل كل شيء، ومسنودة على "عامود" محوري وفلسفي، وبحيث تتحقق من مجموعة الافلام المعروضة في المهرجان، وتصب جميعها في نهر تلك الفكرة وتعمل على بلورتها.


وقد كانت "الفكرة" كما اعتمدها العمري للمهرجان هي النظر الى أفلام الدورة 15 المختارة من منظور "الثورة"، ولولا ان المهرجان قد استطاع أن يبلور بوضوح رؤيته هذه، ومن خلال خياراته ومطبوعاته وعروضه وندواته، لما كان له يقينا أن يحقق كل ذلك النجاح المدوي والباهر الذي حققه.


وكانت أول " ضربة " معلم لمهرجان الاسماعيلية في دورته الجديدة أن يؤسس لمهرجان على أسس علمية ومنهجية ترسخ لقيم ومفاهيم جديدة لصناعة المهرجانات في مصر بحرفية عالية وادارة ذكية في الادارة والتنظيم اعتمدت على الكفاءات صاحبة الخبرة في تلاحم وتضامن مع الكفاءات المصرية الشابة.

حقق مهرجان الاسماعيلية اذن في دورته الـ15 الجديدة الكثير ورسخ لذائقة جديدة من خلال خياراته السينمائية الصائبة لمجموعة كبيرة من الافلام المهمة – أكثر من مائة فيلم - التي أشاد الجميع بجديتها وتنوعها وجودتها.

ومثل ذلك الملاك الذي هبط في بابل كما في مسرحية الكاتب السويسري دورينمات حققت الدورة 15 عددا لابأس به من المعجزات، فقد رفعت لشادي عبد السلام فيلما عظيما من التراب في وصف مصر، يعيد اليها ذاكرتها المثقوبة، وهو يسأل من أين أتت يا ترى حكمة الحياة في مصر القديمة؟ وكيف أصبحت "مصر"  تشرق هكذا في وجوه الفلاحين الطيبين الذين يزرعون ويفلحون الأرض، ليجعل من أباطرة التراب هكذا ملوكا على ممالك الدلتا والصعيد وآخر نقطة على الحدود المصرية، ويجعلنا  نتأمل من خلال مشاهد فيلمه  البديع الأثير "هويتنا في مرآة المكان والزمان"، كاشفا على الطريق الى الله "رسالة" مصر الحضارية واستحوذ فيلمه على قلوبنا جميعا وجعلنا نشهق من عبقريته وجماله.


وكنت بعد مشاهدة الفيلم مباشرة ومفتونا بسحره وجماله في حفل افتتاح الدورة الجديدة اقترحت على رئيس المهرجان مجدي احمد على في التو توزيع الفيلم في المهرجانات الاوروبية والعالمية لعلمي بأنها سترحب بعرض ذلك العمل السينمائي الفذ على جمهورها، والتعريف بتراث واضافات السينما المصرية العظيمة والتذكير دوما بانجازاته، كما سمح المهرجان لمعجزة اخرى أن تتحقق في الدورة 15 وذلك بالظهور المفاجيء لسيدتنا العذراء مريم في المهرجان، وهذه قصة أخري سنعرض لفصولها ووقائعها المذهلة في وقفة قادمة".


والى جانب ندواته حول السينما الوثائقية واستعراض انجازاتها قبل وبعد الثورة في مصر والعالم العربي ودعوته  الناقد والمخرج قيس الزبيدي لالقاء "درس السينما" في المهرجان عبر مداخلة مهمة، أقام المهرجان معرضا تحية وتكريم للفنان ومهندس الديكور العبقري المصري الأصيل الراحل صلاح مرعي، وكرس لعرض أفلامه عن الثورة المصرية في عيون المخرجين الاجانب في حديقة في الهواء الطلق في قلب مدينة الاسماعيلية التي شهدت حضور جمهور غفير من أهل المدينة، واقبالا جماهيريا متزايدا يوما بعد يوم على مشاهدتها.


وكانت سعادتي كبيرة بالاختلاط في اطار المهرجان بالحشد الانساني الى جانب متعة مشاهدة الافلام، والتعرف على اصدقاء جدد في أجواء وقضاءات الصحبة التي استحدثها المهرجان، ومن ضمنهم المصور والمخرج السينمائي كمال عبد العزيز والكاتب الصحفي محمد الرفاعي وعالم الآثار على مجدي أحمد على، وكان المهرجان باجوائه الجميلة يشجع على توليد أفكار ومشروعات سينمائية جديدة وبطموح وأمل كبيرين في أن تخرج الى النور في أسرع وقت.

 وحسنا فعل المهرجان ايضا بتخصيص تظاهرة لعرض بعض افلام السينما المصرية الباهرة ولا أريد ان اقول القديمة مثل فيلم "نمرة 6"  للاستاذ المخرج الكبير صلاح أبو سيف ودعا بعض أصحاب هذه الافلام لحضور المهرجان مثل المخرج دواد عبد السيد، وكانت سهرة استرجاعية جميلة بعرض تلك الافلام التي ظلت لفترة طويلة "مهملة" وحبيسة العلب في عهد النظام البائد والاستماع الى مداخلات اصحابها.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger