الجمعة، 19 أغسطس 2011

في الطريق إلى الدورة الجديدة لمهرجان فينيسيا السينمائي




أمير العمري


مرت الآن خمسة وعشرون عاما بالتمام والكمال على بداية ترددي على مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي فقد كانت المرة الأولى التي أذهب فيها الى هذا المهرجان العريق الذي يعد الأول من نوعه في العالم، عام 1986.

كانت الكتابة عن السينما والأفلام والمهرجانات السينمائية في ذلك الزمن، تجد من يهتم بها من رؤساء التحرير في الصحف العربية، وكانت مقالاتنا ورسائلنا التي نبعث بها من المهرجانات تجد اهتماما كبيرا. كنت أقيم وأعمل وقتها في لندن التي قدمت للعيش فيها في مارس 1984.

أما اليوم، في عصر القنوات التليفزيونية التي تتوالد بغزارة، ولا تهتم سوى بنوع واحد فقط من البرامج هي البرامح الحوارية المسماة "التووك شو"، فلم يعد أحد يهتم بالنقد السينمائي في الصحف أو بالتغطيات النقدية المكثفة للمهرجانات السينمائية بل أصبح الاهتمام الغالب لا يتجاوز المساحات الخبرية المحدودة، والتحقيقات التي تدور عادة حول النجوم والكواكب وما شابه ذلك.

ورغم وجود عدد من القنوات المتخصصة في السينما الا أنها تهتم في معظمها سوى بعرض الأفلام، أي باستهلاكها دون الاهتمام بتقويمها وتقويم الحركة السينمائية عموما بشكل جدي، فمعظم هذه القنوات تبث من دول ليست بها حركة سينمائية أصلا، رغم أن مهرجانات السينما أيضا أصبحت تتوالد في تلك البلدان بل في العالم العربي كله شرقه وغربه، باستثناء الفشل الجزائري المشهود في اقامة أي مهرجان أو شبه مهرجان سينمائي له أي قيمة من أي نوع بسبب سيطرة العقلية الغاشمة السلطوية على التنظيم والادارة حتى يومنا هذا بحكم سيطرة العناصر الجامدة التي تربت في أحضان تنظيم شبه فاشستي يدعى جبهة التحرير أو حزب جبهة التحرير واسمه في حد ذاته يعكس جهلا فاضحا بأوليات اللغة العربية فكلمة حزب تلغي على الفور جبهة، ومعروف ان الجبهة السياسية عادة ما تتكون من عدة أحزاب، لكن موضوع اللغة ومشاكلها عند اخواننا في الجزائر هو موضوع آخر بكل تأكيد له شجونه وآلامه ومنغصاته أيضا!
الحياة على الليدو

في فينيسيا تلتقي السينما بالطبيعة الجميلة الساحرة، بالثقافة أيضا، هنا ليست هناك سوق سينمائية مزدحمة كما في مهرجانات أخرى شهيرة مثل كان، وليست هناك عروضا أو بالأحرى، استعراضات للأزياء الفاضحة على الشاطيء، كما أن الحياة عموما أكثر بساطة ورقة وسهولة في الحركة، وإن كانت الأسعار في قمة طغيانها، بسبب ضيق رقعة الجزيرة التي يقام فيها المهرجان (الليدو) وبالتالي محدودية عدد المطاعم والفنادق بشكل عام.

لقد كان دائما ما يدهشني في فينيسيا أن المهرجان، رغم كونه يقام في جزيرة رائعة وهادئة ونظيفة، إلا أنه يقام بعيدا عن فينيسيا "السياحية" أي فينيسيا ساحة "سان ماكو" والقنوات المتعددة والقوارب الفينيسية الشهيرة التي تسير قبيل الغروب في استعراضات خاصة مبهرة حينما يرتدي ملاحوها ملابس القرون الوسطى التي اشتهرت بها تلك المقاطعة "أو الدوقية" العريقة.

كثير من ضيوف المهرجان يفضلون الاقامة، ليس في جزيرة الليدو، بل في جزيرة فينيسيا الكبيرة (سان ماركو) أولا بسبب توفر الكثير من الفنادق التي يمكن أن تكون أقل كثيرا في أسعارها عن مثيلاتها في الليدو، كما أنها توفر بالطبع فرصة للتواجد وسط الأماكن التاريخية الشهيرة، لكن المرهق في الأمر أنه يتعين في هذه الحالة على المترددين بانتظام على عروض المهرجان، الذهاب والعودة بالسفن والعبارات التي تنقل مئات الأشخاص على مدار اليوم، ويستغرق الأمر وقتا طويلا بالطبع في الانتظار والابحار ثم الاتجاه من المرفأ الى موقع اقامة المهرجان، مما يقتضيه هذا كله من جهد ووقت ومال أيضا، خاصة اذا كنت مثلي تحتاج للعودة الى الفندق مرتين يوميا!

المنشآت الجديدة
صمت المهرجان هذا العام تماما عن ذكر أي شيء يتعلق بمسار العمل في تشييد القصر الجديد الكبير للمهرجان الذي بدا العمل فيه قبل ثلاث سنوات وكان من المقرر أن يفتتح قبيل انتهاء المدة الثانية لمدير المهرجان ماركو موللر باعتباره من قمة انجازاته خلال فترة توليه مسؤولية ادارة مهرجان فينيسيا التي دامت ثماني سنوات ولا يتوقع أن يتم التجديد له في العام القادم (نحن نتكلم هنا عن نظام ديمقراطي حقيقي تواري فيه العسكريون ورجال الدين تماما عن السلطة منذ دهر وليس كما في بلادنا التي يتوقع أن تشهد صراعات دامية قد تنتهي بالغاء السينما نفسها والشطب عليها بدعوى صلاح الدين والقوامة على المجتمع!!).

غير أن القائمين على أمر مهرجان فينيسيا يبشروننا بأنهم تمكنوا من استعادة رونق وبهاء "صالة جراندا" Sala Granda التي تعد القصر التاريخي الذي يقام فيه المهرجان العريق منذ عام 1937 (نشأ المهرجان أصلا في 1932 ولم يكن يقام في الليدو). هذه الدار الرائعة التصميم هي التي تقام فيها العروض الجماهيرية الرسمية للمهرجان، وقد تمكن المعماريون الايطاليون من إعادتها الى صورتها القديمة التاريخية التي كانت عليها، بل وبنفس طريقة الاضاءة التي كانت سائدة في ذلك الزمان من "عصر السينما"!

نقاد العرب
الغريب أن النقاد والصحفيين العرب قل اهتمامهم كثيرا بمهرجان فينيسيا عاما بعد عام. وقد كان حضورهم قد بلغ قمته في الثمانينيات عندما بدأت في التردد على المهرجان. كان يحضر عبد النور خليل وحسن شاه وسمير فريد وفوزي سليمان ومحمد رضا وعبد الستار ناجي وقصي صالح الدرويش وعرفان رشيد وغسان عبد الخالق وعز الدين مبروكي وربما فوزي سليمان وسمير نصري أيضا.

 



بقى من هؤلاء سمير فريد وعرفان رشيد ومبروكي ومحمد رضا وكاتب هذه السطور، وظل اسم أو اثنان جديدان يظهران أحيانا ثم يختفيان في العام التالي!


دورة حافلة
الدورة الثامنة والستون التي ستنطلق يوم 31 أغسطس الجاري أتوقع أن تكون دورة حافلة رغم غياب الكثير من الأسماء البارزة في عالم الاخراج السينمائي من الذين اعتادوا على القدوم الى فينيسيا وصنع المهرجان أسماءهم مثل الصيني جانج ييمو نجم سينما التسعينيات بلا منازع، والبريطاني بيتر جريناواي الذي توارى عن الأنظار منذ سنوات، لكن المهرجان سيعرض الأفلام الحديثة التي أخرجها رومان بولانسكي وأبيل فيرارا ووليم فريدكين (المخرج المخضرم صاحب تحفة الستينيات "الرابطة الفرنسية") وديفيد كروننبرج وألكسندر سوكوروف وأندريا أرنولد (مخرجة حوض الأسماك) وغيرهم.



المخرج الاسرائيلي عيران كوليرين يشارك في المسابقة أيضا بفيلم جديد يقال انه استكمال لرؤيته المتخيلة في فيلمه السابق "زيارة الفرقة الموسيقية" الذي أثار اهتماما وجدلا كبيرين في العالم العربي، بل وأثار أزمة كبرى لمهرجان الشرق الأوسط (أبو ظبي) في 2007 عندما تسربت أنباء عن اعتزام المهرجان عرضه تحت ستار انه فيلم يدعو الى السلام، ثم أنكر المهرجان الخبر ونفاه تماما، بعد أن قيل أن الدعوة كانت قد وجهت بالفعل الى مخرجه الذي يتباكى بأن فيلمه يدعو للسلام، بل ووصلت وقاحته الى القول بأن فيلمه فيلم "عربي"!

ومن المقرر أن يعرض فيلم "ليس هذا فيلما" للمخرج الإيراني جعفر بناهي خارج المسابقة دون حضور بناهي الممنوع من مغادرة بلاده ويقال انه في السجن بينما يقول مخرج ايراني معارض مقيم في باريس هو نادر همايوني انه غادر السجن، وانه لم يسجن أصلا بسبب افلامه بل لأسباب تتعلق بمعارضته السياسية للنظام أي بسبب موقفه السياسي في الحياة العامة وليس السينما بوجه خاص.
ولا أفهم ما المقصود بهذا من همايوني الا أن يكون تقليلا من شأن الضجة المقامة في الغرب بشأن موقف السلطات الايرانية من بناهي والاحتفاء المبالغ فيه بأفلامه. ويقال ان فيلمه الجديد أخرجه وهو في السجن، على طريقة المخرج التركي الراحل الكبير يلماظ جوني عندما أخرج رائعته الأخيرة "يول" أو "الطريق" (1982).



لننتظر ونرى ماذا سيحدث في فينيسيا 2011.. وانتظرونا في هذا الموقع يوميا من هناك.

الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

فيلم "شجرة الحياة": رحلة سيريالية لاكتشاف أسرار الكون




أمير العمري




بعض الأفلام لا يمكن الاكتفاء بمشاهدتها مرة واحدة فقط للإحاطة بها وبكل ما تتضمنه من إشارات، ورموز، وإيحاءات ، ومعان، وصور، قد تبدو متعارضة أو متناقضة أو ربما توجد في سياق لا يسهل تفكيكه بصريا للوهلة الأولى، أو من المشاهدة الأولى.

من هذه الأفلام الفيلم الحائز على "السعفة الذهبية" في "كان" والذي كنا ننتظره منذ سنوات، وهو فيلم "شجرة الحياة" The Tree of Life للمخرج الأمريكي تيرنس ماليك.

وقد شاهدت الفيلم للمرة الأولى عند عرضه في مسابقة مهرجان كان السينمائي ولكني عدت لمشاهدته مرة ثانية في اليوم الأخير من أيام المهرجان حينما يعاد عرض جميع أفلام المسابقة في مواعيد محددة لمن فاته مشاهدة البعض منها. وفي المشاهدة الثانية، أمكنني أن أتأمل، وأغوص في أعماق الفيلم، وأتمكن ولو بشكل ما، من تفكيك بعض عناصره، والأهم من هذا، الاستمتاع به وبإيقاعه الموسيقي الذي يقترب من إيقاع السيمفونية بل هو أقرب الى البناء السيمفوني ولكنه هنا، بناء بصري، مركب بدقة وبحيث يعبر عما يدور داخل عقل وقلب ووجدان ذلك السينمائي الأشهر الذي لم يخرج سوى خمسة أفلام فقط خلال ما يقرب من 40 عاما، وهذا الفيلم هو خامسها.

يتعين علي الاعتراف بأن "شجرة الحياة" من الأفلام التي يطلق عليها البعض "أفلاما صعبة" أي مركبة في بنائها ودلالاتها، فليس من الممكن قراءة واستيعاب كل ما تتضمنه من معالم وإشارات، من المستوى الأولى الخارجي، بل لابد من الغوص قليلا في أعماقها لكي يتمكن المشاهد من الاستمتاع بها.

تيرنس ماليك ليس كسائر المخرجين الأمريكيين، فهو ينتمي إلى فصيلة أورسون ويلز، أي أنه لا يخضع للمواصفات السائدة التي تفرضها ستديوهات هوليوود على المخرجين الأمريكيين وغير الأمريكيين في العمل، بل يعبر عن رؤيته الخاصة للعالم، من خلال إعادة تشكيل الأدوات التي يستخدمها في التعبير عن تلك الرؤية. هذه الرؤية تجنح عادة في كل أفلامه، إلى الميتافيزيقي والروحاني مضمونا، وتميل في "شجرة الحياة" بوضوح، إلى السيريالي شكلا.

هنا نحن أمام شخصية رئيسية هي شخصية "جاك" الذي نراه في البداية بعد أن أصبح رجلا في الخمسين من عمره أو ما يزيد، يعمل في أحد مكاتب الهندسة المعمارية في نيويورك، لكنه وهو ينشغل بالتطلع الى التصميمات الهندسية على شاشة الكومبيوتر، يسرح ببصره إلى النوافذ الزجاجية الضخمة التي تحلق على غابة ناطحات السحاب في المدينة المتوحشة، يتطلع إلى الماضي، ويعود بذاكرته إلى نشأته وهو بعد صبي، في بلدة من ولاية تكساس في خمسينيات القرن الماضي. وهكذا يعبر بنا تيرنس ماليك، من الحاضر الذي لا يعيره عادة اهتماما كبيرا ويعتبره مرادفا للتفكك والانهيار الروحي والأخلاقي والاجتماعي والإنساني، إلى الماضي الذي يعبر من خلاله في كل أفلامه السابقة، عن نزعة "ماضوية" بالمعنى الفلسفي، أي باعتبار الماضي مرادفا للبراءة، للبدايات، لتفتح الوعي على مكونات الدنيا والعالم، لطرح التساؤلات الصعبة عن معنى الوجود، ومغزى تلك الحياةعلاقة الإنسان بالطبيعة، وما يفعله بنا فراق الأحباء بالموت، بل ومغزى الموت نفسه. كل هذه المعاني لها ما يعادلها بصريا في سياق هذا الفيلم الذي قضى مخرجه نحو ست سنوات قبل أن يتمكن من الشعور بالرضا عنه، وجاء في ساعتين و18 دقيقة.




جاك يمرح مع شقيقيه في المزارع امحيطة ببيت الأسرة، ولكن ما هو أهم من الشقيقين والأكثر تأثيرا على حياة جاك وشقيقيه، هما الأب والأم، وهما شخصيتان مفصليتان في الفيلم: الأب يدعى مستر أوبريان دون أن نعرف اسمه الأول (يقوم بدوره ببراعة نادرة الممثل براد بيت ربما في أهم أدواره على الإطلاق حتى الآن).. وهو رجل حائر ممزق بين ميوله الفنية الموسيقية في الماضي التي لم تتحقق، وما يمكن أن يكون قد نتج عن ذلك من "إحباط"، وبين دوره الحقيقي الآن كموظف في شركة أو مصنع قريب للمواد الزراعية في تلك المنطقة الريفية التي تتميز بغاباتها ومزارعها الشاسعة الخلابة.

إنه يعزف على آلة الأورج، وعلى البيانو في المنزل، ويدير أسطوانة السيمفونية الرابعة لبرامز خلال العشاء، لكنه أيضا يتمتع بروح "عملية" تهتم بالبيئة حقا ولكن على أسس منفعية مباشرة، وهو يربي أولاده بطريقة خشنة، جافة، رغبة منه في تنشئتهم أقوياء. وهم لذلك يشعرون بالخوف أمامه، لكنهم يحملون له ايضا الحب: إنه شكل أقرب إلى مزيج من الاحترام والهيبة، والتقدير والعرفان والارتباط بقوة أكبر، يمكنها أن تمنح الشعور بالأمان، لكنها تفرض شروطا معينة من الانضباط السلوكي في مقابل ذلك.

أما الأم فهي على النقيض من ذلك الطابع الجاف المهيمن، إنها امرأة متدينة شديدة التعمق في تأملها الصوفي الذي يجعلها تربي أبناءها على عدم اغضاب أحد، وهي تتمتم بآيات من الأنجيل قبيل تناول الطعام. إلا أنها تصاب بصدمة هائلة، تتعرض لها الأسرة كلها أيضا، بل وتفجع بتلقي خبر وفاة ابنها الغائب، على الأرجح في الحرب الكورية، فنحن نشاهد عسكريا شابا يأتي لابلاغها بالنبأ المحزن قبل أن يختفي بسرعة.

الأم تخوض في رحلة روحية تلغي الحدود بين الواقع والخيال، اهتمامها بأبنائها يصل درجة الهوس خوفا عليهم ورقتها مبالغ بها، في التعامل معهم على النقيض من الأب (أوبريان) الذي يمثل نوعا من الرمز الذي يجمع بين القوة والجبروت والرقة، وبين الفن والروح العملية، وبين الخشونة الذكورية، والالتزام بالتقاليد الأسرية.

أما بطلنا جاك فهو ذلك المتأمل الذي نسمع صوته على مقاطع من الفيلم يروي لنا جوانب من تلك التجارب الأولية التي تركت تأثيرها القوي عليه، في حين يسحبنا تيرنس ماليك خارج هذه العائلة التي يعتبرها أصل المجتمع الدنيوي وأساسه، بعد حوالي 20 دقيقة من بداية الفيلم، في رحلة "أوديسية" سيريالية تتشكل الرؤى فيها من لقطات عديدة تتشابك وتتعاقب في تشكيلات لونية مذهلة، شديدة الجمال، تمتزج بالموسيقى الكلاسيكية فتصبح تعبيرا روحيا عن ذلك الأفق الأوسع الذي يصبح فيه العقل البشري أدنى مما يعتقد، وأقل من أن يحيط ويستوعب: تشكيلات لصور من النباتات والأشجار والسحب والمحيطات والحشرات، ولنهر يعرج على احدى ضفتيه ديناصور جريح بينما يقترب منه ديناصور آخر، صحراء قاحلة برمالها الناعمة التي تنعكس عليها أشعة الشمس الحارقة، مجموعات من الكواكب والنجوم تدور في مجراتها.. إنها عودة إلى أصل الحياة، أصل الكون، الوجود: ما الذي يجعله يستمر، ما معنى الحياة نفسها، كيف يستمر الإنسان رغم الموت، ما الذي يمكن أن يسلب الإنسان الحياة. تساؤلات غير مباشرة تدور تحت جلد الصور دون أن ترتبط بالضرروة ارتباطا "دراميا" بمسار الفيلم.

هذه اللقطات السيريالية تستغرق نحو 18 دقيقة على دفعتين، وقد استعان المخرج في تنفيذها بخبير المؤثرات البصرية الشهير دوجلاس ترومبل المسؤول عن المؤثرات المشابهة التي استخدمها ستانلي كوبريك في فيلمه الأشهر "2001.. أوديسا الفضاء" وهو ما جعل البعض يقارن بين "شجرة الحياة" وبين فيلم كوبريك، من حيث علاقة الفيلمين بعالم الميتافيريقا، وبالبحث الشاق عن أصل الوجود.

وعلى الرغم من الصور الخلابة، والاستخدامات المحسوبة بدقة لحركة الكاميرا (وهي تتحرك كثيرا في هذا الفيلم) والاختيار الدقيق لزوايا التصوير بحيث تصبح العلاقة بين الشخصيات والمكان، بين الإنسان والعالم، علاقة عضوية وثيقة ذات مغزى في السياق، ورغم أن خمسة من المونتيرين عملوا على التحكم في مسار الفيلم، وحساب الانتقالات بين مشهد وآخر، وبين التجسيد المباشر، إلا أن الفيلم يعاني من بعض الاستطرادات والتكرار خاصة في المشاهد التجريدية للطبيعة والكون، والانفجارات الكونية، كما يفتقد الفيلم الى الرابط بين ظهور جاك (شون بن) في النهاية وبين الشذرات التي شاهدناها من حياته.. إن المدخل الدرامي للفيلم، أي شخصية جاك تضيع وتضل في النهاية عندما يظهر وهو يسير على شاطيء يغوض بقدميه مرتديا بزلته الرسمية وربطة عنقه، داخل المياه مبتعدا تدريجيا دون أن نعرف علام استقر ضميره أو انتوت نيته. لكن المؤكد أنه لم يصل قط إلى اليقين.

من البديع أن نجلس لنشاهد ونتأمل كل ذلك السحر الذي يكمن في مشاهد "شجرة الحياة"، نرتد إلى أصل الخلق، وأصل الحياة، نحاول أن نفهم سر وجودنا ووجود الكون والعالم، لكن الأهم في رأيي، ولعله من أهم ما نخرج به من هذا الفيلم الكبير، أننا نخرج ونحن أكثر حبا للطبيعة ولجمال الحياة، وأكثر تقديرا وحبا للخالق العظيم الذي صنع كل هذا الجمال في الكون، وكل ذلك التوازن، في الحياة، وفي الفن أيضا!


الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

هذه الفاشية القادمة



إذا انتهت الثورات العظيمة بأن تأتي ببعض أشباه القرود في أمخاخهم وسحنتهم، وببعض الماضويين عبدة الفرد وليس الله العظيم، وعباد الانفراد بالرأي، والتضليل المتعمد استنادا الى المنطق الانتهازي المعروف الغاية تبرر الوسيلة، واذا كانت الغاية هي التحكم المطلق (باسم الدين) في العباد والقبض على الرقاب، وضرب وطعن واعتقال كل المخالفين في الرأي والعقيدة، وارغام المرأة على أن تصبح مسخا، وفرض طريقة واحدة للتدين يرونها الحق ودونها الباطل، كل هذه النهايات المفترضة التي تلوح لنا بشبح الفاشية، جديرة بأن تدفع كل القوى المدافعة عن الحرية إلى التسلح والاستعداد للدفاع عن الحرية ولو بالقوة وبالدم وبالسلاح، وغير ذلك لن يجدي بل سيتم ذبحها في الميادين العامة كما فعلت ميليشيات هتلر في قلب أوروبا في القرن الماضي!

الأربعاء، 27 يوليو 2011

مهرجانات سيئة السمعة


الغاء مهرجانات السينما التي تقام في مصر هذا العام بسبب الأوضاع السياسية والأمنية لو كان سيساعد أيضا في اعادة النظر في هذه المهرجانات وكل ما يحيط بها بحيث يمكن تطويرها شريطة أن يتعاون في ذلك الخبراء والمثقفون والسينمائيون، ولا يترك الأمر لجهاز الدولة البيروقراطي الذي أثبت فشله في ادارة العملية الثقافية كلها منذ فض أنور السادات ذلك التحالف عير المكتوب، بين المثقفين والدولة، قبل أربعين عاما وقرر أن يصبح "كل شيء للبيع" (وهو عنوان فيلم من أفلام أندريه فايدا العظيمة)!
لقد أصبحت مهرجانات السينما في مصر مهرجانات سيئة السمعة، وهو التعبير الذي استخدمناه منذ التسعينيات ويجده البعض "غير مفهوم" في أحسن الأحوال!
والمقصود بسوء السمعة هنا التدني في كل شيء: من أول الافتتاح الى البرنامج الى نظام العرض الى تشكيل لجان التحكيم الى الختام.
المشكلة المزمنة المعروفة التي كانت دائما تتكرر في معظم مهرجانات مصر السينمائية هي تقديم المسؤولين من أول الوزير (رمز السلطة الغاشمة الفاسدة) إلى المحافظ وغيره على كل الفنيين المسؤولين عن المهرجان نفسه وأولهم يجب أن يكون المدير الفني، لكن في مصر هذا المدير الفني غير موجود أو مهمش أو مغيب تماما، فالنظام المهرجاني في مصر "رئاسي" يتمتع فيه الرئيس أي رئيس المهرجان، أي شيخ القبيلة أو ناظر العزبة أو المسؤول عن ادارة تلك "الاقطاعية" التي حصل عليها مكافأة من أسياده في قمة السلطة على إجادته دور "الحذاء" أي حذاء السلطة، يتمتع بكل جوانب الوجاهة والظهور الاعلامي الوقح دون أن يكون له أي دور في الواقع، بل إنه في الحالة المصرية لا يعرف اصلا من هم ضيوف المهرجان ولا أهمية أفلامه اذا كانت لها أي أهمية، كما لا يطلع على أي جانب فني يتعلق بمسار المهرجان، اكتفاء بالظهور في حفلي الافتتاح والختام والوقوف أمام الكاميرات لالتقاط الصور مع النجوم!
اما موظفي وزارة الثقافة الذين يتولون مناصب مديري المهرجانات التي تصف نفسها بـ"الجادة" فهم أيضا لا يتمتعون بأي درجة من درجات المعرفة بثقافة المهرجانات، ويتصرفون عادة كخدم للوزير، ولا يستنكف الواحد منهم أن يقف على المنصة في حفل الختام لكي يسرد على الوزير احصائية بالارقام لعدد الافلام والضيوف وغير ذلك من "انجازات" مهرجانه وكأنه يقدم تقريرا لرئيسه وولي نعمته!
وعندما نقول إنها مهرجانات "سيئة السمعة" فنحن نقصد أنها مهرجانات لا تحترم جمهورها بل تمارس الاحتيال عليهم، فهي لا تحترم تقاليد العرض المتعارف عليها عالميا (وضوح الصوت والصورة وملائمة دور العرض من حيث المقاعد وتصميم الشاشة واجهزة الصوت..الخ) كما لا تحترم تقاليد المشاهدة، فهي تسمح لفئة معينة من الجمهور (من موظفي وزارة الثقافة وأفراد أسرهم) بالدخول والخروج من قاعات العرض وقتما شاءوا طوال عرض الفيلم بما يحدثه هذا من ضجيج وفوضى مستمرة وممتدة في ظاهرة لا وجود لها في أي مكان على وجه الأرض!
وهي "سيئة السمعة" أيضا لأنها مهرجانات لا تحترم البرنامج الذي تضعه، فأنت تذهب الى دار العرض لمشاهدة فيلم معين موجود في البرنامج في هذا الوقت لكي تجد فيلما آخر مختلفا مكانه أو لا تجد أي فيلم على الاطلاق، فالأمر يخضع لمزاج صاحب دار السينما الذؤي ربما يجد أن الفيلم المعروض لا يجذب شريحة كبيرة من الجمهور فيمنع عرض الفيلم، وقد يمنعه أيضا في حالى وجود مشاهد فيه لا تتناسب مع نظرته الخاصة للسينما!
وهي "سيئة السمعة" لأنها لا تحترم النشاط الثقافي، من ندوات ومطبوعات، ولا تحترم الصحافة الدولية فتترجم لهم المؤتمرات الصحفية أو المعلومات، كما لا تحترم جمهورها الأصلي في بلد المهرجان بتجاهل ضرورة ترجمة الأفلام الى اللغة العربية اكتفاء بالانجليزية أو الفرنسية!
"سيئة السمعة" لأنها تقدم حفل العشاء على فيلم الافتتاح، أي تضفي عليه أهمية كبرى تجعل الضيوف يغادرون القاعة قبل عرض الفيلم بينما يتطلع مخرج الفيلم في استغراب ودهشة!
وكما حدث أكثر من مرة قد يعرض الفيلم دون ترتيب في فصوله أي يعرض الفصل السابع مكان الرابع دون أن يدرك أحد الخلل، وعندما ينتبه مخرج الفيلم ويلفت نظر المسؤولين عن العرض لا أحد يهتم بوقف العرض واعادة عرض الفيلم بالترتيب الصحيح. وقبل ثلاث سنوات فقط عرضت لقطات من أفلام جوليانو مونتالدو بدلا من أفلام ماركو بيللوكيو الذي كان مكرما في المهرجان، وكان الرجل يقف على المنصة الى جوار وزير الحظيرة فاروق حسني فتناول الميكروفون وقال انها هذه اللقطات ليست من افلامه ولنما من افلام صديقه المخرج الايطالي الذي يكن له كل ود وتقدير واحترام، ولم يعتذر أحد من ادارة المهرجان واكتفى الوزير بالابتسامة البلهاء!
وسيئة السمعة أيضا لأنها تضع عددا كبيرا من الأعضاء في لجان التحكيم من الدولة المضيفة إلى جانب واحد أو اثنين من الدول العربية "الصديقة" أي أن مهرجانا مثل مهرجان القاهرة يتحول الى مهرجان "إقليمي"، كما أنه يصبح مهرجانا محليا عندما يصر على الاحتفال (أو تكريم) عدة شخصيات سينمائية وموسيقية من مصر، وقد يصل العدد الى سبع شخصيات، وفي سورية يصل الى 12 شخصية، فماذا نطلق على تلك المهرجانات التي تحتفل بنفسها. وعندما لا تجد شيئا تفعله تجعل دورة المهرجان مخصصة للاحتفال بالسينما المصرية، ولكن عن طريق الاستعراض وليس عرض مجموعة من الأفلام الجيدة في نسخ جديدة صالحة كما يعمل به في العالم.
إنه منطق السلعة المغشوشة والاحتفالية الزائفة واختصار المهرجان السينمائي الذي يفترض أن يقيم ندوات ومناقشات ومؤتمرات للاحتكاك الثقافي بين الشرق والغرب، إلى "زفة" على البساط الأحمر!
هل سيتمكن نفس الأشخاص الذين كانوا دائما هناك، في الحياة الثقافية والسينمائية في مصر، من الإصلاح والتقويم وتقديم خطط بديلة للنهوض بمهرجانات السينما، وهل يمكن أصلا التجديد باستخدام "القديم"!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger