الخميس، 16 سبتمبر 2010

البحث عن متعة المشاهدة

من فيلم "طيور" لفولجاريس

بقلم: محمد هاشم عبد السلام
((يسعدني أن أستضيف في هذا الفضاء المتواضع الناقد والروائي الصديق محمد هاشم عبد السلام، في هذه المقالة البديعة التي تعبر عن فكر ورؤية ثاقبة فيما يتعلق بالمؤثرات والتاثيرات المتعلقة بموضوع "الفرجة" في عالمنا في الوقت الجاري، وصولا إلى الدور الآخر للتليفزيون في عالم مختلف، في تعميق المشاهدة المتأنية الواعية للسينما)).


قبل سنوات بعيدة كانت لي زاوية ثابتة متخصصة في عروض الكتب بمجلة "أحوال" الإماراتية، ومن بين الكتب التي قدمت لها في هذه الزواية كتاب "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول" للمفكر وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير "بيير بورديو" (1930 – 2002). ولفرط إعجابي الشديد حتى اليوم بهذا الكتاب المتميز، رغم صغر حجمه، أعدت الكتابة عنه بشكل موسع في مجلة "تليفزيون الخليج"، التي تصدر عن دول مجلس التعاون الخليجي.
يركّز بورديو في هذا الكتاب الشيق وبطريقة مباشرة وحادة بعض الشيء، على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، وفي القلب منها ذلك الجهاز الضخم الذي يسمى التليفزيون، وما تمارسه هذه الوسائل من "تلاعب وتأثير" في عقول الناس. ويبين كيف تقوم هذه الوسائل، خاصة الصحف والتليفزيون، بتشكيل الأفكار والوعي العام، وكيف تعمل آليات توجيه وتشكيل الوعي والرأي العام، ومن الذي يقوم بالتحكم في تنظيم وتوجيه أو إدارة هذه الآليات؟ وكيف أن الصحافة، وبعدها التليفزيون، كان الهدف الأساسي منهما خلق أداة تنوير وتثقيف وتغيير للوعي والواقع لما هو أفضل، أو على الأقل القيام بعملية "إخبار" حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة، وكيف أنها غدت بفعل هيمنة قوى المال ونخب المصالح أداة تمرير لما يتطلبه السوق وعلاقات الربح من حيل إعلانية واستعراضات باذخة وباهتة المضمون، وإلى أي مدى ساهمت في عزوف الناس عن السياسة والثقافة الجادة، وتعميم قيم الاستهلاك والسلبية والامتثالية.
من بين الأمور العديدة التي تعرض لها بودريو في هذا الكتاب تلك الخلفية التي تراها أعيننا على الشاشات الزائفة أمامنا، وقدم لنا في ذلك نموذج شديد الرواج وهو البرامج الحوارية أو "التوك شو"، وراح يفندها بدقة وبعين خبير متفحص، بدءًا من تركيب البلاتوه مرورًا بنبرات المذيع والضيوف المتحدثين من كلا الجانبين وانتهاء بالصراعات والمناقشات الحادة المفتعلة فيما بينهم، وفرض نمط التفكير السريع، وتقديم الندوات الزائفة، وانتقاء الأسئلة وعدم إعطاء الحق في الكلام لمن يملك أفكارًا جديدة أو جيدة، وكيف يجري الضغط على هؤلاء ومنحهم الحق في وقت غير ملائم. إلى آخر كل هذه التنويعات التي هي من أدوات التلاعب بعقول المشاهدين وتغيير وعيهم وممارسة الرقابة عليهم في نفس الوقت، ودفعهم إلى التفكير في أمور بعينها وفي اتجاه معين، وبالتالي بناء نمط معين قائم على هذا التوجيه الخفي.
وقبل فترة قصيرة، أثارت مقالة كتبها الصديق العزيز الناقد أمير العمري عن الفرجة وآليات المشاهدة التليفزيونية الكثير من المواجع والشجون عندي، ودفعتني كلماته الهامة عن طقس الفرجة، كما يسميه، وما يخلقه في المتلقي من إيجابية أو سلبية إلى المقارنة بين ما قرأته بين دفتي كتاب بورديو، وتجربتي الشخصية مع طقس آخر مغاير من أنواع المشاهدة وجدت نفسي مدفوعًا إليه رغمًا عني ومجبرًا عليه، لكن نوعية الإجبار هنا كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي تعرض لها وفندها بورديو في كتابه وأكد عليها الصديق أمير العمري في مقالته، فنوعية الإجبار هنا دفعت إليها عن طيب خاطر وبحب بالغ وإقبال كان له ما يبرره في نظري آنذاك. وأود قبل أعرض لتلك التجربة أن أوضح أنني لن أتحدث هنا معلقًا عن دور الدراما والمسلسلات وتجربة مشاهدتها أو عن البرامج الحوارية وغيرها من البرامج أو الأمور تعج بها محطاتنا الفضائية ليل نهار دون تحقيق فائدة من أي نوع، فكلامي سيعمل على توسيع نطاق زواية الرؤية أكثر بعض الشيء للمقارنة بين حال القمر المصري بقنواته التي قاربت السبعمئة قناة (أربعين مليون متابع في الوطن العربي وفقًا لإحصائيات هذا العام 2010) وقمر واحد فحسب هو القمر الأوروبي "الهوتبيرد"، وتجربتي التي لا تنسى معه.

من فيلم "ستالكر" لتاركوفسكي
قبل عدة سنوات، من باب مواكبة العصر، فكرت في تركيب جهاز ستالايت عندي بالمنزل لمتابعة ما يتردد على مسمعي من أسماء محطات مختلفة دون أن أدري عنها أي شيء، ومن دون وعي مسبق صممت على ضرورة تزويد الطبق بلاقط للقنوات الأوروبية أولا إلى جانب آخر للقمر المصري، ورغم الصعوبة التي واجهتني في هذا الأمر، إلا أنني رجحت الاستغناء عن الفكرة برمتها لو فشلت في تركيب لاقط القمر الأوروبي، وبعد فترة أتضح أنني كنت على حق في هذا، وتدريجيًا، ربما بعد أسبوع أو أقل، تناسيت أمر القمر المصري تمامًا، ووجدتني أغرق وسط طوفان من القنوات الفضائية الأوروبية أحاولا لاهثًا، دون فائدة، مجاراة ما تقدمه على مدار ساعات اليوم من مواد إخبارية وسينمائية وبرامج وأغاني وغيرها الكثير مما لا تمله العين أو تتأذى له الأذن.
وبعد فترة ليست بالقصيرة صرت محترفًا فيما يتعلق بأمر قنوات القمر الأوروبي، فرحت أستغني تمامًا عن كل ما ليس لي به علاقة، وأركز فقط على عشرات، أؤكد عشرات، القنوات، التي تأكدت أنها تستحق المتابعة وتخصيص الجهد والوقت خلال ساعات اليوم. وبعد أن كان الأمر في البداية خاصعًا للصدفة البحتة والانتقال العشوائي بين قناة وأخرى لمحاولة ملاحقة ما تبثه، أفلحت بعد ذلك في منهجة عملية الفرجة بشكل تخطيطي صارم وفقًا لتوقيتات البلدان وما تبثه كل قناة.
سأقصر حديثي هنا على محطة أو محطتين تحديدًا لأن المقام لا يتسع لذكر أسماء أو مميزات كل محطة من المحطات على حدة. في البداية وعلى رأس كل هذه المحطات وجدتني مشدودًا إلى المحطة العملاقة "آرتى" الفرنسية الألمانية المتميزة، بكل ما تقدمه بالفرنسية وأحيانًا الألمانية، رغم معرفتي القليلة باللغتين، لكل ما هو فني راقي، من برامج سواء حوارية أو غيرها (ضاربًا بكلام بورديو عرض الحائط) أو متابعات لمهرجانات أو أحداث فنية أو عروض ريبورتاجات فنية ومتحفية إلخ، إلى جانب بالطبع الوجبة السينمائية اليومية، ناهيك عن وجبة أخرى كانت تخصصها القناة كل أسبوع لعرض مجموعة أفلام لمخرج بعينه، فهذا الأسبوع أسبوع تاركوفسكي، أو كوبولا أو بولانسكي أو لانج، على سبيل المثال، وكانت هذه القناة تتميز بميزة محببة عندي للغاية دون سائر القنوات، (للأسف تخلت عنها الآن بعض الشيء) تتمثل في عدم دبلجتها لأي حوار لأي فيلم تقدمه، فقط تضع الترجمة الفرنسية بخط صغير أسفل الشاشة وينتهى الأمر عند هذا الحد، إلى جانب انتفاء أي نوع من أنواع القطع ولو اللحظي لأحداث الفيلم من أجل فاصل إعلاني أو إخباري أو غيره من الأمور حتى لو انقلب العالم رأسًا على عقب، إضافة إلى ميزة أخرى لم أرها في أي محطة أخرى تتمثل في عدم إظهار شعار أو اسم المحطة في أي ركن من أركان الشاشة، لتلافي إزعاج المتفرج أو تشتيت انتباهه أو إفساد صورة الفيلم المعروض لمن يهون تسجيل الأفلام، فاحترام المشاهد والمادة المقدمة، والفنان الذي أبدعها يأتي أولا وقبل كل شيء عندهم، وإن كان الفيلم المعروض تصل مدة عرضه إلى ثلاث ساعات، على سبيل المثال، كنت أجلس الثلاث ساعات كاملة وأنا على يقين تام من أن الفيلم لن يقطع أبدًا أو يتخلله فاصل إعلاني أو استراحة حتى ينتهي تمامًا، وأقصد بينتهي تمامًا، ليس مجرد ظهور كلمة النهاية، إن كانت موجودة، بل انتهاء التترات النهائية كلية، خلافًا لما يحدث عندنا من حذف حتى لاسم المخرج بعد انتهاء الفيلم.
ليس هناك أدنى شك في أن الحديث عن كل قناة من هذه القنوات على حدة قد يستغرق العديد من الصفحات التي يجب تخصيصها لكل محطة وما تقدمه، كما ذكرت من قبل، فثمة الكثير برأيي يستحق الإشادة أو على الأقل مجرد الإتيان على ذكر اسم المحطة كنوع من أنواع الدين الذين أنا مدين به لهذه المحطات التي لولاها لما شاهدت الكثير من الروائع الفنية والتسجيلية والسينمائية الطويلة. ولولا، على سبيل المثال، المحطة المجرية الرسمية، لما تمكنت من مشاهدة أعمال المخرج المجري اشتيفان سابو، أو ميكلوش يانتشو أو زولتان فابري، أو البرامج التسجيلية أو الحوارية المعدة عنهم وعن غيرهم. والشيء نفسه ينطبق على المحطات الإيطالية، "الراي" تحديدًا، وهذا الكم الهائل من الأفلام الإيطالية القديمة والحديثة وغيرها من الأفلام الأجنبية الأخرى، التي تبث على مدار الساعات على كافة محطاتها، وعلى الرغم من الداء الفظيع لدى الإيطاليين حيث الولع بدبلجة كل شيء وكذلك قطعهم الإعلاني على الأقل مرة في منتصف الفيلم، إلا إنني لا أنكر أبدًا أنني شاهدت الكثير جدًا من المواد السينمائية والتسجيلية النادرة على هذه المحطات، بما في ذلك المحطات الإيطالية التعليمية أيضًا.

من فيلم "المروج الباكية" لأنجلوبولوس

من بين الأمور الكثيرة التي استوقفتني وقتها أثناء فترة متابعتي لتلك المحطات، ملاحظة أدهشتني للغاية، فمعظم المحطات التي كنت أتابعها كانت عبارة عن محطات حكومية مملوكة لبلدانها، ربما باستثناء "الآرتى"، أو "الميزو" (تلك المحطة الموسيقية المرعبة في فرادتها وتخصصها) إن لم تخني الذاكرة، فهناك أكثر من محطة ألمانية، ومجرية، ورومانية، وسلوفينية، وسويسرية، وبولندية وإسبانية إلخ، ليست سوى القنوات الأولى أو الثانية بتليفزيونات بلدانها، وهو أمر يدعو بالفعل إلى الحسرة عند مجرد التفكير فيه وتأمله. وما فاق وغطى على كل هذا، من وجهة نظري، كان قناة البرلمان اليوناني، تلك المحطة التي لا يتجاوز عدد ساعات إرسالها عشر ساعات أو يزيد قليلا مقسمة على مدار اليوم، وهي بالفعل قناة خاصة تابعة للبرلمان اليوناني، تذيع جلسات مجلس الشعب أو الشوري، لا أعرف بالضبط، اليوناني صباحًا لمدة ساعتين أو ثلاثة ثم تغلق تاركة إياك تستمتع بعزف خلفي لأروع الموسيقات الكلاسيكية، وتفتح مرة أخرى بعدة فترة لا تتجاوز الساعتين، لتذيع الكثير مما لم تشهده عيناي من قبل، ثم تغلق عند منتصف الليل، تاركة لك حرية الاستماع إلى ما تبثه من قطع من أروع الموسيقات الكلاسيكية على خلفية تعرض برامج اليوم التالي.
كانت هذه المحطة التي أجهل اسمها باليونانية أو حتى معناه (تليفزيون....) "ΒΟΥΛΗ-ΤΗΛΕΟΡΑΣΗ"، متخصصة فقط في كل ما هو فني، لا وجود لمذيعين أو مذيعات أو إعلانات أو غيرها من هذه الأمور، باستثناء نشرة أخبار مقتضبة لا تتجاوز الخمس دقائق. كانت تفتتح ساعاتها الفنية بفيلم تسجيلي عن ممثل أو مخرج أو مغني أو فرقة موسيقية معروفة أو مدرسة من المدارس الفنية إلخ، ثم تسجيلي آخر في كافة حقول المعرفة، وكان أغلبها من إنتاج البي بي سي أو القناة الرابعة البريطانية أو مما كانت تبثه محطتي الناشيونال جيوجرافيك أو الأنيمال بلانيت، ثم بعد ذلك فيلم السهرة. وفيلم السهرة لم يكن يختار هكذا هباء، بل وفقًا لبرنامج معد سلفًا طوال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد، يوم للمسرح، وآخر للبالية أو الأوبرا، وبقية أيام الأسبوع الخمسة لمخرج سينمائي واحد فقط تعرض له مختارات من أعماله الفنية. كانت هذه القناة تتمتع بنوع من الفاشية محبب جدًا لنفسي، فلم يكن هناك أي فيلم هوليوودي أو بوليوودي أو ترفيهي دون المستوى يعرض بها على الإطلاق، ولم أشاهد بها أية أفلام أمريكية اللهم إلا أفلام كازافيتش أو جارموش أو لينش فقط، وهذا معناه أن كل ما هو دون المستوى حتى وإن كان جميلا حائزًا على الأوسكار أو غيرها من الجوائز المهرجانية لم يكن له أي مكان بها، لدرجة أن أفلام الويسترن المحترمة كالتالي لسيرجوليوني العظيم لم تكن تعرض هناك، وربما مرد ذلك للمساحة الزمنية التي لم تكن تتسع لنوع آخر أو عينة أخرى من المخرجين ليس إلا، فمن يترك أفلام تاركوفسكي وبيلا تار وفيلليني ودراير وأنطونيوني وكيشلوفسكي وبرجمان وبازوليني وغيرهم من القمم ليعرض لمن هم أدنى منهم مكانة، فالمجال هناك وكذلك الذوق الفني الصارم في الانتقاء لا يتسع لآخرين ليسوا من طينة هؤلاء على الإطلاق. وبفضل هذه القناة شاهدت هناك العديد من أفلام هؤلاء لم يسبق لي مشاهدتها أو أعدت مشاهدت بعضها أو تعرفت على بعضهم وعلى أفلامهم لأول مرة، كوباياشي ومينزل وفايدا إلخ. وبالرغم من هذا كنت أراهن دائمًا على أنهم لن يصمدوا كثيرًا أمام طوفان الأفلام الأخرى والمخرجين الآخرين، لكنهم ظلوا عند حسن ظني الفني بهم وأخسروني الرهان، ولم يتنازلوا قيد أنملة عن خياراتهم الفنية الصارمة، وهي صارمة بحق، فهم عندما يختاروا على سبيل المثال عرض أسبوع لفيلليني، كانوا يختاروا أهم ما أنجز فيلليني أو بونويل أو ساورا أو غيرهم، أن أي الاختيار لم يكن اختيارًا عشوائيًا على الإطلاق، وكم كان هذا ولا يزال يثير في نفسي الدهشة، فكيف لمجموعة من القائمين على محطة ليست بالمتخصصة، سياسية بالأساس، يتوفر لديهم مثل هذا القدر الجميل من الذائقة الفنية الرفيعة في كل ما يقدمونه حتى على مستوى المادة الوثائقية؟ ولا أنسى بالطبع أنهم في بعض الأحيان، وفي يوم بمنتصف الأسبوع على وجه التحديد كانوا يعرضون بدلا من الأفلام التسجيلية فيلمًا يونانيًا لأحد مخرجيهم، وكان هذا الرافد في غاية الأهمية بالنسبة لي، لأقف على السينما اليونانية ومخرجيها ومدارسها، وأشاهد من هم غير كاكويانس وزورباه، لأدهش على سبيل المثال بمخرجين رائعين كفولجاريس، وكوندوروس، ناهيك، بالطبع، عن الرائد الكبير أنجلوبولوس.

من فيلم "ماما روما"


رسخت عندي هذه المحطة، وغيرها من المحطات التي تعرض أكثر من عمل لمخرج بعينه، خاصية غاية في التميز، في رأيي، وكانت لتلك الخاصية بذورها في غيرها من المجالات الفنية الأخرى التي أهتم بها، إلا أن هذه البذور صارت مع الوقت تترسخ وتتجذر وتتعمق، وبت أطبقها بحزم على كافة المجالات الفنية لفائدتها العميقة، وتلك الخاصية التي بت أنتهجها تتمثل في التعامل مع أي مخرج أو فنان أو كاتب إلخ بصورة إجمالية متدرجة، بمعنى، ألا أتحدث عن مخرج أو فنان أو كاتب أو موسيقي دون معرفتي الإجمالية بكافة أعماله، والمعرفة هنا لا تعني فقط مجرد حفظ أو ترديد أسماء الأعمال. أما التدرج، فأقصد به قراءة أو مشاهدة أو سماع أعمال هذا الكاتب أو المخرج أو الموسيقي منذ بداياته الأولى وحتى آخر ما أعماله الإبداعية. فقد اكتشفت أن هذا لا يجعلك على إلمام بمجمل أعمال هذا المبدع فحسب، بل أيضًا يجعلك تقف على الصعود أو الهبوط، الثبات أو الانقلاب في المستوى الفني الذي مرّ أو مرت به أعمال هذا المبدع على مدار حياته، وبالتالي تكوين صورة كاملة وشاملة عنه تجعلك في النهاية تستطيع الكتابة أو الحكم بمنطق فني وحياد على أعماله أو مستواه، دون التأثر بما قد يكتبه البعض أو تكوين رأي بناء على عمل قد يكون هو الأقوى أو الأضعف بين تسلسل أعماله الإبداعية.

من فيلم "قنال" لأندريه فايدا


ذكرت في مطلع هذا المقال أن ثمة نوع من المشاهدة أجبرني إجبارًا على أو اضطرني إلى أن أعيد النظر فيما ذكره بورديو، وكذلك إعادة ترتيب نظام حياتي وتشكيله وفقًا لما تمليه عليّ مقتضيات هذه المشاهدة وبقدر ما لها من أهمية أيضًا، فثمن نوع من المشاهدة تدفعك بالفعل إلى هذا وبالتالي ليست كل مشاهدة سلبية وامتثالية بالضرورة، تسلب الإنسان ملكاته وقدراته وقواة العقلية، لأن هناك مشاهدة قد تدفعك في أحيان كثيرة إلى أن تطأ قدمك مناطق ليس لك أي عهد سابق بها، أو لم يكن يخطر ببالك مجرد التفكير فيها، على الأقل هذا ما حدث معي. فعندما، على سبيل المثال، أتذكر الآن كيف أنني كنت أبحث لاهثًا عن محاولا إماطة اللثام عن أمر اللغة اليونانية ومعرفة أبجديتها بل وحتى تعلمها من أجل قناة البرلمان اليوناني هذه، أجدني أبتسم من غرابة التجربة، وأسعد بما حققته فيها وما دفعتني إليه.
في البداية كانت قد واجهتني صعوبة بالغة في متابعة المواعيد المختلف وأحيانًا المتضاربة لما تبثه هذه المحطات من مادة بغية متابعتها أو تسجيلها والاحتفاظ بها، فرحت قبل أي شيء، بعدما فاتني أكثر من فيلم ومادة هامة، أبحث في الانترنت عن توقيتات البلدان المختلفة، إلى أن اهتديت إلى برنامج صغير تدخل به اسم البلد ليذكر لك التوقيت بالضبط وفقًا لتوقيت بلدك، وبذلك استطعت أن أحل أول مشكلة واجهتني مع توقيت المحطات. وكانت المشكلة الثانية تتمثل في رغبتي في أن أعرف مسبقًا ما ستبثه كل محطة وتوقيت بثه حتى لا أظل تحت رحمة الانتقال من محطة إلى أخرى أو أن يفوتني بداية فيلم أو برنامج يفسد علي متعة المشاهدة أو التسجيل، فلجأت إلى الانترنت مرة أخرى، وهالني ما وجدته هناك، كل محطة من هذه المحطات تضع لن أقول برامجها الأسبوعية فحسب، بل نصف الشهرية وأحيانًا الشهرية أيضًا، وبالكامل، منذ أن تبدأ المحطة الإرسال وحتى الختام، وبتوقيت صارم لا مجال للتهريج فيه، وهناك مواقع توفر عليك كل هذا العناء، فموقع قنوات "التي في سانك" الفرنسية، على سبيل المثال، بمحطاتها الثلاث، بمجرد أن تختار المحطة يظهر لك منطقتك الجغرافية لتختار بلدك ويرتب لك جداول العرض وفقًا لتاريخ بلدك الذي اخترته، وإن كنت تبحث عن فيلم ضمن جدول البرامج فستجد كل ما يخص الفيلم، الحبكة، تاريخ الإنتاج، الممثلين الجوائز، صور، وأحيانًا دقيقة من الفيلم لتستعرضها.
لكن في مواقع أخرى واجهتني مشكلة مختلفة، فأنا لا أعرف البولندية أو المجرية أو الرومانية أو الإسبانية أو الأرمينية إلخ، فماذا أفعل لأعرف عنوان الفيلم أو اسم مخرجه؟ ومن هنا، رحت أبحث في جميع اللغات التي أحتاجها عن كلمة إخراج، لأنهم جميعًا كانوا يكتبون اسم الفيلم المعروض وتوقيت العرض ومدة الفيلم ثم اسم المخرج، فتعلمت الأحرف التي تكتب بها هذه الكلمة بعدة لغات، وكنت أقف عندها في الجداول وعندما أجد كلمة إخراج يليها اسم المخرج، وفي أحيان كثيرة كان من السهل علي قراءته أو تخمينه والتعرف عليه، كنت أسجل يوم العرض والتوقيت وزمن الفيلم، وأذهب لصفحة المخرج أو الفيلم على قاعدة البيانات بالإنترنت لتكوين فكرة مسبقة عن الفيلم والقصة والأبطال إلخ (فالفيلم، في أغلب الأحيان، إما مدبلج أو ناطق بلغة أجنبية وعليه ترجمة أجهلها، ناطق بالروسية وعليه ترجمة بولندية، مثلا). وبعد الانتهاء من كافة المحطات كنت أنتقل إلى مرحلة أخرى تتمثل في محاولة التوفيق بين هذه المحطات، والحرص على عدم حدوث تداخل فيما بينها، وإن حدث، فكنت أبدّي فيلمًا عن آخر، أو أترك المهم من أجل الأهم، أو الفيلم الذي سيعاد في يوم وتوقيت آخر واستعيض عنه بما لن يعاد أو يعرض على أي محطة خلال الشهر، وهكذا أستطعت حل جميع المشاكل التي واجهتني من أجل مشاهدة محببة دفعتني لبذل ما لا أطيقه في سبيل الفوز بما أحب، لكن الأمر كان غير ذلك بالمرة فيما يتعلق بالقناة اليونانية الأثيرة عندي حتى اليوم، فموقع المحطة الثانوي، داخل موقع البرلمان اليوناني، كان باللغة اليونانية ولا يزال حتى يومنا هذا، وبالتالي لن يفلح معه تعلمي لكلمة إخراج من أجل إماطة اللثام أو معرفة أي شيء عن صاحب الفيلم، ناهيك باسم الفيلم أو أي شيء آخر مكتوب عنه، فقط مدة عرض الفيلم وتوقيت العرض المكتوبين بأرقام هندية هما الواضحين والمعروفين لي وسط هذا الركام من الأحرف اليونانية.

المخرج اياباني مازاكي كوباياشي

لا أعرف كيف لم أفلح في العثور على كتاب واحد لتعليم اللغة اليونانية وقتها، رغم مصادفتي بعد ذلك لأكثر من كتاب في هذا الشأن، تعجبت من هذا وقتها، لكن حبي لهذه المحطة وفرادة ما تقدمه دفعني مرة أخرى للبحث في الإنترنت عن مواقع لتعليم اللغة اليونانية، وبالفعل وجدت موقعًا وضع الأحرف اليونانية القديمة إلى جوار الحديثة إلى جوار المقابل اللاتيني لها، وبذلك استطعت على الأقل أن أقرأ الحروف اليونانية مفردة وأعرف المقابل اللاتيني لها، هذا رسم حرف كذا وهذا رسم حرف كذا، وحفظت الأبجدية اليونانية عن ظهر قلب، مع جهلي بالنطق الصوتي للحروف، ولم يكن هذا مهمًا على الإطلاق بالنسبة لي. بعد ذلك، رحت كمن يفك طلاسم حجر رشيد أطبع جميع برامج القناة من الموقع، وأحاول ترجمة الأحرف اليونانية حرفًا حرفًا بأحرف لاتينية، على أمل أن تسفر الكلمة المترجمة عن اسم قد يشبه اسم مخرج أعرفه أو التكهن بفيلم أتذكره، لأنني قررت في البداية التركيز على الأفلام، وترك أمر الأفلام التسجيلية والوثائقية مؤقتًا، لأقف على الأقل في البداية على الأيام التي كانت تعرض فيها الأفلام، لأنني وقتها لم أكن أعرف باليونانية كلمة بالية أو أوبرا أو مسرحية أو فيلم، إلى أن اهتديت في النهاية إلى معرفة ترتيب العرض الذي تسير به القناة. بالطبع، أخطأت كثيرًا جدًا في البداية، فترجمتي لاسم برجمان على سبيل المثال تسفر عن اسم المخرج باراجانوف، فيلليني يتضح أنه بنيني إلخ، لكن كل هذا كان باعثًا على السعادة بالنسبة لي لأنني كنت على يقين تام في النهاية أنني حتى لو أخطأت في قراءة اسم المخرج أو اسم الفيلم فسوف أستمتع بما سيقدم، لأن من خلفه شيء كبير يدعى، الذوق، الذوق الرفيع في تقديم مادة فنية جميلة راقية ترقتي بالمشاهد وفكره وتحترم وقته وجلوسه مختارًا هذه المحطة بالذات. ومن نافل القول، بالطبع، إن هذا الذوق لا يأتي من فراغ.
وعندما أعود بذاكرتي الآن إلى تلك الفترة غير البعيدة، لا أجدني أتذكر محطة من تلك المحطات لم أشاهد بها ما هو "جديد" أو "فريد"، حتى ولو كانت المحطة غير متخصصة أو ترفيهية، والجديد هو ما لم أشاهده من قبل من مواد عرضت بهذه المحطات، والفريد أقصد به تلك المواد التي أبحث عنها في الإنترنت أو على هيئة اسطوانات ولا أجدها حتى اليوم، فأسعد لأنني واتتني فرصة تسجيلها أو على الأقل الاستمتاع بمشاهدتها. وغني عن القول أن كل ما شاهدته من مواد، حتى من زمن الأفلام الصامتة، مطلع القرن الفائت، كان في غاية النقاء والصفاء والوضوح، لا أتذكر أنني شاهدت مادة فيلمية تسجيلية أو وثائقية أو روائية كانت بها عيوب من أي نوع، فلا وجود لبقع أو دوائر أو خطوط تظهر في المادة بين الحين والآخر أو عيوب في الصوت أو الألوان إلخ. كما أتذكر جيدًا أن أغلب المحطات، كانت تتسابق في أيام احتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة بعرض جديدها، ولا أقصد بجديدها تلك المواد الفيلمية المعروضة حديثًا في السينمات أو المخصصة حصريًا لتلك المحطات، بل أقصد التفنن في تقديم كل ما هو قديم جديد، إن جاز التعبير، فثمة أفلام لشابلن على سبيل المثال أو مقاطع من أفلامه لم أشاهدها من قبل حتى يومنا هذا ولا أجدها على الإنترنت أيضًا، شاهدتها في غير محطة، لوريل وهاردي مثلا، شاهدت لهما الكثير مما لم أشاهده من قبل، وأحيانًا ما شاهدته بالأبيض والأسود أيام الطفولة كنت أجده ملونًا، كما أن جدتها تدل على أنها خارجة من معامل الطباعة لتوها، وبالفعل كنت أستشعر بهجة العام الجديد والاحتفال الحقيقي مع هذه المحطات لما كانت تقدمه من مواد نادرة، أدرك جيدًا أن أموالا طائلة دفعت فيها مقابل ترميمها أو طباعتها أو تلوينها أو العثور عليها وإخراجها من الأرشيفات السينمائية.

باتيليس فولجاريس

أحببت أن آتي هنا على ذكر تجربتي الخاصة مع نوع من المشاهدة ليس لمجرد الذكر فحسب، بل للتدليل على أن ثمة نوعية من المشاهدة قد تدفع بالمشاهد إلى محاولة البحث أو التعلم أو ترتيب الوقت أو بذل الجهد من أجل المتابعة والتفاعل مع ما يحب. بالطبع أعرف جيدًا وأدرك تمامًا أن هناك محطات لا حصر لها، ربما تتجاوز الألف بالقمر الأوروبي، مخصصة لكل ما هو رياضي وسياسي ودعائي وتهريجي وغيرها من الأمور، لكن الفارق بين هذا وذاك أن كل شيء متاح، من يريد المسلسلات أو البرامج الترفيهية أو الحوارية أو السياسية أو المسابقات أو غيرها سيجد، من يرغب في جرعة متكاملة خفيفة من كل هذا سيجد، ومن يبحث عن جرعة ثقيلة متخصصة غاية في التخصص، أيضًا سيجد، ولذلك، وبعد إقدامي على هذه التجربة، يمكنني القول إن بورديو جانبه الإنصاف بعض الشيء في عرض الصورة كاملة فيما يتعلق بما تهدف إليه هذه المحطات من هدم وتخريب وتلاعب بالعقول، (كنت وقتها أقول في نفسي، ربما كان بورديو يقصد قنواتنا نحن بكلامه القاسي هذا، وأجدني أتساءل ماذا لو تابع أو شاهد بورديو مجرد مشاهدة حفنة من قنواتنا؟ أية مجلدات كان سيكتبها هذا المفكر؟!)، والدليل على ذلك بعض القنوات التي ذكرتها وغيرها مما نسيت ذكره، فمثلا، هل تهدف المحطة التي تحمل اسم "المؤلف"، التي لا تعرض إلا الأفلام الخاصة بالمخرجين الذين ينتمون إلى هذا النوع من السينما المعروف بـ "سينما المؤلف"، إلى تخريب العقول والتلاعب بها أو إفساد الأذواق؟ سؤال أجدني مضطرًا لطرحه وإمعان النظر فيه.
في الختام أحب أن أوضح أنني لا أدعو من وراء هذه الكتابة إلى نوع من المقارنة بين هذا وذاك، أي، بين ما نقدمه وكيف نقدمه وبين ما يقدمونه، ليس لأن المقارنة ستكون ظالمة ومجحفة من وجهة نظر البعض، وإنما لانتفاء أي مجال للمقارنة من الأساس، فشتان بين ما يدفعك للبحث والاستمتاع وإعمال العقل لأنه يحترمك ويقدرك كمتفرج، وبين من يدفعك إلى الكسل والخمول والغباء، لأنك بالنسبة له لست أكثر من مجرد أعين مفتوحة على اتساعها وآذان مطرطقة وفم مفغر، على أتم الاستعداد والتهيؤ ليصب عليك كل شيء من كل حدب وصوب دون أن يحق لك إبداء أي نوع من أنواع الاعتراض أو المطالبة بما هو مغاير، ولا أجدني أبالغ في هذا، فبالتأكيد كل من تابع وشاهد أية محطة من هذه المحطات التي أتيت على ذكرها ولو عرضًا سيدرك جيدًا ما أقوله.
يتبقى لي في النهاية أن أضيف أن أغلب، إن لم يكن جميع ما ذكرته، وهو قليل، من محطات هنا هي محطات مفتوحة وليست مشفرة أو تفتح مقابل اشتراك مادي، وهذا يعني أن هناك أيضًا محطات أخرى مشفرة على هذا القمر تبث الكثير من المواد التي لا تقل أهمية وجدية وفنية عما ذكرته هنا، لكنني للأسف الشديد لم يتسنى لي متابعتها إلا لأوقات قصيرة وعلى فترات متباعدة لعجزي عن ملاحقة الكثير مما يستحق المتابعة، وأنني أقتصرت في حديثي هذا على المحطات التليفزيونية فقط الموجودة على القمر الأوروبي ولم أتطرق إلى الإذاعية منها، وهي بالمئات، التي لا تكف ليل نهار عن بث كل ما هو موسيقي فريد سواء كلاسيكي أو غير كلاسيكي، حديث أو قديم.
كذلك، لا أود أن يفهم كلامي، في النهاية، على أنه إنزال أو تقليل من شأن كتاب بورديو الرائع أو أنني أضرب به عرض الحائط كلية، العكس تمامًا، فلا زلت على إدراك واقتناع تام بما أورده بورديو، إلا إنني بعد قراءة الكتاب أكثر من مرة وخوضي لتجربتي الخاصة تلك بت أفرق دائمًا بين كلمتين أو مفردتين بينهما بون شاسع، في رأيي، "المتلقي" و"المشاهد"، فشتان بين من يتلقى ويقبل بما يتلقاه في سلبية تامة، ومن يشاهد وينقب عمّا يشاهده ويتفاعل معه، بين من يسمح لآليات التلقي أن تتلاعب بعقله، ومن يدع عقله يتحكم فيما يشاهده ويُخضِعُ هذه الآليات.

الأحد، 12 سبتمبر 2010

حول جوائز الدورة 67 لمهرجان فينيسيا السينمائي

اللقطة من فيلم "فينوس السوداء"

جاءت كل جوائز مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي تقريبا في محلها، أي انه لا يوجد فيلم لا يستحق أن يفوز من بين الأفلام الفائزة، ولكن يوجد فيلم واحد كان يستحق الفوز بجائزة ما لكن قائمة الجوائز خلت منه تماما وهو الفيلم التشيلي "تشريح الجثث بعد الموت" Post Mortum. وربما كان هناك من الأفلام ما يستحق الفوز بجائزة أكبر أو أقل مما حصد بالفعل. مثلا الفيلم الفائز بالجائزة الذهبية (الأسد الذهبي)، وهو الفيلم الأمريكي "في مكان ما" ربما تكون الجائزة أكبر منه، فهو فيلم جيد لكن يوجد بالتأكيد ما هو أفضل منه كثيرا مثل الفيلم التشيلي الذي أشرت إليه أو الفيلم الروسي "أرواح ساكنة" (الذي أفلت من لجنة التحكيم أيضا ولم يحصل سوى على جائزة النقاد!).
وكانت الممثلة الفرنسية الجديدة إلينا لونسون، التي قامت بدور البطولة في فيلم "فينوس السوداء" لعبد اللطيف كشيش تستحق الحصول على جائزة أحسن ممثلة، فقد أدت الدور ببراعة، وتعرضت للكثير من التعريض بأعضاء جسدها، وتعلمت الرقص، وبذلت جهدا هائلا في مشاهد مؤذية نفسية لأي ممثلة، لكن اللجنة رأت منحها إلى ممثلة يونانية لم تبرع بشكل مميز بأس مستوى في فيلم "اتنبرو".
جائزة أحسن ممثل حصل عليها، الممثل الأمريكي فنست جاللو، وقد سبق ان قلت إنه يستحقها (قبل إعلان الجوائز بأيام) عن أدائه في الفيلم البولندي "القتل الضروري"، فهو الأداء الصعب، لأنه يعتمد على التعبير الصامت (من دون حوار) بتعبيرات الوجه والجسد، والنظرات والإيماءات.
وهناك جائزة لم أستوعبها أبدا ولا يبدو أنني سأقتنع بها وهي جائزة رمزية (أسد ذهبي خاص) لمخرج غير معروف خارج بلاده(بل وربما لا يعرفه أحد في بلده أيضا!) وهو الأمريكي مونتي هيلمان صاحب فيلم "الطريق إلى لاشيء" الذي لم أحبه على الإطلاق بل وجدته عملا مملا وساذجا ويخلو من اي شيء مثير للاهتمام.
في فوز صوفيا كوبولا (ابنة المخرج المخضرم) بالأسد الذهبي يرى البعض أن رئيس لجنة التحكيم تارانتينو قد جامل "صديقته" السابقة. وربما يكون هذا صحيحا. ولكن هل جامل أيضا المخرج الأمريكي المجهول بمنحه جائزة عن مسيرته السينمائية من خلال كل أعماله، بينما لم نعرف له أي إسهام فني بارز في تاريخ السينما، وقد أخرج 14 فيلما رغم أنه بدأ الاخراج عام 1959، ليس من بينها فيلم واحد من الأفلام التي استقرت في الذاكرة!
أما الفيلم الاسباني "أغنية البوق الحزينة" فهو يستحق ما حصل عليه بالفعل (جائزة السيناريو وجائزة الإخراج).
وعموما الجوائز ليست مقياسا للتفوق الفني كما عودتنا مسابقات المهرجانات دوما، والعبرة بما يبقى في ذاكرة التاريخ.

مهرجان فينيسيا 2010: ملف خاص


فيلم جديد أضيف إلى مسابقة فينيسيا
أعلن مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي إضافة فيلم آخر إلى أفلام المسابقة الرسمية للمهرجان الذي سيفتتح في الأول من سبتمبر. الفيلم الجديد، وهو رقم 24 في المسابقة (هناك 22 فيلما أعلن عنها، وفيلم سيعرض على هيئة مفاجأة يوم 6 سبتمبر) هو الفيلم البولندي"القتل الضروري" للمخرج الكبير يرزي سكوليموفسكي، الذي أكد مدير المهرجان أنه"سوف يتم الانتهاء من العمل فيه في الوقت المناسب" لكي يعرض في المهرجان. يقوم بدور البطولة في الفيلم الممثل فنسنت جالو الذي له فيلم من اخراجه في المسابقة هو فيلم "وعود في الماء" أمام ايمانويل سينيه. ويصور الفيلم " قتل من دون حوار تقريبا، تقريبا، قصة رجل أفغاني تعتقله القوات الأمريكية في كابول ، ثم ينقل إلى بلد أوروبي لا يتم تحديده في الفيلم. وتقول النشرة الصحفية الصادرة عن المهرجان، إن الرجل يتمكن من الهرب لكي يرى نفسه محاطا ببيئة أخرى متجمدة غريبة عليه وهو القادم من الصحراء، ويتعين عليه أن يقتل لكي يبقى على قيد الحياة". والفيلم من الإنتاج المشترك بين شركات من بولندا والمجر وأيرلندا والنرويج.

أفلام المسابقة
24 فيلما 1- البجعة السوداء- دارين أرونوفسكي (أمريكا) 2- العنزة السوداء- أسكانيو سيلستيني (ايطاليا) 3- في مكان ما- صوفيا كوبولا (أمريكا) 4- سعداء قليلون- أنتوني كوردييه (فرنسا) 5- عزلة الارقام الفردية- سافيريو كوستانزو (إيطاليا) 6- أرواح ساكنة- ألكسي فيدورشينكو (روسيا) 7- وعود مكتوبة على الماء- فنسنت جاللو (أمريكا) 8- طريق إلى لاشئ- مونتي هيلمان (أمريكا) 9- أنشودة البوق الحزينة- ألكس دولا إجليزياس (اسبانيا) 10- فينوس السوداء- عبد اللطيف قشيش (فرنسا) 11- تشريح الجثث- بابلو لاران (تشيلي) 12- نسخة بارني- ريتشارد جيه لويس (كندا، إيطاليا) 13- كنا نؤمن- ماريو مارتوني (إيطاليا) 14- 13 قاتلا- تاكاشي ميكي (اليابان) 15- الزوجة الثمينة- فرنسوا أوزون (فرنسا) 16- انقطاع ميك- كيلي ريتشارد (أمريكا) 17- ميرال- جوليان شنابل (أمريكا) 18- الغابة النرويجية- تران أن هونج (فرنسا) 19- أتنبرو- أثينا راشيل تسنجاري (اليونان) 20- القتل الضروري- يرجي سكليموفسكي (بولندا) 21- المفتش دي ولغز لهيب الشبح- تسوي هارك (الصين) 22- ثلاثة- توم تيكوير (المانيا) 23- العاطفة- كارلو مازاكوراتي (إيطاليا) 24- الحفرة: وونج بنج (فرنسا- بلجيكا)

أرقام في فينيسيا
هذه بعض الأرقام المهمة التي نشرها مهرجان فينيسيا السينمائي للاطلاع العام وهي تحمل دلالاتها الخاصة بالطبع، وليست مجرد أرقام في الهواء. عدد الأفلام الروائية التي ستعرض في الأقسام الأربعة الرسمية :84 فيلما منها 80 فيلما عروض أولى في العالم، و4 أفلام تعرض للمرة الأولى خارج بلادها. أفلام المسابقة الرسمية: عدد الأفلام 24 فيلما (كلها تعرض للمرة الأولى في العالم. خارج المسابقة عدد الأفلام الطويلة 27، منها 23 العرض العالمي الأول. قسم "آفاق": 21 فيلما كلها تعرض للمرة الأولى في العالم. قسم السينما الايطالية المعاصرة: 12 فيلما كلها تعرض للمرة الأولى. أرقام مهمة: تقدم 4251 فيلما من 102 دولة إلى المهرجان (74 دولة في عام 2009). منها :2395 فيلما روائيا طويلا، و416 فيلما متوسط الطول، و 1440 فيلما قصيرا . بينما في عام 2009 كان عدد الأفلام الروائية الطويلة التي تقدمت للمهرجان 2208 أفلام، وعدد الأفلام متوسطة الطول 311 فيلما.

على هامش مهرجان فينيسيا السينمائي 2010


الجمعة 3 سبتمبر
* أطلقت على الفيلم الأمريكي "ميرال" المشارك في المسابقة "فيلمنا" أي الفيلم العربي في المسابقة، ليس لأن مخرجه عربي، بل هو يهودي أمريكي، لكنه أفضل من كثير من المخرجين العرب. ولكن الفيلم أيضا بل وأساسا، فيلم المنتج التونسي طارق بن عمار، الذي يتجرأ أخيرا ويلمس موضوعا من مواضيع الساعة في السياسة العربية وهو موضوع فلسطين- إسرائيل، ولو من خلال مذكرات رولا جبريل الفلسطينية – الإيطالية (التي تقوم بدورها في الفيلم الممثلة الهندية الشابة فريدا بنتو، وهي بالمناسبة تشبهها كثيرا). أما السبب الذي دعاني إلى أن أطلق عليه "فيلمنا" فهو طرحه القوي الشريف لوجهة النظر العربية في الصراع، وإدانته القوية التي لاشك فيها للطغيان الإسرائيلي. ولابد أن تكون لي وقفت خاصة فيما بعد، مع هذا الفيلم تفصيلا.
* في المؤتمر الصحفي لمناقشة فيلم "ميرال" (الذي يضم عددا كبيرا من الممثلين العرب) قال المخرج جوليان شنابل إنه لا يفكر في إخراج فيلم آخر قبل عامين، وإنه متفرغ حاليا لدفع فيلم "ميرال" وتوصيله للجمهور، كما قال إن الفيلم جرى تصوير قسم كبير منه في القدس وفي أراضي السلطة الفلسطينية خاصة رام الله، وأن التجربة كانت ممتعة رغم أنها كانت مرهقة كثيرا. وأضاف أنه تلقى رسالة من يهودي أمريكي من المتعصبين لدولة إسرائيل، شكره فيه على الفيلم وقال إنه يشعر بالأسف لأنه خلال زياراته إلى إسرائيل طيلة سنوات، لم يكن ينتبه لمأساة الفلسطينيين.
* حضر المؤتمر الصحفي (أو كما يسميه البعض الندوة الصحفية، أو المناقشة مع الصحفيين، التي تعقد عادة لكل أفلام المسابقة، بحضور طاقم الفيلم) أقول حضر إلى جانب المخرج شنابل، الممثلة الفلسطينية الكبيرة هيام عباس، والممثلة الجميلة ياسمين المصري (وهي في الحقيقة أجمل كثيرا عما هي على الشاشة)، والممثلة الفلسطينية ربى بلال. كما حضر المنتج طارق بن عمار، والممول الفرنسي للفيلم ديوكس والمنتج المنفذ جون كيليك، وغابت بطلة الفيلم الممثلة الهندية فريدا بنتو التي اضطرت كما قال المخرج، إلى السفر للهند.
* رئيس لجنة التحكيم الرئيسية كوينتين تارانتينو صرح بأن هناك الكثير من الأفلام المثيرة في المسابقة هذا العام، وأكد أنه رغم وجود الكثير من أفلام أصدقائه المخرجين، أو الذين يعجب بأفلامهم إلا أنه سيحرص على الموضوعية، فاذا لم يعجبه الفيلم لن يدافع عنه.
* الممثلة العظيمة من كل الأجيال، فانيسا ريدجريف، ظهرت كضيفة شرف في المشهد الأول فقط من فيلم "ميرال"، وبدت وقد تقدمت كثيرا جدا في العمر.
* وهذا بالضبط شأن صديقنا الناقد البريطاني المخضرم ديريك مالكولم، الذي بدا أيضا وقد بدأ التقدم في العمر يهزمه، فقد أصبح يتحرك بصعوبة بالغة، وخصوصا أن الدخول والخروج من مجمع المهرجان شاق للغاية بسبب الترتيبات الأمنية من ناحية، والإنشاءات الجديدة التي فرضت تحويل المسارات، وتغيير معالم المنطقة وإغلاقة المنافذ الطبيعية إليها، حتى لا يصطدم الزائرون بمناطق القتال، عفوا.. أقصد مناطق التشييد والبناء. ديريك حاليا أوشك على بلوغ الثمانين من عمره، لكنه لايزال يتمتع بذاكرة قوية، وقدرة على الحكم السديد على الأفلام.
* صديقنا الآخر، جون روا، الناقد الفرنسي لصحيفة لومانتييه، بدا هو الآخر متقدما في العمر. وقد حضرنا معا في قارب واحد (حرفيا وليس مجازا!) من المطار إلى جزيرة ليدو ظهر يوم الأربعاء، والتقينا مجددا في الباص الداخلي صباح اليوم، وأخذنا نتذكر ندوة النقد في مهرجان تطوان قبل أشهر (في مارس الماضي). وطبعا حكاية مرور الزمن تنعكس علينا جميعا هنا، فلابد أن الآخرين أيضا يلاحظون نفس الشيء علي وعلى غيري، فنحن نلتقي معا هنا، في فينيسيا، منذ ربع قرن.
* ظهر الناقد المخضرم سمير فريد اليوم بعد مشاهدة فيلم "ميرال"، وتبادلنا الحديث عن الفيلم لبضع دقائق، قبل الصعود إلى المؤتمر الصحفي، وسمير رأيه أن الإسرائيليين لن يعجبهم الفيلم، أو بالأحرى، لن يشعروا بالارتياح لما يطرحه، وسيرفضه أيضا المتشددون على الجانب العربي والفلسطيني. سمير بالمناسبة بدأ في التردد بانتظام على هذا المهرجان منذ عام 1978 عندما حضر مع فيلم يوسف شاهين "اسكندرية ليه". وكان قد سبق له حضور الدورة التي عرض فيها فيلم "المومياء" لشادي عبد السلام، وأظنها كانت عام 1970.. كانت أيام!
السبت 4 سبتمبر
* إلى جانب مسابقة الأفلام الطويلة، وقسم "آفاق" (وله لجنة تحكيم تمنح جائزة لأحسن فيلم وهي مبتدعة حديثا على غرار جائزة قسم "نظرة خاصة" في مهرجان كان) هناك أيضا أسبوع النقاد، و"أيام فينيسيا" (أو أيام سينما المؤلفين)، ولكن المهرجان يهتم كثيرا هذا العام بالسينما الإيطالية، التي يخصص لها قسمين هما "السينما الايطالية المعاصرة" (30 فيلما)، و"الكوميديا الايطالية" (19 فيلما قصيرا وطويلا) وهو أمر طبيعي في إطار الرغبة في الترويج للسينما القومية من خلال هذا المهرجان الإيطالي الدولي، وهو ما نأمل أن تحذو حذوه المهرجانات العربية الدولية، فالذين يذهبون إلى مهرجان القاهرة مثلا يرغبون عادة في الاطلاع على أحدث الأفلام المصرية، وعلى جزء من تاريخ السنما المصرية أيضا، وكذلك الذين يترددون على مهرجانات مثل قرطاج ودمشق وغيرهما. أما مهرجان دبي ومهرجان أبو ظبي، فكلاهما يمكنه الاحتفاء بتيار سينمائي عربي أو بالأفلام التي تنتج في دولة ما بدلا من الاحتفال بالسينما الهندية والسينما التركية.. وأنا هنا أفضل استخدام تعبير "الأفلام التونسية" أو اللبنانية أو السورية، وهكذا، لأنني لا أرغب في استخدام تعبيرات مثل "السينما التونسية أو السعودية كما يفعل البعض بكل أسف يوميا، وبإلحاح، في الصحافة العربية، لأسباب يتعلق معظمها بالرغبة في تكريس الوهم بوجود "سينما" أي صناعة سينمائية أو حركة سينمائية متكاملة في تلك البلدان، في حين أن مثل هذه الصناعة أو "السينما المتكاملة" لا توجد، بكل أسف، وهذه حقيقة علمية، لا تقال في معرض الفخر أو الشجب، ولا للتباهي أو التحسر، بل كإقرار لحقيقة علمية، أما الذين يتوهمون أو يوهمون الآخرين بوجود مثل هذه "السينما العربية" في هذا البلد أو ذاك، فسرعان ما يحبطون عندما يرون تلك "السينمات" لا تمتلك حتى الساعة الآليات الأولية لضمان استمرار الإنتاج خلال العام، بل يظهر في معظمها فيلم أو فيلمان على أكثر تقدير، كل عام أو عامين، وهي أفلام لا تلقى توزيعا حقيقيا، ومعظمها من الإنتاج أو التمويل "الأجنبي"، أي أن المنتج العربي المحلي غائب بشكل كان ينبغي أن يدفع نقادنا العرب إلى البحث في أسباب هذه الظاهرة. * وقد سبق أن قلت، قبل أيام، إن حجم التواجد العربي في مهرجان فينيسيا يعكس الحجم الحقيقي لحركة سينمائية لا تتطور بل ولا تمتلك التأثير في محيطها الطبيعي، وتتراجع يوميا أمام المسلسلات التليفزيونية التي أصبحت تستقطب أفضل مخرجي المنطقة.
* في الوقت نفسه ألاحظ، بكل أسف وأسى، أن بعض الكتاب والسينمائيين العرب، أصبحوا يستخدمون التراجع السياسي المصري (وهو ما لا أتوقف شخصيا عن انتقاده) كمبرر للشطب على الإنجاز الثقافي المصري بالجملة، والدعوة إلى إعلان وفاة الثقافة المصرية، واتهام السينما المصرية بكل النقائص والعيوب، في نعرات شوفينية مريضة تغلي بالحقد "العنصري" أحيانا بكل أسف، وكما لو أن المشاكل التي تحيط بالسلطة السياسية والثقافية القائمة وهي قائمة في كل بلدان المنطقة التي تشترك في التخلف الذي لا يتجزأ، توقف حركة الإبداع الثقافي تماما وتشله، وهو غير صحيح، بل يستمر الإبداع في كل الظروف على مستوى البنية التحتية الثقافية، التي لا تتصدر أجهزة الإعلام الرسمية، فنحن نصنع الأفلام القصيرة والطويلة، المستقلة، ونصدر الكتب، ونكتب القصائد الجديدة، والأدب الجديد، ويظهر ناشرون متخصصون في نشر هذه الابداعات بعيدا عن آلة الدولة القمعية التي لا تنشر سوى لمن ترضى عنه، وهكذا.. وتستمر حركة المجتمع المدني في نموها رغم أنف السلطة.
* وجود الفيلم المصري وانتشاره في المنطقة العربية لا أتصور أبدا أنه يمنع ظهور أفلام أخرى، في تلك الدول، بدليل أن المغرب ينتج نحو 15 فيلما سنويا، رغم وجود الفيلم المصري والمسلسل المصري، فماذا فعل المغرب في مجال توزيع أفلامه داخل المغرب أولا وأساسا، وماذا تجني تلك الأفلام وتحقق من داخل سوقها الطبيعية؟ هذا سؤال مهم لا يطرحه أحد بل تصبح القضية المغلوطة دائما: لماذا لا توزع الأفلام المغربية داخل السوق المصرية؟ وكأن توزيع فيلم مغربي أو غيره، وعرضه في مصر، ثم فشله في البقاء أكثر من أسبوع (لأسباب عديدة ليس هنا مجال شرحها) كفيل بنجاح التجربة المغربية في الإنتاج!
* وبمناسبة هذا الحديث نشرت مجلة فاريتي التي تصدر يوميا على هامش مهرجان فينيسيا تصريحات للأخ علي جعفر، وهو "ظاهرة" عجيبة ظهرت حديثا قبل ثلاث أو أربع سنوات. علي جعفر هذا شاب لبناني الأصل، بريطاني الجنسية، واضح أنه نال قسطا من التعليم في نظام التعليم البريطاني، يتحدث ويكتب بالانجليزية، ويرفض بشدة الحديث لوسائل الاعلام الناطقة بالعربية سوى باللغة الانجليزية، رغم معرفته الجيدة باللغة العربية. وقد طرح نفسه أمام مؤسسة السينما البريطانية على أنه مهتم بالسينما في "الشرق الأوسط، ثم كخبير فيها (لا أعرف من أين جاء بخبرته هذه، ومتى حصل عليها!)، وبدأ يكتب عروضا للأفلام العربية في مجلة "سايت آند ساوند"، ثم قفز منها إلى مجلة فاريتي، وأصبح يوظف ما يكتبه لحساب الملاحق الإعلانية التي تحصل عليها المجلة من منتجين مثل عماد أديب وشركنه جود نيوز مثلا، ويجري المقابلات مع أصحاب تلك الشركات، ويمتدح أفلامها، وهو الخلط المعروف القديم بين الصحافة والبيزنس، أو بين النقد والدعاية المدفوعة. والآن انتقل جعفر هذا لكي يعمل في مجال الترويج والعلاقات العامة لحساب شركة المنتج التونسي الأصل (أو التايكون) طارق بن عمار الذي ينشط في أوروبا.
* أما تصريحات علي جعفر الأخيرة فجاءت بمناسبة عرض فيلم "ميرال" من انتاج بن عمار. ويقول جعفر إن شركة بن عمار تتطلع بهذا الفيلم وغيره من الأفلام المشابهة التي تتناول مواضيع تلمس قضايا شرق أوسطية، إلى النفاذ إلى سوق الشرق الأوسط، وضمان ألا يكون قاصرا على الأفلام المصرية!!
وكان الأجدر بالمستر علي جعفر أن يشير إلى الأفلام الأمريكية التقليدية فالأفلام المصرية انحسر توزيعها في معظم بلدان المنطقة وشمال افريقيا لأسباب مغلوطة في رأيي، كما لو أن وقف توزيعها سيساهم في النهوض بالسينما في تلك الدول وهو ما لم يحدث، وثانيا الفيلم المصري ليس غريبا على المشاهدين على أي حال، وليس عدوا ولا يجب، فهو جزء أصيل من ثقافة المنقطة، شئنا أم أبينا، في صعوده أم في تدهوره، والمشاهدون يتفاعلون معه عبر عشرات الملايين من أجهزة التليفزيون يوميا. ولا أعرف ماذا كان يمكن أن يكون رد الفعل إذا صرحت المنتجة المصرية إسعاد يونس مثلا بأن شركتها تتطلع إلى الحيلولة بين أفلام شركة طارق بن عمار وسوق الشرق الأوسط!! عموما الكلام الفارغ كثير جدا.. ومجاني.. لكن فاريتي يهمها إعلانات طارق بن عمار، تماما كما كان يهمها في السابق، إعلانات عماد الدين أديب وكامل أبو علي!
الأحد 5 سبتمبر
* المخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي موجود في فينيسيا لعرض فيلمه التسجيلي الطويل (60 دقيقة) بعنوان "رسالة إلى إيليا" الذي يتابع فيه مسيرة السينمائي الكبير الراحل ايليا كازان الذي غادر عالمنا عام 2003 عن 94 عاما بعد أن أثرى المسرح والسينما في الولايات المتحدة بعدد من أبرز الأعمال منها "على رصيف الميناء" و"عربة اسمها اللذة" و"متمرد بدون قضية" و"أمريكا.. أمريكا" و"الترتيب" و"التايكون الأخير". وقد عرض الفيلم هنا حتى الآن عرضان، وكنت أعول على تمكني من اللحاق بالعرض الثاني إلا أن الأعداد الكبيرة التي أصطفت أمام القاعة حالت بيني وبين المحاولة خصوصا وأن القاعة التي عرض بها الفيلم للصحفيين، لا تتسع لأكثر من 150 مقعدا، ولا أدري لماذا لم يخصص له المهرجان عرضا رئيسيا للصحفيين الموجودين بالآلاف!


* الأسد الذهبي كجائزة خاصة عن الانجاز السينمائي مدى الحياة حصل عليها هذا العام المخرج الصيني من هونج كونج جون وو، الذي لا أجده شخصيا يستحق هذه الجائزة، لكنه الاعجاب الشخصي أو ذلك الاهتمام الخاص لدى مدير مهرجان فينيسيا ماركو موللر، وولعه الكبير بسينما جنوب شرق آسيا، وكل ما يأتي منها، وهذه السينما هي أيضا أحد الأركان البارزة في برامج الدورة الحالية.
الإثنين 6 سبتمبر
أفضل أفلام المسابقة حتى الآن بعد عرض 13 فيلما من بين 24 هي من وجهة نظر كاتب هذه السطور:
1- تشريح الجثث بعد الموت post mortum من شيلي
2- القتل الضروري- من بولندا
3- أرواح ساكنة- من روسيا
4- ميرال- من الولايات المتحدة
5- الغابة النرويجية- من فرنسا
6- في مكان ما- من الولايات المتحدة
والملاحظة البارزة (منذ سنوات في الحقيقة) هي أن السينما الفرنسية لا تتألق في معظم الأحوال، إلا من خلال أفلام يخرجها عادة مخرجون غير فرنسيين، كما هو الحال هنا مثلا، ففيلم "الغابة النرويجية" رغم أنه من الانتاج الفرنسي إلا أن مخرجه فيتنامي، وكذلك فيلم "فينوس السوداء" وهو للمخرج التونسي عبد اللطيف قشيش، والمخرج التشيلي راؤول رويز، والروسي يوسيلياني، وطبعا البولندي الراحل كيشلوفسكي، كأمثلة فقط. وكثيرا ما تحصل أفلام المخرجين "الأجانب" في السينما الفرنسية على الجوائز، في حين يغيب الاهتمام بالأفلام التي يخرجها مخرجون فرنسيون "أصليون" مثلما هو الحال فيما يتعلق بفيلميين في مسابقة مهرجان فينيسيا هما "الزوجة الثمينة" – بطولة جيرار ديبارديو وكاترين دينيف واخراج فرنسوا أوزن ، وفيلم "سعداء قليلون" للمخرج أنتوني كوردييه. ولست شخصيا، من المعجبين بأفلام المخرج فرنسوا أوزون (الذي يطلقون عليه الطفل المرعب) فهو مخرج من نوع الـ perverse أي المخرج صاحب الأفكار السطحية الشاذة التي توهم بأنها أفكار كبيرة فلسفية، وأفلامه تشير بشكل واضح على التحذلق المفتعل الذي يميز التيار العريض في السينما الفرنسية، التلاعب بالكلمات والدوران حول أفكار مجردة لا تدل سوى على الفراغ القاتل، وعدم الاهتمام بما يجري في العالم.
إن السينما الفرنسية تكون في أفضل أحوالها، عندما تعبر عن القضايا التي تشغل الفرنسيين، أو عن قضايا تشغل العالم، ولكن لكي يتناول المخرج موضوعا مجردا عن الإنسان، فلابد أن تجد الكثير جدا من الثرثرة الكلامية، وافتعال المناقشات حول أشياء مثل هل القبلة مثلا بمكن أن يكون لها دلالة أخرى غير الرغبة، وهل الرغبة لصيقة بالمرء أم لا، وهل الطعام له علاقة بالقبلات، وبشكل ممارسة الحب، وما إلى ذلك من خواء كان السينمائيون الفرنسيون في الستينيات قد أعلنوا تمردهم عليه باعتبار أن هذا اللغو من سمات البورجوازية الفرنسية التي تهوى الثرثرة في موضوعات شتى فارغة أثناء تناول الطعام. والسينما الفرنسية بهذا المعنى، في أزمة كبيرة لا يصلح معها سوى انتفاضة على التقليدي والقديم والمعلب، والأفكار المجردة التافهة والسطحية. ولولا وجود جودار وآلان رينيه، والسينمائيين الأجانب في فرنسا لأعلن موت السينما الفرنسية رسميا رغم وجود تافرنييه وبلييه وأسايس وبيسون وغيرهم.
الثلاثاء 7 سبتمبر
مازلنا هنا في انتظار عرض فيلم عبد اللطيف قشيش "فينوس السوداء" (160 دقيقة)، وفيلم "ظلال" التسجيلي لماريان خوري ومصطفى الحسناوي، كما أننا بانتظار عرض فيلم مانويل دي أوليفييرا الجديد المخرج البالغ من العمر حاليا أكثر من 101 سنة، وفيلمه الجديد من النوع القصير (16 دقيقة) في المهرجان فيلمان للمخرج الياباني غزير الانتاج تاكاشي مييكي المعروف بإغراقه في مشاهد الدماء والأشلاء والقتل، الأول داخل المسابقة وهو "13 قاتلا"، والثاني خارجها وهو "الرجل الحمار الوحشي" أو حسب عنوانه الأصلي Zebraman وأفلام العم تاكاشي عادة ما تلقى اقبالا هستيريا من جانب قطاع من مدمني الأفلام، لكن أحدا من النقاد لا يأخذه على محمل الجد! في المهرجان أيضا فيلمان من إخراج الممثل فنسنت جاللو (بطل فيلم "القتل الضروري" المعروض بالمسابقة) الفيلم الأول قصير وعنوانه "العميل"، والثاني طويل باسم "وعود مكتوبة على الماء" وهو من أفلام المسابقة، أي أن له فيلم من تمثيله في المسابقة، وآخر من إخراجه، وثالث في قسم "آفاق".. ياله من رجل محظوظ.. ربما يخرج بجائزة ما، وإن كان ولابد من حصوله على جائزة، فرأيي أن تكون جائزة أحسن ممثل.
الأربعاء 8 سبتمبر


لا أحد يطالبني الآن بالكتابة عن الفيلم- التحفة "فينوس السوداء" للتونسي عبد اللطيف قشيش الذي عرض مساء أمس في اطار أفلام المسابقة. سأكتب عنه بعد أن ينتهي "المولد".. هذا فيلم صادم، قاس، عنيف، ولكنه صادق، ومقنع وواقعي حتى آخر حرف في الكتاب، كتاب السينما الرفيعة. برز هذا الفيلم وارتفع فوق سائر الأفلام وأصبح المرشح الأول هنا بلاشك على الأقل من قبل الذين يفهمون في السينما الحقيقية. سهل من على السطح، صعب للغاية في التنفيذ والخروج بهذه النتيجة المبهرة.
الفيلم اليوناني "اتنبرو" تحاول مخرجته محاكاة جودار في الشكل، ولكن بدون عمقه وفلسفته وثقافته. ولكن بينما يصنع جودار سينما حداثية تعتمد على العقل وعلى المنطق والتحليل الفلسفي للصورة بحيث يكشف عن معانيها المتعددة الطبقات، هنا فيلم ما بعد حداثي، يخلط بين الجد والعبث، وبين العالم والخيال المستقر عن العالم، المرأة في الصدارة، والجرأة الجنسية بارزة بشكل يصدم أحيانا، والمناقشات حول الموت تكشف عن رغبة في التمسك بالحياة. وتساؤلات حول الصداقة والحب واللذة والأبوة والبنوة.

الخميس 9 سبتمبر
* شاهدنا الفيلم المصري التسجيلي الطويل "ظلال" إخراج ماريان خوري ومصطفى الحسناوي المعروض هنا في قسم "آفاق"، وهو عمل جيد جدا، وإن كان لا يخلو بالطبع من بعض العيوب، ويدور بأكمله داخل مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية التي كانت من قبل "منطقة يحظر فيها التصوير تماما" فاقتحمتها المخرجة وزميلها التونسي الموهوب بالكاميرا والنتيجة هي هذا الفيلم المرعب. وسأكتب عنه بالتفصيل فيما بعد. * من السينما التجارية الأمريكية عرض خارج المسابقة فيلم "البلدة" The Town للممثل والمخرج بن أفليك، الذي يذكرك بأداء كلينت إيستوود أحيانا، ببروده ونظراته الغائمة، وقوة شكيمته بالطبع. هذا فيلم بوليسي من أفلام الجريمة والمافيا والعنف، عن عصابة تسرق البنوك، يقيم أحد أفرادها (بن أفليك نفسه) علاقة عاطفية مع مديرة بنك سرقته العاصبة لتوها، وتتطور القصة وتدخل إلى أغوار جديدة، فهل الجريمة تنتهي بالعقاب، أم أن المجرم يمكنه أن يفلت هذه المرة أيضا؟ لن أحرق "الحبكة" حتى يستمتع محبو هذا النوع من الأفلام المثيرة بالفيلم عند عرضه عروضا عامة قريبا، وأنا على ثقة من أنه سيلقى إعجاب الكثيرين.
الجمعة 10 سبتمبر
نشرت مجلة فاريتي التي تصدر بصفة يومية أثناء مهرجان فينيسيا، معلومات عن المهرجان مستمدة من تصريحات باولو باراتا رئيس بينالي فينيسيا الذي أقام حفل غذاء على شرف الصحفيين الأجانب الحاضرين قبل يومين. وقال رئيس البينالي إن هذا العام شهد مشاركة 3427 صحفيا منهم 2088 صحفيا ايطاليا، و1339 صحفيا أجنبيا. أي بزيادة قدرها 4 في المائة عن العام السابق. وقال ماركو موللر مدير المهرجان خلال الحفل إن مشاركة الصحافة الالكترونية (الانترنت) في تغطية المهرجان زادت بنسبة 33 في المائة وهو ما يعكس بروز هذا النوع من الصحافة على حسب الأنواع الأخرى. ولكن هناك ارتفاع في تغطية الصحافة المطبوعة بنسبة 21 في المائة، وشاركت 433 مطبوعة أجنبية (غير ايطالية) في تغطية المهرجان).
أتمنى لو تنشر المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي، من الدوحة إلى مراكش، أرقام الصحفيين والإعلاميين الذين يقومون بتغطية أحداثها سنة بعد أخرى، كما أتمنى لو تنشر ميزانياتها وعدد ما تتلقاه من أفلام وما تختاره بعد ذلك، وأن تنشر أيضا بيانات بأسماء لجان الاختيار والبرمجة. وأن تقول لنا ما هي بالضبط مسؤولية مدير أو مديرة المكتب الصحفي، وهل هي مجرد "تسهيلات" أو أكبر من ذلك بعض الشيء.. والأفضل طبعا لو تكرمت بنشر مهمة رئيس المهرجان تحديدا، وأقصد هنا رئيس أي مهرجان عربي: ماذا يفعل بالضبط بعيدا عن حضور حفل الافتتاح وحفل الختام والقاء كلمة حماسية عن السينما وبناء الإنسان. وكل عام وأنتم بخير!
السبت 11 سبتمبر
لم أشاهد الفيلم الأمريكي "نسخة بارني" وهو آخر أفلام المسابقة الرسمية، فقد غادرت شاطيء ليدو وفينيسيا بل وإيطاليا كلها قبل أن يعرض. اليوم السبت يقام حفل الختام حينما ينجل ياللغز وتتم الإجابة على السؤال الكبير الذي يثير اهتمام الكثيرين: من الفائز بالأسد الذهبي؟
اليوم أيضا يصادف مرور 9 سنوات على الحدث الجلل الذي غير علاقة العالم بالعرب والمسلمين، وجعل المسلم مثلما كان اليهودي في أوروبا في القرون الوسطى حتى القرن التاسع عشر عندما انفجر ما عرف بـ"قضية دريفوس" في فرنسا. لكن هذا موضوع آخر.. طويل.. طويل.
لا أعرف من الذي سيفوز بالأسد الذهبي ولا الفضي، ولا يهمني أصلا، لا الذهب ولا الفضة، لكن يمكنني القول إن الفيلم الألمالي "ثلاثة" هو أكثر أفلام المسابقة سخفا في الموضوع، ورداءة في الأسلوب، وإن امتلأ بالكثير من الادعاءات والتحذلقات والافتعالات (ولاشك أنه سيعجب بعض من يعشقون كل شيء في السينما الأوروبية ويكرهون السينما التي تنتج في محيطهم العربي بل ويردمون على تاريخ السينما المصرية (صاحبة التاريخ العريق) والعربية صاحبة الانجاز الأحدث، بدعوى أنها "متخلفة"، ربما لأنها لا تنطق الفرنسية، والناس يظهرون في أفلامها دون أن يرتدوا القبعة!
فيلم "ثلاثة" باختصار شديد يمر منه أكثر من ساعة، عبارة عن تمهيد وتقديم للشخصيات، والتفاف حول الموضوع، قبل أن نكتشف أن طبيبا يقيم علاقة جنسية مع امرأة، ومع زوجها الذي تم استئصال احدى خصيتيه بسبب اصابته بالسرطان، ويكتشف وهو في مرحلة النقاهة بعد العملية أنه شاذ جنسيا، أو بالأحرى، أنه يستطيع أن يمارس الجنس مع الرجل ومع المرأة، لا يهم في أي موضع يكون في كلتا الحالتين!
الزوجة تعلم متأخرا بعلاقة زوجها بعشيقها، وبأنها حامل من الرجلين ربما في وقت واحد (شيء يذكرنا بفكرة سخيفة مشابهة في فيلم المسافر!) ولكن بتوأم في رحمها، و يبشرنا الفيلم في نهايته بأن هذا الحب، الذي يجمع الثلاثي، هو الحب الشكل المثالي للحب في المستقبل. ولا يمكنك كمشاهد أن تعترض قط على هذه الرؤية، فلو فعلت وكتبت صراحة أنك تجد الفكرة سخيفة، أو أن الشذوذ الجنسي مسالة مرضية ضد الطبيعة البشرية السوية وتقتضي العلاج، لوجدت نفسك أمام القضاء بتهمة ازدراء الذين يطلقون على أنفسهم "المثليين جنسيا" وليس "الشواذ جنسيا"، بل وربما يكون القاضي وكل أعضاء المحكمة أيضا، من هؤلاء.

أقصى ما فعله البعض أثناء عرض هذا الفيلم "الشاذ" هو الانسحاب من القاعة، وهو ما لم أفعله، بل جلست حتى النهاية لكي اعرف إلام يرمي هذا المخرج الغريب، الذي فشل في إثارة أي اهتمام بالموضوع بسبب تلاعباته المفتعلة بالشكل، ويبدو أن الموضوع يبرر الأسلوب فعلا، والبعض يرى أيضا أن "الموضوع هو الأسلوب". وهو كذلك بالفعل.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger