الجمعة، 24 سبتمبر 2010

سينما مغربية.. سينما عربية

تلقيت رسائل كثيرة خلال الفترة الماضية يثني فيها أصحابها على ما أقوم به من جهد، وهو أمر يسعدني بكل تأكيد واشكر بدوري أصحاب هذه الرسائل على ثقتهم الجميلة في شخصي وفي قلمي، لكني أعتذر عن عدم نشر رسائلهم بسبب طابعها الشخصي، وأكتفي فقط بنشر الرسائل التي تثير بعض القضايا العامة التي قد تهم القراء الذين يداومون على التردد على هذه المدونة. من هذه الرسائل أختار هذه الرسالة التي وصلتني أخيرا من الناقد السينمائي الأستاذ حسن وهبي من المغرب تعليقا على الحديث الذي أدليت به لصحيفة "الأمة العربية" الجزائرية اليومية أخيرا. وهذا نص الرسالة.

الصورة: نور الدين الصايل

الأخ أمير العمري

تحية احترام وتقدير

اكتب لك هذه المرة لأشكرك على المجهودات التي تبذلها من اجل الكتابة على مدونتك الجميلة. كما اكتب لك بعد اطلاعي على الحوار الذي أجرته معك "الأمة العربية" الجزائرية ليوم 11 شتنبر 2010 من اضافة بعض المعلومات فقط بخصوص الحالة التي يعيشها المغرب من حيث الانتاج السينمائي وكذا دور المهرجانات السينمائية العربية و بالخصوص المغرب.
فيما يتعلق بالسينما العربية اتفق معكم ان تطورها مرتبط بالارادة السياسية والتي غالبا ما تضع هذا الاهتمام في المرتبة الاخيرة ولا يأتي التنافس الا في سياق التسابق الاعلامي او الاقتصادي والسياسي بحثا عن ارقام لا جدوى من ورائها. لكن الاستثناء موجود بالمغرب الذي اصبح ينتج 15 فيلما في السنة بالرغم من انها لا تحصل على جوائز دولية وان حصلت بعضها على جوائز مهمة.
ان المؤسسة العمومية بالمغرب قررت أن تدعم السينما المغربية بما يكفي من تمويل وفق نظام خاص تنفذه لجنة تتكون من السينمائيين والنقاد والمهنيين والمثقفين تعمل على قراءة السيناريوهات المقدمة للمركز أو التمويل أو التمويل بعد الانتاج. واذا تميزت السينما المغربية بتطورها على مستوى الكتابة السينمائية والتقنية. فهي اليوم تعرف تقدما على أيدي مجموعة من المخرجين الشباب من طينة محمد مفتكر وفيلمه الطويل الاول "البراق" الحاصل عل مجموعة من الجوائز و محمد عهبنسودة صاحب اول تجربة طويلة كذلك "موسم لمشاوشة" ومحمد شريف طريبق .. كلهم شباب حصلوا على جوائز مما ينم عن مجيئ جيل جديد من السينمائيين المغاربة. دون الاستهانة بالرواد وهم ينخرطون في الكتابة السينمائية المتميزة نذكر المخرج داوود أولاد السيد صاحب "في انتظار بازوليني" و جيلالي فرحاتي المبدع الممتد من "شاطئ الاطفال الضائعين" إلى "الذاكرة المعتقلة".
أخي الكريم لا اقصد الدفاع من منطق اقليمي لكن المؤسسة العمومية والتي يقودها السيد نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي قد اعطى دفعة قوية لعجلة الانتاج السينمائي والارقام دليل على ذلك . الا ان مشكل القاعات السينمائية لازال مطروحا بشدة . اذ عندما تغلق قاعة سينمائية يصعب اعادة فتحها من جديد بالرغم من التسهيلات التي تقدمها الدولة لمشاريع القاعات السينمائية . لولا المركبات السينمائية حيث تتجمع قاعات سينمائية في مكان معين وتسمى " ميكاراما" موجودة اليوم اكبر المدن المغربية حيث بإمكان المشاهد اختيار القاعة/ الفيلم الذي يريد مشاهدته و قد قامت كذلك مجموعة أرباب القاعات بإعادة هيكلة قاعاتها مثل قاعة سينما كوليزي بمدينة مراكش . الا أن هذه التجارب الصغيرة والقليلة لا تكفي لسد حاجيات السكان الذين يزدادون بشكل مهول. صحيح ان التجربة جميلة وتستحق كل تقدير لكن مطمح النقاد والمهتمين لازال كبيرا من اجل المزيد من الابداع و المزيد من الانتاج وهي السياسة التي يدافع عنها الناقد والسينمائي نور الدين الصايل منذ كان رئيسا للأندية السينمائية إلى التلفزيون إلى المركز السينمائي ويسير في نفس الاتجاه عدد كبير من النقاد السينمائيين المغاربة .
وبخصوص المهرجانات السينمائية اتفق مع الافكار الواردة في حوارك. الا ان بعض مهرجانات المغرب يمكن الاشارة الى تلك التي تطمح إلى الدولية كمهرجان مراكش وهنا قد تكون ملاحظتك جد صحيحة بخصوص التنافس المهرجاني العربي لكن كن على يقين ان هذا المهرجان والذي تتبعته من بدايته إلى اليوم قد اعطى دفعة جديدة إلى السينما المغربية والانتاج السينمائي بفعل التواصل الذي يحققه اثناء انعقاد دوراته وخلال فقرته التي تتناول الاشكاليات العامة للسينما. وتدفع إلى التكوين السينمائي وخاصة الشباب واليوم يتوجه المهرجان إلى ابداعات الشباب وانتاجات التربوية و التلاميذية.. أما المشاهدة فلا ينكر احد تلك الأفلام الرائعة التي قدمت لنا نحن المشاهدون في دول الجنوب وعلى الشاشة الكبرى واتذكر هنا تلك الأفلام الاسبانية والامريكية الجنوبية والايطالية رغم ما يوجه اليها من انتقاد اليوم.
اما مهرجان السينما الإفريقية و الذي بدأ كملتقى على يد الجامعة الوطنية للأندية السينمائية وهو اليوم يعد من اهم المهرجانات الإفريقية بعد واغادوغو ببوركينا فاسو. اذا لم نقل انه اكبر منافس له. ولعل الندوة التي تناولت موضوع التعاون جنوب/ جنوب قد ابانت عن تجربة المغرب في مجال التعاون مع دول الجنوب بالقارة الافريقية وشهادة السينمائيين الافارقة تدل على الخدمات التي يقدمها المركز السينمائي المغربي للسينمائيين الافارقة كما هو الحال مع السودان ومالي وغيرها ونبه نور الدين الصايل في الندوة اننا لن نعيد انتاج السينمائيين الكبار كعصمان صمبين لهذا علينا الاستمرار بما نتوفر عليه من امكانيات تقنية وابداعية ومالية .
المهرجان هو فرصة للتواصل وتبادل التجارب والخبرات وتشجيع للإنتاج المشترك و الانتاج الوطني كذلك و الكتابة النقدية السينمائية . اليس من حقنا ان نصنع مهرجانات سينمائية اقليمية متميزة تلبي حاجيات القارة او البلد ؟
مودتي حسن وهبي- المغرب

تعليقي على رسالة الأستاذ حسن وهبي كالتالي:
أولا كنت ومازلت، من أكثر الداعمين للأفلام المغربية، ومن اكثر النقاد الذين يكتبون بالعربية اهتماما بنقد وتحليل الافلام المغربية، وهذا أمر معروف ليس في حاجة إلى تذكير، وكان أحدث ما نشرته في مجال نقد الأفلام المغربية هو مقالي المنشور في موقع "الجزيرة الوثائقية" الاسبوع الماضي عن فيلم "كازانيجرا"، فحتى لو فاتني أن أكتب عن الفيلم في حينه أعود إليه ولا أنساها بعد فترة. وفي هذا الإطار أنا لا أهتم لا بالإقليمية، ولا بالمواقف الشخصية الخاصة بالقائم على الدعم الحكومي للأفلام في المغرب، وهو في هذه الحالة السيد نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي. وإن كنت بحكم تكويني وخبرتي في هذا المجال، أميل كثيرا إلى عدم المبالغة في قيمة شخص ما ايأ كان، ولا في إسباغ العظمة والمجد عليه، خصوصا إذا كان مثل الصايل، المعروف بعدائه الشديد للنقاد العرب الذين تعمقوا في فهم السينما وقضاياها على مدى سنوات طويلة، فيما عدا حفنة يقل عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة، من أصدقائه الشخصيين الذين يتولون تلميعه في أجهزة الإعلام التي يعملون بها، ولحسن الحظ: لست منهم ولا أريد.
ثانيا: إنه لمن المرحب به بكل تأكيد، أن يكون المغرب الدولة الوحيدة التي تنتج هذا العدد من الأفلام بعد مصر، لكننا لازلنا نأمل أن يتحول ظهور الأفلام في المغرب إلى حركة حقيقية للإنتاج السينمائي، أي في وجود ستديوهات ودور عرض سينمائي متعددة وسوق داخلي يسمح بإعادة تمويل الأفلام المحلية دون حاجة دائمة إلى التمويل الفرنسي، وفي ظل وجود سينمائيين مغاربة مؤهلين للعمل في هذه الافلام في مجالات المونتاج والتصوير والصوت والديكور... وغير ذلك، وهي أركان العمل السينمائي وكلها لاتزال تعتمد على العنصر الأجنبي وخصوصا الفرنسي (وليس العربي بالمناسبة!). وهذا ما كنت أقصده عندما تحدثت عن غياب سينما حقيقية عربية في ظل غياب كل هذه الأركان الأساسية.
ثالثا: حديثي عن المهرجانات السينمائية التي تقام في البلدان العربية يستند على تجربتي الشخصية الطويلة منذ ثلاثين عاما، مع مهرجانات مثل قرطاج والقاهرة ودمشق وتطوان وأبو ظبي ودبي والاسماعيلية وغير ذلك. وكلها تشترك في اهتمامها الكبير بحفلات الافتتاح والختام والبساط الأحمر وما إلى ذلك، لكنها تشترك جميعا (وهذا كلام نشرته أكثر من مرة) في إهمالها التام لتخصيص عروض خاصة للنقاد مثلا، وتنظيم مؤتمرات صحفية أو ندوات حقيقية لمناقشة الأفلام المتسابقة على الاقل، يديرها نقاد لهم وزنهم بما يضفي عليها طابعا ثقافيا حقيقيا يحقق فائدة ومردودا فكريا، وليس مجموعة من مديري الدعاية أو الموظفين في المهرجانات الذين يكتفون بمجرد "تحريك" الأسئلة وكاننا في حصة مدرسية. لكنها أزمة الحرية بالطبع.
من جهة أخرى، لم يسبق لي الذهاب إلى مهرجان مراكش الذي يشيد به الصديق حسن ايما إشادة.. غير أنني أعلم من أصدقاء مقربين لي في المغرب أن مراكش يتعامل مع نفسه على أنه مهرجان فرنسي يقام في أرض مغربية، ولا أعرف كيف يمكن قراءة هذه المقولة. ولأن السيد الصايل المهيمن على شؤون معظم المهرجانات في المغرب بحكم منصبه وقربه من السلطة، هو الذي يتحكم فيمن يحضر أو لا يحضر مثل هذه المهرجانات (ومهرجان خريبكة من بينها) فلم أسعد بالمرور بتجربة مهرجان مراكش أو سواه من مهرجانات السيد صايل الذي كما أشرت، يسعده بكل تأكيد حضور نقاد من فرنسا، ولا يسعده حضور النقاد العرب الذين يفوقون كثيرا نقاد الشانزليزيه، وذلك لأسباب ترجع إلى التكوين الشخصي الخاص جدا للسيد صايل نفسه، وهو أمر معروف للكثيرين في المغرب لا أرغب في الخوض فيه.
أخيرا: إن مواقف السيد صايل وغيره من القائمين على أمر المؤسسات السينمائية العربية متطابقة بالنسبة لي، مثل محمد الأحمد في دمشق، وعلي أبو شادي في مصر، وغيرهما، الذين أصبحوا منذ دهر، موظفين لدى جهاز الدولة، وخرجوا بالتالي من حلبة النقد السينمائي والعمل الثقافي الفكري المستقل. أرجو أن يتقبل الصديق حسن تعليقي هذا بسعة صدره المعهودة، وطبعا، الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.. كما أرجو.

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

"عن الآلهة والبشر": دقائق النسيج التسجيلي وذروة التراجيديا الشاعرية

لاشك أن الفيلم الفرنسي "عن الآلهة والبشر" لجافيه بوفوار، يظل أجمل الأفلام التي عرضت خلال العام الحالي، وأكثرها بقاء في الذاكرة. وقد حصل الفيلم، عن جدارة، على الجائزة الكبرى التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية في مهرجان كان السينمائي. فماذا يروي هذا الفيلم، وكيف يصور ما يرويه، وما هي أهميته وعناصر تميزه التي تجعلنا نعتبره أفضل أفلام العام حتى اللحظة التي نكتب فيها؟ يتناول الفيلم في سياق تسجيلي- درامي، وقائع الأسابيع الأخيرة في حياة ثمانية من رهبان دير كاثوليكي على مشارف قرية جبلية بالريف الجزائري، قبل أن تنتهي حياتهم بالموت، بعد أن يختطفهم مسلحون من الجماعة الإسلامية التي كانت تشن هجمات مسلحة على القرى في إطار حربها المشتعلة ضد النظام الحاكم في الجزائر خلال عقد التسعينيات.
وقائع تلك الحادثة التي انتهت، كما هومعروف، بمقتل ستة من الرهبان قتلا، قيل في البداية إنهم قتلوا على أيدي المسلحين الإسلاميين، ثم اتضح فيما بعد، في رواية أخرى، أنهم قتلوا بطريق الخطأ على أيدي قوات الأمن الحكومية أثناء تبادل لإطلاق النار مع المسلحين. وبذلك دفع هؤلاء الرهبان المسالمين حياتهم في إطار الصراع السياسي المحتدم بين طرف يدعي التشبث بالإسلام ويريد إقامة دولة إسلامية حسب تصوره في الجزائر، ولو بالعنف، وطرف يرفض أصلا أي حوار مع ذلك الطرف، ويرغب في تصفيته بالسلاح.
غير أن الفيلم لا يهتم كثيرا بالجانب السياسي في الموضوع، بل يركز أكثر، على الجانب الإنساني، على طبيعة هؤلاء الرجال، كيف استطاعوا البقاء في تلك المنطقة النائية رغم كل ما يتهددهم من مخاطر قد تودي بحياتهم، بل واختاروا البقاء إلى النهاية، حتى بعد أن أصبحوا على يقين من المصير الذي ينتظرهم.. كيف كانت مشاعرهم وما الذي كان يعتمل في أذهانهم في تلك الأسابيع المشحونة بالقلق والتوتر، ولماذا تركوا أنفسهم هكذا كالمنومين، يستسلمون لأقدارهم؟
هذه التساؤلات الصعبة المعقدة، هي ما يشغل بال مخرج الفيلم ومؤلفه، في الوقت نفسه. وهي تُطرح على صعيد فلسفي، دون أن يقدم لها إجابات قاطعة شافية في سياق الفيلم، بل تظل هناك مساحة من "الغموض" بين لقطات الفيلم، وفضاءا متسعا، يتيح للمشاهدين الفرصة للتأمل في معنى الحياة والموت، ومغزى أن تموت من أجل قضية، وعلاقة الفرد مع الله، وهل الموت قدر محتوم لا يملك المرء منه فكاكا، أم أنه اختيار قد ينفع معه "التصويت" على البقاء أو الرحيل، وفي البقاء الموت المؤكد، وكيف يمكن أن يصل المرء إلى تلك الحالة العذبة من الذوبان الروحي في الله، إلى أن يتوحد معه ذلك التوحد الروحاني الجميل الذي يغذي الروح ويقويها ويجعلها تعلو على الجسد، وتتسامى بالإنسان، فلا يعد هناك لديه أي أهمية لفكرة "النجاة" بالجسد، من المصير المنتظر.
هناك تصوير مكثف شبه تسجيلي في البداية، للحياة اليومية لأولئك الرهبان، داخل الدير وخارجه، يتمثل في رصد ملامح العلاقة مع الآخر، أي الجار في تلك القرية الجزائرية التي يرفض شيوخها وحكماؤها التطرف، ويتهمون جماعات العنف المسلح بأنهم خارجون على الإسلام، بعد أن تنكروا لأهم مبادئه، أي السلام. رئيس الدير "كريستيان" رجل يدرس الدين الإسلامي، يستطيع أن يقرأ العربية، وهو أيضا مطلع على القرآن الكريم، يستند إليه وإلى الانجيل في أحاديثه، لأنه يرى الأديان السماوية تكمل بعضها بعضا.
وأحد الرهبان، "لوك" طبيب يشعر بمسؤوليته عن المرضي من سكان القرية الفقراء، الذين يعودونه في تلك العيادة البسيطة التي يديرها لوجه الله، ويستقدم الأدوية لها خصيصا من فرنسا. رئيس الرهبان يشارك أقرانه المسلمين احتفالاتهم الدينية والعائلية، ويشعرون هم تجاهه بالتقدير والعرفان لما يقدمه هو وصحبه، من خدمات للقرية، فالرهبان يمارسون الزراعة أيضا، ويزودون القرية ببعض احتياجاتها من الحبوب.


لكن العلاقة مع السلطة، أي مع مسؤولي الحكم المحلي، ليست على مايرام، فالسلطات التي تنظر بتشكك إلى هؤلاء الفرنسيين بحكم تاريخ العصر الاستعماري، تريد أن تفرض عليهم حماية الجيش، لكنهم يرفضون بإصرار دخول أي عناصر مسلحة إلى الدير. لقد سلموا أنفسهم لله، واعتمدوا على مسالمتهم ورصيدهم لدى الناس زخيرة لهم تحميهم من تقلبات الاوضاع على هذا الجانب أو ذاك، لكنهم رغم ذلك، يتعرضون مرة وأخرى، لزيارة تلو زيارة، غير مستحبة دائما، من قبل مجموعة من المسلحين الإسلاميين طلبا لمساعدتهم الطبية في مداواة الجرحى منهم.
يتدرج الأسلوب السينمائي من الطابع شبه التسجيلي شبه الدرامي، إلى الأسلوب الشاعري الرقيق الذي يجسد تدريجيا طابع "المأساة"، ويتجه الفيلم في مساره لكي يتركز حول فكرة التضحية، والاختيار، والقدر، والاستعانة بالله في مواجهة الشدائد، والقبول بحكمه، وبما ينزله على عباده. الطبيعة في الفيلم جميلة ولكن محايدة، والإنسان يتضرع لكنه أضعف من أن يواجه القدر، وأداة القدر (أي الجماعة المسلحة) لا تملك هي نفسها، أن تفعل شيئا لكبح جماحها، بل تبدو منساقة بفعل دافع أقوى، نحو المقدر لها.
يتجه التركيز في الجزء الثاني من الفيلم أكثر على الداخل، على كيف يواجه كل راهب من الرهبان الثمانية الموقف المحتمل. هناك نوع من التردد في البداية، بل إن أحدهم يبدو أيضا على غير اقتناع بذلك الموقف الذي يراه عبثيا، أي البقاء لاستقبال الموت المحتم في حين أن لديه أسرة تنتظره في فرنسا، ولكنه يذهب لزيارة أسرته ويغيب في رحلة قصيرة، ثم يعود وهو أشد إصرارا على البقاء مع رفاقه حتى النهاية.
حركة الكاميرا بطيئة وطويلة، والإضاءة خافتة كأنها على ضوء الشموع، والإيقاع بطيء وممتد لكي يسمح بالتأمل، والموسيقى تغيب تماما عن الفيلم، يستعين المخرج بديلا لها، بأصوات الآذان، وأصوات زقزقات الطيور في المحيط الذي يقع فيه الدير، وصوت طائرات الهليكوبتر التي تحلق فوق الدير فتسبب النفور الشديد لدى الرهبان، كما يمتليء الفيلم بأصوات التراتيل والأناشيد الدينية الجماعية التي يرددها الرهبان، والصلاة والمناشدة والتضرع إلى الله أن ينقذهم، وفي الليلة الموعودة، أي تلك التي تسبق الحدث المنتظر التراجيدي، يجتمع الرهبان، يتناولون معا العشاء، ويشربون الخمر، في تكوين بديع وكأننا أمام لوحة "العشاء الأخير" الشهيرة لدافنشي، التي تصور المسيح والحواريين قبل أن يذهب المسيح إلى مصيره المنتظر. في هذا المشهد المثير الذي ترتفع فيه المشاعر إلى عنان السماء، تنزل موسيقى باليه "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي، وتتحد معها الصورة الشاحبة البديعة بألوانها القاتمة وإضاءتها الخافتة، وألوانها الذهبية البنية، وكأننا أمام إحدى لوحات عصر النهضة.


وفي المشهد الأخير من الفيلم يقع الهجوم المسلح على الدير، ويتم اقتحامه من قبل عناصر الجماعة الإسلامية، ويقتاد أفراد المجموعة المهاجمة ستة من الرهبان إلى أعالي الجبل في حين ينجح اثنان منهم في الاختباء.
ويعد مشهد الصعود المرهق نحو قمة الجبل وسط الضباب، والرهبان مقيدون ومربوطون معا بالأحبال، مشهدا بديعا في تصويره الموحي للمصير الذي ينتظرهم، فمع الصعود تزداد ضبابية الصورة، وتشحب الإضاءة تدريجيا إلى أن يلف الضباب المجموعة فتختفي تماما عند قمة الجبل وينتهي الفيلم دون مشهد واحد لطلقة رصاص، أو لقطع رأس، أو لقتل إنسان والاعتداء عليه. فالفيلم يؤكد، في أكثر من مشهد، وبشكل ربما يعاني قليلا من التكرار، على فكرة أن الإسلام نفسه بريء تماما من التطرف ومن العنف، بل ويصور أفراد الجماعة الإسلامية في صورة شباب متردد، يستجيب في البداية لرئيس الدير في ضرورة إلقاء السلاح قبل دخول الدير، ولا يصورهم في تلك الصورة النمطية المألوفة التي يعرضها الإعلام الغربي عادة لأفراد هذه الجماعات.
ليس هذا فيلما من أفلام الهجاء السياسي، والأحكام الجاهزة، بل عمل فني بليغ يشع بالتسامح، والرغبة في فهم الآخر، إنه فيلم عن الحب، وعن الإيمان الحقيقي بالمعنى المطلق، عندما يصبح أقوى من كل أشكال العنف والقتل وسفك الدماء. وليس عن العنف والكراهية والرفض وانعدام التعايش، فالتعايش قائم بالفعل، تفسده حفنة من المتطرفين المدفوعين بالعقيدة، في حين تلجأ مجموعة أخرى من "العقائديين" للتشبث بالروحاني من أجل الوصول إلى تلك اللحظة التي يتأهب فيها المرء للموت دون وجل أو تردد. هنا تموت الأجساد، ولكن الأرواح تصعد عاليا، طاهرة بريئة متحررة من كل قيود الجسد.
ولعل من أفضل عناصر الفيلم إلى جانب التصوير البديع (للمصورة كارولين شامبتييه التي أدارت تصوير 64 فيلما)، ذلك التمثيل الطبيعي المؤثر الذي تميز فيه بشكل خاص الممثل لامبير ويلسون (هل يصدق أحد أنه هو نفسه أحد أبطال فيلم "ماتريكس") في دور كريستيان رئيس الدير، والممثل الكبير ميشيل لونسدال في دور لوك، وأوليفييه رابوردان، وجاك إيرلان. إن الأداء التمثيلي هنا يرتفع إلى أرقى مدارس التمثيل في العالم، حيث الأداء بالهمسة واللمسة والحركة والإيماءة، والتحكم في عضلات الوجه، وفي نغمة الصوت، والاندماج الكامل في الفكرة، فكرة التسامي والاعتماد على اليقين الديني لتحقيق راحة النفس.. أليس هذا هو ما نسعى جميعا إلى الوصول إليه؟!
((جميع حقوق النشر محفوظة ويحظر إعادة نشر أي مادة بأي صورة من الصور، دون اذن مسبق مكتوب من ناشر المدونة))

الخميس، 16 سبتمبر 2010

البحث عن متعة المشاهدة

من فيلم "طيور" لفولجاريس

بقلم: محمد هاشم عبد السلام
((يسعدني أن أستضيف في هذا الفضاء المتواضع الناقد والروائي الصديق محمد هاشم عبد السلام، في هذه المقالة البديعة التي تعبر عن فكر ورؤية ثاقبة فيما يتعلق بالمؤثرات والتاثيرات المتعلقة بموضوع "الفرجة" في عالمنا في الوقت الجاري، وصولا إلى الدور الآخر للتليفزيون في عالم مختلف، في تعميق المشاهدة المتأنية الواعية للسينما)).


قبل سنوات بعيدة كانت لي زاوية ثابتة متخصصة في عروض الكتب بمجلة "أحوال" الإماراتية، ومن بين الكتب التي قدمت لها في هذه الزواية كتاب "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول" للمفكر وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير "بيير بورديو" (1930 – 2002). ولفرط إعجابي الشديد حتى اليوم بهذا الكتاب المتميز، رغم صغر حجمه، أعدت الكتابة عنه بشكل موسع في مجلة "تليفزيون الخليج"، التي تصدر عن دول مجلس التعاون الخليجي.
يركّز بورديو في هذا الكتاب الشيق وبطريقة مباشرة وحادة بعض الشيء، على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، وفي القلب منها ذلك الجهاز الضخم الذي يسمى التليفزيون، وما تمارسه هذه الوسائل من "تلاعب وتأثير" في عقول الناس. ويبين كيف تقوم هذه الوسائل، خاصة الصحف والتليفزيون، بتشكيل الأفكار والوعي العام، وكيف تعمل آليات توجيه وتشكيل الوعي والرأي العام، ومن الذي يقوم بالتحكم في تنظيم وتوجيه أو إدارة هذه الآليات؟ وكيف أن الصحافة، وبعدها التليفزيون، كان الهدف الأساسي منهما خلق أداة تنوير وتثقيف وتغيير للوعي والواقع لما هو أفضل، أو على الأقل القيام بعملية "إخبار" حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة، وكيف أنها غدت بفعل هيمنة قوى المال ونخب المصالح أداة تمرير لما يتطلبه السوق وعلاقات الربح من حيل إعلانية واستعراضات باذخة وباهتة المضمون، وإلى أي مدى ساهمت في عزوف الناس عن السياسة والثقافة الجادة، وتعميم قيم الاستهلاك والسلبية والامتثالية.
من بين الأمور العديدة التي تعرض لها بودريو في هذا الكتاب تلك الخلفية التي تراها أعيننا على الشاشات الزائفة أمامنا، وقدم لنا في ذلك نموذج شديد الرواج وهو البرامج الحوارية أو "التوك شو"، وراح يفندها بدقة وبعين خبير متفحص، بدءًا من تركيب البلاتوه مرورًا بنبرات المذيع والضيوف المتحدثين من كلا الجانبين وانتهاء بالصراعات والمناقشات الحادة المفتعلة فيما بينهم، وفرض نمط التفكير السريع، وتقديم الندوات الزائفة، وانتقاء الأسئلة وعدم إعطاء الحق في الكلام لمن يملك أفكارًا جديدة أو جيدة، وكيف يجري الضغط على هؤلاء ومنحهم الحق في وقت غير ملائم. إلى آخر كل هذه التنويعات التي هي من أدوات التلاعب بعقول المشاهدين وتغيير وعيهم وممارسة الرقابة عليهم في نفس الوقت، ودفعهم إلى التفكير في أمور بعينها وفي اتجاه معين، وبالتالي بناء نمط معين قائم على هذا التوجيه الخفي.
وقبل فترة قصيرة، أثارت مقالة كتبها الصديق العزيز الناقد أمير العمري عن الفرجة وآليات المشاهدة التليفزيونية الكثير من المواجع والشجون عندي، ودفعتني كلماته الهامة عن طقس الفرجة، كما يسميه، وما يخلقه في المتلقي من إيجابية أو سلبية إلى المقارنة بين ما قرأته بين دفتي كتاب بورديو، وتجربتي الشخصية مع طقس آخر مغاير من أنواع المشاهدة وجدت نفسي مدفوعًا إليه رغمًا عني ومجبرًا عليه، لكن نوعية الإجبار هنا كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي تعرض لها وفندها بورديو في كتابه وأكد عليها الصديق أمير العمري في مقالته، فنوعية الإجبار هنا دفعت إليها عن طيب خاطر وبحب بالغ وإقبال كان له ما يبرره في نظري آنذاك. وأود قبل أعرض لتلك التجربة أن أوضح أنني لن أتحدث هنا معلقًا عن دور الدراما والمسلسلات وتجربة مشاهدتها أو عن البرامج الحوارية وغيرها من البرامج أو الأمور تعج بها محطاتنا الفضائية ليل نهار دون تحقيق فائدة من أي نوع، فكلامي سيعمل على توسيع نطاق زواية الرؤية أكثر بعض الشيء للمقارنة بين حال القمر المصري بقنواته التي قاربت السبعمئة قناة (أربعين مليون متابع في الوطن العربي وفقًا لإحصائيات هذا العام 2010) وقمر واحد فحسب هو القمر الأوروبي "الهوتبيرد"، وتجربتي التي لا تنسى معه.

من فيلم "ستالكر" لتاركوفسكي
قبل عدة سنوات، من باب مواكبة العصر، فكرت في تركيب جهاز ستالايت عندي بالمنزل لمتابعة ما يتردد على مسمعي من أسماء محطات مختلفة دون أن أدري عنها أي شيء، ومن دون وعي مسبق صممت على ضرورة تزويد الطبق بلاقط للقنوات الأوروبية أولا إلى جانب آخر للقمر المصري، ورغم الصعوبة التي واجهتني في هذا الأمر، إلا أنني رجحت الاستغناء عن الفكرة برمتها لو فشلت في تركيب لاقط القمر الأوروبي، وبعد فترة أتضح أنني كنت على حق في هذا، وتدريجيًا، ربما بعد أسبوع أو أقل، تناسيت أمر القمر المصري تمامًا، ووجدتني أغرق وسط طوفان من القنوات الفضائية الأوروبية أحاولا لاهثًا، دون فائدة، مجاراة ما تقدمه على مدار ساعات اليوم من مواد إخبارية وسينمائية وبرامج وأغاني وغيرها الكثير مما لا تمله العين أو تتأذى له الأذن.
وبعد فترة ليست بالقصيرة صرت محترفًا فيما يتعلق بأمر قنوات القمر الأوروبي، فرحت أستغني تمامًا عن كل ما ليس لي به علاقة، وأركز فقط على عشرات، أؤكد عشرات، القنوات، التي تأكدت أنها تستحق المتابعة وتخصيص الجهد والوقت خلال ساعات اليوم. وبعد أن كان الأمر في البداية خاصعًا للصدفة البحتة والانتقال العشوائي بين قناة وأخرى لمحاولة ملاحقة ما تبثه، أفلحت بعد ذلك في منهجة عملية الفرجة بشكل تخطيطي صارم وفقًا لتوقيتات البلدان وما تبثه كل قناة.
سأقصر حديثي هنا على محطة أو محطتين تحديدًا لأن المقام لا يتسع لذكر أسماء أو مميزات كل محطة من المحطات على حدة. في البداية وعلى رأس كل هذه المحطات وجدتني مشدودًا إلى المحطة العملاقة "آرتى" الفرنسية الألمانية المتميزة، بكل ما تقدمه بالفرنسية وأحيانًا الألمانية، رغم معرفتي القليلة باللغتين، لكل ما هو فني راقي، من برامج سواء حوارية أو غيرها (ضاربًا بكلام بورديو عرض الحائط) أو متابعات لمهرجانات أو أحداث فنية أو عروض ريبورتاجات فنية ومتحفية إلخ، إلى جانب بالطبع الوجبة السينمائية اليومية، ناهيك عن وجبة أخرى كانت تخصصها القناة كل أسبوع لعرض مجموعة أفلام لمخرج بعينه، فهذا الأسبوع أسبوع تاركوفسكي، أو كوبولا أو بولانسكي أو لانج، على سبيل المثال، وكانت هذه القناة تتميز بميزة محببة عندي للغاية دون سائر القنوات، (للأسف تخلت عنها الآن بعض الشيء) تتمثل في عدم دبلجتها لأي حوار لأي فيلم تقدمه، فقط تضع الترجمة الفرنسية بخط صغير أسفل الشاشة وينتهى الأمر عند هذا الحد، إلى جانب انتفاء أي نوع من أنواع القطع ولو اللحظي لأحداث الفيلم من أجل فاصل إعلاني أو إخباري أو غيره من الأمور حتى لو انقلب العالم رأسًا على عقب، إضافة إلى ميزة أخرى لم أرها في أي محطة أخرى تتمثل في عدم إظهار شعار أو اسم المحطة في أي ركن من أركان الشاشة، لتلافي إزعاج المتفرج أو تشتيت انتباهه أو إفساد صورة الفيلم المعروض لمن يهون تسجيل الأفلام، فاحترام المشاهد والمادة المقدمة، والفنان الذي أبدعها يأتي أولا وقبل كل شيء عندهم، وإن كان الفيلم المعروض تصل مدة عرضه إلى ثلاث ساعات، على سبيل المثال، كنت أجلس الثلاث ساعات كاملة وأنا على يقين تام من أن الفيلم لن يقطع أبدًا أو يتخلله فاصل إعلاني أو استراحة حتى ينتهي تمامًا، وأقصد بينتهي تمامًا، ليس مجرد ظهور كلمة النهاية، إن كانت موجودة، بل انتهاء التترات النهائية كلية، خلافًا لما يحدث عندنا من حذف حتى لاسم المخرج بعد انتهاء الفيلم.
ليس هناك أدنى شك في أن الحديث عن كل قناة من هذه القنوات على حدة قد يستغرق العديد من الصفحات التي يجب تخصيصها لكل محطة وما تقدمه، كما ذكرت من قبل، فثمة الكثير برأيي يستحق الإشادة أو على الأقل مجرد الإتيان على ذكر اسم المحطة كنوع من أنواع الدين الذين أنا مدين به لهذه المحطات التي لولاها لما شاهدت الكثير من الروائع الفنية والتسجيلية والسينمائية الطويلة. ولولا، على سبيل المثال، المحطة المجرية الرسمية، لما تمكنت من مشاهدة أعمال المخرج المجري اشتيفان سابو، أو ميكلوش يانتشو أو زولتان فابري، أو البرامج التسجيلية أو الحوارية المعدة عنهم وعن غيرهم. والشيء نفسه ينطبق على المحطات الإيطالية، "الراي" تحديدًا، وهذا الكم الهائل من الأفلام الإيطالية القديمة والحديثة وغيرها من الأفلام الأجنبية الأخرى، التي تبث على مدار الساعات على كافة محطاتها، وعلى الرغم من الداء الفظيع لدى الإيطاليين حيث الولع بدبلجة كل شيء وكذلك قطعهم الإعلاني على الأقل مرة في منتصف الفيلم، إلا إنني لا أنكر أبدًا أنني شاهدت الكثير جدًا من المواد السينمائية والتسجيلية النادرة على هذه المحطات، بما في ذلك المحطات الإيطالية التعليمية أيضًا.

من فيلم "المروج الباكية" لأنجلوبولوس

من بين الأمور الكثيرة التي استوقفتني وقتها أثناء فترة متابعتي لتلك المحطات، ملاحظة أدهشتني للغاية، فمعظم المحطات التي كنت أتابعها كانت عبارة عن محطات حكومية مملوكة لبلدانها، ربما باستثناء "الآرتى"، أو "الميزو" (تلك المحطة الموسيقية المرعبة في فرادتها وتخصصها) إن لم تخني الذاكرة، فهناك أكثر من محطة ألمانية، ومجرية، ورومانية، وسلوفينية، وسويسرية، وبولندية وإسبانية إلخ، ليست سوى القنوات الأولى أو الثانية بتليفزيونات بلدانها، وهو أمر يدعو بالفعل إلى الحسرة عند مجرد التفكير فيه وتأمله. وما فاق وغطى على كل هذا، من وجهة نظري، كان قناة البرلمان اليوناني، تلك المحطة التي لا يتجاوز عدد ساعات إرسالها عشر ساعات أو يزيد قليلا مقسمة على مدار اليوم، وهي بالفعل قناة خاصة تابعة للبرلمان اليوناني، تذيع جلسات مجلس الشعب أو الشوري، لا أعرف بالضبط، اليوناني صباحًا لمدة ساعتين أو ثلاثة ثم تغلق تاركة إياك تستمتع بعزف خلفي لأروع الموسيقات الكلاسيكية، وتفتح مرة أخرى بعدة فترة لا تتجاوز الساعتين، لتذيع الكثير مما لم تشهده عيناي من قبل، ثم تغلق عند منتصف الليل، تاركة لك حرية الاستماع إلى ما تبثه من قطع من أروع الموسيقات الكلاسيكية على خلفية تعرض برامج اليوم التالي.
كانت هذه المحطة التي أجهل اسمها باليونانية أو حتى معناه (تليفزيون....) "ΒΟΥΛΗ-ΤΗΛΕΟΡΑΣΗ"، متخصصة فقط في كل ما هو فني، لا وجود لمذيعين أو مذيعات أو إعلانات أو غيرها من هذه الأمور، باستثناء نشرة أخبار مقتضبة لا تتجاوز الخمس دقائق. كانت تفتتح ساعاتها الفنية بفيلم تسجيلي عن ممثل أو مخرج أو مغني أو فرقة موسيقية معروفة أو مدرسة من المدارس الفنية إلخ، ثم تسجيلي آخر في كافة حقول المعرفة، وكان أغلبها من إنتاج البي بي سي أو القناة الرابعة البريطانية أو مما كانت تبثه محطتي الناشيونال جيوجرافيك أو الأنيمال بلانيت، ثم بعد ذلك فيلم السهرة. وفيلم السهرة لم يكن يختار هكذا هباء، بل وفقًا لبرنامج معد سلفًا طوال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد، يوم للمسرح، وآخر للبالية أو الأوبرا، وبقية أيام الأسبوع الخمسة لمخرج سينمائي واحد فقط تعرض له مختارات من أعماله الفنية. كانت هذه القناة تتمتع بنوع من الفاشية محبب جدًا لنفسي، فلم يكن هناك أي فيلم هوليوودي أو بوليوودي أو ترفيهي دون المستوى يعرض بها على الإطلاق، ولم أشاهد بها أية أفلام أمريكية اللهم إلا أفلام كازافيتش أو جارموش أو لينش فقط، وهذا معناه أن كل ما هو دون المستوى حتى وإن كان جميلا حائزًا على الأوسكار أو غيرها من الجوائز المهرجانية لم يكن له أي مكان بها، لدرجة أن أفلام الويسترن المحترمة كالتالي لسيرجوليوني العظيم لم تكن تعرض هناك، وربما مرد ذلك للمساحة الزمنية التي لم تكن تتسع لنوع آخر أو عينة أخرى من المخرجين ليس إلا، فمن يترك أفلام تاركوفسكي وبيلا تار وفيلليني ودراير وأنطونيوني وكيشلوفسكي وبرجمان وبازوليني وغيرهم من القمم ليعرض لمن هم أدنى منهم مكانة، فالمجال هناك وكذلك الذوق الفني الصارم في الانتقاء لا يتسع لآخرين ليسوا من طينة هؤلاء على الإطلاق. وبفضل هذه القناة شاهدت هناك العديد من أفلام هؤلاء لم يسبق لي مشاهدتها أو أعدت مشاهدت بعضها أو تعرفت على بعضهم وعلى أفلامهم لأول مرة، كوباياشي ومينزل وفايدا إلخ. وبالرغم من هذا كنت أراهن دائمًا على أنهم لن يصمدوا كثيرًا أمام طوفان الأفلام الأخرى والمخرجين الآخرين، لكنهم ظلوا عند حسن ظني الفني بهم وأخسروني الرهان، ولم يتنازلوا قيد أنملة عن خياراتهم الفنية الصارمة، وهي صارمة بحق، فهم عندما يختاروا على سبيل المثال عرض أسبوع لفيلليني، كانوا يختاروا أهم ما أنجز فيلليني أو بونويل أو ساورا أو غيرهم، أن أي الاختيار لم يكن اختيارًا عشوائيًا على الإطلاق، وكم كان هذا ولا يزال يثير في نفسي الدهشة، فكيف لمجموعة من القائمين على محطة ليست بالمتخصصة، سياسية بالأساس، يتوفر لديهم مثل هذا القدر الجميل من الذائقة الفنية الرفيعة في كل ما يقدمونه حتى على مستوى المادة الوثائقية؟ ولا أنسى بالطبع أنهم في بعض الأحيان، وفي يوم بمنتصف الأسبوع على وجه التحديد كانوا يعرضون بدلا من الأفلام التسجيلية فيلمًا يونانيًا لأحد مخرجيهم، وكان هذا الرافد في غاية الأهمية بالنسبة لي، لأقف على السينما اليونانية ومخرجيها ومدارسها، وأشاهد من هم غير كاكويانس وزورباه، لأدهش على سبيل المثال بمخرجين رائعين كفولجاريس، وكوندوروس، ناهيك، بالطبع، عن الرائد الكبير أنجلوبولوس.

من فيلم "ماما روما"


رسخت عندي هذه المحطة، وغيرها من المحطات التي تعرض أكثر من عمل لمخرج بعينه، خاصية غاية في التميز، في رأيي، وكانت لتلك الخاصية بذورها في غيرها من المجالات الفنية الأخرى التي أهتم بها، إلا أن هذه البذور صارت مع الوقت تترسخ وتتجذر وتتعمق، وبت أطبقها بحزم على كافة المجالات الفنية لفائدتها العميقة، وتلك الخاصية التي بت أنتهجها تتمثل في التعامل مع أي مخرج أو فنان أو كاتب إلخ بصورة إجمالية متدرجة، بمعنى، ألا أتحدث عن مخرج أو فنان أو كاتب أو موسيقي دون معرفتي الإجمالية بكافة أعماله، والمعرفة هنا لا تعني فقط مجرد حفظ أو ترديد أسماء الأعمال. أما التدرج، فأقصد به قراءة أو مشاهدة أو سماع أعمال هذا الكاتب أو المخرج أو الموسيقي منذ بداياته الأولى وحتى آخر ما أعماله الإبداعية. فقد اكتشفت أن هذا لا يجعلك على إلمام بمجمل أعمال هذا المبدع فحسب، بل أيضًا يجعلك تقف على الصعود أو الهبوط، الثبات أو الانقلاب في المستوى الفني الذي مرّ أو مرت به أعمال هذا المبدع على مدار حياته، وبالتالي تكوين صورة كاملة وشاملة عنه تجعلك في النهاية تستطيع الكتابة أو الحكم بمنطق فني وحياد على أعماله أو مستواه، دون التأثر بما قد يكتبه البعض أو تكوين رأي بناء على عمل قد يكون هو الأقوى أو الأضعف بين تسلسل أعماله الإبداعية.

من فيلم "قنال" لأندريه فايدا


ذكرت في مطلع هذا المقال أن ثمة نوع من المشاهدة أجبرني إجبارًا على أو اضطرني إلى أن أعيد النظر فيما ذكره بورديو، وكذلك إعادة ترتيب نظام حياتي وتشكيله وفقًا لما تمليه عليّ مقتضيات هذه المشاهدة وبقدر ما لها من أهمية أيضًا، فثمن نوع من المشاهدة تدفعك بالفعل إلى هذا وبالتالي ليست كل مشاهدة سلبية وامتثالية بالضرورة، تسلب الإنسان ملكاته وقدراته وقواة العقلية، لأن هناك مشاهدة قد تدفعك في أحيان كثيرة إلى أن تطأ قدمك مناطق ليس لك أي عهد سابق بها، أو لم يكن يخطر ببالك مجرد التفكير فيها، على الأقل هذا ما حدث معي. فعندما، على سبيل المثال، أتذكر الآن كيف أنني كنت أبحث لاهثًا عن محاولا إماطة اللثام عن أمر اللغة اليونانية ومعرفة أبجديتها بل وحتى تعلمها من أجل قناة البرلمان اليوناني هذه، أجدني أبتسم من غرابة التجربة، وأسعد بما حققته فيها وما دفعتني إليه.
في البداية كانت قد واجهتني صعوبة بالغة في متابعة المواعيد المختلف وأحيانًا المتضاربة لما تبثه هذه المحطات من مادة بغية متابعتها أو تسجيلها والاحتفاظ بها، فرحت قبل أي شيء، بعدما فاتني أكثر من فيلم ومادة هامة، أبحث في الانترنت عن توقيتات البلدان المختلفة، إلى أن اهتديت إلى برنامج صغير تدخل به اسم البلد ليذكر لك التوقيت بالضبط وفقًا لتوقيت بلدك، وبذلك استطعت أن أحل أول مشكلة واجهتني مع توقيت المحطات. وكانت المشكلة الثانية تتمثل في رغبتي في أن أعرف مسبقًا ما ستبثه كل محطة وتوقيت بثه حتى لا أظل تحت رحمة الانتقال من محطة إلى أخرى أو أن يفوتني بداية فيلم أو برنامج يفسد علي متعة المشاهدة أو التسجيل، فلجأت إلى الانترنت مرة أخرى، وهالني ما وجدته هناك، كل محطة من هذه المحطات تضع لن أقول برامجها الأسبوعية فحسب، بل نصف الشهرية وأحيانًا الشهرية أيضًا، وبالكامل، منذ أن تبدأ المحطة الإرسال وحتى الختام، وبتوقيت صارم لا مجال للتهريج فيه، وهناك مواقع توفر عليك كل هذا العناء، فموقع قنوات "التي في سانك" الفرنسية، على سبيل المثال، بمحطاتها الثلاث، بمجرد أن تختار المحطة يظهر لك منطقتك الجغرافية لتختار بلدك ويرتب لك جداول العرض وفقًا لتاريخ بلدك الذي اخترته، وإن كنت تبحث عن فيلم ضمن جدول البرامج فستجد كل ما يخص الفيلم، الحبكة، تاريخ الإنتاج، الممثلين الجوائز، صور، وأحيانًا دقيقة من الفيلم لتستعرضها.
لكن في مواقع أخرى واجهتني مشكلة مختلفة، فأنا لا أعرف البولندية أو المجرية أو الرومانية أو الإسبانية أو الأرمينية إلخ، فماذا أفعل لأعرف عنوان الفيلم أو اسم مخرجه؟ ومن هنا، رحت أبحث في جميع اللغات التي أحتاجها عن كلمة إخراج، لأنهم جميعًا كانوا يكتبون اسم الفيلم المعروض وتوقيت العرض ومدة الفيلم ثم اسم المخرج، فتعلمت الأحرف التي تكتب بها هذه الكلمة بعدة لغات، وكنت أقف عندها في الجداول وعندما أجد كلمة إخراج يليها اسم المخرج، وفي أحيان كثيرة كان من السهل علي قراءته أو تخمينه والتعرف عليه، كنت أسجل يوم العرض والتوقيت وزمن الفيلم، وأذهب لصفحة المخرج أو الفيلم على قاعدة البيانات بالإنترنت لتكوين فكرة مسبقة عن الفيلم والقصة والأبطال إلخ (فالفيلم، في أغلب الأحيان، إما مدبلج أو ناطق بلغة أجنبية وعليه ترجمة أجهلها، ناطق بالروسية وعليه ترجمة بولندية، مثلا). وبعد الانتهاء من كافة المحطات كنت أنتقل إلى مرحلة أخرى تتمثل في محاولة التوفيق بين هذه المحطات، والحرص على عدم حدوث تداخل فيما بينها، وإن حدث، فكنت أبدّي فيلمًا عن آخر، أو أترك المهم من أجل الأهم، أو الفيلم الذي سيعاد في يوم وتوقيت آخر واستعيض عنه بما لن يعاد أو يعرض على أي محطة خلال الشهر، وهكذا أستطعت حل جميع المشاكل التي واجهتني من أجل مشاهدة محببة دفعتني لبذل ما لا أطيقه في سبيل الفوز بما أحب، لكن الأمر كان غير ذلك بالمرة فيما يتعلق بالقناة اليونانية الأثيرة عندي حتى اليوم، فموقع المحطة الثانوي، داخل موقع البرلمان اليوناني، كان باللغة اليونانية ولا يزال حتى يومنا هذا، وبالتالي لن يفلح معه تعلمي لكلمة إخراج من أجل إماطة اللثام أو معرفة أي شيء عن صاحب الفيلم، ناهيك باسم الفيلم أو أي شيء آخر مكتوب عنه، فقط مدة عرض الفيلم وتوقيت العرض المكتوبين بأرقام هندية هما الواضحين والمعروفين لي وسط هذا الركام من الأحرف اليونانية.

المخرج اياباني مازاكي كوباياشي

لا أعرف كيف لم أفلح في العثور على كتاب واحد لتعليم اللغة اليونانية وقتها، رغم مصادفتي بعد ذلك لأكثر من كتاب في هذا الشأن، تعجبت من هذا وقتها، لكن حبي لهذه المحطة وفرادة ما تقدمه دفعني مرة أخرى للبحث في الإنترنت عن مواقع لتعليم اللغة اليونانية، وبالفعل وجدت موقعًا وضع الأحرف اليونانية القديمة إلى جوار الحديثة إلى جوار المقابل اللاتيني لها، وبذلك استطعت على الأقل أن أقرأ الحروف اليونانية مفردة وأعرف المقابل اللاتيني لها، هذا رسم حرف كذا وهذا رسم حرف كذا، وحفظت الأبجدية اليونانية عن ظهر قلب، مع جهلي بالنطق الصوتي للحروف، ولم يكن هذا مهمًا على الإطلاق بالنسبة لي. بعد ذلك، رحت كمن يفك طلاسم حجر رشيد أطبع جميع برامج القناة من الموقع، وأحاول ترجمة الأحرف اليونانية حرفًا حرفًا بأحرف لاتينية، على أمل أن تسفر الكلمة المترجمة عن اسم قد يشبه اسم مخرج أعرفه أو التكهن بفيلم أتذكره، لأنني قررت في البداية التركيز على الأفلام، وترك أمر الأفلام التسجيلية والوثائقية مؤقتًا، لأقف على الأقل في البداية على الأيام التي كانت تعرض فيها الأفلام، لأنني وقتها لم أكن أعرف باليونانية كلمة بالية أو أوبرا أو مسرحية أو فيلم، إلى أن اهتديت في النهاية إلى معرفة ترتيب العرض الذي تسير به القناة. بالطبع، أخطأت كثيرًا جدًا في البداية، فترجمتي لاسم برجمان على سبيل المثال تسفر عن اسم المخرج باراجانوف، فيلليني يتضح أنه بنيني إلخ، لكن كل هذا كان باعثًا على السعادة بالنسبة لي لأنني كنت على يقين تام في النهاية أنني حتى لو أخطأت في قراءة اسم المخرج أو اسم الفيلم فسوف أستمتع بما سيقدم، لأن من خلفه شيء كبير يدعى، الذوق، الذوق الرفيع في تقديم مادة فنية جميلة راقية ترقتي بالمشاهد وفكره وتحترم وقته وجلوسه مختارًا هذه المحطة بالذات. ومن نافل القول، بالطبع، إن هذا الذوق لا يأتي من فراغ.
وعندما أعود بذاكرتي الآن إلى تلك الفترة غير البعيدة، لا أجدني أتذكر محطة من تلك المحطات لم أشاهد بها ما هو "جديد" أو "فريد"، حتى ولو كانت المحطة غير متخصصة أو ترفيهية، والجديد هو ما لم أشاهده من قبل من مواد عرضت بهذه المحطات، والفريد أقصد به تلك المواد التي أبحث عنها في الإنترنت أو على هيئة اسطوانات ولا أجدها حتى اليوم، فأسعد لأنني واتتني فرصة تسجيلها أو على الأقل الاستمتاع بمشاهدتها. وغني عن القول أن كل ما شاهدته من مواد، حتى من زمن الأفلام الصامتة، مطلع القرن الفائت، كان في غاية النقاء والصفاء والوضوح، لا أتذكر أنني شاهدت مادة فيلمية تسجيلية أو وثائقية أو روائية كانت بها عيوب من أي نوع، فلا وجود لبقع أو دوائر أو خطوط تظهر في المادة بين الحين والآخر أو عيوب في الصوت أو الألوان إلخ. كما أتذكر جيدًا أن أغلب المحطات، كانت تتسابق في أيام احتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة بعرض جديدها، ولا أقصد بجديدها تلك المواد الفيلمية المعروضة حديثًا في السينمات أو المخصصة حصريًا لتلك المحطات، بل أقصد التفنن في تقديم كل ما هو قديم جديد، إن جاز التعبير، فثمة أفلام لشابلن على سبيل المثال أو مقاطع من أفلامه لم أشاهدها من قبل حتى يومنا هذا ولا أجدها على الإنترنت أيضًا، شاهدتها في غير محطة، لوريل وهاردي مثلا، شاهدت لهما الكثير مما لم أشاهده من قبل، وأحيانًا ما شاهدته بالأبيض والأسود أيام الطفولة كنت أجده ملونًا، كما أن جدتها تدل على أنها خارجة من معامل الطباعة لتوها، وبالفعل كنت أستشعر بهجة العام الجديد والاحتفال الحقيقي مع هذه المحطات لما كانت تقدمه من مواد نادرة، أدرك جيدًا أن أموالا طائلة دفعت فيها مقابل ترميمها أو طباعتها أو تلوينها أو العثور عليها وإخراجها من الأرشيفات السينمائية.

باتيليس فولجاريس

أحببت أن آتي هنا على ذكر تجربتي الخاصة مع نوع من المشاهدة ليس لمجرد الذكر فحسب، بل للتدليل على أن ثمة نوعية من المشاهدة قد تدفع بالمشاهد إلى محاولة البحث أو التعلم أو ترتيب الوقت أو بذل الجهد من أجل المتابعة والتفاعل مع ما يحب. بالطبع أعرف جيدًا وأدرك تمامًا أن هناك محطات لا حصر لها، ربما تتجاوز الألف بالقمر الأوروبي، مخصصة لكل ما هو رياضي وسياسي ودعائي وتهريجي وغيرها من الأمور، لكن الفارق بين هذا وذاك أن كل شيء متاح، من يريد المسلسلات أو البرامج الترفيهية أو الحوارية أو السياسية أو المسابقات أو غيرها سيجد، من يرغب في جرعة متكاملة خفيفة من كل هذا سيجد، ومن يبحث عن جرعة ثقيلة متخصصة غاية في التخصص، أيضًا سيجد، ولذلك، وبعد إقدامي على هذه التجربة، يمكنني القول إن بورديو جانبه الإنصاف بعض الشيء في عرض الصورة كاملة فيما يتعلق بما تهدف إليه هذه المحطات من هدم وتخريب وتلاعب بالعقول، (كنت وقتها أقول في نفسي، ربما كان بورديو يقصد قنواتنا نحن بكلامه القاسي هذا، وأجدني أتساءل ماذا لو تابع أو شاهد بورديو مجرد مشاهدة حفنة من قنواتنا؟ أية مجلدات كان سيكتبها هذا المفكر؟!)، والدليل على ذلك بعض القنوات التي ذكرتها وغيرها مما نسيت ذكره، فمثلا، هل تهدف المحطة التي تحمل اسم "المؤلف"، التي لا تعرض إلا الأفلام الخاصة بالمخرجين الذين ينتمون إلى هذا النوع من السينما المعروف بـ "سينما المؤلف"، إلى تخريب العقول والتلاعب بها أو إفساد الأذواق؟ سؤال أجدني مضطرًا لطرحه وإمعان النظر فيه.
في الختام أحب أن أوضح أنني لا أدعو من وراء هذه الكتابة إلى نوع من المقارنة بين هذا وذاك، أي، بين ما نقدمه وكيف نقدمه وبين ما يقدمونه، ليس لأن المقارنة ستكون ظالمة ومجحفة من وجهة نظر البعض، وإنما لانتفاء أي مجال للمقارنة من الأساس، فشتان بين ما يدفعك للبحث والاستمتاع وإعمال العقل لأنه يحترمك ويقدرك كمتفرج، وبين من يدفعك إلى الكسل والخمول والغباء، لأنك بالنسبة له لست أكثر من مجرد أعين مفتوحة على اتساعها وآذان مطرطقة وفم مفغر، على أتم الاستعداد والتهيؤ ليصب عليك كل شيء من كل حدب وصوب دون أن يحق لك إبداء أي نوع من أنواع الاعتراض أو المطالبة بما هو مغاير، ولا أجدني أبالغ في هذا، فبالتأكيد كل من تابع وشاهد أية محطة من هذه المحطات التي أتيت على ذكرها ولو عرضًا سيدرك جيدًا ما أقوله.
يتبقى لي في النهاية أن أضيف أن أغلب، إن لم يكن جميع ما ذكرته، وهو قليل، من محطات هنا هي محطات مفتوحة وليست مشفرة أو تفتح مقابل اشتراك مادي، وهذا يعني أن هناك أيضًا محطات أخرى مشفرة على هذا القمر تبث الكثير من المواد التي لا تقل أهمية وجدية وفنية عما ذكرته هنا، لكنني للأسف الشديد لم يتسنى لي متابعتها إلا لأوقات قصيرة وعلى فترات متباعدة لعجزي عن ملاحقة الكثير مما يستحق المتابعة، وأنني أقتصرت في حديثي هذا على المحطات التليفزيونية فقط الموجودة على القمر الأوروبي ولم أتطرق إلى الإذاعية منها، وهي بالمئات، التي لا تكف ليل نهار عن بث كل ما هو موسيقي فريد سواء كلاسيكي أو غير كلاسيكي، حديث أو قديم.
كذلك، لا أود أن يفهم كلامي، في النهاية، على أنه إنزال أو تقليل من شأن كتاب بورديو الرائع أو أنني أضرب به عرض الحائط كلية، العكس تمامًا، فلا زلت على إدراك واقتناع تام بما أورده بورديو، إلا إنني بعد قراءة الكتاب أكثر من مرة وخوضي لتجربتي الخاصة تلك بت أفرق دائمًا بين كلمتين أو مفردتين بينهما بون شاسع، في رأيي، "المتلقي" و"المشاهد"، فشتان بين من يتلقى ويقبل بما يتلقاه في سلبية تامة، ومن يشاهد وينقب عمّا يشاهده ويتفاعل معه، بين من يسمح لآليات التلقي أن تتلاعب بعقله، ومن يدع عقله يتحكم فيما يشاهده ويُخضِعُ هذه الآليات.

الأحد، 12 سبتمبر 2010

حول جوائز الدورة 67 لمهرجان فينيسيا السينمائي

اللقطة من فيلم "فينوس السوداء"

جاءت كل جوائز مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي تقريبا في محلها، أي انه لا يوجد فيلم لا يستحق أن يفوز من بين الأفلام الفائزة، ولكن يوجد فيلم واحد كان يستحق الفوز بجائزة ما لكن قائمة الجوائز خلت منه تماما وهو الفيلم التشيلي "تشريح الجثث بعد الموت" Post Mortum. وربما كان هناك من الأفلام ما يستحق الفوز بجائزة أكبر أو أقل مما حصد بالفعل. مثلا الفيلم الفائز بالجائزة الذهبية (الأسد الذهبي)، وهو الفيلم الأمريكي "في مكان ما" ربما تكون الجائزة أكبر منه، فهو فيلم جيد لكن يوجد بالتأكيد ما هو أفضل منه كثيرا مثل الفيلم التشيلي الذي أشرت إليه أو الفيلم الروسي "أرواح ساكنة" (الذي أفلت من لجنة التحكيم أيضا ولم يحصل سوى على جائزة النقاد!).
وكانت الممثلة الفرنسية الجديدة إلينا لونسون، التي قامت بدور البطولة في فيلم "فينوس السوداء" لعبد اللطيف كشيش تستحق الحصول على جائزة أحسن ممثلة، فقد أدت الدور ببراعة، وتعرضت للكثير من التعريض بأعضاء جسدها، وتعلمت الرقص، وبذلت جهدا هائلا في مشاهد مؤذية نفسية لأي ممثلة، لكن اللجنة رأت منحها إلى ممثلة يونانية لم تبرع بشكل مميز بأس مستوى في فيلم "اتنبرو".
جائزة أحسن ممثل حصل عليها، الممثل الأمريكي فنست جاللو، وقد سبق ان قلت إنه يستحقها (قبل إعلان الجوائز بأيام) عن أدائه في الفيلم البولندي "القتل الضروري"، فهو الأداء الصعب، لأنه يعتمد على التعبير الصامت (من دون حوار) بتعبيرات الوجه والجسد، والنظرات والإيماءات.
وهناك جائزة لم أستوعبها أبدا ولا يبدو أنني سأقتنع بها وهي جائزة رمزية (أسد ذهبي خاص) لمخرج غير معروف خارج بلاده(بل وربما لا يعرفه أحد في بلده أيضا!) وهو الأمريكي مونتي هيلمان صاحب فيلم "الطريق إلى لاشيء" الذي لم أحبه على الإطلاق بل وجدته عملا مملا وساذجا ويخلو من اي شيء مثير للاهتمام.
في فوز صوفيا كوبولا (ابنة المخرج المخضرم) بالأسد الذهبي يرى البعض أن رئيس لجنة التحكيم تارانتينو قد جامل "صديقته" السابقة. وربما يكون هذا صحيحا. ولكن هل جامل أيضا المخرج الأمريكي المجهول بمنحه جائزة عن مسيرته السينمائية من خلال كل أعماله، بينما لم نعرف له أي إسهام فني بارز في تاريخ السينما، وقد أخرج 14 فيلما رغم أنه بدأ الاخراج عام 1959، ليس من بينها فيلم واحد من الأفلام التي استقرت في الذاكرة!
أما الفيلم الاسباني "أغنية البوق الحزينة" فهو يستحق ما حصل عليه بالفعل (جائزة السيناريو وجائزة الإخراج).
وعموما الجوائز ليست مقياسا للتفوق الفني كما عودتنا مسابقات المهرجانات دوما، والعبرة بما يبقى في ذاكرة التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger