المخرج المولود عام 1959 فى اسطنبول بتركيا، والذى درس الإلكترونيات فى جامعة البوسفور، يقدم فى فيلمه مستوى شديد النضج فى توظيف أدوات السينما لخدمة موضوعه ، أو بمعنى أدق الحالة التى وضع فيها أبطاله ، ولذلك لم يكن غريبا أن يفوز ( نورى بيلجى سيلان ) بجائزة أفضل إخراج فى مهرجان كان 2008 ، وأن ينافس الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى ، وأظن أنه كان يستحق الفوز بجوائز أخرى فى مهرجان ( كان )بسبب مستواه الرفيع فى كل العناصر تقريباً .
(القرود الثلاثة ) ليس الفليم الأول الذى أشاهده لهذا المخرج المختلف الذى قدم من قبل أفلاما قليلة مثل (ضباب مايو) و( مسافة)، فقد شاهدت له فيلما سابقا لا ينسى هو (أجواء) أو climates الذى أنتج فى عام 2006، وقد حصل هذا الفيلم الذى أخرجه وكتبه وقام ببطولته ( نورى بيلجى سيلان )على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان، و( أجواء) فليم يحمل الكثير من أسلوب نورىالذى سنجده أيضا فى ( القرود الثلاثة). ليست هناك حدوتة تقليدية لها بداية ووسط ونهاية ، ولكن مخرجنا مهموم طوال الوقت برسم ونقل حالة نفسية أو اجتماعية لبشر قلقين فى مواقف كتبت بعناية .هذه الحالات لاتنقل عن طريق الحوارات الطويلة ولكن من خلال امكانيات الصورة الثرية وتكويناتها المذهلة ، وعن طريق الإيقاع البطئ واللقطات الطويلة المستمرة التى تشعرك بضغط الزمن وسطوته على الشخصيات ، الممثلون أيضا هم محور كل شئ بقدراتهم على التعبير عن أعقد الإنفعالات والعواطف الداخلية، والبيئة المحيطة هى كذلك بطل آخر حاضر بقوة فى تعبيرها عما لايستطيع البشر التعبير عنه . نحن أمام سينما من نوع خاص من الصعب أن تحكى عنها ولكن عليك أن تشاهدها وتعيش تجربتها . ليست هناك حواديت تقليدية ولكن هناك شخصيات ومشاعر وأحاسيس انسانية مركبة . ( أجواء ) مثلا مجرد مشاهد متصلة طويلة تعبر عن أزمة شخصيات متقلبة محاصرة بأجواء الطبيعة الأكثر تقلباً : (عيسى) مهندس معمارى فى أواسط العمر يذهب مع صديقته ( بحر) الى منطقة أثرية قرب البحر ، إنه يبدو شديد الملل والضجر والإنزعاج ، وهى أيضا شديدة القلق والإضطراب ، حتى وسط الأصدقاء يخرج توتر( بحر) فى شكل ضحكات هيستيرية . يطلب منها (عيسى) الإنفصال ويعود الى اسطنبول فى فصل الصيف ، يودعها ويركب القطار .
هذا هو الإطار العام للمواقف ولا أقول للأحداث ، ولكن ما لايمكن وصفه هوالجو النفسى ومعاناة شخصيات ثلاث حائرة تبحث عن شئ مفقود ، الكل يبحث : عيسى وبحر وسراب . تستطيع القول ان عيسى حائر وممزق بين البحر والسراب . ربما يحلم أيضا أن يكون له طفل يؤنس وحدته وسط هذه الحياة الموحشة . مشكلته الأخطر أنه متقلب مثل الطقس ( وما سمى الإنسان إلا لنسيه .. وما سمى القلب إلا لأنه يتقلب ). هناك تناقض واضح جدا يقدمه الفيلم حول عيسى ، عقليته علمية وكل شئ محسوب بأقل هامش من التسامح وإلا انهارت المبانى التى يصممها ، ولكن حياته الخاصة أمر آخر حيث تحركه الغريزة والعاطفة الجياشة والمزاج العنيف مثلما شاهدنا فى علاقته مع سراب . حالة خاصة ولكنها أيضا عن الإنسان عموما فى تناقضاته الداخلية وفى صراعته التى لن يحسمها – فيما يبدو – إلا الموت. كل هذه المعانى يقدمها نورى بيلجى سيلان بأسلوب بصرى مذهل وبراعة فى توظيف عناصر المكان والطقس لخدمة موضوعه وشخوصه المعزولين تقريبا عن الآخرين ، الحر والبحر العاصف يعبران عن الثورة المكبوتة داخل عيسى وبحر . ثبات الكاميرا فى لقائهما مع الأصدقاء فى المطعم يترجم تجمد علاقة الإثنين الى درجة الركود . الطقس الحليدى يزيد الحالة كآبة وجعلها ثقيلة مثل جبل الجليد . النهاية نفسها مفتوحة لأن بحر التي عادت من جديد الى عيسى قدتختفى الى الأبد ، ربما تعود الى عيسى فيقترح عليها الإنفصال ، كل الأمور ممكنة مادام الإنسان يحاكى الطبيعة فى تقلبها ، ويحاول أن يفهم نفسه فلا يستطيع !
فيلم القرود الثلاثة يتناول أيضا بإيقاع بطئ متأمل رحلة فى نفوس ثلاثة أشخاص يكونون أسرة صغيرة متماسكة ظاهريا ولكنها ليست كذلك عندما تدخل الى التجربة . المواقف البسيطة والحدث الأكثر بساطة يتحول هنا الى تراجيديا انسانية عن خطورة الصمت والتنازل . الغريب أنه رغم أن الشخوص الثلاثة اتفقوا على تقليد القرود الثلاثة أصحاب الشعار الشهير لا أسمع .. لا أرى .. لا أتكلم ، ورغم أنهم اتفقوا على التواطؤ ضد الحقيقة ، إلا أنك تشعر بالتعاطف مع ضعفهم الإنسانى ، وقد نجح السيناريو الذى اشترك فى كتابته نورى بيلجى سيلان مع ايبرو سيلان وإركان كيسال فى تحقيق هذه الحالة الفريدة ، وفى صياغة هذه الرحلة الممتعة داخل نفوس بشرية جعلها الفيلم عارية ومكشوفة.
الأسرة التى تسللت الكاميرا الى منزلها مكونة من الأب واسمه أيوب، ويعمل سائقا عند رجل أعمال وسياسي معروف يدعى سىرفيت، وهناك الزوجة هاسر ، وهى امرأة فى منتصف العمر تعمل فى أحد المصانع ، والشخصية الثالثة هى الإبن اسماعيل . إنه شاب عاطل تعثر فى دراسته فرسب مرتين ، أما الحدث الصغير الذى سيعرى النفوس فهو قبول الأب السائق أن يدخل السجن بدلا من رجل الأعمال السياسى الذى ارتكب حادثا بسيارته أدى الى قتل أحد الأشخاص . رجل الأعمال سيقدم اغراءه الى الأب السائق أيوب فى صورة صفقة : التهمة ستكون القتل الخطأ وعقوبتها لن تزيد عن شهور تتراوح بين 9 شهور و12 شهرا .. وعند الخروج من السجن سيحصل السائق على مكافأة ضخمة. الفيلم يبدأ بحادثة سيارة رجل الأعمال المسرعةالتى تدخل الى عمق الكادر المظلم ، ولكن قبول أيوب للصفقة هو الذى سيفجر الصراع. لقد جاء قبوله سهلا ميسورا ، ظل سيرفيت مسيطرا ومتحدثا،وكان أيوب صامتا ومستعدا للتنازل مما سيجعل الآخرين مستعدين للتنازل بسرعة وبسهولة!
الحادث وقبول الصفقة هما المقدمة ، بعدها سينقسم بناء الفيلم الى ثلاثة أجزاء متداخلة تعمل على تأزيم الصراع وتعرية النفوس . الجزء الأول بطله الإبن اسماعيل ، والثانى بطلته الأم هاسر، والثالث بطله الأب أيوب بعد خروجه من السجن . لن يفعل اسماعيل شيئا بعد دخول والده الى السجن . ينام طوال اليوم فى المنزل فتلومه الأم . يقفز السور المقابل ، ويعبر شريط القطار لكى يذهب لزيارة والده فى السجن. فى مشهد آخر يقترح على أمه أن تذهب الى رجل الأعمال سيرفيت لكى تسحب جزءا من اموال المكافأة التى يفترض أن يحصل عليها الأب بعد قضاء فترة العقوبة . الإبن يريد المال لشراء سيارة أعجبته، والأم ترفض فى البداية خوفا من غضب الزوج عندما يعرف، ولكنها سرعان ماتوافق على زيارة سيرفيت.
يعود اسماعيل يوما الى المزل بعد أن أخبر أمه أنه سيزور والده فى السجن ، وأخبرته هى أنها ستخرج فى مشوار ، فجأة يسمع صوتها مع رجل لا نراه ولكننا نشعر أنه سيرفيت. لن يقتحم عليهما المكان . سينتظر ويخرج ليعود . يسأل أمه لماذا لم تخرج ؟ لا يقتنع بإجابتها. يتشاجران فيصفعها فى أقسى مشاهد الفيلم فى حين تجلجل على شريط الصوت عبارات الأذان.
فى زيارات اسماعيل للأب أيوب يسأله الأب لماذا لم تحضر زوجته ؟ يرد الإبن ردا غامضا ولكنه سيؤكد أن كل شئ على ما يرام . فى مشهد آخر هام يحلم اسماعيل بأخيه الصغير المتوفى يدخل عليه ووجهه ملئ بالكدمات . لن نعرف الكثير عن الطفل الميت الذى سيزور الأب مقبرته بعد خروجه من السجن . سيظل الطفل والكدمات التى تغطى وجهه لغزا حتى النهاية : هل ضربه الأب مثلا حتى الموت وتواطأ الجميع على إخفاء الحقيقة ؟ فى كل الأحوال سيظل شبح الإبن يؤرق أيوب واسماعيل ، ويذكرهما بمأساة غامضة ، وربما بتواطؤ لا نعرف عنه شيئا . الطفل فى الحقيقة هو حصاد الصمت المر على المدى الطويل .
مع خروج الأب سيتصدر الأحداث . من الواضح أنه يشك فى هاسر زوجته . يثور عندما يعرف أن ابنه حصل على جزء من المكافأة ليشترى سيارة . سيعانى من القلق عندما يدق تليفون زوجته وهى تستحم . يمسك الجهاز فيسمع صوت رجل يتساءل بحدة : " لماذا كنت أمام منزلى ؟! انه بالتأكيد صوت سيرفيت معتقدا أن هاسر تسمعه . فى لقائهما الأول تحاول الزوجة أن تغرى أيوب ليستمتع بجسدها ، ولكنه يعاملها بقسوة . يحاول أن يحصل على اعترافهابوجود علاقة مع رجل . رغم ذلك لن ينسى أيوب أن يذهب الى سيرفيت للحصول على بقية المكافأة . يقول له السياسي ورجل الأعمال فى كلمات موجعة :" لا تشكرنى لأنى حصلت منك على ما يزيد عن النقود التى دفعتها " .
فى مشهد آخر قوى بأداء المشخصاتية الكبار ، تطارد ( هاسر) (سيرفيت) على شاطئ البحر . تركع تحت قدميه وتقول له :" اننى أحبك " بينما يبدو هو ثائرا وخائفا على سمعته. مع تغير زاوية الكاميرا تشعر أن شخصا ما يراقبهما . على صوت طرقات يستيقظ ايوب . الشرطة تقتحم المكان . يُستدعى هو وزوجته للتحقيق فى جريمة مقتل سيرفيت . يقول رجل الشرطة لأيوب ان زوجته كانت تتصل بالقاتل . فى المنزل يعترف اسماعيل لأمه أنه القاتل . يعود الأب منهارا . ينظر الى هاسرويتخيل أنها تلقى بنفسها من الشرفة . يخرج من المنزل يرافقه على شريط الصوت عبارات الأذان تتردد من مسجد قريب . يعود للمنزل ليجد هاسر تحاول الصعود الى سور الشرفة. يقول لها : " لا داعى للسخافة " . فى المشهد الأخير الطويل للفيلم نرى أيوب على سطح المنزل وحيدا ضئيلا . المنزل يظهر كاملا أسود اللون تحت سماء رمادية ملبّدة بالغيوم . يخترق الصمت صوت الرعد وصوت قطار سريع عابر . تهطل الأمطار لتغسل – ربما – النفوس العارية والخطايا المسكوت عنها .. وينتهى الفيلم البديع .
أن تخسر نفسك
نجح نورى بيلجى سيلان أن يقول كل شئ عن أبطاله الثلاثة : الأم المكبوتة والمحرومة ، والإبن الذي يشعر بالعار لأنه أحد اسبابه ، والأب الذى توهم أنه يستطيع ان يشترى اسرته اذا باع نفسه ثم اكتشف أن تنازله هو الذى جعل تنازل الآخرين أكثر سهولة. الغريب حقا أن فكرة الفيلم والإطار العام للأحداث بقيام السائق بعقد صفقة مع الرجل الثري ودخوله السجن بدلا منه أوبدلا من ابنه ثم انهيار اسرة الرجل نتيجة هذا التنازل ستجدها بشكل آخر فى ميلودراما متواضعة فى الفيلم التركى الذى انتج فى السبعينات من القرن العشرين وعنوانه (بابا) بطولة الممثل والمخرج التركى الكبير يلماظ جوناى، وعن هذا الفيلم اقتبسنا الفيلم المصرى( ومضى قطار العمر) للراحل فريد شوقى ، ولكن (القرود الثلاثة) حوّل البكائيات الساذجة الى فرصة نادرة لدراسة النفس البشرية وتعرية تناقضاتها . أيوب واسماعيل وهاسر يعيشون معا ولكن لكل منهما عاله الخاص وسره الدفين . كلهم التزموا الصمت والتآمر الذ ى قادهم الى المزيد من الصمت والتآمر. صمتوا فى البداية على مأساة الطفل الصغير الذى فقد حياته ربما بسبب عنف الأب، ثم صمتوا على صفقة الأب مع رجل الأعمال ، وصمت الأبن على علاقة امه مع سيرفيت، وصمت الأب على نفس العلاقة رغم شعوره القوى بوجودها، وهاهم يصمتون الآن لحماية اسماعيل رغم اعترافه للأم بارتكاب الجريمة . النهاية المفتوحة ترجح أن الصمت والتواطؤ سيستمر، ويلاحظ أن الصمت يلعب دورا لايقل أهمية عن الحوار القليل لدرجة تجعلك تتحدث عن شريط للصوت وآخر للصمت .
(القرود الثلاثة) هو أيضا فيلم مخرج بامتياز ليس فقط لأنه مشارك فى الكتابة ولكن لأن ملامح عالمه الذى شاهدناه فى (أجواء) تبدو واضحة هنا تماما : الفيلم دراسة نفسية واجتماعية والأحداث القليلة ليست سوى ادوات للكشف والتعرية . اللقطات الطويلة التأملية مع الأستغلال الرائع لمفردات المكان حيث المنزل الأسود المنعزل أمام شريط القطارات المزمجرة . صورة (جوكان تيريكاى) التى نقلت أجوء ضبابية تثير الوحشة . شريط الصوت والصمت الثرى الذى يمتزج فيه صوت القطار مع صوت الأذان ورنة تليفون هاسر بأغنيته الرومانسية . كل صوت تم توظيفة ليعبر عن تناقضات الأسرة والصراع العنيف بداخلها كشخصيات تراجيدية بامتياز . أما أداء ابطال الفيلم الرائعين فيستحق الدراسة الخاصة ويستحق تدريسه لطلاب معاهد التمثيل : يافوز بيجول فى دور الأب أيوب ، وهاتيس أصلان فى دورهاسر، و أحمد رفعت سونجار فى دور اسماعيل ،وإركان كيسال فى دور سيرفيت ، وهو من المشاركين فى كتابة السيناريو . لاأعرف بالضبط كيف لم يفز هؤلاء الكبار بجائزة التمثيل فى مهرجان كان ؟! كل واحد منهم امتزج بالشخصية التى لعبها رغم صعوبتها ، وكل واحد لديه مشاهد لاتنسي لا يقل الأداء فيها عن أكبر أساتذة التشخيص فى العام . لاتوجد مبالغات عاطفية من أى نوع رغم أن الأمر يغرى بذلك . كل شئ تحت سيطرة مخرج كبير حقا يعرف ما يريده بالضبط ، ولايرتضى بديلا عن أن تضع نفسك موضع شخصياته ، وأن تشعر مثلهم وتتعاطف وتحس وتفكر وتتأمل فى نفس الوقت !
ليس أمام أيوب سوى الصبر وإكمال لعبة التنازلات حتى النهاية . ليس عليه سوى أن يلوم نفسه لأنه هو الذى بدأ اللعبة لذلك اعتبر محاولة زوجته الإنتحار نوعا من السخف فى ظل تمسكه هو بالحياة . الفيلم الكبير يختبر الإنسان من جديد ، ويكشف لنا كم نحن ضعفاء . سؤال الفيلم الهام قديم وعابر للزمان والمكان : لماذا نبيع أشياء ثمينة مقابل أشاء رخيصة؟ ولماذا يختار الإنسان أحيانا أن يكسب الآخرين فى مقابل أن يخسر نفسه؟ انه سؤال السيد المسيح الذى لم نجد له إجابة من مئات السنين ، ويبدو أننا لن نجد إجابة السؤال الصعب حتى نهاية الحياة !
0 comments:
إرسال تعليق