السبت، 5 يونيو 2010

لعبة الصمت والتواطؤ فى التحفة التركية " القرود الثلاثة "


بقلم: محمود عبد الشكور

الأفلام الكبيرة تضع من يكتبون عنها فى مأزق كبير، فالمطلوب فى هذه الحالة أن تنقل الى القارئ إحساسك النادر بالسعادة والدهشة، والمطلوب أيضاً أن تقوم بدور المرشد السياحى الذى يقوم بإبراز الجمال الكامن فى مشهد عملاق وضخم يراه الناس ، وعليك – فى كل الأحوال – أن تبذل جهداً مضاعفاً مثلما بذل صناع الفيلم الكبير ، وأن تجتهد أكثر مثلما اجتهدوا . والفيلم التركى البديع ( القرود الثلاثة ) أو three monkeys للمخرج المتميز نورى بيلجى سيلان من هذه الأعمال الكبيرة الجديرة بدراسة طويلة وليس مجرد مقال ، فمن النادر فعلاً أن نشاهد فيلماً تنصهر فيه الحرفة والموهبة بهذه الطريقة الخلاّقة ، وقد اشتركت فرنسا وايطاليا أيضا فى انتاج هذا العمل الكبير .
المخرج المولود عام 1959 فى اسطنبول بتركيا، والذى درس الإلكترونيات فى جامعة البوسفور، يقدم فى فيلمه مستوى شديد النضج فى توظيف أدوات السينما لخدمة موضوعه ، أو بمعنى أدق الحالة التى وضع فيها أبطاله ، ولذلك لم يكن غريبا أن يفوز ( نورى بيلجى سيلان ) بجائزة أفضل إخراج فى مهرجان كان 2008 ، وأن ينافس الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى ، وأظن أنه كان يستحق الفوز بجوائز أخرى فى مهرجان ( كان )بسبب مستواه الرفيع فى كل العناصر تقريباً .
(القرود الثلاثة ) ليس الفليم الأول الذى أشاهده لهذا المخرج المختلف الذى قدم من قبل أفلاما قليلة مثل (ضباب مايو) و( مسافة)، فقد شاهدت له فيلما سابقا لا ينسى هو (أجواء) أو climates الذى أنتج فى عام 2006، وقد حصل هذا الفيلم الذى أخرجه وكتبه وقام ببطولته ( نورى بيلجى سيلان )على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان، و( أجواء) فليم يحمل الكثير من أسلوب نورىالذى سنجده أيضا فى ( القرود الثلاثة). ليست هناك حدوتة تقليدية لها بداية ووسط ونهاية ، ولكن مخرجنا مهموم طوال الوقت برسم ونقل حالة نفسية أو اجتماعية لبشر قلقين فى مواقف كتبت بعناية .هذه الحالات لاتنقل عن طريق الحوارات الطويلة ولكن من خلال امكانيات الصورة الثرية وتكويناتها المذهلة ، وعن طريق الإيقاع البطئ واللقطات الطويلة المستمرة التى تشعرك بضغط الزمن وسطوته على الشخصيات ، الممثلون أيضا هم محور كل شئ بقدراتهم على التعبير عن أعقد الإنفعالات والعواطف الداخلية، والبيئة المحيطة هى كذلك بطل آخر حاضر بقوة فى تعبيرها عما لايستطيع البشر التعبير عنه . نحن أمام سينما من نوع خاص من الصعب أن تحكى عنها ولكن عليك أن تشاهدها وتعيش تجربتها . ليست هناك حواديت تقليدية ولكن هناك شخصيات ومشاعر وأحاسيس انسانية مركبة . ( أجواء ) مثلا مجرد مشاهد متصلة طويلة تعبر عن أزمة شخصيات متقلبة محاصرة بأجواء الطبيعة الأكثر تقلباً : (عيسى) مهندس معمارى فى أواسط العمر يذهب مع صديقته ( بحر) الى منطقة أثرية قرب البحر ، إنه يبدو شديد الملل والضجر والإنزعاج ، وهى أيضا شديدة القلق والإضطراب ، حتى وسط الأصدقاء يخرج توتر( بحر) فى شكل ضحكات هيستيرية . يطلب منها (عيسى) الإنفصال ويعود الى اسطنبول فى فصل الصيف ، يودعها ويركب القطار .

فى الشتاء ، وحيث الأمطار تحاصر الشوارع ، نتعرف عى( عيسى) مع طلبته . يلتقى مع صديقه وزوجته (سراب )التى كانت عل علاقة به فى الماضى . يتبعها للمنزل ويقيم معها علاقة جسدية عنيفة أقرب للإغتصاب . يلتقى مع أمه وأبيه. الأم تنصحه بأن ينجب أطفالاً . يعرف من (سراب )ان (بحر )فى منطقة نائية لمتا بعة تصوير أحد البرامج . يتحول المشهد الى اللون الأبيض . الأمطار أصبحت جليدا يحيط بكل شئ . عيسى يطارد بحر محاولا العودة اليها .
يهديها صندوقا للموسيقى. فى سيارة التليفزيون تبكى بعنف . تسأله عما إذاكان التقى سراب فى اسطنبول . عندما ينفى تتركه وحيدا وهو يلتقط بعض الصور التذكارية وسط الثلوج . فى آخر مشاهد الفيلم نرى عيسى نائما وبحر بجواره ، فى اللقطة الأخيرة تذهب بحر الى المقابر وتبكى وحيدة .
هذا هو الإطار العام للمواقف ولا أقول للأحداث ، ولكن ما لايمكن وصفه هوالجو النفسى ومعاناة شخصيات ثلاث حائرة تبحث عن شئ مفقود ، الكل يبحث : عيسى وبحر وسراب . تستطيع القول ان عيسى حائر وممزق بين البحر والسراب . ربما يحلم أيضا أن يكون له طفل يؤنس وحدته وسط هذه الحياة الموحشة . مشكلته الأخطر أنه متقلب مثل الطقس ( وما سمى الإنسان إلا لنسيه .. وما سمى القلب إلا لأنه يتقلب ). هناك تناقض واضح جدا يقدمه الفيلم حول عيسى ، عقليته علمية وكل شئ محسوب بأقل هامش من التسامح وإلا انهارت المبانى التى يصممها ، ولكن حياته الخاصة أمر آخر حيث تحركه الغريزة والعاطفة الجياشة والمزاج العنيف مثلما شاهدنا فى علاقته مع سراب . حالة خاصة ولكنها أيضا عن الإنسان عموما فى تناقضاته الداخلية وفى صراعته التى لن يحسمها – فيما يبدو – إلا الموت. كل هذه المعانى يقدمها نورى بيلجى سيلان بأسلوب بصرى مذهل وبراعة فى توظيف عناصر المكان والطقس لخدمة موضوعه وشخوصه المعزولين تقريبا عن الآخرين ، الحر والبحر العاصف يعبران عن الثورة المكبوتة داخل عيسى وبحر . ثبات الكاميرا فى لقائهما مع الأصدقاء فى المطعم يترجم تجمد علاقة الإثنين الى درجة الركود . الطقس الحليدى يزيد الحالة كآبة وجعلها ثقيلة مثل جبل الجليد . النهاية نفسها مفتوحة لأن بحر التي عادت من جديد الى عيسى قدتختفى الى الأبد ، ربما تعود الى عيسى فيقترح عليها الإنفصال ، كل الأمور ممكنة مادام الإنسان يحاكى الطبيعة فى تقلبها ، ويحاول أن يفهم نفسه فلا يستطيع !


نفوس عارية
فيلم القرود الثلاثة يتناول أيضا بإيقاع بطئ متأمل رحلة فى نفوس ثلاثة أشخاص يكونون أسرة صغيرة متماسكة ظاهريا ولكنها ليست كذلك عندما تدخل الى التجربة . المواقف البسيطة والحدث الأكثر بساطة يتحول هنا الى تراجيديا انسانية عن خطورة الصمت والتنازل . الغريب أنه رغم أن الشخوص الثلاثة اتفقوا على تقليد القرود الثلاثة أصحاب الشعار الشهير لا أسمع .. لا أرى .. لا أتكلم ، ورغم أنهم اتفقوا على التواطؤ ضد الحقيقة ، إلا أنك تشعر بالتعاطف مع ضعفهم الإنسانى ، وقد نجح السيناريو الذى اشترك فى كتابته نورى بيلجى سيلان مع ايبرو سيلان وإركان كيسال فى تحقيق هذه الحالة الفريدة ، وفى صياغة هذه الرحلة الممتعة داخل نفوس بشرية جعلها الفيلم عارية ومكشوفة.
الأسرة التى تسللت الكاميرا الى منزلها مكونة من الأب واسمه أيوب، ويعمل سائقا عند رجل أعمال وسياسي معروف يدعى سىرفيت، وهناك الزوجة هاسر ، وهى امرأة فى منتصف العمر تعمل فى أحد المصانع ، والشخصية الثالثة هى الإبن اسماعيل . إنه شاب عاطل تعثر فى دراسته فرسب مرتين ، أما الحدث الصغير الذى سيعرى النفوس فهو قبول الأب السائق أن يدخل السجن بدلا من رجل الأعمال السياسى الذى ارتكب حادثا بسيارته أدى الى قتل أحد الأشخاص . رجل الأعمال سيقدم اغراءه الى الأب السائق أيوب فى صورة صفقة : التهمة ستكون القتل الخطأ وعقوبتها لن تزيد عن شهور تتراوح بين 9 شهور و12 شهرا .. وعند الخروج من السجن سيحصل السائق على مكافأة ضخمة. الفيلم يبدأ بحادثة سيارة رجل الأعمال المسرعةالتى تدخل الى عمق الكادر المظلم ، ولكن قبول أيوب للصفقة هو الذى سيفجر الصراع. لقد جاء قبوله سهلا ميسورا ، ظل سيرفيت مسيطرا ومتحدثا،وكان أيوب صامتا ومستعدا للتنازل مما سيجعل الآخرين مستعدين للتنازل بسرعة وبسهولة!
الحادث وقبول الصفقة هما المقدمة ، بعدها سينقسم بناء الفيلم الى ثلاثة أجزاء متداخلة تعمل على تأزيم الصراع وتعرية النفوس . الجزء الأول بطله الإبن اسماعيل ، والثانى بطلته الأم هاسر، والثالث بطله الأب أيوب بعد خروجه من السجن . لن يفعل اسماعيل شيئا بعد دخول والده الى السجن . ينام طوال اليوم فى المنزل فتلومه الأم . يقفز السور المقابل ، ويعبر شريط القطار لكى يذهب لزيارة والده فى السجن. فى مشهد آخر يقترح على أمه أن تذهب الى رجل الأعمال سيرفيت لكى تسحب جزءا من اموال المكافأة التى يفترض أن يحصل عليها الأب بعد قضاء فترة العقوبة . الإبن يريد المال لشراء سيارة أعجبته، والأم ترفض فى البداية خوفا من غضب الزوج عندما يعرف، ولكنها سرعان ماتوافق على زيارة سيرفيت.
فى مشهد هام كتب بعناية وذكاء يقابلها رجل الأعمال السياسى الذى رسب لتوه فى الإنتخابات . انه يبدو مشغولا بمكالمات خاصة يلعن بعدها السياسة . فجأة يرن تليفونها المحمول لنكتشف أن رنته أغنية عاطفية تقول كلماتها :" ليتك تحب انسانا ولا يحبك ". ستكشف هذه الكلمات للسياسى عن زوجة تعانى من الوحدة وتبحث عن الحب فى غياب زوجها المسجون . تطلب منه سحب مبلغ من المكافأة فيسألها بمكر عما إذا كان الزوج يعرف هذا الأمر ؟ عندما تخرج الى الشارع تنتظر أمام محطة الباص . يراها فيأخذها ف ىسيارته . يقدم نفسه اليها كإنسان له عواطف مرهفة . ينفتح الباب أمام علاقة ستغير كل شئ .
يعود اسماعيل يوما الى المزل بعد أن أخبر أمه أنه سيزور والده فى السجن ، وأخبرته هى أنها ستخرج فى مشوار ، فجأة يسمع صوتها مع رجل لا نراه ولكننا نشعر أنه سيرفيت. لن يقتحم عليهما المكان . سينتظر ويخرج ليعود . يسأل أمه لماذا لم تخرج ؟ لا يقتنع بإجابتها. يتشاجران فيصفعها فى أقسى مشاهد الفيلم فى حين تجلجل على شريط الصوت عبارات الأذان.
فى زيارات اسماعيل للأب أيوب يسأله الأب لماذا لم تحضر زوجته ؟ يرد الإبن ردا غامضا ولكنه سيؤكد أن كل شئ على ما يرام . فى مشهد آخر هام يحلم اسماعيل بأخيه الصغير المتوفى يدخل عليه ووجهه ملئ بالكدمات . لن نعرف الكثير عن الطفل الميت الذى سيزور الأب مقبرته بعد خروجه من السجن . سيظل الطفل والكدمات التى تغطى وجهه لغزا حتى النهاية : هل ضربه الأب مثلا حتى الموت وتواطأ الجميع على إخفاء الحقيقة ؟ فى كل الأحوال سيظل شبح الإبن يؤرق أيوب واسماعيل ، ويذكرهما بمأساة غامضة ، وربما بتواطؤ لا نعرف عنه شيئا . الطفل فى الحقيقة هو حصاد الصمت المر على المدى الطويل .
مع خروج الأب سيتصدر الأحداث . من الواضح أنه يشك فى هاسر زوجته . يثور عندما يعرف أن ابنه حصل على جزء من المكافأة ليشترى سيارة . سيعانى من القلق عندما يدق تليفون زوجته وهى تستحم . يمسك الجهاز فيسمع صوت رجل يتساءل بحدة : " لماذا كنت أمام منزلى ؟! انه بالتأكيد صوت سيرفيت معتقدا أن هاسر تسمعه . فى لقائهما الأول تحاول الزوجة أن تغرى أيوب ليستمتع بجسدها ، ولكنه يعاملها بقسوة . يحاول أن يحصل على اعترافهابوجود علاقة مع رجل . رغم ذلك لن ينسى أيوب أن يذهب الى سيرفيت للحصول على بقية المكافأة . يقول له السياسي ورجل الأعمال فى كلمات موجعة :" لا تشكرنى لأنى حصلت منك على ما يزيد عن النقود التى دفعتها " .


فى مشهد آخر قوى بأداء المشخصاتية الكبار ، تطارد ( هاسر) (سيرفيت) على شاطئ البحر . تركع تحت قدميه وتقول له :" اننى أحبك " بينما يبدو هو ثائرا وخائفا على سمعته. مع تغير زاوية الكاميرا تشعر أن شخصا ما يراقبهما . على صوت طرقات يستيقظ ايوب . الشرطة تقتحم المكان . يُستدعى هو وزوجته للتحقيق فى جريمة مقتل سيرفيت . يقول رجل الشرطة لأيوب ان زوجته كانت تتصل بالقاتل . فى المنزل يعترف اسماعيل لأمه أنه القاتل . يعود الأب منهارا . ينظر الى هاسرويتخيل أنها تلقى بنفسها من الشرفة . يخرج من المنزل يرافقه على شريط الصوت عبارات الأذان تتردد من مسجد قريب . يعود للمنزل ليجد هاسر تحاول الصعود الى سور الشرفة. يقول لها : " لا داعى للسخافة " . فى المشهد الأخير الطويل للفيلم نرى أيوب على سطح المنزل وحيدا ضئيلا . المنزل يظهر كاملا أسود اللون تحت سماء رمادية ملبّدة بالغيوم . يخترق الصمت صوت الرعد وصوت قطار سريع عابر . تهطل الأمطار لتغسل – ربما – النفوس العارية والخطايا المسكوت عنها .. وينتهى الفيلم البديع .

أن تخسر نفسك
نجح نورى بيلجى سيلان أن يقول كل شئ عن أبطاله الثلاثة : الأم المكبوتة والمحرومة ، والإبن الذي يشعر بالعار لأنه أحد اسبابه ، والأب الذى توهم أنه يستطيع ان يشترى اسرته اذا باع نفسه ثم اكتشف أن تنازله هو الذى جعل تنازل الآخرين أكثر سهولة. الغريب حقا أن فكرة الفيلم والإطار العام للأحداث بقيام السائق بعقد صفقة مع الرجل الثري ودخوله السجن بدلا منه أوبدلا من ابنه ثم انهيار اسرة الرجل نتيجة هذا التنازل ستجدها بشكل آخر فى ميلودراما متواضعة فى الفيلم التركى الذى انتج فى السبعينات من القرن العشرين وعنوانه (بابا) بطولة الممثل والمخرج التركى الكبير يلماظ جوناى، وعن هذا الفيلم اقتبسنا الفيلم المصرى( ومضى قطار العمر) للراحل فريد شوقى ، ولكن (القرود الثلاثة) حوّل البكائيات الساذجة الى فرصة نادرة لدراسة النفس البشرية وتعرية تناقضاتها . أيوب واسماعيل وهاسر يعيشون معا ولكن لكل منهما عاله الخاص وسره الدفين . كلهم التزموا الصمت والتآمر الذ ى قادهم الى المزيد من الصمت والتآمر. صمتوا فى البداية على مأساة الطفل الصغير الذى فقد حياته ربما بسبب عنف الأب، ثم صمتوا على صفقة الأب مع رجل الأعمال ، وصمت الأبن على علاقة امه مع سيرفيت، وصمت الأب على نفس العلاقة رغم شعوره القوى بوجودها، وهاهم يصمتون الآن لحماية اسماعيل رغم اعترافه للأم بارتكاب الجريمة . النهاية المفتوحة ترجح أن الصمت والتواطؤ سيستمر، ويلاحظ أن الصمت يلعب دورا لايقل أهمية عن الحوار القليل لدرجة تجعلك تتحدث عن شريط للصوت وآخر للصمت .
(القرود الثلاثة) هو أيضا فيلم مخرج بامتياز ليس فقط لأنه مشارك فى الكتابة ولكن لأن ملامح عالمه الذى شاهدناه فى (أجواء) تبدو واضحة هنا تماما : الفيلم دراسة نفسية واجتماعية والأحداث القليلة ليست سوى ادوات للكشف والتعرية . اللقطات الطويلة التأملية مع الأستغلال الرائع لمفردات المكان حيث المنزل الأسود المنعزل أمام شريط القطارات المزمجرة . صورة (جوكان تيريكاى) التى نقلت أجوء ضبابية تثير الوحشة . شريط الصوت والصمت الثرى الذى يمتزج فيه صوت القطار مع صوت الأذان ورنة تليفون هاسر بأغنيته الرومانسية . كل صوت تم توظيفة ليعبر عن تناقضات الأسرة والصراع العنيف بداخلها كشخصيات تراجيدية بامتياز . أما أداء ابطال الفيلم الرائعين فيستحق الدراسة الخاصة ويستحق تدريسه لطلاب معاهد التمثيل : يافوز بيجول فى دور الأب أيوب ، وهاتيس أصلان فى دورهاسر، و أحمد رفعت سونجار فى دور اسماعيل ،وإركان كيسال فى دور سيرفيت ، وهو من المشاركين فى كتابة السيناريو . لاأعرف بالضبط كيف لم يفز هؤلاء الكبار بجائزة التمثيل فى مهرجان كان ؟! كل واحد منهم امتزج بالشخصية التى لعبها رغم صعوبتها ، وكل واحد لديه مشاهد لاتنسي لا يقل الأداء فيها عن أكبر أساتذة التشخيص فى العام . لاتوجد مبالغات عاطفية من أى نوع رغم أن الأمر يغرى بذلك . كل شئ تحت سيطرة مخرج كبير حقا يعرف ما يريده بالضبط ، ولايرتضى بديلا عن أن تضع نفسك موضع شخصياته ، وأن تشعر مثلهم وتتعاطف وتحس وتفكر وتتأمل فى نفس الوقت !
ليس أمام أيوب سوى الصبر وإكمال لعبة التنازلات حتى النهاية . ليس عليه سوى أن يلوم نفسه لأنه هو الذى بدأ اللعبة لذلك اعتبر محاولة زوجته الإنتحار نوعا من السخف فى ظل تمسكه هو بالحياة . الفيلم الكبير يختبر الإنسان من جديد ، ويكشف لنا كم نحن ضعفاء . سؤال الفيلم الهام قديم وعابر للزمان والمكان : لماذا نبيع أشياء ثمينة مقابل أشاء رخيصة؟ ولماذا يختار الإنسان أحيانا أن يكسب الآخرين فى مقابل أن يخسر نفسه؟ انه سؤال السيد المسيح الذى لم نجد له إجابة من مئات السنين ، ويبدو أننا لن نجد إجابة السؤال الصعب حتى نهاية الحياة !

السبت، 29 مايو 2010

كن لوتش يستأصل جذور الفساد من العراق في "الطريق الأيرلندي"


أنشر هنا ما كتبه الناقد البريطاني المعروف ديريك مالكولم عن فيلم "الطريق الأيرلندي" وقد قرأته مؤخرا بعد عودتي من كان، في إطار استكشاف آراء نقاد بريطانيا في الافلام البريطانية الثلاثة التي عرضت داخل وخارج المسابقة. ولدهشتي اكتشفت وجود الكثير من الآراء المشتركة.. وياله من أمر جدير بالتأمل حقا. وإليكم المقال:
عندما يتحدث كن لوتش ، تميل الجماهير في مهرجان كان للاستماع، فالمخرج البريطاني صاحب "الريح التي تهز الشعير" الحاصل على السعفة الذهبية في عام 2006 هو أحد المخرجين الأكثر شعبية وتأثيرا من كل صناع السينما الذين يزورون المهرجان.
وكان فيلمه، الذي ضم للمسابقة في آخر لحظة ويتناول الوضع المثير للجدل لرجال الأمن - ومعظمهم من الجنود السابقين – الين يعملون في العراق، واحدا من أسخن الأفلام في الكروازيت.
الفيلم من تأليف بول لافرتي، الذي يكتب سيناريوهات لوتش بانتظام، ومن بطولة مارك ووماك، الذي يقوم بدور ضابط سابق في القوات الخاصة (إي ايه إس) ينضم إلى شركة أمن في بغداد مقابل عشرة آلاف جنيه إسترليني خالية من الضرائب شهريا.
هذا الشاب من ليفربول، يقنع صديقه القديم بالانضمام إليه، والآن هذا الصديق قتل على الطريق الايرلندي، الذي يعتبر الأكثر خطورة في العالم. فيعود إلى ليفربول ويواجه صديقة القتيل (أندريا لوي)، يحاول معرفة كيف ولماذا مات صديقه، وكلما ينقب في المأساة، يكتشف المزيد من الفساد والنفاق.
فيلم لوتش مثل فيلم شخصي جدا عن مدينة مليئة بالدولارات الأمريكية، وبالتالي تمتليء بالفساد والجشع والعنف. وهناك موضوع فرعي هو تأثير الحرب على الرجال المقاتلين، الذين نجوا من هذه الظروف، بل والحرب نفسها.
بعد فيلمه الكوميدي السابق، "البحث عن إريك"، هنا عودة إلى المشاعر الأخلاقية القوية التي ميزت أفلام لوتش السابقة، ولكن هذا الفيلم ليس مصنوعا بشكل جيد كما كان الفيلم الذي حاز السعفة الذهبية، وينقصه الكثير في مجال راوية قصة،لا تميل إلى التشويش علينا وعلى بطله ضابط القوات الخاصة السابق.
لا شك في أن موضوع أولئك الذين يبيعون خبراتهم في العراق مقابل كميات كبيرة من الاموال يلقى صدى في بريطانيا، ولكن "الطريق الايرلندي" يفتقر إلى القوة التي كانت تميز أفلام كن لوتش الجيدة.
وفقط أود أن أسجل أنه لم يكن هناك أي فيلم صنعه لوتش يحتوي على هذا الكم من الكلمة المكونة من الحروف الاربعة fuck وبالتأكيد لم يسبق أن استخدم التعذيب عن طريق الإغراق بالماء كما يفعل بطله.

((صحيفة "ذي إيفننج ستاندراد" The Evening Standard بتاريخ 19 مايو 2010 ))

الجمعة، 28 مايو 2010

البحث عن الإبن المفقود في "رجل يصرخ"


كان الفيلم الإفريقي الوحيد في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ63 بل وفي كل أقسام المهرجان المختلفة، هو فيلم "رجل يصرخ" A Screaming Man للمخرج التشادي محمد صالح هارون.

ويعتبر هارون الرائد الحقيقي للإخراج السينمائي في تشاد، ولا أقول للسينما، فلا توجد هناك صناعة سينمائية أو إنتاج سينمائي له صفة الاستمرارية والدوام في تشاد، بل وقد دمرت معظم دور العرض في البلاد خلال سنوات الحرب الأهلية. وقد أخرج هارون ثلاثة أفلام روائية طويلة قبل فيلمه الجديد هي "باي باي أفريقيا" Bye Bye Africa، و"أبونا" Abouna و"موسم الجفاف" Dry Season أو "دارات" Darat، وكل أفلامه من الإنتاج الفرنسي. وتدور أحداثها في أجواء الحرب الأهلية التي تمزق تشاد، وهي الخلفية الرئيسية لفيلمه الجديد الذي يتنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان.الفيلم السابق لهارون وهو فيلم "موسم الجفاف" كان عملا فيه الكثير من الطموح، لتناول موضوع يدور حول فكرة الثأر وجدواها، وهل يمكن أن يتوصل المرء إلى الإحساس بالتسامح حتى مع من قتل والده، دون أن يفقد احترامه لنفسه، خاصة وأنه يحيا في ظل تقاليد قبلية عتيقة تضع الكثير من القيود حول عنقه.
أما فيلمه الجديد "رجل يصرخ" فهو يتناول التأثير النفسي للحرب الدائرة بين القوات الحكومية وقوات المتمردين، على العلاقة بين الأب والإبن، بين "آدم" الذي يعمل مشرفا على حوض السباحة في أحد الفنادق الفخمة في العاصمة نجامينا، وولده الشاب "عبد الله" الذي يساعده في العمل. ومن المشهد الأول الذي نرى فيه آدم يقود دراجته النارية في شوارع المدينة في طريقه إلى العمل، نلمح أجواء الصراع المسلح، مع انتشار نقاط التفتيش على الطرق، وأمام الفندق، وتعرض آدم للتفتيش اليدوي في الشارع. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن هناك إدرارة جديدة صينية للفندق جاءت بعد أن اشتراه رجل أعمال صيني، وهذه الإدارة تريد خفض العمالة، وتبدأ بصديق آدم "ديفيد" الطباخ الذي قضى زهرة شبابه في العمل بمطبخ الفندق، فيجد نفسه وقد أصبح بلا عمل، مما يؤدي إلى وقوعه صريع المرض.
وسرعان ما يأتي دور آدم عندما يتم نقله من الإشراف على حوض السباحة، الذي نرى عائلات ضباط الأمم المتحدة الأوروبيين وأطفالهم يلهون ويمرحون وهم يسبحون فيه، إلى تناوب الحراسة على مدخل الفندق.وتنهار حياة آدم انهيارا تاما، ويسيطر عليه الاكتئاب، فحوض السباحة، كما يقول للمسؤولة الصينية مدام وانج، هو حياته بأسرها، وهو كان بطلا للسباحة في منطقة إفريقيا الوسطى في الستينيات. ويكاد عقله يطير من رأسه عندما يعلم أيضا أن ابنه "عبد الله" هو الذي سيحل محله في الإشراف على الحوض.الإبن وجل، متردد، بل ومتلعثم ومرتبك، لا يمكنه مواجهة والده.


يجلس الإثنان أمام الأم/ الزوجة "مريم" في البيت، عاجزان عن الكلام. عبد الله يشعر بالذنب لاستيلائه على مهنة والده، لكنه يبرر ذلك بقوله: إنه أيضا من حقه الحصول على عمل مناسب لأن أمامه مسؤوليات في انتظاره. وآدم لا يمكنه قبول الانسحاب من موقع يعتبره ملكا أبديا له بحكم تاريخه الشخصي!

وتقع الطامة الكبرى التي تزلزل حياة الأسرة كلها عندما يساق الإبن عبد الله، لأداء الخدمة العسكرية، ووالده آدم، يراقب الجنود يسوقونه بالقوة، من نافذة حجرة النوم، دون أن يتحرك لمساعدته أو حتى لتوديعه، بينما أمه تصرخ وتولول، وتستنجد بآدم دون جدوى.تحضر ضيفة جديدة تحل على الأسرة المحطمة، هي حبيبة الإبن التي تحمل أيضا في أحشائها جنينا منه، ويرحب بها آدم ومريم ويرعيانها كإبنة لهما. والمسكينة لا تكاد تصدق أن عبد الله اختفى هكذا ببساطة. وفي لحظة مواجهة مع الذات ممزوجة بنوع الإحساس بالندم العميق، يعترف لها آدم بأنه هو الذي أبلغ السلطات في ابنه.

وطول الوقت، نلمح آثار الحرب الأهلية غير المعلنة في البلاد، الراديو يبث الكثير من الأخبار عن المتمردين الاستيلاء على بلدتين، ونفي الحكومة، ومسؤول الحكومة المحلية يمارس ضغوطا على آدم من أجل التبرع بالمال لصالح المجهود الحربي للقوات الحكومية، وأصوات القذائف وإطلاق النار هنا وهناك، ومع اتساع التهديد الذي تمثله قوات المتمردين، يهرع السكان في هلع، إلى الفرار من المدينة حاملين معهم أمتعتهم، بينما مسؤول الحكومة يخاطبهم عبر مكبر الصوت، داعيا إياهم إلى البقاء، مؤكدا أن الوضع "تحت السيطرة".
آدم، مدفوعا برغبته في التكفير عن الذنب، يذهب للبحث عن ولده إلى أن يعثر عليه جريحا في صدره وقد غطت وجهه الضمادات، فيقوم بتهريبه ومساعدته على النجاة والعودة به إلى حبيبته. وينتهي الفيلم تلك النهاية التي يمكن للبعض أن يعتبرها سعيدة، غير أنها تشير إلى استمرار المأساة وامتدادها في تشاد.
في الفيلم أجواء افريقية صرف، من خلال الشخصيات المختلفة التي تنتمي إلى بلدان أخرى، مثل الطباخ ديفيد الذي يقول إنه من الكونغو، وحبيبة عبد الله التي جاءت من مالي، كما يصور هارون كعادته، الكثير من العادات والتقاليد، ويستخدم إيقاعا بطيئا يعتمد على اللقطات الثابتة أكثر، وعلى الحركة البطيئة للكاميرا، وعلى الإبقاء على اللقطة زمنا أطول على الشاشة، كما يهتم بالتكوين، وبالإضاءة خاصة في المشاهد الليلية، وينتقل من المدينة إلى الصحراء، ومن الداخل إلى الخارج، دون أن يفقد التدرج اللوني الطبيعي في إطار الشاشة العريضة التي تساهم في إضفاء طابع ملحمي على الفيلم.
ويعتمد هارون أيضا على براعة ممثليه الذين يبرز من بينهم بوجه خاص الممثل يوسف جاورو الذي يؤدي دور آدم برصانة وحزن عميق في عينيه.إلا أن مشكلة هذا الفيلم أن مادته الدرامية البسيطة لا تساعد على التعمق في الفكرة ومنحها أبعادا أكثر شمولية، سواء على الصعيد الفلسفي أو الإنساني. فهناك الكثير من الغموض الذي يلف سلوك الشخصيات: لماذا يبدو عبد الله مثلا مبتهجا إلى هذا الحد بعد أن تتم ترقيته من مساعد لوالده إلى مسؤول عن حوض السباحة؟ وما الذي يمكن أن يمثله حوض السباحة أصلا في الموروث الثقافي الافريقي لكي تنهار حياة آدم بعد إبعاده عن العمل بجواره؟ وهل أبلغ آدم السلطات فعلا عن ابنه لكي يسوقونه إلى الجيش؟ وهل كان الإبن متهربا أصلا من أداء الخدمة، علما بأنه العائل الوحيد لوالده المتقدم في العمر؟ وما موقف الزوجة مريم، أكثر من تكرار التعبير عن استيائها من أن أحدا منهما، أي الإبن والزوج، لا يطري طهيها، ولا يقبل على تناول الطعام، دون أن تسعى لفهم حقيقة ما حدث. وما هذه الصدفة التي تجعلنا نكتشف وجود حبيبة لعبد الله، تحمل أيضا طفلا منه؟ وما هو المغزى الخاص لاستيلاء رجل أعمال صيني على الفندق؟
وربما يكون الإيقاع أيضا أكثر بطئا مما يمكن احتماله في العديد من المشاهد، حتى أنه بدا مفتعلا، لإضفاء سمة خاصة على الفيلم، كما أن كثرة تكرار التركيز، من خلال لقطات قريبة (كلوز أب)، على وجه آدم، أفقدت هذه اللقطة قوتها التعبيرية الخاصة بل ودفعت أحيانا إلى الشعور بالملل من ذلك التكرار الذي لا يضيف جديدا.
ولعل القتامة الشديدة في أحداث الفيلم، كانت تقتضي كسر هذا الطابع الثقيل من خلال ابتكار بعض المواقف التي تتسم بروح المرح، وإن كان المخرج- المؤلف قد حاول في المشهد الذي نرى فيه ديفيد يقول لآدم إنه أخبر للسيدة وانج إنه يفرط في وضع الملح في الطعام، فقط عندما يقع في الحب، وإن بعض الناس لا يعرفون غير الكلام فقط!
ولاشك أن مشاركة فيلم "رجل يصرخ" في مسابقة مهرجان دولي كبير مثل كان، تعيد تسليط الأضواء على السينما الإفريقية المنسية التي لم تعد تحظى بأي اهتمام حقيقي (في العام الماضي كان هناك فيلم واحد أيضا من افريقيا السوداء في كان هو فيلم "قل لي من أنت؟" للمخرج سليمان سيسي من مالي.
أخيرا ربما تجدر الإشارة إلى أن المخرج محمد صالح هارون (مواليد 1960) عانى كثيرا أثناء الحرب الأهلية، فقد اختطف عمه، وأصيب هو بجروح وتمكن من الهرب من بلده على عربة يدفعها شخص استأجره. وهو يقول إنه يعرف الكثير من الأشخاص الذين قتلوا زمن الحرب الأهلية أثناء حكم الرئيس حسين حبري، ويقدر عددهم بـ40 ألف شخص.
يقول هارون: "البعض ينظر إلى القارة الإفريقية على أنها ضاحية من ضواحي العالم. ولكن البعض منا يرى أحيانا أنه يمكن لهذه الضاحية أن تعيد الحياة إلى منتصف العالم".

الثلاثاء، 25 مايو 2010

هوامش كان 2010

12 مايو * مشكلة مهرجان كان المزمنة أنه يريد أن يلبي طلبات جميع الصحفيين والنقاد الذين يرغبون في تغطية أحداثه، إلا أن قاعاته المخصصة للعروض الصحفية لا تشهد أي تطوير أو توسيع منذ سنوات عديدة، لذا يضطر الجميع للاصطفاف قبل الهنا بسنة أي قبل ساعة أحيانا من موعد عرض الفيلم لكي يضمنوا الدخول وإلا فقد يواجه المرء بالكلمة الحاسمة (كومبليه مسييه) أي كامل العدد يامولانا! والحل في رأيي، واحد من اثنين، إما يخفض المهرجان عدد الصحفيين الذين يقبلهم لتغطية أحداثه ويرفض أي طلبات جديدة أو يشطب من القدامى الذين أصبح معظمهم مجرد ديكور أي لا يقومون بأي مهمة صحفية حقيقية بل يتفرجون على الأفلام بصحبة أصدقائهم من الزمن الخالي، وهؤلاء بالمناسبة معظمهم من الفرنسيين الذين اعتادوا على كان واعتاد المهرجان عليهم، ومنهم كما أشرت، من تقاعد تماما عن الكتابة. أما الحل الثاني فهو الأصعب، أي بناء قاعة جديدة كبيرة تتسع لكل هذه الأعداد الضخمة أو نقل معظم العروض الصحفية إلى قاعة لوميير الضخمة التي تتسع لأكثر من 2500 شخص، وهو حل صعب أيضا لأنه يتطلب تقليص عدد العروض الرسمية أو نقلها. المهم أن يبدأ المهرجان في مواجهة المشكلة بشرط أن يعترف أولا بأنها قائمة وحقيقية. أستدرك مع هذا لأقول، إن هناك الكثيرين الذين يرون أن الازدحام والتدافع أصبحا جزءا أساسيا من مناخ مهرجان كان، يضفي حيوية عليه ونوعا من الإثارة أيضا، وهؤلاء لا مانع لديهم من المزاحمة والنضال من أجل مشاهدة فيلم، أي فيلم، ولكنك قد ترى نفس الصحفي الذي أنفق وقتا وجهدا لأجل مشاهدته، يغادر قاعة العرض بعد دقائق من عرضه لأنه لم يستسغه! 13 مايو * فاجأ تييري فيرمو عند تقديمه فيلم افتتاح قسم "نظرة خاصة" الجمهور بتقديم فيلم قصير (3 دقائق) سبق عرض فيلم مانويل دي أوليفيرا، ويصور مقابلة مع المخرج الإيراني جعفر باناهي المعتقل، منذ مارس الماضي، في إيران بسبب تأييده لانتفاضة دعاة الإصلاح الديمقراطي في البلاد. وفي الفيلم يتحدث باناهي عن المضايقات والاستجوابات التي تعرض لها خلال القفترة التي سبقت القبض عليه. ويروي في الفيلم كيف أن المحقق أخذ يوجه له أسئلة سخيفة ثم فاجأة بقوله: لكني أحببت فيلمك "الدائرة". وكان السينمائيون الأمريكيون قد طالبوا باطلاق سراح باناهي، كما اصدر الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية بيانا قبيل افتتاح مهرجان كان، يستنكر اعتقاله وبقاءه رهن الاحتجاز حتى الآن ويطالب بسرعة إطلاق سراحه. تعليقي الشخصي على هذا أن الأمريكيين والأوروبيين، يبادرون عادة بإدانة ما يقع من تجاوزات في إيران، ولكنهم يغضون الطرف كل يوم عما يقع من اعتداءات بشعة على الديمقراطية في مصر وسورية والجزائر وغيرها من الدول التي تحكمها مافيا البيزنس بالتعاون مع العسكريتاريا وتحت حمايتها. فهل يتذكر أحد في الغرب الآن مذبحة سجن أبو سليم في ليبيا التي قتل فيها 1100 معارض سياسي لنظام القذافي الذي أصبح اليوم صديقا لسبيلبرج ورئيسه، أو مذبحة الـ300 ناشط وكادر من كوادر الحزب الشيوعي الجزائري الذي قتلتهم قوات بومدين في 1966 رميا بالرصاص في مذبحة جماعية على شاطيء البحر خارج الجزائر العاصمة؟ أنا بكل تأكيد ضد النظام الفاشي في إيران، لكن المواقف لا تتجزأ. وإذا ان الموضوع مضوع سينما فلماذا لم نسمع كلمة من سبيلبيرج أو غيره احتجاجا على قمع الحريات السينمائية عندما أغلق مهرجان جدة في اليوم الاول قبيل افتتاحه مباشرة! * السوق الدولي للأفلام يعرض 900 فيلم وليس 400 كما ذكرت من قبل، منها أفلام تعرض للمرة الأولى. وهي فرصة ذهبية لاستكمال ما يمكن استكماله من أفلام مثل الفيلم الجديد للمخرج الروسي أندريه كونتشالوفسكي الذي يقال إنه أغلي فيلم في تاريخ السينما الروسية (تكلف 90 مليون دولار) وهو بعنوان "كسارة البندق والملك الفأر" وهو مصور بتقنية الأبعاد الثلاثة، ومخرجه موجود حاليا في كان للترويج لفيلمه .
14 مايو كل الدنيا تبدو حاضرة هنا في كان. عدد هائل من السينمائيين لدرجة أنني كدت أن اصطدم اليوم رأسا برأس مع مارتن سكورسيزي وهو يهرول عبر مقر المهرجان من قاعة لوميير إلى قاعة ديبوسي، وحوله بالطبع عدد كبير من المصورين. وسكورسيزي ليس من الممكن أن تخطؤه العين بسبب نظاراته السميكة المميزة التي أجدها شخصيا، قبيحة للغاية، ويمكنه بلاشك، إذا أراد، أن يعثر على بديل أفضل كثيرا بدون هذا الإطار السميك الأسود الذي يجعله يبدو مثل صانع الساعات. لكن للناس فيما يعشقون مذاهب فعلا. المهم أنني اعتذرت بسرعة للأستاذ سكورسيزي صاحب البصمة المميزة في السينما، وكدت أن أناشده العودة إلى تقديم أفلامه التي أحببناها ! * كل الناس هنا لاشك.. بدليل أنه عند تقديم الفيلم الروماني البديع "أورورا" Aurora اليوم (3 ساعات كاملة) ظل المدير الفني للمهرجان تيري فيرمو، ينادي على الأسماء ويصعد إلى المنصة واحد واثنان وثلاثة لكي يصل عدد الممثلين والمنتج والمخرج والكاتب..إلخ عشرين شخصا بالتمام والكمال، معظمهم لممثلين وممثلات ظهروا في مشهد واحد في الفيلم. تخيلوا كل هذا الكرم الحاتمي.. أو ربما يكون الطرف المنتج (هناك طرف فرنسي في الإنتاج) هو الذي تحمل تكاليف الدعوة إلى كان لهؤلاء جميعا، من أجل ترويج الفيلم. المؤتمر الصحفي للمخرج الأمريكي أوليفر ستون كان حاشدا أيضا، فقد حضره مايكل دوجلاس بطل الفيلم، وباقي أبطال الفيلم وبينهم البريطانية الشابة كاري موليجان.
15 مايو شبح بولانسكي يحلق في سماء كان * أصبحت قضية المخرج البولندي الأصل رومان بولانسكي، أحد المشاغل الرئيسية لدى الكثير من المتابعين والمعلقين هنا في مهرجان كان، فقد بدأ الجدل حول القضية التي يحتجز بشأنها المخرج الكبير تحت الإقامة الجبرية في سويسرا منذ عدة أشهر، عندما وقع عدد من السينمائيين الحاضرين في المهرجان، عريضة احتجاج على احتجازه تمهيدا لترحيله إلى الولايات المتحدة لكي يقضي عقوبة السجن، وعلى رأس هؤلاء الموقعين جان لوك جودار، المخرج الفرنسي الذي أعاد كتابة تاريخ السينما الفرنسية، كما يقف على رأس الحملة المساندة لبولانسكي الفيلسوف والكاتب هنري برنارد ليفي الذي خصص موقعا على شبكة الانترنت لدعم بولانسكي. غير أن الممثل الأمريكي مايكل دوجلاس الموجود في كان حاليا مع فيلمه "وول ستريت"(وهو يهودي مثله في ذلك مثل كل من بولانسكي وليفي) صرح للاذاعة الفرنسية يوم الجمعة، بأنه يرفض التوقع على تلك العريضة لأنه لا يمكنه أن يؤيد رجلا خرق القانون في بلاده بهروبه من المحاكمة أثناء وجوده طليقا بكفالة. وعادت القضية إلى الأضواء مجددا بقوة بعد أن أعلنت الممثلة البريطانية شبه المغمورة شارلوت لويس (42 عاما) أن بولانسكي اعتدى عليها جنسيا في شقته في باريس عندما كان عمرها 16 عاما، "بأسوأ طريقة ممكنة". وجاءت هذه التصريحات ضربة لجهود فريق الدفاع عن بولانسكي مما دفع محاميه إلى اتهامها بالكذب بل والتهديد بمقاضاتها على تصريحاتها، بل وتساءل أحد المحامين في تشكك، كيف قامت بدور في فيلم بولانسكي "القراصنة" بعد ثلاث سنوات من تاريخ اعتداء بولانسكي "المزعوم" عليها! أما جيل جاكوب رئيس مهرجان كان (يهودي أيضا) فقد اكتفى بالإمساك بالعصا من المنتصف عندما قال "إننا لا نعلم شيئا عن تفاصيل القضية وإن هناك فرقا بين بولانسكي السينمائي العظيم، وبولانسكي المواطن، ولا يمكن أن يكون هناك مواطن فوق القانون". والجدل لايزال قائما! * أستغرب أن تختفي فجأة السينما المصرية من مهرجان كان تماما، بعد أن كانت حاضرة بشكل أو بآخر، خلال السنوات الماضية، ولو من خلال المشاركة بأفلام جديدة في السوق الدولية للأفلام. وكان عماد الدين أديب صاحب شركة جودنيوز قد بدأ هذا التقليد عام 2006 عندما أتى بصحبة فيلمي "عمار يعقوبيان" و"حليم". وكان الانفاق المالي يتم على الذين أحضرهم معه من مرافقين وممثلين وصحفيين، عن سعة شديدة كما علمنا وقتها. أما وقد اختفت جودنيوز تقريبا من سوق الانتاج السينمائي بشكل مفاجي كما دخلت، بعد السقوط المالي المروع في الأسواق العالمية وبداية الانكماش، فقد اختفى أيضا غير عماد أديب من سوق كان، مثل المنتج كامل أبو علي الذي حضرالعام الماضي مع فيلم خالد يوسف "دكان شحاتة" وأتاح لنا الفرصة عن قرب للتأمل في الجميلة المغوية "هيفاء وهبي" على الطبيعة وبعيدا عن الكاميرات والأضواء المبهرة التي تطاردها عادة أينما حلت في عالم العرب. * لاتزال "التحفة" الكبيرة غائبة عن عروض المهرجان، رغم أننا شاهدنا عددا من أفلام العمالقة مثل وودي ألين ومايك لي وريدلي سكوت وأوليفر ستون ومانويل دي أوليفيرا. لكن الفيلم الأبقى في الذاكرة من كل هذه الأفلام حى هذه اللحظة، من وجهة نظري الشخصية، وبتواضع شديد، هو الفيلم الروماني الذي يحمل عنوانا غريبا هو "أورورا" Aurora للمخرج الكبير كريستي بيو (صاحب موت السيد لازارسكي) وهو أيضا فيلم شديد الغرابة، لا يشبه فيلما آخر، ويستحق بالتأكيد وقفة خاصة في مناسبة تالية. 16 مايو ديكتاتورية المواطن جاكوب! * حتى الآن أعجبني الفيلم الروماني الكبير "أوروا" الذي أرى أنه كان جديرا بالعرض في المسابقة، ولا تجوز مقارنته أصلا بفيلم محدود المستوى والهدف من أفلام الفقاعات الصابونية مثل الياباني "غضب" لتاكيشي كيتانو، أو حتى الفيلم الفرنسي التاريخي السطحي "أميرة مونبسينيه" ولو أنه من إخراج برتران تافرنييه، وهو أحد كبار مخرجي السينما الفرنسية، ولا أعرف ما الذي أغواه بالوقوع في شراك تلك القصة أو بالأحرى، "التوليفة" التي لا تصنع حبكة ولا إثارة ولا متعة من أي نوع، رغم مشاهد الإبهار الضخمة، والمبارزات بالسيوف، وأجواء الدسائس والمكائد التي تجري داخل القصور، والفتنة المتمثلة في الممثلة الصاعدة بقوة صدرها، وليس قوة موهبتها، ميلاني ثييري، فلا أظن أنها موهوبة أصلا. * من أفلام المسابقة أعجبني فيلم "الخادمة" من كوريا الجنوبية، لأنه يروي قصة بأسلوب تقليدي ولكن بسيطرة مدهشة على كل أدوات الإخراج. وأعجبني كثيرا الفيلم الوثائقي "العملية من الداخل" Inside Job الذي يتناول الأزمة الاقتصادية، و"دراكيلا" الإيطالي الوثائقي الذي يسخر من بيرلسكوني وسياساته.. وقد عرض الفيلمان خارج المسابقة. لست من المعجبين بفيلم وودي ألين، ولا بفيلم أوليفر ستون، وقد أعجبني كثيرا فيلم مايك لي وإن كنت لا أراه مختلفا كثيرا عن أفلام مخرجه البارزة، طبعا مع استبعاد "فيرا دراك" الذي وجدته عملا ساذجا مملا، وفيلم "سعيدة ومحظوظة" Happy Go Lucky الذي وجدته عملا بسيطا لا يبقى كثيرا في الذاكرة. * نحن في انتظار ما سيسفر عنه عرض فيلم جودار "الاشتراكية"، وفيلم "جميل" Biutiful لأليخانرو جونزاليس إيناريتو (هو مصر على كتابة اسمه الثلاثي المرهق على كل أفلامه والأفضل أن يعثر له على إسم آخر خفيف مكون من كلمتين فقط).. وهو يتحذلق في التلاعب بكلمة "جميل أو جميلة بالانجليزية فيكتبها باستخدام حرف خطأ محاكيا تارنتينو العام الماضي في عنوان فيلمه "أوغاد مجهولون" Inglorious Basterds ويبدو أننا أصبحنا نعيش في عصر تحطيم الكلمات، والتعبير المكسر عن الأشياء! * رئيس مهرجان كان سيحضر الإثنين عرض فيلم تسجيلي عنه بعنوان "المواطن جاكوب" طبعا يمجد دوره كمدير لمهرجان كان لنحو ثلاثين عاما، والآن كرئيس له لدرجة ارتباط المهرجان بشخصه. الديكتاتورية ليست في العالم العرب فقط بل هنا أيضا، لكي لا يشعر العرب بأنهم متفردين. * وبمناسبة العالم العربي (الذي يفضل القوميون تسميته الوطن العربي على اعتبار أن كل العرب كيف- كيف، أو في الهوا سوا، وهو ما لا أتفق معه!) ورد في التعريف بالمغرب العربي في تحقيق منشور عن السينما التونسية في مجلة "فاريتي" (التحقيق والملحق كله مدفوع كإعلانات للدعاية للمنتج التونسي العملاق "ماليا" طارق بن عمار).. أن المغرب العربي "تعبير يطلق على البلدان الناطقة بالعربية في شمال افريقيا"! ولكن التعريف لم يقل لنا بالمناسبة: ماذا بشأن الناطقين بالفرنسية من "سكان" تلك البلدان! 17 مايو جودار وعباس والقذافي!
* دخلت إلى قاعة العرض لمشاهدة فيلم المخرج السينمائي الكبير جان لوك جودار "الاشتراكية" (الذي يمكن جدا أن يكون وصيته الأخيرة، فوجدت رجلا وامرأة، فرنسيين إلى جواري. بدأت المرأة تتكلم، ولا تريد أن تكف عن الكلام، ثم أخرجت شيئا، نوعا من الحلوى من حقيبة يدها، أعطتها للرجل، الذي أخذ يفض عنها غلافها مما جعله يصدر صوتا مزعجا، استمر وقتا طويلا، في حين أن أمثالي من الذين اعتادوا على مشاهدة الأفلام وسط سكون تام وهدوء كامل في قاعات العرض البريطانية في لندن، ربما يكون إحساسهم زائدا بعض الشيء عندما يحضرون مهرجانات تقام في بلدان الجنوب الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، فهؤلاء "اللاتينيون" لا يقيمون وزنا كبيرا للآخر الذي إلى جوارهم. كدت أتوجه إلى السيدة المبتهجة وزوجها أو صديقها، وأحاول لفت نظرهما إلى ما يسبباه لي من إزعاج وأنا أريد أن أعيش في محراب السينما الذهنية الخالصة مع عمنا الكبير جودار. إلا أنني سرعان ما تراجعت تماما عن الفكرة، فمن حق السيدة أن تبتهج، وأن تحتفل، فهذا أولا مهرجانهم، هم الذين أقاموه وهو موجه أساسا لهم، وهو أهم مهرجان سينمائي في العالم، يستقطب البشر من عشرات الأجناس والأنواع والفصائل البشرية، فهل لدينا مثله أو نجحنا حتى في محاكاته من توفير شروط عرض مثالية (من حيث القاعات وأجهزة العرض والشاشات وباقي التجهيزات الأساسية)؟ وثانيا، وربما هذا هو الأمر الأساسي، أن جودار "إنتاج فرنسي من الطراز الأول، عالي الجودة، ومعروف عالميا". صحيح أن لنا في جودار جزءا بحكم اهتمامنا الكبير به منذ أن كنا صبية يافعين، وبحكم تدريسنا له في معاهدنا ونوادي السينما لدينا. لكن جودار مع ذلك، يبقى "اختراعا فرنسيا" بشكل أساسي، وهو يعد فخرا لفرنسا، ومن حق الفرنسيين أن يبتهجوا بالأستاذ والمعلم، الذي يكاد يختم مسيرته السينمائية الحافلة وهو على مشارف الثمانين من عمره، متعه الله بالصحة والعافية ومد في عمره مثلما مد في عمر البرتغالي مانويل دي أوليفيرا. أما الفيلم الجوداري نفسه، فهو يقتضي وقفة طويلة خاصة لأنه فيلم من نوع خاص، من النوع الذي لا يروق إلا لمن يدرك أن السينما "أداة تعبير ثقافي وفكري وفلسفي" إلى جانب كونها بالطبع، أداة للتسلية والفرجة والمتعة. * كان اليوم يوم الأفلام الثقيلة بدون شك. شاهدت كالعادة أربعة أفلام بداتها بفيلم المكسيكي الذي أصبح شهيرا اليخاندرو إيناريتو جونزاليس، ثم فيلم البريطاني ستيفن فريريز "تمارا درو"، ثم فيلم جوادر "الاشتراكية"، وختمت اليوم بفيلم عباس كياروستامي "نسخة موثوقة". لم يعجبني على الإطلاق فيلم فريرز، بل ووجدته أيضا ثقيلا ومملا وسخيفا ولم يضحكني رغم أنه أضحك بعض من يغرمون بهذا النوع من الميلودرامات الفكاهية المصممة على وتيرة مسرحية، وتصلح أساسا للعرض في الصندوق box (وهو التعبير المناسب الذي يستخدمه الأمريكيون في إشارة إلى جهاز التليفزيون). ولا غرابة في ذلل فالفيلم من إنتاج تليفزيون بي بي سي، بمساعدة من المجلس البريطاني الثقافي وأيضا من جزء من أموال مسابقة أوراق اليانصيب أو ما يعرف باللوترية. أما فيلم جونزاليس (صاحب بابل) فهو يستحق مزيدا من التأمل قبل الكتابة عنه، وقد أعجبني فيه الكثير. وهزني فيلم جودار بقوته وجرأته في التعبير وكأنه يجرب وهو بعد لايزال في العشرين من عمره، لكنه تجريب "المعلم الكبير" الذي يعرف تأثير كل لقطة، ويريد أن يصدم المتفرج ويبقي على ذهنه مستيقظا لنحو ساعتين. وأخيرا لم يعجبني أبدا فيلم الأخ كياروستامي الذي يجد فيه بعض العرب تعويضا عن غياب سينماهم، لدرجة أنهم جعلوا منه بطلا "من أبطال العرب" ربما لأن اسمه عباس! أقول قولي هذا وأستدرك لأضيف أن هذا مع ذلك، يعتبر أيضا أقل أفلام كياروستامي ثقلا في وطأته، وأكثرها تحررا من القالب المفتعل الذي يعمل فيه عادة، ربما لأنه مصور في أوروبا بممثلين أوروبيين ولا علاقة له بإيران لا من قريب، ولا من بعيد، إلا أن البعض هنا (من أبناء يعرب) مازلوا يتكلمون عنه أيضا باعتباره "الفيلم الإيراني في المسابقة"! والله لنتكبن عنه قريبا كما نشاء، ونقول فيه ما يجب أن يقال! * أخيرا.. لا أريد أن أصدم أحدا من الذين يترددون على هذه الصفحة، بأن أقول لهم أن الصفحة الأولى من مجلة "فاريتي" التي تصدر يوميا أثناء المهرجان، نشرت صورة للعقيد الليبي معمر القذافي (الآن هو سيحتج على كلمة عقيد بعد سقوط جيوش العرب، وعلى كلمة ليبي بعد أن أعلن نفسه ملك ملوك افريقيا!) والمناسبة أن هناك فيلما هوليووديا ضخم الإنتاج يروي حسبما نشرت الصحيفة "القصة الحقيقية للشعب الليبي" بعنوان "برقة Cyrnacia : الحدود المفقودة". وتشير الصحيفة إلى أن الفيلم الملحمي سيروي رحلة صحفي (أمريكي غالبا) عام 1928 من اسبانيا عبر المغرب إلى ليبيا لكي يشهد على ما ترتكبه قوات موسوليني من قتل وتدمير في القرى الليبية المحاصرة. وتقول المجلة في تبرة دعائية واضحة إن هذه هي المرة الأولى منذ "لورنس العرب" و"بن هور" التي يقدم فيها أحد ستديوهات هوليوود على تجربة إنتاج فيلم بهذا الحجم في الصحراء "لصنع تحفة حقيقية". وتتساءل المجلة هل ستعود الحكومة الليبية إلى تمويل الفيلم بعد أن كانت طرفا في الانتاج ثم تراجعت. والواضح أنها محاولة لإسالة لعاب القذافي واستدراجه للوقوع كعادته، في الفخ والحصول منه على عشرات الملايين من أموال الشعب الليبي، وإلا بدا متراخيا في تمجيد التاريخ الليبي، وتمويل فيلم أمريكي تجني من وراءه شركة الإنتاج أرباحا طائلة قبل أن شرع في التصوير، ثم تمنح العقيد شريطا يوزعه على ضيوفه في فنادق ليبيا بالعافية، مع نسخ من الكتاب الأخضر وشروحه، تصل إلى حجم عدد من صناديق الأحذية! 18 مايو رسائل وتعليقات * الصديق خالد عمر أرسل يسألني لماذا لا أقدم نقدا تفصيليا يوميا للأفلام التي أشاهدها؟ وردي البسيط على سؤاله أنني أشاهد يوميا من 4 إلى 5 أفلام وهو أمر يستغرق الكثير من الوقت والجهد، خاصة وأننا نضطر للاصطفاف أمام قاعات العرض قبل نصف ساعة على الأقل من أجل ضمان مقعد.، وأحاول أن أكتب يوميات أسجل فيها انطباعاتي عن معظم هذه الأفلام، لكني لا أريد أن أحرقها في نقد متعجل بسبب ضيق الوقت المتاح للتأمل والتفكير والكتابة التفصيلية خاصة وأنني، لحسن الحظ، غير "مضطر" للكتابة اليومية التفصلية هذا العام لجهة محددة، ولذلك قررت مشاهدة أكبر عدد ممكن من الأفلام التي أقوم بتدوين ملاحظاتي بدقة عنها سواء أثناء المشاهدة أو بعدها، على أن أعود للكتابة عن معظمها بعد انتهاء المهرجان. والكتابة بمزاج "رايق" أفضل كثيرا من الكتابة المتعجلة، ودليلي في هذا نقدي لفيلم ايليا سليمان "الزمن الباقي" العام الماضي، فقد كتبت ونشرت عنه في اليوم التالي لعرضه في المهرجان، ثم عدت بعد عودتي وتأملت فيه أكثر لكي أكتب مقالا تحليليا مختلفا تماما عن مقال المتابعة النقدية في المهرجان، ويستطيع القاريء مراجعة المقالين في هذا الموقع لمعرفة ما أقصده بشكل عملي ملموس. والأمر الآخر أو لعله الأخير ياعم خالد، هو أننا لسنا في سباق حول من يكتب أكثر أو أطول، وكأننا سنربح جوائز في نهاية الأمر. الكتابة أساسا، على الأقل بالنسبة لي، متعة شخصية وليست فرضا وواجبا مقدسا، فإن انتفت المتعة، انتفت القدرة على الإمتاع أيضا.. أليس كذلك. عليك إذن أن تكتفي بما أقدمه هنا مبدئيا إلى حين أعود لافصل فيما بعد. * الأخ عمر منجونة أرسل يقول لي ألا يمكن اعتبار فيلم "الخارجون عن القانون" جزائريا كما نعتبر أفلام يوسف شاهين ويسري نصر الله مصرية؟ أقول له إن شاهين-مثلا- كان ينتج أفلامه بنفسه من خلال شركته المصرية، بتمويل فرنسي، وبتقنيين وممثلين مصريين. أما رشيد فهو يعتمد بالكامل على الإنتاج الفرنسي والتقنيين الفرنسيين، وتعد فرنسا هي "بلد المنشأ لأفلامه" ومركز توزيعها للعالم، بينما في حال شاهين ويسري نصر الله فأفلامهما مركزها وشركات انتاجها في مصر، ولذا فالوضع يختلف، أما ثقافيا فطبعا يمكن اعتبار أفلام رشيد بوشارب التي تدور في الجزائر أو عنها، أفلاما جزئرية بالمفهوم الثقافي نعم.. وليس في ذلك أي تناقض. عمر يتساءل أيضا عن أسباب كل هذا الابتهاج بمهرجان كان رغم وجود أفلام رديئة، أو شيئا من هذا القبيل حسبما فهت من رسالته. الأفلام ليست رديئة بشكل قاطع، بل تختلف حولها وجهات النظر، فما لا يعجبني مثل أفلام كياروستامي، يعجب غيري، ولديهم وجهة نظرهم الشخصية وحجتهم على ذلك الإعجاب، والسينما بطبيعتها فن ديمقراطي لا يفرض شيئا محددا عليك. وإذا كنت أنا لا أحب أفلام تاكيشي كيتانو مثلا فهناك آلاف البشر هنا من "أهل الصنعة" يعشقونها. والمهرجان لا يأتي بأفلام الفن الرفيع فقط بل بكل أنواع الأفلام، ويبقى "كان" أهم مهرجانات السينما في العالم لأسباب كثيرة نعرفها كلنا، تتعلق بالبرنامج والتنظيم والسوق والمطبوعات والحضور المباشر للسينمائيين الكبار، ولقدرته على أن يأتي بأحدث الأعمال التي يفترض أنها مهمة لهؤلاء السينمائيين الكبار مثل وودي ألين وأوليفر ستون ومايك لي وكن لوتش وغيرهم، واذا جاءت أفلام هؤلاء ناقصة، أو لم تعجبني تماما فليس معنى هذا أن المهرجان فاشل بل العيب في اختيارات هؤلاء السينمائيين. أما بخصوص قدرة مانويل دي أوليفيرا على توفير تمويل لأفلامه. أولا أفلامه عادة تنتج بميزانيات محدودة. وثانيا تعتمد هذه الأفلام على الإنتاج المشترك بين عدة شركات في دول مختلفة، وهناك الكثير من جهات الإنتاج في أوروبا وأمريكا اللاتينية التي ترحب كثيرا بإنتاج أفلام أوليفيرا، الذي يعد علما من أعلام السينما الفنية في العالم. ومن يقول له لا، يكون هو الخاسر. وأخيرا لماذا يرفضون والرجل صحته جيدة، وباستطاعته الوقوف والمشي والحركة والحديث بشكل طبيعي تماما، ويفكر ويحلم ويتخيل مثل أي إنسان شاب بل ربما أفضل كثيرا، ويكتب سيناريوهات افلامه عادة بنفسه. وقد صرح في المؤتمر الصحفي بأنه انتهى من كتابة سيناريو فيلمه القادم. إنه يتحدى الموت بالسينما وبالحياة في السينما! * تلقيت اليوم رسالة من هاوي السينما العظيم صالح الجاردوي من البحرين يقول لي فيها: فقط أريد أن تعلم أنك تقدم لنا تحديثات في وقت مبكر يوميا عن الأفلام التي تعرض في في مهرجان كان من خلال موقعك، وأنا واثق من انها تأخذ الكثير من الوقت والجهد منك، ونحن سعداء لرؤية التحديث بشكل يومي. حقا إنها مهمة عظيمة، ونحن نشكرك على ذلك لأنك تضعنا في قلب المهرجان. صالح الجارودي وكان صالح قد كتب قبل أيام يقول: "أود أن أقول لك إنني أتابع بشكل يومي، وأحيانا على مدار الساعة، كل ما تكتبه من مهرجان كان، وخصوصا ما ينشر في العمود الأيمن من الصفحة. بالأمس شاهدت فيلم "روبن هود" ولم يعجبني لأنني لم أشعر أنه أضاف لي أي جديد. لقد رصدوا له ميزانية وامكانيات ضخمة حقا، لكن من الناحية الإنسانية، على الأقل بالنسبة لي، لا يوجد شيء. وحتى الععلاقة بين راسل وكيت لم تبد لي متسقة. شكرا على الإضافات اليومية التي تضعنا في قلب المهرجان". لك كل الشكر ياصالح وليتك كت معنا هنا في هذه المعمعة لكي تدرك مشقة المهمة، ولكني أستمتع بما يهمني ويثير اهتمامي من أفلام، وأكتب عنها بدون حساب لأهمية المخرج أو تاريخه وما يقوله عنه نقاد الغرب. * قرأت أن سبب استبعاد فيلم جودار "الاشتراكية" من المسابقة ووضعه في قسم "نظرة خاصة" هو أولا رفض جودار حضور المهرجان ومناقشة فيلمه في مؤتمر صحفي، ولابد أن لديه أسبابه في ذلك التي لا نعلم عنها شيئا. ثانيا أنه وضع 4 دقائق من فيلمه على موقع يوتيوب ودافع في حديث منشور أجري معه، عن حق الجمهور في الحصول على المعرفة ورفض اعتباره نوعا من القرصنة، أي أنه باختصار يدافع عن القرصنة ويرفض فكرة حماية الملكية الفكرية ويضع مقابلها حماية حقوق المعرفة الفكرية. وجهة نظر جديرة بالتأمل. ولكن لماذا يفترض المهرجان أن جودار يريد المشاركة في التسابق مع أحد.. أليس هو بمستواه، خارج المنافسة مع المبتدئين والعابثين بالسينما مثل كيتانو وأمثاله. بالمناسبة جودار قال إن عدم تمكنه من الحضور إلى المهرجان جاء "لسبب يوناني"! * لم تكن مسابقة الأفلام القصيرة (9 أفلام) على مستوى جيد بل شديد التواضع. وفيلم "فالنتين الأزرق" قال لي الناقد التونسي الصديق الطاهر الشيخاوي أنه كارثي. 19 مايو سياحة سينمائية الذين يتساءلون عن "حجم" مهرجان كان سينمائيا، يجب أن يعلموا أن المهرجان لا يعرض أكثر من 100 فيلم في كل برامجه وأقسامه، هذا صحيح، لكنه يعرض في السوق الدولية للأفلام 900 فيلم، تعرض على مدار 12 يوما، والعروض تبدأ في الثامنة والنصف صباحا، وتنتهي في الثانية صباحا. وتدور آلات العرض في عشرات من قاعات العرض السينمائي، داخل قصر المهرجان وخارجه، في دور السينما الموجودة بالمدينة التي تعرض أفلام السوق، وغير ذلك من القاعات التي ابتدعت خلال السنوات الأخيرة مثل سينما الشاطيء، وغيرها. وتشهد كان يوميا حوالي 250 عرضا سينمائيا (وليس فيلما حتى لا يفهم خطأ)، أي أن الأفلام تدور في آلات العرض السينمائي في كل القاعات 250 مرة أو أكثر. وتتحول المدينة كلها إلى حالة احتفال جماعي بالفن السينمائي، ولا أظن أن هناك في أي جهة على الأرض، شيئا مشابها لما يوجد في كان، لهذا فإنه مهرجان فريد من نوعه. وقد أصبح بالتالي، يستقطب الكثير من الباحثين عما يمكن أن نطلق عليه "السياحة السينمائية". وهؤلاء السياح الذين يزورون المهرجان تحت دعوى اهتمامهم بالسينما، يبحثون عن أي وسيلة كانت، للحصول على أي نوع من أنواع البطاقات، لمشاهدة بعض الأفلام، وإن لم يكن، فيكتفون على الأقل، بالتواجد في الحلبة، بالقرب من النجوم والسينمائيين وخبراء السينما في العالم من النقاد ومديري المهرجانات. وهناك بالطبع الباحثات عن الشهرة عن طريق الحصول على فرصة لدخول عالم التمثيل من أوسع أبوابه، أي عن طريق مقابلة المنتجين في الفنادق الراقية المتراصة على طول شاطيء الكروازيت. وتبذل كل واحدة من هاته الفتيات عادة، كل ما يمكنها، وتدخر لشراء ملابس على أحدث صيحة، تبرز الكثير جدا من مفاتنها، وتخفي أقل القليل، لعلها بذلك تلفت أنظار المنتجين، فربما ظهرت في دور "كومبارس" تسير في ملهى ليلي مثلا في الفيلم القادم من سلسلة أفلام جيمس بوند. لكن الطريف أننا وجدنا خلال السنوات الأخيرة توافد عدد من الممثلين الشباب أيضا، ومن العالم العربي، الباحثين عن فرص للظهور في أفلام يكون مطلوبا فيها شاب يتكلم بالعربية أو يبدو عربي المظهر والسحنة خاصة مع توالد الأفلام التي تتناول "الإرهاب" و"الإسلام السياسي" والحرب في العراق وأفغانستان، وغير ذلك، مما أوجد "سوقا" لهؤلاء، أهمها بالتأكيد، سوق مهرجان كان.. وكل في كان، يغني على ليلاه! * الفيلم الكوري الثاني في المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة هنا، التي تتنافس أفلامها الـ19 على السعفة الذهبية، كاد عن حق، أن يطيح بمصداقية لجنة الاختيار في كان، فهو فيلم ضعيف وبطيء وممل إلى درجة النعاس، وقد بذلت شخصيا جهدا كبيرا للصمود ساعتين و17 دقيقة أمام الشاشة علما بأن المهرجان ارتكب خطأ فادحا ببرمجته في الثامنة والنصف صباحا. والفيلم بعنوان "شعر"، عن امرأة "عادية تماما" تجاوزت الستين من عمرها، تريد أن تعبر عن نفسها من خلال الشعر، فتذهب لتعلم الشعر (!) ويكون الدرس الأول والأخير أنها يجب أن تنظر إلى الأشياء من منظار مختلف عن نظرتها العادية وأن تبحث عن الجمال حتى في القبح. والفكرة أدبية تماما، ولم ينجح المخرج لي تشانج دونج في نقلها إلى لغة السينما بأي درجة من درجات إثارة الوجدان و الخيال، بل بطريقة آلية باردة خالية من الحرارة والسحر الذي تخلقه لغة الشعر، واكتفى بأن جعلها تردد كلمات قصائدها التي تنقل إلينا بالطبع، عبر الترجمة فلا يصبح لها أي معنى في الواقع! 20 مايو كان يخسر وفينيسيا يكسب هناك استطلاعان لتقييم النقاد الحاضرين في مهرجان كان من قبل مجلتين هما "الفيلم الفرنسي" (لنقاد فرنسا)، و"سكرين انترناشيونال" (نقاد من العالم). التقييم يعتمد على الطريقة البسيطة التي تتلخص في منح نجوم لكل فيلم. ويجري استطلاع الآراء يوميا عن كل أفلام المسابقة الرسمية. وحتى الآن ولم يعد باقيا سوى ثلاثة من أفلام المسابقة لم تعرض بعد، يتصدر نتائج الاستطلاعين فيلم "عام آخر" البريطاني لمايك لي، يليه مباشرة الفيلم الفرنسي "عن البشر والآلهة" لزافييه بوفواه وهو الفيلم الذي أعجبني شخصيا أكثر من فيلم مايك لي لأنه يعتمد على التعبير السينمائي الأصيل الذي يبلغ مرتبة الشعر الصوفي، وفيه بلاغة موحية في الصورة، وإن كنت أيضا من المعجبين بفيلم مايك لي، غير أنه يعتمد أساسا على تحريك الممثلين وعلى الحوار والأداء التمثيلي. المشكلة ليست في وجود فيلمين فقط هما اللذان يستقطبان اهتمام النقاد بل في وضوح الفرق بينهما وبين باقي الأفلام المعروضة في المسابقة، وهو فرق كبير وشاسع. * الحوار التالي دار أمامي اليوم بعد مشاهدة الفيلم البريطاني "الطريق الأيرلندي" لكن لوتش، بين ثلاثة من النقاد الانجليز: - فيلم كله ثرثرة - بل كله صياح - بل كله شتائم - الأصح أن تقول إن كله يمتليء بكلمة واحدة هي fucking هذا الحوار المقتصد جدا يلخص للأسف "حالة استقبال الفيلم" الذي أدخلوه المسابقة في اللحظة الأخيرة، فظلموه، كما ظلمونا. * على مسؤليتي الشخصية أستطيع أن أؤكد أن مسابقة كان هذا العام هي الأسوأ منذ نحو عشرين عاما، وكأنما السينما العالمية أصبحت عاجزة عن إدهاشنا بالجديد المثير والممتع.. أو وكأن "ذراع" المهرجان الطويلة، عجزت عن الحصول على كل ما هو مهم. هذا العجز يلعب دون شك، لصالح مهرجان فينيسيا الذي بات مؤكدا حاليا أنه سيحصل على كل ما عجز "كان" عن الحصول عليه، لأسباب مختلفة منها عدم انتهاء العمل في بعض الأفلام. والأفلام التي تأكد ذهابها إلى فينيسيا هي "الأمريكي" بطولة جورج كلوني واخراج أنطون كوربن، و"نسخة بارني" بطولة داستين هوفمان واخراج ريتشارد لويس، و"سالومي المتوحشة Wild Salome ثاني فيلم يخرجه آل باتشينو، بعد "ريتشارد الثالث" عام 1996. وسيكون في فينسي أيضا أحدث أفلام كلينت ايستوود كمخرج "الآخرة". وستذهب أيضا إلى فينيسيا أفلام "فينوس السوداء" لعبد اللطيف قشيش (التونسي الذي يعمل في إطار السينما الفرنسية)، و"فالازاسكا" إخراج ميشيل بلاسيدو، و"في مكان ما" لصوفيا كوبولا، و"الطريق إلى لا شيء" لمونت هيلمان، و"ميرال" لجوليان شنابل، و"رافان" للمخرج الهندي ماني راتنام. 21 مايو مظاهرات وأفلام وتهديدات مظاهرتان مختلفتان كل الاختلاف عن يعضهما البعض شهدهما مهرجان كان السينمائي، أو بالأحرى، شاطيء الكروازيت الشهير حيث يقام المهرجان الذي يستقطب أكثر من خمسة وثلاثين ألف ضيف وصحفي وسينمائي. المظاهرة الأولى كانت في اليوم التالي ليوم الافتتاح، وهي مظاهرة لضباط الشرطة في بلدية مدينة كان، وكانت تهدف إلى الاحتجاج على الأحوال المتدنية التي يمارس فيها رجل الشرطة في المدينة عملهم، في حماية ضيوف المؤتمرات والمهرجانات الدولية. وهم يشكون من تدني مستوى ما هو متوفر لهم من خدمات وظروفهم الأمنية وأحوالهم المادية. وقد تمت المظاهرة أيضا في حماية الشرطة، أي أن الشرطة قامت بحماية متظاهريها في يوم أصروا فيه على إبراز معاناتهم أمام ضيوف المهرجان. ووالله الذي نفسي بيده، لو وقعت مثل هذه المظاهرة في أي من بلدان "جنوب أو شرق المتوسط" لفتحت النيران بدون أدنى تردد، ولوقع عشرات القتلى وربما أعلنت أيضا حالة الطواريء ونزلت قوات الجيش لكي تحتل المدينة وترهب وتروع سكانها، وهو ما يؤكد فرضية الدكتور الفيلسوف مراد وهبة في أن الفرق بيننا وبينهم يبلغ 1600 سنة.. ويضيف البعض عليها كلمتي "ضوئية طبعا"! أما المظاهرة الثانية فقد وقعت اليوم، الجمعة، وهي مظاهرة نظمها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف الذي يتزعمه جون ماريه لوبان، وجاءت احتجاجا على عرض فيلم "خارج عن القانون" الجزائري- الفرنسي المشترك، في مسابة المهرجان بل وفي المهرجان كله. وسبب الاحتجاج الذي شارك فيه نحو 1200 شخص، حسب تقديرات الشرطة، يعود إلى أن الفيلم يصور وقائع مذبحة مدينة سطيف التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين على أيدي قوات الاحتلال الفرنسي والمستوطنين الفرنسيين في 8 مايو 1945. وكان الجزائريون قد خرجوا للتعبير عن رغبتهم في استقلال بلادهم، ومطالبة فرنسا بالوفاء لها بوعدهم خلال الحرب العالمية الثانية، ضمانا لوقوف الجزائريين إلى جانب فرنسا ضد النازيين. ويتهم اليمين الفرنسي فيلم رشيد بوشارب بـ"تزييف التاريخ"، ويقولون إن الجزائرىيين هم الذين بدأوا الاضطرابات باعتدائهم على عدد من المستوطنين في يوم واحد، وإن قوات الأمن تدخلت لفرض النظام، وإنها لم تقتل أكثر من 1200 شخص، في حين تقول الأرقام الجزائرية أن العدد يصل إلى 45 ألف قتيل. مظاهرة الجبهة الوطنية اليمينية مرت بسلام، إلا أننا فوجئنا ونحن نصطف للدخول إلى قاعات العرض السينمائي لمشاهدة عروض الأفلام بعد الظهر، برجال الأمن يقومون بتفتيش يدوي لكل حقائب اليد، ويستبعدون منها كل زجاجات السوائل والمياه المعدنية، ثم يتم تفتيش الحقائب مرة أخرى قبل الدخول إلى القاعة بالإضافة إلى التفتيش اليدوي للأجساد. وقيل إن هذه الإجراءات جاءت تحسبا لقيام أنصار اليمين المتطرف بتفجير أحد مقار المهرجان أو إحدى قاعاته. هذا ما نتج عن عرض فيلم "خارج عن القانون".. أما الفيلم نفسه فهناك الكثير الذي يمكن أن يقال عنه، وهو ليس في صالح الفيلم، لا من الناحية الفنية، ولا من الناحية الفكرية، وسنتاوله في مقال خاص ينشر فيما بعد. وعموما يمكنني القول إن الفيلم كان مفاجاة "صادمة" بالنسبة لمعظم الحاضرين من النقاد والسينمائيين العرب الذين يتابعون أعمال المهرجان. وهو بمثابة انتكاسة في مسيرة مخرجه الذي تألق هنا قبل 4 سنوا بالضبط بتحفته الرائعة "البلديون" (أو أيام المجد). وهو يستخدم نفس مجموعة الممثلين الذين ظهروا في هذا الفيلم، ولكن شتان ما بين سياق وسياق آخر، وبين لفكر وفكر، وبين رؤية ورؤية.. والمرء يشعر بالحسرة وهو يكتب هذه الكلمات الآن! * لم يتبق سوى عرض الفيلم الأخير في المسابقة وهو الروسي "حرقته الشمس- 2" الذي يعد الجزء اثاني من الفيلم الذي أخرجه نيكيتا ميخالكوف قبل ستة عشر عاما. وقد عرض اليوم الفيلم المجري في المسابقة بعنوان "الإبن الحنون: مشروع فرانكشتاين".. وليس فيه ما يوحي بالرغبة في الكتابة عنه، بل يضيف كارثة أخرى من الكوارث إلى أفلام المسابقة. التكهنات بدأت بشكل جدي الآن حول ما هو الفيلم الجدير بالسعفة الذهبية؟ أنا شخصيا أميل إلى ترجيح كفة الفيلم الفرنسي- التحفة "عن البشر والآلهة" بسبب مستواه الفني الكبير. ولكن ربما يكون حظ فيلم "عام آخر" لمايك لي هو الأكبر. وقد تحدث مفاجأة كالعادة ويحصل فيلم "شعر" Poetry الكوري مثلا على الجائزة، أو ينالها أي فيلم لا يخطر على بال أحد، فما أكثر القرارات الغريبة التي تصدر عن لجان التحكيم، خصوصا عندما يغيب عنها "عقل" يمكنه ترشيدها وتوجيهها الوجهة السليمة. وسنرى ما ستسفر عنه مداولات لجنة تيم بيرتون على أي حال. 22 مايو * توقفت المجلات اليومية التي تصدر خلال المهرجان قبل يومين أو ثلاثة وكأنها قد استنفذت ميزانيتها المرصودة للتغطية اليومية وهو موضوع أثار تساؤلات عديدة هنا، خاصة بالنسبة ليومية هوليوود ريبوتر التي تتابع المهرجان. فجأة كأن هذه المجلات أصابتها سكتة قلبية. * شاهدت الليلة فيلم الختام الذي سيعرض الأحد مساء. وهو فيلم "الشجرة" للمخرجة الفرنسية الأصل الاسترالية جولي بيرتوتشيللي. فيلم يصلح كسهرة تليفزيونية، موضوعه حول امرأة فقدت زوجها حديثا وتربي ثلاثة أبناء، أصغرهم "سيمون" التي تغرم بالشجرة الكبيرة التي تقع في زمام المنزل، وهي تعتلي تلك الشجرة الضخمة الأسطورية، وتتصور أن والدها الراحل يحدثها ويهمس لها عن طريقها. والأسرة تحرص كل الحرص على عدم تخفيف فروع تلك الشجرة رغم أنها تهدد المنزل بعد أن بدأت تزحف عليه. وعندما تقوم عاصفة، تتسبب الشجرة بفروعها في تحطيم محتويات المنزل مما يدفع الأسرة إلى مغادرته. المرأة تحاول اقامة علاقة مع رجل يميل إليها ويساعدها في تسيير أمورها اليومية، غير أن هذه العلاقة تواجه برفض من سيمون المرتبطة بوالدها الراحل كثيرا، فتنتهي العلاقة لكن النهاية تظل مفتوحة، فمن الممكن أن تعود المرأة واسمها"دون" (أي فجر) لاستئنافها مجددا. فيلم فيه من السذاجة أكثر مما فيه من العمق، وهو يكمل دائرة الاختيارات السيئة للأخ تييري فيرمو، ويجعلنا نتحسر على العصر الذهبي للمهرجان تحت إدارة جيل جاكوب.. ذلك العصر الذي شاهدنا فيه كيروساوا يقدم آخر أفلامه "مادادايو"، وولادة تشين كايجي بالفيلم الكبير "الوداع ياخليلتي"، والأرجنتيني المخضرم فرناندو سولاناس يقدم تحفته "الجنوب" El Sur.. كانت أيام كنا فيها نتطلع إلى العلا! * فنادق كان رفعت أسعارها خمسة أضعاف السعر العادي لاستنزاف ضيوف المهرجان متصورين انهم جميعا من المليونيرات ومنتجي الأفلام، وهو تصور من أحط ما يمكن في دولة يفترض أن نسبة "التعليم" فيها مرتفعة، لكنه الجشع الفرنسي التقليدي والرغبة الشرسة في الاستغلال، ولكن المدهش أن البلدية والسلطات تغض الطرف باستمرار عن هذا الاستغلال البشع، تحت شعار "حرية السوق" أي حريتي كتاجر في نهش لحمك. فنادق النجمتين التي يبلغ إيجار الليلة الواحدة في موسم الذروة أي في عز أشهر المصيف، 60 يورو، رفعت أسعارها إلى 250 يورو في الليلة، شريطة أن تقضي 12 يوما أيضا، فإذا أردت أن تبقى أسبوعا فقط، فليس لك مكان إلا لو كنت على استعداد لدفع قيمة الـ12 يوما كاملة. وهناك فندق من فنادق النجوم الثلاثة يتقاضي أصلا 80 يورو في الليلة رفع سعره إلى 400 يورو في الليلة مرة واحدة، هكذا بكل وقاحة، دون أن يجرؤ أحد على الاعراض. المشكلة أن نقاد السينما والصحافة السينمائية ليس لهم جهة يمكنها أن تتدخل لصالح حماية مصالحهم، بل ان ادارة المهرجان يبدو أيضا أنها تتواطأ مع أصحاب الفنادق والمطاعم من اللصوص، مقابل حصول المهرجان على نسبة معينة من الغرف مجانا للضيوف المحظوظين الذين يدعوهم المهرجان وينزلهم في الفتادق القريبة. ولعل الأمر الإيجابي أن نسبة الإشغال في الفنادق تراجعت كثيرا جدا هذا العام بسبب هذا الارتفاع المخيف في الأسعار، لعله يرغم اللصوص على الحد قليلا من حجم سرقاتهم. كان هناك صديق لنا يقول إن المرء يجب أن يذهب إلى كان حتى لو نام في خيمة على البحر!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger