الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

المؤثرات التسجيلية في فيلم "بيوتيفول"

فيلم "بيوتيفول" Biutiful هو أحدث أفلام المخرج المكسيكي الشهير أليخاندرو إيناريتو جونزاليس صاحب ثلاثية الموت "أموروس بيروس" (ملعون الحب)، "21 جراما"، و"بابل"، والفيلم، على نحو ما، امتداد لتلك الثلاثية. غير أنه الفيلم الأول لمخرجه، الذي لا يكتب له السيناريو الكاتب المكسيكي جيلرمو أرياجا، بل كتبه إيناريتو نفسه بالتعاون مع كاتب أرجنتيني. وهو أيضا فيلمه الأول الذي تدور أحداثه في إسبانيا.
أسلوب الإخراج المميز لأفلام إيناريتو واضح هنا رغم اختلاف طريقة السرد، الذي يقوم على محاور عدة، تلتقي وتتقاطع معا حول شخصية اللابطل، الفرد، المهزوم من البداية، المقضي عليه أيضا بالموت، فهو يعاني من سرطان المثانة ولم يعد أمامه سوى شهرين في الحياة، كما يقول له الأطباء.
"أوكسبال" (الذي يقوم بدوره الممثل الإسباني خافيير بارديم) لا يعاني فقط من المرض العضال الذي يأكل حياته ساعة بعد أخرى، بل من تمزق علاقته بزوجته (عاهرة سابقة، مدمنة خمر، مريضة بمرض ازدواج الرؤية، تعاني من نوبات توتر عصبي حاد).. وقد انفصل عنها منذ فترة، لكنها تتردد على مسكنه الضيق لرؤية طفليها منه، تريد العودة إليه، لكنها لا تستطيع رعاية الطفلين بعد أن قضت المحكمة بإسناد حضانة الطفلين إليه. وهي ايضا تخونه مع شقيقه.
ولكن كيف يعيش "أوكسبال".. هذا الرجل الذي فقد الأب أخيرا، وفقد الزوجة من قبل على نحو ما، والآن هو مهدد بفقدان الحياة نفسها وترك طفليه خلفه؟
إنه نموذج واقعي تماما للرجل الهامشي الضائع، الذي يعيش على هامش مجتمع الحياة في مدينة برشلونة. من هذا المدخل، أي من مدخل العلاقة بين الرجل والمدينة، يكثف إيناريتو (المكسيكي) رؤيته الخاصة لبرشلونة التي تختلف تمام هنا، عن برشلونة "السياحية" الملونة التي رأيناها في فيلم وودي ألين "برشلونة فيكي كريستينا".
إن "برشلونة إيناريتو" يناسبها أكثر الطابع التسجيلي المباشر، الذي يجعل بطله- اللابطل، شاهدا على هذا الواقع، ومنغمسا فيه أيضا: إنها برشلونة المهاجرين غير الشرعيين، والمطاردت بين الشرطة وهؤلاء، وبائعي المخدرات في الزوايا والأركان المظلمة من الشوارع، وكيف امتد الفساد إلى الشرطة، وأصبح هناك من الضباط من يتستر على ممارسات البعض من المهاجرين غير الشرعيين في مجال توزيع المخدرات مقابل الحصول على المال، والظروف الشاقة التي يعيش فيها المهاجرون على هامش الحياة..إلخ
يبدأ الفيلم بداية شاعرية ناعمة في مشهد يبدو كما لو كان يدور بين الحلم واليقظة، نرى فيه بطلنا "أوكسبال"، يقف في غابة في الصباح الباكر، يتأمل الطبيعة، ويرى جثة بومة ماتت لتوها، ويتبدى له شاب افريقي الأصل، يقول له كيف أن البومة قبل أن تموت تنفث شعيرات من أنفها وتلصقها بالأشجار، لتخلق حياة جديدة، ثم يقلد له أصوات الثعالب والريح.. وتتداعى الصور في مخيلة أوكسبال، الذي أصبح مشرفا على الموت، ويتكرر هذا المشهد عند النهاية، بعد ان أصبح أوكسبال متأهبا لاستقبال الموت.
الحي الذي يقيم فيه "أوكسبال" في برشلونة هو حي معروف بكثرة المهاجرين الوافدين الذين يقيمون فيه، من الآسيويين، والصينيين تحديدا، إلى الأفارقة من السنغال ووسط أفريقيا، إلى الرومانيين والبولنديين، وغيرهم.
تتقاطع حياة أوكسبال تقاطعا أصيلا مع حياة الكثير من هؤلاء المهاجرين، فهو مسؤول عن 24 صينيا استقدمهم للعمل أو ضمن دخولهم البلاد، ولكنه يبقيهم تحت رحمة اثنين من أقرانهم يستغلونهم أبشع استغلال ويبقونهم تحت خط الحياة في مخزن بارد تحت الأرض.
وفي الوقت نفسه يستخدم بعض المهاجرين الافارقة في بيع السلع التي يصنعها الصينيون في الشوارع. وهو بالتالي يلهث طيلة الوقت لتدبير الأمور، الحصول على المقابل المالي من الذين يشغلون الصينيين، ورعاية طفليه، واسكات الشرطي الذي يطالب بالمال وإلا أبلغ عن المخالفات العديدة المتراكمة التي يقوم بها، واللهاث وراء علاج قد يطيل بعضة أيام من عمره وهو الذي يتبول دما.
وفي مشهد يمتليء بالحيوية مصور في الشارع، نرى الباعة الأفارقة من المهاجرين غير الشرعيين، يحملون سلالهم الشهيرة، وفجأة تهاجم الشرطة الحي، ويحدث هرج ومرج، وتقع مطاردات وتعتدي الشرطة بوحشية على المهاجرين البؤساء، وتعتقل الكثيرين منهم، ويشهد بطلنا ما يجري وعندما يحاول التدخل يلقى القبض عليه أيضا.
هنا يطغى أسلوب الفيلم التسجيلي على المشهد تماما بكل عناصره: الكاميرا المحمولة على الكتف التي تضفي اهتزازاتها الطابع الواقعي التسجيلي على المشهد كما لو كنا نشاهد لقطات من الجريدة السينمائية أو من التقارير التليفزيونية الاخبارية، وزوايا التصوير المتنوعة التي تساعد في الإحاطة بكافة أركان المشهد، والانتقالات السريعة بين اللقطات، لتغطية المكان بما يحدث فيه في لقطات متنوعة، استخدام المجموعات الحقيقية من المهاجرين وتصوير كيف يتعرضون للمطاردة والمداهمة بالتفصيل وبكل ما يحمله المشهد من عنف بالغ.
وفي مشهد آخر نرى العمال الصينيين وهم يرقدون مكدسين في المخرن البارد، بينهم نساء وأطفال يبكون، وصاحب العمل يوقظهم في غلظة لكي يبدأوا العمل. وإلى مسكن جماعي يقيم فيه عدد كبير من المهاجرين الأفارقة، يتوجه بطلنا لكي يقدم مساعدة مالية لزوجة أحد المقبوض عليهم وكان من ضمن الذين يعملون لحسابه في توزيع المنتجات، ونرى كيف يتكدس المكان بالبشر في ظروف متدنية للغاية، آيات قرآنية معلقة على الحائط، امرأة افريقية تغسل الملابس، دورات مياه قذرة، أطفال يبكون. وعندما ينتهي هذا المشهد، ينتقل المخرج إلى منظر للكاتدرائية الشهيرة المميزة لمدينة برشلونة، أي كاتدرائية "العائلة المقدسة" التي تعد العلامة السياحية الشهيرة للمدينة، تجسيدا للتناقض الفاضح بين العالمين.
وفي مشهد آخر نرى مخيما كبيرا لإيواء المهاجرين الأفارقة، حيث يذهب أوكسبال للبحث عن الرجل السنغالي المسلم الذي ألقي القبض عليه، وهناك يعلم أنهم يقومون بترحيل المهاجرين دون النظر إلى وضعهم العائلي وظروفهم الشخصية، فزوجة هذا الرجل حصلت على اقامة شرعية، وهي ترعة ابنه، وهي التي سيوكل لها أوكسبال في النهاية رعاية طفليه قبيل رحيله عن الحياة، لكن صديق أوكسبال الشرطي يقول له بوضوح إنه لا يمكنه أن يفعل شيئا في هذه الحالة، أي لا يملك أن يغير من قرار الترحيل.
أجهزة التدفئة الرخيصة التي لا تتوفر فيها ضمانات الأمان التي يشتريها أوكسبال لتدفئة المخرن الذي يتكدس فيه العمال الصينيون، تتسبب في مأساة، عندما يتسرب الغاز منها ليلا، فيقضي 24 صينيا بينهم نساء وأطفال، حتفهم في مشهد مروع. وتتفجر الفضيحة في أجهزة الإعلام عندما تطفو جثث الصينيين فوق سطح البحر، ويتضح أن الرجلين الصينيين اللذين يقوما بتشغيلهم قاما بنقل الجثث وألقيا بها في مياه البحر لإخفاء حقيقة ما وقع.
أوكسبال إذن نموذج مكثف للبريء- المذنب، فهو مسؤول عما آلت إليه الأمور، لكنه أيضا البريء الذي يتحايل لكي يساعد نفسه ويساعد الآخرين على النجاة من هذا الواقع الكابوسي الذي يشده إلى أسفل. إنه الأب الذي يكتشف معنى الأبوة متأخرا، ربما بعد أن توفي والده، ويكتشف أنه أهدر حياته فيما لا ينفع، وأن وناياه الطيبة لا تؤدي دائما إلى الخلاص بل يمكن أن تقود إلى المآسي سواء لنفسه أو للآخرين.
ولعل من مشاكل البناء في الفيلم الافراط كثيرا في التفريعات والتعرجات الدرامية. صحيح أنها تخدم الفكرة، لكنها تنحرف بالفيلم في اتجاهات فرعية بعيدة عن البؤرة الدرامية الأساسية. إننا نرى مثلا، كيف يمتلك أوكسبال، رغم إغراقه في العالم السفلي الواقعي الصرف، قدرة روحية خاصة على محادثة الأرواح والاتصال بها، وكيف يستعين به الكثير من اقاربه ومعارفه لتسكين أرواح أحيائهم قبيل مغادرتهم الحياة وهم على فراش الموت.
ونرى أيضا كيف أنه في غمرة لهاثه من أجل البقاء في الحياة، لا يمانع من بيع قبر والده لشركة تقيم فوقه سوقا تجاريا كبيرا، مقابل الحصول على بعض المال، على أن يقوم بحرق الجثة، رغم ارتباطه الشخصي بوالده الذي توفي حديثا في المكسيك ونقلت جثته إلى اسبانيا.
وهناك أيضا المشهد الطويل الذي يدور في المرقص حيث يذهب للبحث عن شقيقه، والحديث الذي يدور بينه وبين إحدى العاهرات اللاتي يجالسهن شقيقه، وأوكسبال يحدثها عن الموت، وكيف أن نهاية حياته قد اقتربت، في حين تطالبه الفتاة بالرقص وتناول الشراب، دون أن تفهم بالضبط ما يتحدث عنه، وهو من المشاهد الزائدة التي كان من الأفضل التحلص منها.
ولعل أهم ما يبقى في الذاكرة من هذا الفيلم تلك المشاهد الخارجية التسجيلية الطابع التي تصبغ الفيلم بصبغة واقعية وتجعل الشخصية جزءا لا يتجزأ من المكان، من المحيط المتدني، وكأننا نشهد "الجحيم الأرضي" خاصة وأن شخصية أوكسبال تبدو لرجل باحث عن الخلاص، كما أنه يدرك متأخرا أن عليه دينا يتعين تسديده، لولديه أساسا، اللذين يجب أن يترك لهما أكبر مبلغ ممكن من المال قبل أن يودع الحياة.
وشأن افلام إيناريتو الأخرى، ليست هناك مساحة كبيرة للتفاؤل في هذا الفيلم، لكن ليس هناك أيضا فزع من فكرة الموت، فالدنيا التي يصورها لا تغري بالبقاء فيها طويلا، في حين أن الصورة العذبة النقية التي يقدمها في مشهد ما قبل البداية وهو نفسه مشهد النهاية، لعالم ما بعد الموت، تبعث على الإحساس بالراحة والانسجام مع النفس. إنها رؤية الفنان وفلسفته الخاصة تتجسد هنا بأبلغ ما يمكن من خلال الصور واللقطات والموسيقى الحزينة لنغمات البيانو أو الأورج، والإضاءة الشاحبة الداكنة، والأبخرة المتصاعدة في قاع مدينة برشلونة، ولعل المدينة هنا تصبح على نحو ما أيضا، وعاء يحتوي مختلف الأجناس كمعادل للدنيا.
والمؤكد ايضا أن هذا الفيلم ما كان لياتي على هذا النحو من التجسيد المكثف المعبر الموحي بعشرات المشاعر إلا بفضل الأداء التمثيلي المتميز كثيرا، للممثل الاسباني خاييم بارديم في الدور الرئيسي، فهو يحمل الدور بل الفيلم بأسره، على كتفيه، ويتعايش مع الشخصية من الداخل، ويعبر عن الألم البدني المباشر بتعبيرات الوجه وتأوهات الجسد كابلغ ما يكون، ولذا استحق عن دوره هذا جائزة التمثيل في مهرجان كان.
أخيرا، كلمة "بيوتيفول" (أي جميلة ولكن مكتوبة بخطأ في أحد الأحرف) هي في النهاية تعليق ساخر على الحياة في برشلونة.. التي نراها في هذا الفيلم كما لم نرها من قبل.. وهي كلمة تكتبها ابنة اوكسبال وبها الخطأ الإملائي، تعبيرا عن تلك الصورة المقلوبة للواقع.. الصورة الصادمة التي يقدمها لنا الفيلم.

الأحد، 26 سبتمبر 2010

"جولى وجوليا".. اكتشاف الذات فى مطبخ "أبلة نظيرة"!


بقلم: محمود عبد الشكور


لوأردت رأياً مختصراً فى الفيلم الأمريكى "جولى وجوليا" الذى كتبته "نورا إيفرون" سأقول لك أنه عمل متواضع من الناحية الفنية ، مملّ ويبعث على التثاؤب ، ويشبه الطبخة الرديئة التى تثير الإزعاج من حيث المذاق والنتائج ، ومع ذلك فإن الفيلم يقدم نقاطاً هامة يمكن أن يستفيد منها صنّاع السينما المصرية والعربية لو أرادوا: الدرس الأول هو توظيف موهبة كبارالنجوم لصالح العمل وخاصة الرائعة "ميريل ستريب" التى فاززت عن دورها بالفيلم بجائزة الكرة الذهبية ، كما رُشحت عن دورها (وهو أهم وأفضل ما فى الفيلم) للفوز بجائزتى الأوسكار والبافتا لأفضل ممثلة .
إنها ممثلة استثنائية تستطيع أن تصنع كل شئ ،ويمكنها أن تقدم أىّ شخصية. الدرس الثانى هو فى الجدية الشديدة الت تُصنع بها الأفلام مهما كان مستوى السيناريو . فيلمنا المتواضع مثلاً يدور فى عالم الطهى والوجبات الفرنسية ، وتشاهد فيه أكبر كمية متنوعة من أصناف الطعام ، وأظن أن الفيلم له "مستشارغذائى" مثلما يوجد خبير للمعارك فى الأفلام الحربية! أما الدرس الثالث فهو فى استلهام الأفلام من مصادر متنوعة وتعددة مما يوسع من دائرة الخيال والمعالجات في حين نقتصر نحن على السناريوهات المكتوبة مباشرة للسينما ، أو القليل جداً المأخوذ عن أعمال أدبية ،دون الإلتفات الى كتب التجارب الشخصية ،أو حتى التجارب الخاصة المكتوبة فى شكل مذكرات شخصية.
فيلم "جولى وجوليا" مأخوذ عن كتابين هما :"حياتى فى فرنسا" لمؤلفته "جوليا تشايلد" بالإشتراك مع أحد الكتّاب ، ويتناول هذا الكتاب حياة أشهر مقدمى برامج الطهى فى التليفزيون الأمريكى ، وهى أيضاً مؤلفة أشهر مرجع لإعداد الأكلات الفرنسية لستّ البيت الأمريكية بعنوان "إتقان فن الطهى الفرنسى" ، أى أننا أمام " أبلة نظيرة نقولا" المصرية الرائدة فى مجال فن الطهى ولكن على الطريقة الأمريكية ، أما الكتاب الثانى المأخوذ عنه الفيلم فهو بعنوان "جولى وجوليا" ، ومؤلفته شابة أمريكية لها مدونة شهيرة جداً اسمها "جولى بويل" حاولت من خلالها تنفيذ 524 وجبة طعام فرنسية سجلتها "جوليا" الرائدة فى كتابها القديم بشرط أن يتم تنفيذ هذه الوجبات المتتالية خلال 365 يوماً فقط.
لم تكن المشكلة فى الفكرة ،ولكنها فى المعالجة السينمائية وفى طبيعة الكتابة التى تاه منها الخط الفاصل بين متابعى برامج الطهى ومشاهدى أفلام السينما ..
كانت هناك محاولة طموحة للربط بين الشخصيتين :"جولى" الشابة التى تبدأ مدونتها عام2002 لتنفيذ ما جاء فى الكتاب الشهير للمأكولات الفرنسية ،و"جوليا" التى بدأت عام 1949 فى تعلم الطبخ على الطريقة الفرنسية بتشجيع من زوجها الدبوماسى "بول تشايلد" . من الناحية النظرية الفكرة برّاقة بل ومُلهمة ، ولكن من الناحية العملية بدا الأمر وكأننا أمام فيلمين متقاطعين : أولهما عن حياة سيدة المطبخ العجوز "جوليا تشايلد" (ميريل ستريب) أقوى وأفضل بكثير من كل الوجوه من حكاية الفيلم الثانى عن "جولى بويل" (آمى آدامز) التى تعيش فى "نيويورك" فى عام 2002 . فى كل لحظة نعود فيها الى "جولى" كنا نشعر بالملل الشديد رغم اجتهاد "آمى آدامز" ، ولكن لا مقارنة تقريباً مع حضور "ميريل " الخارق ولمساتها الكاريكاتورية فى أداء شخصية "جوليا"، ولم يكن كافياً على الإطلاق لهذا الربط القول بأن المرأتين متشابهتين فى أمور كثيرة : كلتاهما كانتا سكرتيرتين فى وكالة حكومية ، وكلتاهما عانت من الفراغ ، وكلتاهما تحققتا من خلال المطبخ ، وكلتاهما نجحتا من خلال زوجيهما حيث يلعب "ستانلى توتشى" دور الدبلوماسى "بول تشايلد" زوج "جوليا" ، ويلعب "كريس ماسينا" دور "إيريك" زوج "جولى" التى تعمل فى وكالة لمساعدة أهالى ضحايا 11 سبتمبر.
ظلت حياة "جوليا" هى الأكثر ثراء طوال الوقت ، وكان مثيراً للملل أن نشاهد "جولى بويل" لا تفعل شيئاً تقريباً غير تنفيذ عشرات الأصناف الفرنسية اوالمنقولة من كتاب "جوليا" ، والحقيقة أن كلا الحكايتين لا تخلوان من مشكلات إضافية داخل كل واحدة منهما : الفيلم الذى تلعبه "جوليا" ومعظم أحاثه فى "باريس" سرعان ما امتلأ أيضاً بالحشو والإستطراد والتكرار بتقديم تفصيلات عن رغبة "جوليا" شغل وقت فراغها فى "باريس" ، وفى علاقتها بأختها "دوروثى" التى تزورها فى فرنسا ، ويجون لها عريساً فرنسياً لا علاقة له بموضوعنا ،ثم تتكرر خطابات "جوليا" لصديقتها بالمراسلة "أفيس" ، وندخل فى مشاكل زوجها الدبلوماسى الذى ينتقل الى عدة أماكن من ألمانيا الى فنلندا ، ثم استجوابه أمام لجان الماكارثية الرهيبة فى الخمسينات ، ثم محاولة "جوليا" البحث عن ناشر لكتابها الضخم (أكثر من 700صفحة ووزنه أكثر من كيلو جرام) ، وهناك تفصيلات أخرى عن كفاحها لتعلم فن الطهى وسط الرجال المحترفين ، ومشاكلها مع اثنتين من زميلاتها اللاتى قمن بمشاركتها فى تأليف الكتاب.

على الجانب الآخر الصورة أكثر سوءا ، "جولى" تتابع الطبخ المتكرر من كتاب "جوليا" ، ثم تنشر على مدونتها حكايتها مع كل طبخة سواء نجحت أو فشلت ، وتحكى عن زوجها المحرر فى مجلة للآثار وتصفه بالقديس ، وفى منتصف هذه الثرثرة لجأت كاتبة السيناريو ( وهى أيضا مخرجة الفيلم "نورا إيفرون") الى اختراع مشكلة بين "جولى" وزوجها "إيريك" لمجرد أن يترك المنزل كنوع من تسخين المواقف المكررة والباردة ، والحقيقة أننى لا أعرف لماذا تشاجر "إيريك" مع زوجته الطبّاخة الشابة خاصة أنه صاحب فكرة مدونتها التى حققت لها شهرة واسعة ، كما أننى لم أعرف لماذ عاد الزوج فجأة الى زوجته ، على الأرجح قد يكون اكتشف أنه سيضيع على نفسه فرصة تناول الوجبات اليومية التى تطبخها "جولى" من كتاب "جوليا" .

كان متوقعاً أن تلتقى "جولى" فى النهاية مع "جوليا" فنظفر أخيراً بحوار الأجيال وخلاصة الحكايتين ، ولكن ما حدث فعلاً أن "جوليا" التى كانت فى سن التسعين عام 2002 أثناء نشر مدونة "جولى" عن أصنافها لم ترغب أبداً فى مقابلة الطبّاخة الشابة، بل إنها أدلت بحوار استنكرت فيه مدونة "جولى" ، واعتبرتها استغلالاً تجارياً لكتابها الضخم الصادر فى العام 1961، وهكذا ضاعت الفرصة الأخيرة لكسر الشعور بالملل والتكرار والإحساس التزايد بأننا نشاهد تجميعاً لفقرات فى فن الطهى وليس فيلماً روائياً طويلاً عن أشهر نجمات هذا الفن .
فى التحليل الأخير ، أصبح لدينا فكرة طموحة جداً تصلح لصناعة فيلم جيد عن الرغبة فى التحقق واكتشاف الذات حتى داخل حجرة المطبخ ، ولكن لدينا سيناريو مُفرط فى الطول يشيبه الوجبة الباردة الخالية من المشهيات ومن الملح والطعم ، وقد تساءلت بعد مشاهدة الفيلم لماذا لم يتم صنع فيلم وثائقى عن "جولى" و"جوليا" بدلاً من هذا الحشو والإستطراد . طبعاً لا يجب التقليل من فرصة مشاهدة أداء "ميريل ستريب" ولمساتها فى التعامل مع الشخصية ، ولا التقليل من متعة مشاهدة الوجبات الفرنسية رغم أنها متاحة فى برامج التليفزيون ، ولكن لا يجب أيضاً التقليل من صعوبة احتمال ساعتين من الطبخ المتواصل لأكلات لم نتذوق منها شيئاً ، لنُصبح فى النهاية أمام فيلم عجيب :"ستّات بتُطبُخ ..ورجّالة بتاكل .. واحنا قاعدين نتفرّج"!

الجمعة، 24 سبتمبر 2010

سينما مغربية.. سينما عربية

تلقيت رسائل كثيرة خلال الفترة الماضية يثني فيها أصحابها على ما أقوم به من جهد، وهو أمر يسعدني بكل تأكيد واشكر بدوري أصحاب هذه الرسائل على ثقتهم الجميلة في شخصي وفي قلمي، لكني أعتذر عن عدم نشر رسائلهم بسبب طابعها الشخصي، وأكتفي فقط بنشر الرسائل التي تثير بعض القضايا العامة التي قد تهم القراء الذين يداومون على التردد على هذه المدونة. من هذه الرسائل أختار هذه الرسالة التي وصلتني أخيرا من الناقد السينمائي الأستاذ حسن وهبي من المغرب تعليقا على الحديث الذي أدليت به لصحيفة "الأمة العربية" الجزائرية اليومية أخيرا. وهذا نص الرسالة.

الصورة: نور الدين الصايل

الأخ أمير العمري

تحية احترام وتقدير

اكتب لك هذه المرة لأشكرك على المجهودات التي تبذلها من اجل الكتابة على مدونتك الجميلة. كما اكتب لك بعد اطلاعي على الحوار الذي أجرته معك "الأمة العربية" الجزائرية ليوم 11 شتنبر 2010 من اضافة بعض المعلومات فقط بخصوص الحالة التي يعيشها المغرب من حيث الانتاج السينمائي وكذا دور المهرجانات السينمائية العربية و بالخصوص المغرب.
فيما يتعلق بالسينما العربية اتفق معكم ان تطورها مرتبط بالارادة السياسية والتي غالبا ما تضع هذا الاهتمام في المرتبة الاخيرة ولا يأتي التنافس الا في سياق التسابق الاعلامي او الاقتصادي والسياسي بحثا عن ارقام لا جدوى من ورائها. لكن الاستثناء موجود بالمغرب الذي اصبح ينتج 15 فيلما في السنة بالرغم من انها لا تحصل على جوائز دولية وان حصلت بعضها على جوائز مهمة.
ان المؤسسة العمومية بالمغرب قررت أن تدعم السينما المغربية بما يكفي من تمويل وفق نظام خاص تنفذه لجنة تتكون من السينمائيين والنقاد والمهنيين والمثقفين تعمل على قراءة السيناريوهات المقدمة للمركز أو التمويل أو التمويل بعد الانتاج. واذا تميزت السينما المغربية بتطورها على مستوى الكتابة السينمائية والتقنية. فهي اليوم تعرف تقدما على أيدي مجموعة من المخرجين الشباب من طينة محمد مفتكر وفيلمه الطويل الاول "البراق" الحاصل عل مجموعة من الجوائز و محمد عهبنسودة صاحب اول تجربة طويلة كذلك "موسم لمشاوشة" ومحمد شريف طريبق .. كلهم شباب حصلوا على جوائز مما ينم عن مجيئ جيل جديد من السينمائيين المغاربة. دون الاستهانة بالرواد وهم ينخرطون في الكتابة السينمائية المتميزة نذكر المخرج داوود أولاد السيد صاحب "في انتظار بازوليني" و جيلالي فرحاتي المبدع الممتد من "شاطئ الاطفال الضائعين" إلى "الذاكرة المعتقلة".
أخي الكريم لا اقصد الدفاع من منطق اقليمي لكن المؤسسة العمومية والتي يقودها السيد نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي قد اعطى دفعة قوية لعجلة الانتاج السينمائي والارقام دليل على ذلك . الا ان مشكل القاعات السينمائية لازال مطروحا بشدة . اذ عندما تغلق قاعة سينمائية يصعب اعادة فتحها من جديد بالرغم من التسهيلات التي تقدمها الدولة لمشاريع القاعات السينمائية . لولا المركبات السينمائية حيث تتجمع قاعات سينمائية في مكان معين وتسمى " ميكاراما" موجودة اليوم اكبر المدن المغربية حيث بإمكان المشاهد اختيار القاعة/ الفيلم الذي يريد مشاهدته و قد قامت كذلك مجموعة أرباب القاعات بإعادة هيكلة قاعاتها مثل قاعة سينما كوليزي بمدينة مراكش . الا أن هذه التجارب الصغيرة والقليلة لا تكفي لسد حاجيات السكان الذين يزدادون بشكل مهول. صحيح ان التجربة جميلة وتستحق كل تقدير لكن مطمح النقاد والمهتمين لازال كبيرا من اجل المزيد من الابداع و المزيد من الانتاج وهي السياسة التي يدافع عنها الناقد والسينمائي نور الدين الصايل منذ كان رئيسا للأندية السينمائية إلى التلفزيون إلى المركز السينمائي ويسير في نفس الاتجاه عدد كبير من النقاد السينمائيين المغاربة .
وبخصوص المهرجانات السينمائية اتفق مع الافكار الواردة في حوارك. الا ان بعض مهرجانات المغرب يمكن الاشارة الى تلك التي تطمح إلى الدولية كمهرجان مراكش وهنا قد تكون ملاحظتك جد صحيحة بخصوص التنافس المهرجاني العربي لكن كن على يقين ان هذا المهرجان والذي تتبعته من بدايته إلى اليوم قد اعطى دفعة جديدة إلى السينما المغربية والانتاج السينمائي بفعل التواصل الذي يحققه اثناء انعقاد دوراته وخلال فقرته التي تتناول الاشكاليات العامة للسينما. وتدفع إلى التكوين السينمائي وخاصة الشباب واليوم يتوجه المهرجان إلى ابداعات الشباب وانتاجات التربوية و التلاميذية.. أما المشاهدة فلا ينكر احد تلك الأفلام الرائعة التي قدمت لنا نحن المشاهدون في دول الجنوب وعلى الشاشة الكبرى واتذكر هنا تلك الأفلام الاسبانية والامريكية الجنوبية والايطالية رغم ما يوجه اليها من انتقاد اليوم.
اما مهرجان السينما الإفريقية و الذي بدأ كملتقى على يد الجامعة الوطنية للأندية السينمائية وهو اليوم يعد من اهم المهرجانات الإفريقية بعد واغادوغو ببوركينا فاسو. اذا لم نقل انه اكبر منافس له. ولعل الندوة التي تناولت موضوع التعاون جنوب/ جنوب قد ابانت عن تجربة المغرب في مجال التعاون مع دول الجنوب بالقارة الافريقية وشهادة السينمائيين الافارقة تدل على الخدمات التي يقدمها المركز السينمائي المغربي للسينمائيين الافارقة كما هو الحال مع السودان ومالي وغيرها ونبه نور الدين الصايل في الندوة اننا لن نعيد انتاج السينمائيين الكبار كعصمان صمبين لهذا علينا الاستمرار بما نتوفر عليه من امكانيات تقنية وابداعية ومالية .
المهرجان هو فرصة للتواصل وتبادل التجارب والخبرات وتشجيع للإنتاج المشترك و الانتاج الوطني كذلك و الكتابة النقدية السينمائية . اليس من حقنا ان نصنع مهرجانات سينمائية اقليمية متميزة تلبي حاجيات القارة او البلد ؟
مودتي حسن وهبي- المغرب

تعليقي على رسالة الأستاذ حسن وهبي كالتالي:
أولا كنت ومازلت، من أكثر الداعمين للأفلام المغربية، ومن اكثر النقاد الذين يكتبون بالعربية اهتماما بنقد وتحليل الافلام المغربية، وهذا أمر معروف ليس في حاجة إلى تذكير، وكان أحدث ما نشرته في مجال نقد الأفلام المغربية هو مقالي المنشور في موقع "الجزيرة الوثائقية" الاسبوع الماضي عن فيلم "كازانيجرا"، فحتى لو فاتني أن أكتب عن الفيلم في حينه أعود إليه ولا أنساها بعد فترة. وفي هذا الإطار أنا لا أهتم لا بالإقليمية، ولا بالمواقف الشخصية الخاصة بالقائم على الدعم الحكومي للأفلام في المغرب، وهو في هذه الحالة السيد نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي. وإن كنت بحكم تكويني وخبرتي في هذا المجال، أميل كثيرا إلى عدم المبالغة في قيمة شخص ما ايأ كان، ولا في إسباغ العظمة والمجد عليه، خصوصا إذا كان مثل الصايل، المعروف بعدائه الشديد للنقاد العرب الذين تعمقوا في فهم السينما وقضاياها على مدى سنوات طويلة، فيما عدا حفنة يقل عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة، من أصدقائه الشخصيين الذين يتولون تلميعه في أجهزة الإعلام التي يعملون بها، ولحسن الحظ: لست منهم ولا أريد.
ثانيا: إنه لمن المرحب به بكل تأكيد، أن يكون المغرب الدولة الوحيدة التي تنتج هذا العدد من الأفلام بعد مصر، لكننا لازلنا نأمل أن يتحول ظهور الأفلام في المغرب إلى حركة حقيقية للإنتاج السينمائي، أي في وجود ستديوهات ودور عرض سينمائي متعددة وسوق داخلي يسمح بإعادة تمويل الأفلام المحلية دون حاجة دائمة إلى التمويل الفرنسي، وفي ظل وجود سينمائيين مغاربة مؤهلين للعمل في هذه الافلام في مجالات المونتاج والتصوير والصوت والديكور... وغير ذلك، وهي أركان العمل السينمائي وكلها لاتزال تعتمد على العنصر الأجنبي وخصوصا الفرنسي (وليس العربي بالمناسبة!). وهذا ما كنت أقصده عندما تحدثت عن غياب سينما حقيقية عربية في ظل غياب كل هذه الأركان الأساسية.
ثالثا: حديثي عن المهرجانات السينمائية التي تقام في البلدان العربية يستند على تجربتي الشخصية الطويلة منذ ثلاثين عاما، مع مهرجانات مثل قرطاج والقاهرة ودمشق وتطوان وأبو ظبي ودبي والاسماعيلية وغير ذلك. وكلها تشترك في اهتمامها الكبير بحفلات الافتتاح والختام والبساط الأحمر وما إلى ذلك، لكنها تشترك جميعا (وهذا كلام نشرته أكثر من مرة) في إهمالها التام لتخصيص عروض خاصة للنقاد مثلا، وتنظيم مؤتمرات صحفية أو ندوات حقيقية لمناقشة الأفلام المتسابقة على الاقل، يديرها نقاد لهم وزنهم بما يضفي عليها طابعا ثقافيا حقيقيا يحقق فائدة ومردودا فكريا، وليس مجموعة من مديري الدعاية أو الموظفين في المهرجانات الذين يكتفون بمجرد "تحريك" الأسئلة وكاننا في حصة مدرسية. لكنها أزمة الحرية بالطبع.
من جهة أخرى، لم يسبق لي الذهاب إلى مهرجان مراكش الذي يشيد به الصديق حسن ايما إشادة.. غير أنني أعلم من أصدقاء مقربين لي في المغرب أن مراكش يتعامل مع نفسه على أنه مهرجان فرنسي يقام في أرض مغربية، ولا أعرف كيف يمكن قراءة هذه المقولة. ولأن السيد الصايل المهيمن على شؤون معظم المهرجانات في المغرب بحكم منصبه وقربه من السلطة، هو الذي يتحكم فيمن يحضر أو لا يحضر مثل هذه المهرجانات (ومهرجان خريبكة من بينها) فلم أسعد بالمرور بتجربة مهرجان مراكش أو سواه من مهرجانات السيد صايل الذي كما أشرت، يسعده بكل تأكيد حضور نقاد من فرنسا، ولا يسعده حضور النقاد العرب الذين يفوقون كثيرا نقاد الشانزليزيه، وذلك لأسباب ترجع إلى التكوين الشخصي الخاص جدا للسيد صايل نفسه، وهو أمر معروف للكثيرين في المغرب لا أرغب في الخوض فيه.
أخيرا: إن مواقف السيد صايل وغيره من القائمين على أمر المؤسسات السينمائية العربية متطابقة بالنسبة لي، مثل محمد الأحمد في دمشق، وعلي أبو شادي في مصر، وغيرهما، الذين أصبحوا منذ دهر، موظفين لدى جهاز الدولة، وخرجوا بالتالي من حلبة النقد السينمائي والعمل الثقافي الفكري المستقل. أرجو أن يتقبل الصديق حسن تعليقي هذا بسعة صدره المعهودة، وطبعا، الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.. كما أرجو.

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

"عن الآلهة والبشر": دقائق النسيج التسجيلي وذروة التراجيديا الشاعرية

لاشك أن الفيلم الفرنسي "عن الآلهة والبشر" لجافيه بوفوار، يظل أجمل الأفلام التي عرضت خلال العام الحالي، وأكثرها بقاء في الذاكرة. وقد حصل الفيلم، عن جدارة، على الجائزة الكبرى التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية في مهرجان كان السينمائي. فماذا يروي هذا الفيلم، وكيف يصور ما يرويه، وما هي أهميته وعناصر تميزه التي تجعلنا نعتبره أفضل أفلام العام حتى اللحظة التي نكتب فيها؟ يتناول الفيلم في سياق تسجيلي- درامي، وقائع الأسابيع الأخيرة في حياة ثمانية من رهبان دير كاثوليكي على مشارف قرية جبلية بالريف الجزائري، قبل أن تنتهي حياتهم بالموت، بعد أن يختطفهم مسلحون من الجماعة الإسلامية التي كانت تشن هجمات مسلحة على القرى في إطار حربها المشتعلة ضد النظام الحاكم في الجزائر خلال عقد التسعينيات.
وقائع تلك الحادثة التي انتهت، كما هومعروف، بمقتل ستة من الرهبان قتلا، قيل في البداية إنهم قتلوا على أيدي المسلحين الإسلاميين، ثم اتضح فيما بعد، في رواية أخرى، أنهم قتلوا بطريق الخطأ على أيدي قوات الأمن الحكومية أثناء تبادل لإطلاق النار مع المسلحين. وبذلك دفع هؤلاء الرهبان المسالمين حياتهم في إطار الصراع السياسي المحتدم بين طرف يدعي التشبث بالإسلام ويريد إقامة دولة إسلامية حسب تصوره في الجزائر، ولو بالعنف، وطرف يرفض أصلا أي حوار مع ذلك الطرف، ويرغب في تصفيته بالسلاح.
غير أن الفيلم لا يهتم كثيرا بالجانب السياسي في الموضوع، بل يركز أكثر، على الجانب الإنساني، على طبيعة هؤلاء الرجال، كيف استطاعوا البقاء في تلك المنطقة النائية رغم كل ما يتهددهم من مخاطر قد تودي بحياتهم، بل واختاروا البقاء إلى النهاية، حتى بعد أن أصبحوا على يقين من المصير الذي ينتظرهم.. كيف كانت مشاعرهم وما الذي كان يعتمل في أذهانهم في تلك الأسابيع المشحونة بالقلق والتوتر، ولماذا تركوا أنفسهم هكذا كالمنومين، يستسلمون لأقدارهم؟
هذه التساؤلات الصعبة المعقدة، هي ما يشغل بال مخرج الفيلم ومؤلفه، في الوقت نفسه. وهي تُطرح على صعيد فلسفي، دون أن يقدم لها إجابات قاطعة شافية في سياق الفيلم، بل تظل هناك مساحة من "الغموض" بين لقطات الفيلم، وفضاءا متسعا، يتيح للمشاهدين الفرصة للتأمل في معنى الحياة والموت، ومغزى أن تموت من أجل قضية، وعلاقة الفرد مع الله، وهل الموت قدر محتوم لا يملك المرء منه فكاكا، أم أنه اختيار قد ينفع معه "التصويت" على البقاء أو الرحيل، وفي البقاء الموت المؤكد، وكيف يمكن أن يصل المرء إلى تلك الحالة العذبة من الذوبان الروحي في الله، إلى أن يتوحد معه ذلك التوحد الروحاني الجميل الذي يغذي الروح ويقويها ويجعلها تعلو على الجسد، وتتسامى بالإنسان، فلا يعد هناك لديه أي أهمية لفكرة "النجاة" بالجسد، من المصير المنتظر.
هناك تصوير مكثف شبه تسجيلي في البداية، للحياة اليومية لأولئك الرهبان، داخل الدير وخارجه، يتمثل في رصد ملامح العلاقة مع الآخر، أي الجار في تلك القرية الجزائرية التي يرفض شيوخها وحكماؤها التطرف، ويتهمون جماعات العنف المسلح بأنهم خارجون على الإسلام، بعد أن تنكروا لأهم مبادئه، أي السلام. رئيس الدير "كريستيان" رجل يدرس الدين الإسلامي، يستطيع أن يقرأ العربية، وهو أيضا مطلع على القرآن الكريم، يستند إليه وإلى الانجيل في أحاديثه، لأنه يرى الأديان السماوية تكمل بعضها بعضا.
وأحد الرهبان، "لوك" طبيب يشعر بمسؤوليته عن المرضي من سكان القرية الفقراء، الذين يعودونه في تلك العيادة البسيطة التي يديرها لوجه الله، ويستقدم الأدوية لها خصيصا من فرنسا. رئيس الرهبان يشارك أقرانه المسلمين احتفالاتهم الدينية والعائلية، ويشعرون هم تجاهه بالتقدير والعرفان لما يقدمه هو وصحبه، من خدمات للقرية، فالرهبان يمارسون الزراعة أيضا، ويزودون القرية ببعض احتياجاتها من الحبوب.


لكن العلاقة مع السلطة، أي مع مسؤولي الحكم المحلي، ليست على مايرام، فالسلطات التي تنظر بتشكك إلى هؤلاء الفرنسيين بحكم تاريخ العصر الاستعماري، تريد أن تفرض عليهم حماية الجيش، لكنهم يرفضون بإصرار دخول أي عناصر مسلحة إلى الدير. لقد سلموا أنفسهم لله، واعتمدوا على مسالمتهم ورصيدهم لدى الناس زخيرة لهم تحميهم من تقلبات الاوضاع على هذا الجانب أو ذاك، لكنهم رغم ذلك، يتعرضون مرة وأخرى، لزيارة تلو زيارة، غير مستحبة دائما، من قبل مجموعة من المسلحين الإسلاميين طلبا لمساعدتهم الطبية في مداواة الجرحى منهم.
يتدرج الأسلوب السينمائي من الطابع شبه التسجيلي شبه الدرامي، إلى الأسلوب الشاعري الرقيق الذي يجسد تدريجيا طابع "المأساة"، ويتجه الفيلم في مساره لكي يتركز حول فكرة التضحية، والاختيار، والقدر، والاستعانة بالله في مواجهة الشدائد، والقبول بحكمه، وبما ينزله على عباده. الطبيعة في الفيلم جميلة ولكن محايدة، والإنسان يتضرع لكنه أضعف من أن يواجه القدر، وأداة القدر (أي الجماعة المسلحة) لا تملك هي نفسها، أن تفعل شيئا لكبح جماحها، بل تبدو منساقة بفعل دافع أقوى، نحو المقدر لها.
يتجه التركيز في الجزء الثاني من الفيلم أكثر على الداخل، على كيف يواجه كل راهب من الرهبان الثمانية الموقف المحتمل. هناك نوع من التردد في البداية، بل إن أحدهم يبدو أيضا على غير اقتناع بذلك الموقف الذي يراه عبثيا، أي البقاء لاستقبال الموت المحتم في حين أن لديه أسرة تنتظره في فرنسا، ولكنه يذهب لزيارة أسرته ويغيب في رحلة قصيرة، ثم يعود وهو أشد إصرارا على البقاء مع رفاقه حتى النهاية.
حركة الكاميرا بطيئة وطويلة، والإضاءة خافتة كأنها على ضوء الشموع، والإيقاع بطيء وممتد لكي يسمح بالتأمل، والموسيقى تغيب تماما عن الفيلم، يستعين المخرج بديلا لها، بأصوات الآذان، وأصوات زقزقات الطيور في المحيط الذي يقع فيه الدير، وصوت طائرات الهليكوبتر التي تحلق فوق الدير فتسبب النفور الشديد لدى الرهبان، كما يمتليء الفيلم بأصوات التراتيل والأناشيد الدينية الجماعية التي يرددها الرهبان، والصلاة والمناشدة والتضرع إلى الله أن ينقذهم، وفي الليلة الموعودة، أي تلك التي تسبق الحدث المنتظر التراجيدي، يجتمع الرهبان، يتناولون معا العشاء، ويشربون الخمر، في تكوين بديع وكأننا أمام لوحة "العشاء الأخير" الشهيرة لدافنشي، التي تصور المسيح والحواريين قبل أن يذهب المسيح إلى مصيره المنتظر. في هذا المشهد المثير الذي ترتفع فيه المشاعر إلى عنان السماء، تنزل موسيقى باليه "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي، وتتحد معها الصورة الشاحبة البديعة بألوانها القاتمة وإضاءتها الخافتة، وألوانها الذهبية البنية، وكأننا أمام إحدى لوحات عصر النهضة.


وفي المشهد الأخير من الفيلم يقع الهجوم المسلح على الدير، ويتم اقتحامه من قبل عناصر الجماعة الإسلامية، ويقتاد أفراد المجموعة المهاجمة ستة من الرهبان إلى أعالي الجبل في حين ينجح اثنان منهم في الاختباء.
ويعد مشهد الصعود المرهق نحو قمة الجبل وسط الضباب، والرهبان مقيدون ومربوطون معا بالأحبال، مشهدا بديعا في تصويره الموحي للمصير الذي ينتظرهم، فمع الصعود تزداد ضبابية الصورة، وتشحب الإضاءة تدريجيا إلى أن يلف الضباب المجموعة فتختفي تماما عند قمة الجبل وينتهي الفيلم دون مشهد واحد لطلقة رصاص، أو لقطع رأس، أو لقتل إنسان والاعتداء عليه. فالفيلم يؤكد، في أكثر من مشهد، وبشكل ربما يعاني قليلا من التكرار، على فكرة أن الإسلام نفسه بريء تماما من التطرف ومن العنف، بل ويصور أفراد الجماعة الإسلامية في صورة شباب متردد، يستجيب في البداية لرئيس الدير في ضرورة إلقاء السلاح قبل دخول الدير، ولا يصورهم في تلك الصورة النمطية المألوفة التي يعرضها الإعلام الغربي عادة لأفراد هذه الجماعات.
ليس هذا فيلما من أفلام الهجاء السياسي، والأحكام الجاهزة، بل عمل فني بليغ يشع بالتسامح، والرغبة في فهم الآخر، إنه فيلم عن الحب، وعن الإيمان الحقيقي بالمعنى المطلق، عندما يصبح أقوى من كل أشكال العنف والقتل وسفك الدماء. وليس عن العنف والكراهية والرفض وانعدام التعايش، فالتعايش قائم بالفعل، تفسده حفنة من المتطرفين المدفوعين بالعقيدة، في حين تلجأ مجموعة أخرى من "العقائديين" للتشبث بالروحاني من أجل الوصول إلى تلك اللحظة التي يتأهب فيها المرء للموت دون وجل أو تردد. هنا تموت الأجساد، ولكن الأرواح تصعد عاليا، طاهرة بريئة متحررة من كل قيود الجسد.
ولعل من أفضل عناصر الفيلم إلى جانب التصوير البديع (للمصورة كارولين شامبتييه التي أدارت تصوير 64 فيلما)، ذلك التمثيل الطبيعي المؤثر الذي تميز فيه بشكل خاص الممثل لامبير ويلسون (هل يصدق أحد أنه هو نفسه أحد أبطال فيلم "ماتريكس") في دور كريستيان رئيس الدير، والممثل الكبير ميشيل لونسدال في دور لوك، وأوليفييه رابوردان، وجاك إيرلان. إن الأداء التمثيلي هنا يرتفع إلى أرقى مدارس التمثيل في العالم، حيث الأداء بالهمسة واللمسة والحركة والإيماءة، والتحكم في عضلات الوجه، وفي نغمة الصوت، والاندماج الكامل في الفكرة، فكرة التسامي والاعتماد على اليقين الديني لتحقيق راحة النفس.. أليس هذا هو ما نسعى جميعا إلى الوصول إليه؟!
((جميع حقوق النشر محفوظة ويحظر إعادة نشر أي مادة بأي صورة من الصور، دون اذن مسبق مكتوب من ناشر المدونة))
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger