الأربعاء، 19 مايو 2010

يوميات كان 7: "عن الآلهة والبشر" وغيرهم


في تقديري الشخصي أن فيلم "عن الآلهة والبشر" الفرنسي لزافييه بوفواه هو الفيلم الأفضل حتى الآن من بين أفلام المسابقة، يليه فيلم إيناريتو "جميل".
الفيلم الأول يجسد تفاصيل العلاقة بين مجموعة من الرهبان الكاثوليك في دير بقرية جبلية بالجزائر، وبين سكان تلك القرية، في معالجة شفافة رقيقة، تمهيدا للحدث الذي تعرفه جميعا أي تعرض الدير في التسعينيات لاعتداء من جانب أفراد ينتمون إلى ما يعرف بالجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر واختطاف الرهبان (أو معظمهم) وإعدامهم بدون أي مبرر رغم ما يقدمونه من أعمال الخير للمحيط السكاني الذي يقيمون في إطاره.
فيلم لا يدين ولا يبريء، لا يشوه دينا لحساب دين، بل على العكس يعد من أكثر الأفلام التي تعاملت باحترام وتقدير كبيرين مع الدين الإسلامي.
إنه فيلم عن حالة الجنون التي وصلنا إليه الآن بسبب الهوس بالفكرة الدينية. فيلم لا ينبغي أن يثير غضب أحد بل على العكس تماما، فهو يجب أن يثير التعاطف مع أولئك الذين اختاروا البقاء ومواجة الأقدار بكل ما تأتي به، على التخلي عن مهمتهم والهرب مفضلين النجاة بأنفسهم في الأرض.
هذا فيلم عميق في فلسفته الإيمانية، بديع وخلاب في تصميم مشاهده ولقطاته. وسأكتب عنه تفصيلا بعد أن ينتهي مولد مهرجان كان.

"جميل"
أما فيلم إيناريتو، فهو لا يبتعد فلسفيا عن فيلمنا هذا، في كونه ايضا يصور التدهور الذي بلغه عالمنا حاليا، قمع الإنسان للإنسان، النزول إلى الدرك الأسفل، ومع ذلك القدرة على الاحتفاظ من الداخل، بنوع من البراءة والقيم الروحانية. هذا التناقض يجسده ايناريتو المخرج المؤلف، من خلال بطله الفردي (الذي يجسده خافيير بارديم) كرجل يعيش على استغلال الآخرين ولكنه يبدأ في صحوة ضمير ويقظة روحية شاملة تعيد إليه إنسانيته عندما يدرك أنه قد أصبح مقضي عليه بعد ن يعلم باصابته بمرض السرطان الذي تمكن منه.
إنه فيلم عن الحياة في مواجهة الموت، عن الأب الذي يريد أن يستعيد أبوته، وأن يعوض ما فاته ولكن الوقت لم يعد متاحا أمامه، بل والأسوأ أيضا أنه وهو في سبيله إلى انقاذ الروح المعذبة، يتسبب في مقتل 25 إنسانا من الأبرياء الباحثين عن فرصة للتنفس والعيش في عالم تمزقه التناقضات.
أداء بارديم التمثيلي من أفضل ما شاهدنا حتى الآن وربما ينال عن دوره هنا جائزة أحسن ممثل.
هناك مشكلة واحدة فقط وهي مشكلة أراها كبيرة، تتمثل في صعوبة ضمان التعاطف من طرف المشاهدين مع شخصية بمثل هذه الخلفية الرديئة، شخصية واقعة في مستنقع الرزايا البشرية، تتعيش من استغلال الآخرين، كيف يمكننا أن نغتفر لها الأعذار. لا أدري. هذه النقطة عموما بدت محيرة لي.

الثلاثاء، 18 مايو 2010

يوميات كان 6: اختيارات مخيبة للآمال.. ولكننا في انتظار القادم


مر الأسبوع الأول من مهرجان كان والمسابقة تكشف يوما بعد يوم عن كارثة تلو أخرى، أو على الأقل، لا تكشف لنا عن التحف التي كنا ننتظرها، وهو ما يجعلنا نقول إن الاختيارات هذا العام لم تكن موفقة.
فمن بين 19 فيلما عرض حتى الآن 9 أفلام ليس بينها سوى فيلم مايك لي "عام آخر" والفيلم الاسباني المكسيكي "جميل" لجونزاليس، من الأفلام التي "فيها أمل" لكنها أقل من أن نعتبرها من "التحف" السينمائية. ولاشك أن اختيار أفلام مثل "الغضب" لتاكيشي كيتانو، و"في الترحال" الفرنسي لماتيو أمالريك، و"تشونج كينج بلوز" وغيرها، لم يكن موفقا، كما لم يكن اختيار فيلم "رجل يصرخ" للمخرج التشادي محمد صالح هارون موفقا وكان الفيلم جديرا بالعرض في قسم "نظرة خاصة".. بل يمكنني القول أيضا أن "أمير مونبنسييه" الفرنسي لتافرنييه لا يرقى للتسابق في كان رغم ولع عدد من النقاد الفرنسيين به وترشيحهم له لنيل جائزة الإخراج، لكني وجدته مليئا بالحشو والتفصيل التاريخية اتي تتعلق بتقاليد البلاط الفرسي في القرون الغابرة، ووجدت حبكته فيها الكثير من التكرار والضرب على نفس النغمة والابتعاد عن التركيز الذي كان مفترضا على شخصية راعي الأميرة ومرشدها (النبيل الذي يحبها في صمت لكنه لا يحلم بأن ينال حبها) بل ويساعدها في تحقيق أحلامها مع الحبيب المنتظر رغم علمه بهدم اخلاصه لها، ولكن الفيلم انحرف في اتجاه ادخال الكثير من الشخصيات الأخرى، والتباري على نيل قلب الأميرة، وافتعل مبارزات لا تتم، وحروب لا معنى لها، وتطويل في مشاهد لا معنى لها مثل مشهد استقبال الملكة للأميرة وغيره. وعموما هذا النوع من الدرامات التاريخية لا يجيد الفرنسيون صنعه باستثناء وحيد هو فيلم "سيرانو دي برجراك" لأنهم يميلون إلى توجيهه لأنفسهم بتفاصيل لا تهم أحدا غيرهم.
وكان فيلم "أورورا" يستحق أن يدخل المسابقة، كما كان يستحق في رأيي الفيلم الوثائقي العظيم "العملية من الداخل" Inside Job لكنه استبعد خارجها ربما لأنه ليس من اخراج مايكل مور فقد استبعد رغم أنه يتجاوز فيلم "الرأسمالية قصة حب" لمور، وعن الموضوع نفسه، أي أزمة الوضع الاقتصادي العالمي والمتسببين فيها من مجرمي السياسة الأمريكية.

لازلنا بالطبع في انتظار فيلم رشيد بوشارب "الخارجون عن القانون" وهو كما يجب أن نؤكد، فيلما فرنسيا مصنوع بإرادة فرنسية وتمويل فرنسي، الذي حصل على تمويل وامكانيات هائلة لاعادة تجسيد المذابح التي راح ضحيتها الآلاف من الجزائريين في 1945 بعد اعلان نهاية الحرب العالمية الثانية، والمطالبة الشعبية الجزائرية بالاستقلال الفوري حسب وعود فرنسا. وجاء التمويل بنسبة كبيرة من فرنسا، مع مشاركة انتاجية (3 مليون دولار) من المنتج التونسي طارق بن عمار، و4 مليون دولار من الحكومة الجزائرية وشركة النفط الجزائرية، والباقي وهو 13 مليون دولار جاءت من الشركات الفرنسية. وعموما المؤسسة الفرنسية تقبل النقد والجدل حول قضايا التاريخ، كما قبلت عام 2006 الطرح التاريخي حول دور المقاتلين من بلدان المغرب العربي في صفوف القوات الفرنسية في الحرب العالمية الثانية.
ولازلنا أيضا في انتظار الفيلم الأمريكي الوحيد في المسابقة "لعبة عادلة"، والفيلم الفرنسي "بشر وآلهة" وله صلة أيضا بالإرهاب القادم من الجزائر إلى فرنسا تحت ستار التأسلم.
كما لم يعرض بعد الفيلم البريطاني الثاني في المسابقة "الطريق الأيرلندي" لكن لوتش الذي ربما يحمل مفاجأة ثقيلة العيار من مخرج معروف بانتزاع الجوائز في كان.
وأنا شخصيا أيضا في انتظار الفيلم الروسي "حرقته الشمس 2" للمخرج الروسي الكبير نيكيتا ميخالكوف بعد أن كان الفيلم الأول أو الجزء الأول من الفيلم قد هزني بقوة قبل نحو خمسة عشر عاما. وغدا نعود ونرى.. فإل اللقاء.

الاثنين، 17 مايو 2010

يوميات كان 5: الولع بالدماء على الطريقة اليابانية!


منذ أن بدأ الممثل الياباني تاكيشي كيتانو إخراج الأفلام في أواخر الثمانينيات، وأنا أتابعه بقدر ما أستطيع، وفي معظم الأحيان، بقدر ما أطيق، فأفلامه تمتليء بالكثير من العنف والدماء وتمزيق الأوصال وغير ذلك من المشاهد البشعة التي تقشعر لها الأبدان.
وقد أخرج كيتانو حتى الآن 16 فيلما، منها أفلام تركز على عالم الياكوزا، أي المافيا اليابانية، وصراعاتها مع غيرها من عصابات الجريمة المنظمة. ويقوم كيتانو نفسه عاد، بدور البطولة في مثل هذا الأفلام، ويحاول أن يصنع لنفسه شخصية مميزة، للبطل البارد، قليل الكلام، الذي تبدو في عينيه بعض البراءة الطفولية، إلا أنها نظرات تخفي ميلا ساديا للعنف.
ورغم كل ما يكمن من عبثية في أفلام تاكيشي كيتانو، أقصد عبثية، ليس بالمعنى الفلسفي، بل بمعنى أنها لا تقول شيئا، ولا تخفي أشياء وراء تلك الصورة التي يقدمها لعالم الياكوزا، مما يمكن أن تعكس لنا "فلسفة" خاصة، أو رؤية ما للعالم، كما كانت حالة مخرج مثل سام بكنباه مثلا في السينما الأمريكية، بل إن العنف عند كيتانو، هو عنف مجاني، يجعل منه شيئا شديد الصدمة للعين، حتى المدربة منها، كما يجعله في الوقت نفسه، "كرتونيا" أي مبالغا فيه للغاية، بحيث يصبح عند التلقي "غير واقعي" بل ويثير ضحكات السعادة والمتعة عند معظم مشاهدي أفلامه. ويجب أن نعلم أن له عشاقا كثيرين عبر العالم، بل ومن بين نقاد السينما المتخصصين والصحافة السينمائية، في المهرجانات السينمائية التي ترحب بعرض أفلامه بل وعرضها أيضا داخل مسابقتها الرئيسية التي يتبارى فيها عادة عدد محدود من بين أفلام العالم، للحصول على جائزة أو أخرى، وإن لم يكن، فلعل المشاركة في المسابقة، كما في حالة مهرجان كان مثلا، تعد شرفا في حد ذاتها للفيلم المشارك، الذي يكون قد وقع الاختيار عليه من بين مئات الأفلام التي تقدمت.
وهنا تحديدا تكمن مشكلة مهرجان كان، الذي أتى بالفيلم الأحدث لتاكيشي كيتانو، وهو فيلم "غضب" Outrage لعرضه داخل مسابقة كانت أصلا تعاني من قلة توفر الأفلام التي تصلح للتسابق، ولكي تكون واجهة مميزة لسينما العالم في 2010، خصوصا وأن المهرجان كافح لكي يصل بعدد أفلام المسابقة في النهاية إلى 19 فيلما، وهو عدد قليل مقارنة مع السنوات العشر الأخيرة مثلا.
وقد شاهدنا الفيلم، وجاء كما هو متوقع، كعمل يلهو بالعنف، ويتفنن مخرجه (الذي بدا أصلا كممثل، شارك في 47 فيلما حتى الآن، وكان قد لفت أنظارنا بقوة في "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" للمخرج الكبير ناجيزا أوشيما عام 1982).

أما هنا فكيتانو الذي يقوم ببطولة فيلمه كالعادة، يبتكر فقط في تصوير مشاهد التنكيل بخصومه، من مشاهد قطع الأصابع التي تتناثر في صحن من صحون حساء الخضراوات الذي يقدمه الخادم في المطعم إلى الزبون الذي طلبه، إلى شق فم أحد الخصوم بشفرة حادة مما يؤدي إلى النزيف الشديد، إلى تصويب المسدسات فوق الرأس مباشرة ثم تفجيرها، إلى ربط رجل بحبل بينما هو داخل سيارة ثم تحريك اسيارة بحيث يشنق، إلى القتل الجماعي لعشرات الأشخاص بالرصاص، إلى استخدام منشار كهربائي لنشر جمجمة رجل حي، وغير ذلك الكثير جدا من المشاهد التي لا تكافي أبدا بالإيحاء، بل تصور التفاصيل الدقيقة لعمليات القتل والإعدام الجماعي وما بعدها أيضا، أي ترك على الدماء والإصابات التي ألمت بالأجساد، كما لو كانت تريد أن تجعل من العنف، سيمفونية خاصة للمتعة، أي أن تحوله إلى شيء تألفه العين البشري بل ويمكن أيضا أن يصبح أداة للاستمتاع الخاص.
والغريب الذي أدهشني كثيرا، أن القاعة التي عرض بها الفيلم امتلأت عن آخرها بالصحفيين، الذين اصطفوا في صف طويل ممتد قبل عرض الفيلم بنحو 45 دقيقة، وهو أولا من أطول الصفوف التي وقف فيها في كان حتى الآن على أي فيلم.
ثانيا: أدهشني أن عددا قليلا جدا، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة (هذا إذا لم تكن قد قطعت في خضم تيار العنف الدموي في الفيلم!) قد غادر القاعة أثناء عرض الفيلم، في حين أن عشرات الصحفيين أحيانا ما يغادرون أثناء عرض أفلام أقل من هذا الفيلم كثيرا في مجانيتها واستخفافها بالعقول. أخيرا، مما يثير فضولي بشدة وأنا أشاهد أفلام تاكيشي كيتانو، تلك المتعة الشديدة التي تسيطر على المشاهدين، حتى من النقاد والصحفيين، وهي متعة تجعلهم يضحكون بسعادة بالغة في مشاهد العنف والإغراق في سفك الدماء، ولا أعرف ما إذا كان هؤا الضحك لأنهم يعتبرون ما يشاهدونه نوعا من الكوميديا (وهو ما لا أجده كذلك أبدا!) أم أنهم يحاولون إخفاء مشاعرهم الحقيقي عن طريق الضحك..
أيا كان الأمر، أعتقد أن هذه الجوانب كلها تعكس بلوغ ظاهرة "تاكيشي كيتانو" في الغرب، حدا مرعبا بالفعل!
يحضرني في هذا المجال قول معروف لمنتج انجليزي لأفلام دراكولا.. مصاص الدماء في الماضي. هذا القول يتلخص في أنهم في شركته، كانوا عادة يصنعون ثلاث نسخ من أفلام دراكولا. النسخة الموجهة للجمهور البريطاني كان يكفي فيها أن يضع البطل الخنجر على صدر دراكولا النائم في تابوته، ثم يرفع المطرقة تأهب لأن يطرق فوق الخنجر للقضاء على الوحش الأسطوري قضاء مبرما.
وفي النسخة الثانية الموجهة للجمهور الأمريكي، كان يجب أن نرى البطل وهو يهوي بالمطرقة فوق الخنجر.
أما في النسخة الثالثة الموجهة للجمهور الياباني، فكان يجب أن تتفجر الدماء في بحر هائل بحيث تغرق الشاشة تماما!

الأحد، 16 مايو 2010

يوميات كان 4: وودي ألين ومايك لي.. عوامل مشتركة

أنطوني هوبكنز مع نعومي واطس في كان


المخرج الأمريكي الكبير وودي ألين يحضر الدورة الـ63 من مهرجان كان في إحدى تلك المرات النادرة بعد أن ظل سنوات طويلة يعتذر بل ويمتنع تماما عن حضور المهرجانات الدولية وخصوصا حفل الأوسكار.
هنا، وودي حاضر بفيلمه الجديد "ستقابلين رجلا غريبا طويلا أسمر". في الفيلم عدد من كبار الممثلين والمشاهير مثل نعومي واطس وأنطوني هوبكنز وأنتونيو بانديراس وجوش برولين وجيما جونز وفريدا بنتو (بطلة "مليونير العشوائيات") لكن وودي ألين لا يمثل في فيلمه بل ولا يظهر حى فيه ولو في مشهد واحد كما يفعل كثير من المخرجين الآن، أحدثهم أوليفر ستون.
الفيلم الجديد يتناول من خلال التركيز على مفارقات العلاقة بين الرجال والنساء، وبين الشباب وكبار السن، وهو يعكس بوضوح الأزمة التي تشغل تفكير ألين منذ أن بدأ يصنع الأفلام، أي العلاقة مع المرأة خصوصا، وكيف يمكن أن يصل المرء إلى لحظة التحقق، وهل هناك وقت ينبغي أن يتوقف فيه المرء عن الطموح إلى اللذة، بدعوى أنه صار طاعنا في السن، وهل يمكن أن يبدأ حياة جديدة في سن متأخرة، وأن يحصل على السعادة، أم أن الأمر بأكمله ليس سوى وهم كبير؟
تدور أحداث الفيلم كلها في لندن، والشخصيات في معظمها إنجليزية، ويستغل ألين الكثير من المعالم المميزة لمدينة لندن، كخلفية لأحداث أو مواقف الفيلم.
ويطرح وودي ألين موضوعه، من خلال تداخل الثنائيات التي تقع إما في خيانات متبادلة، أو في مشاكل الانفصال رغبة في البحث عن حياة جديدة ربما تكون موجودة حتى على مستوى ما وراء الطبيعة. ومن خلال هذه الثنائيات المتداخلة والمفارقات العبثية التي تنتج، يجسد الفيلم صعوبة أو ربما، استحالة الوصول إلى لحظة التجلي مع ذلك الشريك "الآخر" المكتمل، بل إن تلك الرغبة العارمة في التحقق يمكن أن تدفع صاحبها أيضا إلى التورط في السرقة والانتحال والكذب، وقد يخسر الشريك القديم والشريك المحتمل، ويخسر نفسه أيضا!
لم أجد جديدا فيما يقدمه وودي ألين في فيلمه الجديد، ولا حتى على صعيد اللغة والشكل السينمائي، بل ووجدته أيضا مغرقا في اعتماده على المشاهد المسرحية التي تدور داخل ديكورات مغلقة معظم الوقت، كما تعتمد على الحوار، الذي لاشك أن ألين يجيد كتابته وصياغته بحيث يوحي بالتلقائية، كما أنه أستاذ كبير في تحريك الممثلين والتحكم في أدائهم، بحيث يجعل الفيلم يبدو كما لو كان حالة ممتدة من "العصاب" الجماعي الذي حل بالشخصيات جميعها، شبابا وكهولا، فالكل يتشارك ويشترك مع وودي ألين في الإحساس بعدم الأمان، بالقلق، بالتوتر الناتج عن العجز عن تحقيق الذات، رغم كل هذا السعي الدائم إلى تحقيقها ولو بالكذب والخيانة.
لكني اسمتعت بلاشك بالأداء التمثيلي الممتاز من فريق الفيلم كله، وإن كان التكرار يصبح السمة الغالبة بعد مرور نحو ساعة من زمن الفيلم، وما بقى لا يضيف سوى المزيد من التأكيد على الفكرة نفسها.

"عام آخر"
حالة العصاب هذه neurosis التي تصيب عادة النساء أكثر من الرجال بعد عبور حاجز منتصف العمر، تتبدى أوضح ما يكون، في فيلم "عام آخر" Another Year للمخرج البريطاني مايك لي، صاحب الحظ السعيد عادة في مهرجان كان والحاصل على السعفة الذهبية من قبل عن "أسرار وأكاذيب"Secrets and Lies (1996).

هنا أيضا، من وسط الطبقة الوسطى الانجليزية، يلتقط مايك لي شخصيات عدة، تجسد هواجس النجاح والفشل، النجاح الذي يخلق علاقة طبيعية صحية بين جيل الآباء وجيل الأبناء، والفشل الذي يجعل هذه العلاقة يشوبها التوتر وانعدام الثقة بل وقدر من العداء أيضا.
من ناحية هناك الطبيبة النفسية "جيري" المتزوجة من المهندس "توم" (الإسمان لا مغزى خاص لهما في السياق!) والإثنان يعيشان معا في منزلهما، يرعيان حديقة المنزل، ويطهيان أصناف الطعام الشهي، ويستضيفان ابنهما الناجح في عمله "جو" الذي يرغب في الارتباط بأخصائية التأهيل الصحي "كاتي"، كما يرحبان دائما باستضافة "ماري" صديقة جيري التي تعمل معها.
ولكن هناك من ناحية أخرى، "كن" صديق توم الذي أوشك على الستين من عمره أو تجاوزها، لكنه يعيش حياة بائسة، يعاني من الوحدة، يدمن على الشراب لعله يجد فيه سلوى لنفسه الممزقة العاجزة. و"كن" هو التوأم الروحي في الفيلم لبطلتنا الأساسية "ماري" التي هي محور هذه الدراما العائلية المشبعة بالكثير من المفارقات الكوميدية أيضا (تماما مثل فيلم وودي ألين، بل هناك الكثير من أوجه التشابه بين الفيلمين). وماري التي تجاوزت الخمسين، مع مسحة جمال زائل، لاتزال تطمع في الحصول على رجل مناسب، ربما يكون شابا يصغرها في العمر، بعد أن فشلت في زواجها مرتين. وهي لا تكف عن الشكوى والتذمز، وتمني النفس بأنها إذا اشترت سيارة فربما تتمكن من تحقيق الذات، لكنها تشتري السيارة لكي تجدها قد أصبحت عبئا عليها، فالمشكلة كما يتضح ليست في السيارة، ولا في اقتناء بيت بدلا من شقة مستأجرة تقيم فيها بمفردها، ولا في العمل فلديها وظيفة في سكرتارية المركز الطبي الذي تعمل به جيري. ولكن أزمتها الحقيقية تنبع من شعورها بالوحدة، ولذا فهي لا تستطيع سوى التردد بصفة دائمة على منزل توم وجيري، تستدفيء بهما، وفي الوقت نفسه، تنظر بنوع من الغيرة والحسد الخفي، إلى حياة الهدوء والصفاء والحب التي يعيشها الزوجان معا. تحاول ماري جاهدة إغواء الإبن الشاب "جو" لكنه يفاجئها عندما يحضر معه خطيبته "كاتي" ويقدمها لها، وهي ترفض "كن" الذي يحاول التودد إليها وتعتبره ربما، أكبر سنا من أن تقبل به، لكنها تنتهي وهي تسعى للتودد لشقيق توم الأرمل المسن الذي فقد زوجته حديثا.
من خلال هذه العلاقات والمواقف التي لا تنتهي أبدا نهاية درامية مغلقة، تماما كما يفعل وودي ألين الذي يبقي نهاية فيلمه أيضا مفتوحة، تنشأ المواقف الإنسانية التي تجعل المتفرج يشعر بالتعاطف مع كل تلك الشخصيات، المتحقق منها، والمعذب، الحائر.

ويقسم مايك لي فيلمه إلى فصول السنة: الربيع والصيف والخريف والشتاء، ولكن دون دلالة خاصة مباشرة تربط بين فصول السنة وبين شخصيات الفيلم، فكما أشرت، نهاية الفيلم تظل مفتوحة، دلالة على استمرار الحياة، والصراع الداخلي مع انفس، وتراكم الهموم، وتوديع أحباء، والاحتفال بأحباء جدد، وهكذا. وربما يكون للعنون مغزى خاص في حياة مايك لي نفسه، ومسيرته الفنية بعد أن بلغ الثامنة والستين من عمره.
إن رؤية مايك لي هنا، هي رؤية أصيلة تميز كل أفلامه التي تقدم لنا بواقعيتها الصارمة، دقائق وتفاصيل الحياة الداخلية في الأسرة الانجليزية، بكل تناقضاتها وعذاباتها ومشاعرها المعلنة والخفية، يريد أن يؤكد هنا، على نغمة أساسية، هي أن التحقق يكمن أساسا في قيمة ما يفعله المرء للآخر، ما يقدمه من مساعدة ومساهمة في المجتمع وما يضيفه من عطاء للعالم. ولذا فإنه يجعل من شخصية الطبيبة النفسية، التي هي الأقدر بحكم خبرتها الخاصة، على فهم لحظات الضعف الإنساني عند "ماري"، هي أيضا الأكثر قدرة أيضا على مد يد العون والمساعدة، دون أن يعني هذا أنها تخلي الفرد من مسؤوليته، بل نراها أيضا تنهر ماري أحيانا، وتطالبها بضرورة مواجهة نفسها والكف عن الهرب عن طريق الخمر، والعيش في أوهامها الشخصية. لكن هذا يتم برقة ولطف ويضفي على الفيلم جمالا خاصا.
لاشيء يحدث في هذا الفيلم عمليا، أي أننا لسنا أمام مواقف وصراعات وتداخل أزمنة أو انتقالات في التاريخ والزمن، بل نحن طيلة الوقت، في الزمن المضارع الحالي، نعيش مع شخصيات من الحياة اليومية، ونراقب كيف تتكلم وتتصرف وتمارس حياتها، تستقبل الضيوف، تشارك في العزاء، تتساند مع بعضها البعض، تتناول الطعام وتثرثر أحيانا أيضا، فيما لا معنى له. وهذا هو النسيج الأساسي الذي يميز عادة أفلام مايك لي. نسيج الواقع المباشر البسيط، وهنا تكمن عظمته.
ومثله مثل وودي ألين، يعتمد أيضا وبدرجة أساسية، على بناء المشهد: الميزانسين، وتحريك الممثلين في الفضاء أو الديكور المحدد، والتعبير بالوجه واليدين ولغة الجسد والعينين، كما يعتمد على الكاميرا الثابتة في معظم الأحوال، والموسيقى الكلاسيكية الحديثة التي لا تطغى في أي وقت على المشهد نفسه وتقحم نفسها عليه، وعلى الحوار الذي يصل إلى أرقى درجات التلقائية، ويعكس الكثير من البراعة والذكاء والخبرة بالبشر.
وأخيرا، على مسؤوليتي الشخصية، أرشح الممثلة العظيمة ليزلي مانفيل لجائزة أحسن ممثلة، سواء هنا في كان، أم في الأوسكار العام القادم. إنها طاقة تمتليء بالحيوية والقدرة على استخدام نغمات صوتها المختلفة، وطريقتها الخاصة في الحديث ونطق الألفاظ، كما تستخدم التعبير بوجهها وتصمد في لقطات الكلوز أب (القريبة)، وتبدو شديدة التلقائية وهي تتحرك في مشاهد طويلة، تتدفق بالحوار الذي يبدو أحيانا كما لو كان أشبه بمونولوج طويل. ولاشك أن خبرتها المسرحية، وخبرتها الخاصة في العمل طويلا من 1980، مع مايك لي، ساعداها على التألق في هذا الفيلم. إنه بلاشك، فيلمها، كما كان "أسرار وأكاذيب" فيلم الممثلة بريندا بليثين. ومن الممكن جدا أيضا أن يحصل الفيلم نفسه على إحدى الجوائز الرئيسية في كان. من يدري!

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger