الجمعة، 16 أبريل 2010

"5 دقائق عن بيتي": البحث عن الحرية

يؤكد فيلم "5 دقائق عن بيتي" للمخرجة الفلسطينية ناهد عواد أن الفيلم التسجيلي ليس مجرد "تسجيل" لوقائع، بصورة جامدة، تدعي الإخلاص الحرفي للواقع كما هو، بل إنه فضلا عن التسجيل الأمين للواقع وللأحداث التاريخية، فإنه يمكن أن يكون أيضا "رؤية فنية" مثله في ذلك مثل الفيلم الروائي، وأن يكتسب جماله من ذلك النسيج الدقيق الذي يصنع رؤيته، وهو نسيج من الشخصيات والقصص والأحداث التي تصنع لها "دراماها" الخاصة، ومفارقاتها الشعرية المكثفة التي تبوح من بين الصور، بالكثير.
كان المكان دائما مولدا للكثير من الأفكار الكبيرة، سواء في الفيلم التسجيلي، الوثائقي، أم الفيلم الروائي.
وقد التقطت ناهد عواد بذكاء، قصة كاملة يمكن القول إنها قصة البحث الشاق عن الحرية، من خلال صورة فوتوغرافية لمطار القدس القديم الذي أغلقته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد احتلالها للضفة الغربية في 1967، وأصبح اليوم مجرد أطلال، أو منطقة عسكرية إسرائيلية تجول فيها الدوريات العسكرية، وامتلأت المنطقة المحيطة به بالمباني السكنية.
لكن الذكريات بقيت راسخة ومحفورة في عقول وأذهان وقلوب الكثيرين، الذين ارتبطوا بالمكان، كمكان للعمل، وكرمز للحرية، للقدرة على السفر، والتواصل مع العالم. واليوم انتهى زمن مطار القدس، وأصبحت السلطات الاسرائيلية تحظر على فلسطينيي الضفة اسخدام مطار بن جوريون في القدس، القريب منهم، وترغمهم على اللجوء إلى مطار عمان بكل ما يقتضيه هذا من تصاريح للعبور والسفر وغير ذلك.
لكن لعل أهمية فيلم ناهد عواد، تكمن أيضا في الشكل الفني الذي تصوغ من خلاله موضوعها، أي تلك "الرؤية" التي نضجت ونمت تدريجيا حتى بلغت مرحلة الاكتمال.
يتكون نسيج الفيلم من عشرات الذكريات التي يروها الكثير من الأشخاص، من الطبقة الوسطى، ومن البسطاء، من النساء ومن الرجال، من الذين ارتبطت ذاكرتهم بالمطار في مرحلة زمنية سابقة تبدو الآن كحلم بعيد زائل، كما ارتبطت بتاريخ طاغ بقسوته، تاريخ احتلال غاشم، لكن هذه الذكريات تنتقل أيضا وتنقلنا معها، عبر الصور الفوتوغرافية العديدة التي تستخدمها المخرجة، وشهادات الشهود الذين عاصروا الماضي، إلى تأمل ما وقع من تغير أيضا على صعيد البنية الاجتماعية الفلسطينية نفسها: كيف كانت صورة المرأة وكيف أصبحت، كيف تراجعت الحداثة، وكيف أصبح الناس اكثر تشككا، وأكثر انغلاقا وانعداما للثقة فيما يجري حولهم.
هذا الفيلم البديع يعيدنا إلى منطقة ظلت طويلا مهمشة أو متغاضى عنها، إلى جوهر الحياة الاجتماعية الفلسطينية: كيف كانت وكيف أصبحت، إلى علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بالمكان ومدى إدراكه لمغزاه ومعناه وافتقاده له، وإلى الماضي في علاقته الوثيقة بالحاضر مهما كان قاسيا.
في هذا الفيلم عشرات الصور والمقابلات، اللقاءات والافتراقات، منها ما هو عفوي، التقطته كاميرا ناهد عواد لحظة وقوعه، كما التقطت الكثير من وثائق الفترة المصورة وشهادات الشهود عليها، وهذا هو العنصر الوثائقي. ومنها ما أعيد تجسيده وتوليفه باستخدام مفردات شعرية: النسيج الذي تحمل لقطاته الكثير من الدلالات: الطيور التي تحلق في السماء، وهي "موتيفة" متكررة عبر الفيلم، اللقطات المصورة من مسافة، للمطار حاليا والأسلاك الشائكة تحيط بها، بما يشي بفكرة "المحظور"، وبفكرة غياب الحرية.. القدرة على المحافظة على الذكريات من خلال الاحتفاظ بصور وأغاني الفترة، من الخمسينيات والستينيات عندما كان الوضع مختلفا.
وتربط ناهد عواد ببراعة في فيلمها، بين الخاص والعام، أي بين القصص الشخصية لأبطال فيلمها الذين يتذكرون، ومنهم من كانوا يعملون كطيارين أو كمضيفات، أو موظفين أرضيين أو في وكالات للسفر، بما في ذلك استعادة لحظات السعادة الشخصية، في الحب والزواج وقضاء شهر العسل في الخارج (عبر مطار القدس الذي كان)، وبين المغزى العام للوضع الحالي بعد إغلاق المطار (وتدمير إسرائيل مطار غزة في 2002) اي زوال فكرة التنفس، أو القدرة على النفاذ إلى العالم الخارجي بسبب غياب أبسط شكل من أشكال التواصل مع العالم أي المطار، الذي يتوفر في كل بلدان العالم فيما عدا الأراضي الفلسطينية التي يقولون إنها تتمتع بالحكم الذاتي الفلسطيني!
ورغم أننا في فيلم كهذا لا يمكننا إغفال البعد السياسي الواضح بطبيعة الموضوع نفسه، إلا أن الفيلم يبتعد عن النمطية، وعن الكليشيهات السياسية، وعن الشعارات، وعن فكرة الإدانة المباشرة بالكلمات، فمخرجته بحساسيتها الخاصة، تفضل التركيز على الجانب الإنساني، وتتعامل مع الشخصية الإنسانية الفلسطينية، من مختلف الفئات والطبقات والأديان، لكي تجعل البعد الإنساني هو البعد الأكثر برزوا، الذي يروي لنا، دون شعارات، كيف كان الحال وكيف أصبح، كيف كان السائقون يشقون طريق المطار بحرية، وكيف أصبحوا يخشون الاقتراب منه بسبب التوقيف والتفتيش وضرورة استخراج التصاريح، بل إن هناك تفكيرا من جانب السلطات الإسرائيلية حاليا في وضع بوابات على الطريق تعمل ببطاقات ممغنطة، كما تفكر في بناء مستوطنة إسرائيلية محل المطار.
وتعتمد المخرجة في بناء رؤيتها أيضا على شريط صوت يتمتع بالحيوية والجاذبية ويعيدنا إلى الماضي الذي تروي عنه شخصيات الفيلم، إلى زمن فريد الأطرش وعمرالشريف وفاتن حمامة، وسميرة توفيق ونجوى فؤاد، وكل هذه الشخصيات كما نعرف من الفيلم، كانت تأتي إلى مطار القدس، وكان عمرالشريف يشارك وقتها، بالتمثيل في فيلم "لورنس العرب" أول أفلامه خارج مصر، وكان لايزال متزوجا من فاتن حمامة. وكان الملك حسين ملك الأردن، يستخدم المطار أيضا "وكان شابا يرتدي الملابس العسكرية". وهناك الكثير من الصور لهذه الشخصيات يستعرضها الفيلم من خلال استعراض أرشيف "يوسف جحار" الذي كان يعمل ضابطا من ضباط المراقبة في المطار (كان يتأكد من المسافرين ومن توفر الوقود للطائرة ومن كل ما يتعلق بالشحن الجوي ومن سلامة الطائرة وغير ذلك.
وكانت "هانية ياسمينة" مضيفة بشركة عالية الأردنية (حينما كانت الضفة تابعة للأردن)، وقد تركت العمل بالمطار عام 1964. ومن خلال مثل هذه الشخصيات المتعددة التي تظهر في الفيلم، نعود إلى ذكريات الماضي، من خلال حكاياتها أو صورها الشخصية، دون أن يخرج الفيلم عن مساره، أي عن موضوعه الأساسي، أي بعيدا عن الوضع العام، أي المشكلة الإنسانية العامة القائمة.
"5 دقائق عن بيتي".. كان هذا الاكتشاف هو الذي دفع المخرجة إلى صنع الفيلم، فكرة كيف كان السفر للخارج بمثل هذه البساطة، مسافة 5 دقائق من حيث تقطن إلى المطار، ومنه إلى العالم.
الصور في الفيلم ليست مجرد طرق وبيوت وشخصيات تروح وتجيء، وشخصيات تروي للمخرجة التي تقف وراء الكاميرا توجه الأسئلة أحيانا، بل نسيج متكامل من الصور والأصوات والموسيقى والأغاني التي تعيدنا إلى أجواء الماضي: أغاني فريد الاطرش وفيروز، ثم نقفز إلى الحاضر القريب، كيف أقام الكويتيون مسجدا في المنطقة أصبح يعرف بمسجد المطار، ثم نصل إلى الجدار الفاصل الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية، والذي أصبح يغطي اليوم على منظر المطار.
وتختتم المخرجة فيلمها فتقول إنها لا تريد أن تراه، لأن من الأفضل أن تظل صورة المطار في ذهنها رغم أنها لا تستطيع أن تسافر منه!
والفيلم الذي تبلغ مدة عرضه 52 دقيقة، يتجاوز طابع الريبورتاج التليفزيوني المعروف، الذي يعرض ويقارن، إلى الفيلم التسجيلي الحديث الذي يحلل، ويناقش وينقب ويبحث ويعرض ويتوقف أمام الكثير من النقاط والشخصيات، يمزج بين الشخصي وغير الشخصي، وبين التاريخ والحاضر، ويعبر أيضا عن الرؤية الذاتية لمخرجته، همومها وأحلامها وتطلعاتها الخاصة، في الحرية، كمعادل لتطلعات شعبها كله. وهو ما يجعل الفيلم يصل برسالته إلى مشاهديه، دون أن تكون الرسالة مقحمة.

الخميس، 15 أبريل 2010

عودة إلى الملف القذر لمهرجان وهران السينمائي


كنت قد أغلقت باب مهرجان وهران السينمائي المزيف الذي اتضح أنه يستخدم في تجميل وجه نظام سياسي قبيح شأنه في هذا شأن كل الأنظمة العربية (لا أستثني منها نظاما) لولا أنني تلقيت عددا من الرسائل التي تتفق أو تختلف أو تتساءل، لذا تعين علي العودة مرة أخرى، لعلها تكون الأخيرة، إلى هذا الملف القذر. ولن أنشر هنا الرسائل التي تمتدح إقدامي على إصدار البيان الذي أصدرته أثناء حضوري مهرجان تطوان السينمائي في المغرب، ومنها ما أشاد بموقفي واعتبره شجاعة وموقفا يجب أن يحتذيه النقاد العرب، وغير ذلك من إطراء أعتز به، بل سأكتفي ببعض الرسائل التي تتساءل أو تشكك أو تعترض.
أمير العمري
* سؤال من حاتم الشرقاوي من القاهرة: لماذا اخترت فتح هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات، وبهذه الطريقة ولم تفتحه من قبل رغم مضي فترة طويلة على المهرجان؟ الإجابة أنني آثرت طوال الأشهر الماضية التريث حتى تنتهي عمليات التراشق الإعلامي المتخلف، التي أدنتها بشدة في بياني، بسبب التنافس حول مباريات كرة القدم، حتى لا أُتهم بأنني ألعب دورا من أي نوع في هذا النزاع السخيف الذي شاركت فيه مجموعات من الغوغاء من كلا البلدين، وإن كنت على يقين بأن الحكومة الجزائرية بتكوينها الذي أعرفه جيدا بحكم إقامتي في هذا البلد خلال الثمانينيات، ومعرفتي أيضا بالعقلية السائدة عموما وبمزاجها العام وبتكوينها النفسي، تتحمل وزرا أكبر في تصعيد الأمور وتأزيمها واستفزاز الطرف الآخر الذي لا أبرؤه بالمناسبة، بعد أن استخدمت السلطات الجزائرية، كما هو ثابت بالصوت والصورة، طائرات نقل عسكرية لنقل الآلاف من عتاة الإجرام المدججين بالأسلحة البيضاء، واستخدمت الحشد الهائج لإحاطة المباراة الفاصلة بين المنتخبين في استاد أم درمان بالسودان بجو من الرعب والإرهاب والعنف.
المهم أنني آثرت الابتعاد عن هذه الأجواء حتى تنحصر قضية مهرجان وهران في الشأن الثقافي فقط، إلا أن الأمر رغم ذلك، لم يخلو من تعليقات عدد من الغوغاء الذين تفرغوا للهجوم البشع بأحط الأساليب، من خلال تعليقاتهم على مواقع الانترنت، والرد بأسلوب متدن على كل انتقاد يوجه لسلوك متخلف يأتي من الجزائر، ووصل الأمر أن اتهمني بعضهم بالضلوع في المؤامرة إياها، على الجزائر في حين انني أبريء الشعب الجزائري تماما من تصرفات حكومته، بالضبط كما أبريء الشعب المصري من تصرفات السلطة الاستبدادية الحاكمة.
أما السبب الرئيسي لصدور البيان في هذا التوقيت فهو ما نشر في الصحف الجزائرية من فترة قريبة، تحت عنوان "المصريون يكذبون من أجل الاحتفاظ بالمال" ويقول إن الفائزين بالجوائز المالية في مهرجان وهران (يعدد الخبر الأسماء) حصلوا على القيمة المالية بالكامل، و"دخلت الأموال إلى حساباتهم المصرفية بالفعل طبقا لما صرح به مسؤولون في مهرجان وهران". وقد أوضحت في بياني أنني لم أكن لأكترث لهذه الترهات لو لم يكن اسمي قد ورد ضمن طيات هذا الخبر، باعتباري واحدا من أولئك الذين "يكذبون" بينما دخل المال حساباتهم. وقد أرسلت بطريقة ما إلى المسؤولين في مهرجان وهران، أطلب تفسيرا لهذا التصريح، فلم أتلق ردا رسميا من طرفهم كالعادة، بل إنني لم أتلق منهم بشكل رسمي أي شيء يفيد أصلا بوجود جائزة وطريقة تسليمها.. فهل السكوت على هذا أمر يتفق مع الحفاظ على الكرامة؟ أرجو أن أتلقى إجابة من دعاة الشرف والكرامة في الجزائر.

* رسالة من قارئة تدعى ماجدة تقول إنها صحفية جزائرية، كتبتها بلغة انجليزية مهشمة مكسرة، لا أعلم لماذا، رغم علمها أنني أقرأ وأكتب العربية ولا أعاني من خلط العربية بالإنجليزية، لا في حديثي ولا في كتاباتي.
المهم أنني تمكنت بصعوبة من فهم ما تريد قوله وهو أنها صدمت من بياني، ومن أنهم يتمتعون بحرية أكبر بكثير في الجزائر مما هو متاح في "منطقتي"، وتتهمني بأنني رغم إقامتي في بريطانيا منذ 30 عاما (25 فقط في الحقيقة!) إلا أنني رجل "قبلي" في تفكيري، تقصد بالطبع القول إن انتقادي الشديد لمهرجان يقام في الجزائر، ينطلق من منطلقات شوفينية مصرية معادية للجزائر بسبب الحرب الكروية المتخلفة التي سادت بين أجهزة الإعلام، وانغمس فيها عدد من الشباب "الضائع المضلل" في البلدين عبر الانترنت والتعليقات التي تنشر في مواقع بعض الصحف.
وطبعا ماجدة هذه، مثلها مثل غيرها، من الذين ولدوا بالأمس فقط، جاءوا إلى ساحة القراءة أخيرا، ولذلك فهم لا يعرفون ماذا أكتب ولا كيف أفكر لأنهم لم يقرأوا لي شيئا من قبل، فلو كانوا يقرأون لكانوا قد عرفوا أنني من أشد المنتقدين لمهرجان القاهرة السينمائي منذ 30 عاما، وأنني من أكثر النقاد تصديا لنقد المؤسسات الثقافية المصرية، ومن أكثر النقاد (المصريين) اهتماما بالسينما العربية وبالأفلام التي تنتج في بلدان عربية غير مصر، في سورية وتونس والجزائر والمغرب وفلسطين ولبنان، أو تلك التي يخرجها سينمائيون عرب في أوروبا، وغيرها، ولي في هذا المجال مقالات ودراسات موسعة منشورة منذ الثمانينيات، عن السينما الجزائرية، وتربطني علاقات صداقة شخصية مع عشرات من المثقفين والسينمائيين والنقاد العرب، الذين يعرفون جيدا أنني متحرر من الإطار الضيق للجنس وللعرق وللدين، بل أعتبر نفسي انتمي للإنسانية كلها بأفق وعقل مفتوحين على اتساعهما، لكني لست بالتأكيد ممن يعتقدون في تميز العرب عن غيرهم من الشعوب أي أنني لست من القوميين العرب أو من دعاة أن كل العرب "كيف.. كيف".
ومن ينقد السلبيات في بلده لا يعد عدوا لبلده بل محبا حقيقيا له، لأنه يريد أن يراه أفضل مما هو عليه، ومن ينقد مهرجان وهران لا يقصد إهالة التراب على الشعب الجزائري وإبداعاته الثقافية التي لاشك فيها، بل يريد أن يرى مهرجانا حقيقيا يقام في الجزائر لا يستخدم فيه المثقفون، ولا يتم الضحك على ذقونهم بادعاءات كاذبة. وهذا من باب الإخلاص للسينما والإيمان بقضية النقد، وليس انحيازا لدولة عربية لأنها عربية، فقد قلت إنني لا أعير الأصول العرقية أي اهتمام، ولست من أنصار فكر حزب البعث، ولا أي حزب من الأحزاب اليسارية القومية أو الوطنية الضيقة الأفق، بل اعتبر نفسي كما قلت، من أصحاب الفكر الإنساني المفتوح.

الرئيس السابق للمهرجان الذي أبعد إلى منصب دبلوماسي

* رسالة من الصديق صالح الجارودي من البحرين، وهو بالمناسبة من عشاق السينما الحقيقيين النادرين، ومثقف من الطراز الرفيع، فهو يجوب، منذ سنوات بعيدة، مهرجانات السينما العربية على نفقته الخاصة كهاو عظيم للسينما، ولا يطلب لنفسه أي شيء. وكنت قد التقيت به للمرة الأولى في أواخر الثمانينيات في مهرجان فالنسيا في أسبانيا، ثم في مهرجان قرطاج بتونس، ثم التقيته أخيرا في دبي. وهو يقول لي في رسالته إن ما أثرته في بياني حول مهرجان وهران طرح نقطة قوية، وإنه يفهم أن الموضوع لا علاقة له بالمال بل بالمباديء. وأقول للصديق صالح: نعم، الأمر لا يتعلق بالمال الذي أعلنت استعدادي للتبرع به بالفعل لفقراء الجزائر، ومرة أخرى أراد الغوغاء تحوير كلامي لجعله يبدو وكأنه إهانة موجهة للجزائريين، بينما هي صفعة لنظام يقمع الجزائريين، فهل تخلو الجزائر من الفقراء.. وهل وجود فقراء في بلد ما أمر مشين لهذا البلد أم هو سبة في جبين أي حكومة تدعي تمثيل الشعب؟ أضف إلى ذلك أن هناك فقراء في بريطانيا حيث أقيم، وفقراء في أمريكا، وفي مصر طبعا (وهذا ليس عيبا في حق الفقراء الشرفاء) بل العيب كله في حق الحكومات الظالمة والطبقات المستغلة كما أوضحت.
ولو كنت أنشد الحصول على المال لما أصدرت بيانا بهذا الوضوح والقوة والقطع ولانتظرت أن يتفضل علي مهرجان وهران بدفع قيمة الجائزة، لكني أردت وضع خط في الرمال لمثل هذه المهرجانات والتظاهرات الوهمية الكاذبة التي تستغل وجود النقاد لتحقيق أغراضها دون أن تقيم وزنا حقيقا لهم.
وكان ما أثار رغبتي في إصدار البيان أساسا، وكما أوضحت في صلب البيان نفسه، ما نشر في صحف جزائرية، وورود اسمي فيه ، من أن الفائزين (المصريين) بجوائز مهرجان وهران قد حصلوا على المال لكنهم يكذبون ويقولون إنهم أعادوا الجوائز من أجل الاحتفاظ بالمال، كما سبق أن أوضحت.
* رسالة من الأخ زهير من اسبانيا يعلق فيها على ما ذكرته حول موظفة في المهرجان وصفتها في تعليق لي بأنها "من الدرجة العاشرة". يقول زهير إنه ليس أمرا معيبا أن يكون أي شخص موظفا من الدرجة العاشرة في أي مهرجان طالما أنه يؤدي عمله. وأنا أتفق تماما مع الأخ زهير، شريطة أن تتمتع الموظفة أو الموظف في هذه الحالة، بالأخلاق والأدب ومعرفة الحدود واحترام الآخر، وقد أوضحت في تعليقي أن هذه الموظفة معروفة أصلا بقلة الأدب والوقاحة، وأنها كانت تتردد على بيوت السينمائيين والنقاد في مصر لاستجداء حضورهم للمهرجان بأفلامهم، وأصبحت اليوم تتصدى بطريقة غير أخلاقية، للهجوم عليهم بالقول (في رسالة مباشرة موجودة تحت يدي) إنه لم يعد هناك أحد يثق فيهم بعد ما حدث في موضوع كرة القدم. وإن الغيرة تأكل قلوبهم من هزيمتهم في السودان (أترون مقدار الوضاعة والتدني!).
وأود أن أقول للأخ زهير (وهو موظف قديم في مهرجان فالنسيا) إن كلامي عن هذه الموظفة ورد أساسا، في معرض التدليل على تقاعس المسؤولين الكبار في مهرجان وهران عن الرد على بياني أو تقديم أي تفسير لما حدث، في حين تصدت هذه الموظفة الصغيرة للدفاع عنه، ومحاولة تأليب مدير مهرجان تطوان المغربي ضدي، عندما ذهبت تشكو له من أنني استخدمت مهرجانه لتوزيع بياني، رغم أنني سبق ان أعلمت مهر جان وهران بأنني سأفعل ذلك بالضبط، في رسالة أعلم أنها وصلت إلى من يهمه الأمر. وقد أشارت الصحف الجزائرية المستقلة نفسها إلى تقاعس المسؤولين عن الرد على ما وجهته إليهم من اتهامات، واستهجنت سلوكهم، بل ووجهت هذه الصحف انتقادات شديدة للمهرجان ولوزارة الثقافة الجزائرية وتنبأ بعضها باحتمال إغلاق المهرجان. وقد نشرت ووثقت لمعظم ما نشرته الصحف الجزائرية حول الموضوع، ويستطيع من يرغب، العودة إلى ما نشر في هذا الموقع للاطلاع والمراجعة.
* رسالة من صديق طلب عدم ذكر اسمه، يتساءل بعد أن يعلق بشكل سلبي وبلغة حادة كثيرا، على المهرجانات السينمائية العربية ويدينها إدانة كاملة: لماذا رفضت مهرجانا وصفته بأنه من أعمال الهواة، في حين شاركت في مسابقة النقد التي ينظمها نفس المهرجان؟ سؤال جيد تردد أيضا في بعض التعليقات ولكن بأسلوب ولغة بذيئة لم تكن تستحق الرد، كما ورد في طيات رسالة الأخت ماجدة من الجزائر التي تكتب بلغة إنجليزية لا تعرف قواعدها.
الرد على هذا السؤال الذي يبدو للبعض لغزا، أمر بسيط للغاية: نعم اكتشفت وأنا في طور إجراء الاتصالات مع مهرجان وهران أنه مهرجان يدار بطريقة الهواة وبشكل عشوائي مضطرب، وليس على أسس علمية، فهو مثلا يخصص موقعا له على شبكة الانترنت، لكنه لا يعلن عن انعقاد الدورة القادمة إلا قبل ثلاثين يوما من افتتاحها، بالتالي فالموقع ليس للمهرجان ككل بل للدورة، أي على طريقة سياسية الدورة.. دورة، على نمط الخطوة.. خطوة!
وإذا أردت معرفة أي شيء عن المهرجان من خلال هذا الموقع فلن تتمكن من ذلك إلا بعد أن يعقد رئيس المهرجان مؤتمرا صحفيا يعلن فيه التفاصيل أي قبل أيام من اقامة الدورة الجديدة. واذا أردت المشاركة بفيلم أو بمقال أو التسجيل للتغطية الإعلامية لن تتمكن من خلال البريد الالكتروني الموجود على الموقع بكل عنواينه، لأنه ببساطة، لا يعمل، بل يجب أن تكون لديك القدرة على الاتصال الشخصي المباشر، بأرقام هواتف لا يرد معظمها. والمسؤول الصحفي للمهرجان لا يعرف كيف يكتب رسالة في الرد عليك، ربما لأنه لا يستطيع الكتابة بالعربية، بل ولا تعرف له أي علاقة بالصحافة من قبل، وهو لا يرد بالتالي، على رسائل الصحفيين والنقاد. وقد اعتذرت بشكل قاطع ومختصر عن الذهاب إلى المهرجان بعد أن تعرضت للتعامل الغليظ من قبل تلك الموظفة الصغيرة التي تفتقر إلى الأدب والكياسة، بعد أن ظلت تتجاهل محاولاتي ترتيب تغطية تليفزيونية يومية من هناك، رغم أنه أمر يسيل له عادة لعاب أي مهرجان، وطبعا السبب هو الاضطراب والفوضى وانعدام الخبرة وسيطرة اجهزة الأمن المخابرات في دول فاشية بطابعها، على مهرجانات رسمية من هذا النوع، علما بأننا لم نكن نرغب في تلقي أي دعوة لطاقم التليفزيون، بل كنا سنستخدم طاقما محليا من مكتبنا في الجزائر، وكنا سنتحمل الإقامة الكاملة.
وقد اعتذرت ايضا عن عدم كتابة ورقة بحث أشارك بها في الندوة التي كانت مقررة والتي دعيت للمشاركة فيها في المهرجان بعد أن رفضوا تخصيص مكافآت مالية للنقاد المشاركين فيها، على أساس أن سأكتفي بالحديث فقط. وقد وجدت أن تصرف المهرجان مع النقاد تصرفا غريبا من قبل مهرجان يعلن أن ميزانيته 2 مليون دولار، فماذا يضيره إذا ما خصص 15 ألف دولار مثلا للإنفاق على حلقة النقد السينمائي، ولماذا يظل يطلب من النقاد العمل التطوعي، وهو ما أراه امرا شائنا لأنه يفترض انني واقع في غرامك لكي أقبل العمل لك بالمجان، أو انني في حاجة إلى الطعام والشراب، في حين أن تحمل الجهد والوقت ومتاعب السفر يكفي وأكثر. وقد كان يقيني دوما، أن المهرجانات تحتاج إلى النقاد وليس العكس، ولكن النقاد دائما مهمشون في المهرجانات العربية بشكل عام، مطلوب منهم التواجد، لإضفاء جو ثقافي على مهرجانات هي أقرب إلى حفلات الكباريه. إن من يكلف شخصا محترفا بعمل ما لابد أن يكون مستعدا لتحمل تكاليفه. واما مشاركتي الأخيرة في ندوة النقد في مهرجان تطوان بالمغرب فهي تختلف، أولا بحكم علاقة الصداقة الطويلة (20 سنة) التي تربطني بالمجموعة التي تنظمه،وهي مجموعة من هواة السينما، وثانيا لأنني لم أسلم لهم الدراسة التي أعددتها بل اتفقت مع جهة أخرى على نشرها. وقد كان النقاد الفرنسيون الذين شاركوا في الندوة نفسها، أكثر حصافة من معظم النقاد العرب الذين كتبوا مجانا، فلم يكتب أي فرنسي أي ورقة او دراسة، بل اكتفى بالحديث المرسل عن تجربته الشخصية، فالكتابة عمل، والعمل يجب أن يكون له مقابل، أما من يهين نفسه بالعمل التطوعي لمهرجان ينفق عن بذخ على الحفلات فأمر لا أفهمه.
وقد عادت الموظفة نفسها قبل عشرة أيام من انعقاد مهرجان وهران، لتسألني عن ملخص الورقة التي سأشارك بها في الندوة، فاعتذرت عن حضور الندوة وحضور المهرجان كله في رسالة مقتضبة، لكني أبقيت مشاركتي بالمقال النقدي في أول مسابقة من نوعها ينظمها مهرجان عربي سينمائي. وكنت أعتبر ان هذا الجانب وحده أمر إيجابي ينبغي تشجيعه، لأنه اعتراف، ولو كان ناقصا، بالنقاد وبقيمة ما يفعله النقاد، وقد صرحت بهذا الرأي لأكثر من موقع ومطبوعة داخل وخارج الجزائر.
وقد شكل المهرجان لجنة تحكيم مستقلة لم تعلن أسماء أعضائها سوى بعد إعلان جائزة القلم الذهبي، أي أنني لم أكن أعلم بأسماء الأعضاء مسبقا، واعتبرت فوزي بالجائزة كما صرحت في مقابلة منشورة مع صحيفة جزائرية، لا يضيف شيئا إلى رصيدي، فرصيدي الحقيقي يتحقق عبر تواصلي اليومي مع القراء وما أتلقاه منهم من تعليقات وآراء إيجابية للغاية، ولكن الجائزة لاشك أنها تضفي قيمة على النقد السينمائي نفسه، وتجعله لا يقل أهمية عن المنجز السينمائي أي الفيلم، وهذا ما كنت أسعى إلى تحقيقه منذ أن انتخبت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين في 2001 وحتى يومنا هذا، أي جعل النقد لا يقل أهمية عن الإبداع السينمائي، فهل يعد هذا موقفا سلبيا!
أريد أيضا القول إن القيمة المادية للجائزة لا تعني لي شيئا. والطريف أن الكثير من وكالات الأنباء التي نقلت خبر فوزي بجائزة القلم الذهبي ذكرت أن قيمتها 10 آلاف دولار في حين انها 5 آلاف دولار، لم تدفع ولم تكن هناك من البداية نية لدفعها كما اتضح لي مع مسار الأحداث.
نعم انسحبت من المهرجان لتفاهته ولإدراكي بأنه تظاهرة شكلية تستفيد من وجودي ووجود غيري، ولا تضيف لي شيئا، وأبقيت على مشاركتي في مسابقة النقد التي كنت اعتبرها أمرا جديدا يدعم، ولو على استحياء، من قيمة ما نقوم به نحن النقاد، وأقصد كل النقاد الشرفاء، ولم يكن المهم أن أفوز أنا بها، فقد أغنانا الله عن أموال وهران وغير وهران، بالعقل والفكر، ولكني كنت مهتما بفكرة تقدير النقاد نفسها التي يمكن أن تعمم فيما بعد.. فهل كان الخطأ خطأي أنني شاركت؟ وكيف يمكن أن تنقلب الأمور على هذا النحو، فبدلا من توجيه السؤال إلى الجهة التي تدعي كذبا أننا "قبضنا" الأموال، وتجعل الغوغاء يكتبون التعليقات البذيئة التي تعكس تخلفهم العقلي، ويتساءلون في فزع: لماذا تخصصون أموالنا لأشياء التي لا قيمة لها.. أي السينما والقائمين عليها.. وللمصريين الذين يطمعون في أموالنا ثم يهاجمونا، بدلا من توجيه اللوم إلى هؤلاء، نوجه السؤال إلى الضحية الذي استخدم اسمه في الحالتين بشكل مضلل: أولا في الإعلان عن جائزة، وثانيا في الإعلان كذبا، عن قبضه قيمة الجائزة، واتهامه، ضمن آخرين، بالكذب! أقول لكل هؤلاء: وفروا أموالكم وانفقوها على الفقراء في بلادكم، واغلقوا مهرجان وهران السينمائي الذي أصبحت سمعته تزكم الأنوف على أي حال!
أود ان أختم بالتالي:
* لا نريد مهرجانات سينمائية وهمية.
* النقاد المحترمون لا يحتاجون للمهرجانات بل المهرجانات تحتاج إليهم.
* النقاد الذين لا يحترمون تاريخهم ولا أنفسهم يستحقون أن يعاملوا بازدراء من بعض الجهلة والأدعياء والموظفين الذين يعملون في خدمة أجهزة المباحث وأمن الدولة اي الحكم، والإعلام الرسمي الحكومي الخاضع لأجهزة تعذيب الممواطنين.
* الذين يركعون من أجل دعوة لمهرجان للأكل والشراب مجانا لا يستحقون ان يوصفوا بأنهم نقاد بل من مرتزقة الصحافة الحقيرة التي تربت في حضن أجهزة الأمن والقمع الثقافي والفكري والجسدي.. في مصر كما في سورية كما في الجزائر.
واعتبر البيان الذي أصدرته درسا لكل هؤلاء وتحديا لهم.

الثلاثاء، 13 أبريل 2010

فيلم "الحدود": كتابة التاريخ بالسينما

من أهم الأفلام التسجيلية التي عرضت في مهرجان روتردام السينمائي 2010، فيلم "الحدود" Border القادم من سلوفاكيا للمخرج الموهوب ياروسلاف فويتشك.
هذا الفيلم استغرق تصويره سبع سنوات. وهو يتابع بشكل دءوب وشبه يومي، ما يحدث في حياة سكان قرية سليمنشي، وهي قرية تقع أساسا، في أراضي سلوفاكيا، ولكن بعد دخول القوات السوفيتية عند نهاية الحرب لعالمية الثانية، ثم القيام برسم الحدود بين تشيكوسلوفاكيا وجمهورية أوكرانيا (السوفيتية)، قرروا أن يمر خط الحدود بهذه القرية فيقسمها إلى قسمين، يتبع كل قسم منهما دولة من الدولتين، دون أدنى مراعاة لأوضاع سكان القرية الواحدة، ولا معاناتهم وتمزقهم بين الدولتين عبر الحدود.
والطريف أيضا أن معظم سكان القرية من أصول مجرية، وكان منهم من أصبح تابعا لسوفاكيا حاليا ومنهم من ظل تابعا لأوكرانيا حتى بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات.
ويتابع الفيلم مصاعب الحياة اليومية للسكان الذين انقسمت عائلاتهم فيما بين الجهتين، بل إن أفراد من أسرة واحدة تصادف أنهم كانوا يقومون بزيارة أقاربهم في الشق الشرقي من المدينة استيقظوا صباح يوم التقسيم لكي يجدوا أنفسهم وقد أصبحوا تابعين لأوكرانيا، عاجزين عن الالتحاق بذويهم علىالجانب الآخر بعد ان رفضت السلطات السماح لهم بالعبور إلى الجانب الآخر، بل قام المسؤولون أيضا بتقسيم منطقة مقابر القرية، وحرموا بالتالي الكثيرين من زيارة أقاربهم الأموات ووضع أكاليل الزهور على مقابرهم في المناسبات الدينية المختلفة بعد أن حالت الاسلاك الشائكة على الحدود عبورهم إلى الجانب الآخر. الكنيسة أيضا أصبحت في الجانب الآخر وتعذر وصول سكان المنطقة الغربية إليها!
هذا الوضع الغريب قائم منذ أكثر من ستين عاما في قلب أوروبا، دون أن يعرف العالم شيئا عنه، إلى أن ظهر هذا الفيلم التسجيلي الشجاع.
يعتمد الفيلم على المقابلات المصورة، وعلى التصوير عند نقطة الحدود بين شقي القرية، من الجانب السلوفاكي أولا ويصور كيف أنه لكي يعبر شخص ما من شق إلى آخر، يتعين عليه الحصول على تأشيرة من أقرب مدينة توجد فيها قنصلية وتقع على مسافة 150 كيلومترا ثم يعود إلى القرية ويسمح له بعبور الحاجز القائم بين الشقين أو بالأحرى، بين الدولتين. وحتى بعد انضمام سلوفاكيا للاتحاد الأوروبي أصبح العبور من شق إلى آخر أكثر مشقة عما كان.
ويتابع المخرج بكاميرا المصور العظيم توماس شتانيك، كيف يتجمع بعض سكان الشق الغربي يوميا لتحية أقاربهم على الشق الشرقي، وسؤالهم عن أحوالهم بينما يراقب حراس الحدود الموقف، وأحيانا يأتي أحد الجنود لكي يطلب من المصور وقف التصوير.
ويبدأ الفيلم من تصوير يوم إحياء ذكرى مرور 55 عاما على تقسيم القرية، في عام 2001، حيث يتجمع سكان القرية على كلا الجانبين من الحدود لتذكر تلك اللحظة الفارقة في حياتهم.
وينتقل المخرج إلى الجانب الأوكراني لكي يجري المقابلات المصورة مع الكثير من سكان الشق الأوكراني بعد انضمام سلوفاكيا للاتحاد الأوروبي، لكي يرصد كيف تحولت منطقة الحدود إلى منطقة للتهريب، فسكان القسم السلوفاكي الذي ارتفعت فيه الأسعار ارتفاعا كبيرا، يمارسون التسلل عبر الحدود من منطقة معينة يصورها المخرج بمصاحبة أحد السكان الذي يشرح له الأمر بقوله إن المسألة لم تعد الرغبة في الالتقاء بالأهل وتوحيد أبناء القرية معا، بل أصبحت هذه مجرد ذريعة الآن للحصول على حرية العبور بين الناحيتين بعد ان أصبح الوضع المأساوي القائم يخدم أهداف المهربين على الجانب السلوفاكي الذين يشترون بضائع رخيصة للغاية من الشق الأوكراني لبيعها بعشرة أضعاف أسعارها في الجانب الآخر. وتتابع الكاميرا بعض المهربين وبينهم حتى عدد من النساء تقمن بعملية الاحتيال لتهريب البضائع.
ويصل الفيلم إلى عام 2008 حيث أقيمت نقطة تفتيش أكثر قوة تحصينا وتجهيزا بالأجهزة الالكترونية الحديثة بين شقي قرية سليمنشي، ويصور كيف لايزال سكانها يكافحون من أجل إسقاط الحدود، أو على الاقل توفير حرية الانتقال بين الشقين دون حاجة للحصول على تأشيرة، ولكن كيف وقد أصبح العبور من أوكرانيا إلى سلوفاكيا يعني الانتقال إلى دولة من دول الاتحاد الأوروبي الذي يتشدد كثيرا تجاه بلدان الاتحاد السوفيتي السابق التي لم تنضم بعد للاتحاد.
يتميز هذا الفيلم البديع (72 دقيقة) بالإيقاع السريع اللاهث، وبالدقة الشديدة في تقديم المعلومات، واستعراض التاريخ، سواء باستخدام الجرافيك أي الرسوم البيانية، أو بتوثيق المعلومات من خلال مضاهاة الشهادات الحية لمن بقى على قيد الحياة من سكان القرية الذين عايشوا فترة التقسيم الأولى في عام 1946، بالواقع القائم وتدرجه عبر سبع سنوات، بل غن المخرج يعود غلى نفس الشخصيات التي سبق أن التقاها واجرى معها المقابلات المصورة قبل سبع سنوات، لكي يعرف من خلالها صورة الوضع الحالي.
وعلى الرغم من ثقل موضوع الفيلم إلا أن المخرج بمساعدة المصور، ينجح في كسر الرتابة والتغلب على وطأة الموضوع عن طريق المشاهد المبتكرة الصامتة واستخداماته للموسيقى المصاحبة بحيث يخلق قصيدة بصرية تشع بالرقة والجمال.
ويتميز الإيقاع بالسرعة، ويلعب المونتاج دورا في الربط بين التصوير الحي المباشر الذي يمثل نوعا من المغامرة أحيانا، نظرا للتصوير في عمق المنطقة الحدودية في الليل، وبين تصوير المشاهد التلقائية لسكان القرية وهم يتخاطبون معا عبرالحدود، أو عندما نرى إحدى النساء تحاول التحرك فقط لمسافة عدة أمتار داخل المنطقة الحدودية لكي تخاطب شقيقتها فيمنعها الجندي على الجانب الآخر بإصرار.
ويتميز الفيلم أيضا بالربط بين الخاص والعام، أي بين القصص الشخصية العديدة التي ترويها الشخصيات التي تظهر في الفيلم من الجانبين، وبين المسؤولون الذين يبدون عاجزين عن القيام بأي فعل من شأنه تغيير الوضع العبثي القائم بحيث يبدو مصيريا كالقدر.
ويصور الفيلم أيضا كيف أصبح موضوع تقسيم البلدات والقرى ممارسة مستمرة بعد أن تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا، فقد اقيمت الحدود بين جمهورية التشيك وسلوفاكيا وهو ما أدى إلى تقسيم العديد من المناطق المأهولة بالسكان، وبالتالي تقسيم الأسر والعائلات وحرمانهم من التواصل معا، دون أن يهتم أحد بالأمر، بل ونرى أيضا كيف أصبح المسؤولون على الجانب التشيكي يحركون الحدود تدريجيا ناحية الشرق، لابتلاع مساحات من الأراضي السلوفاكية، ولكي يتخلصوا من المباني القديمة الآيلة للسقوط على الجانب الآخر، دون أدنى مراعاة لمشاعر الناس وللحقائق الديموغرافية القائمة على الأرض.
يقول المخرج: "بعد أن شاهدت الاحتفالات بالذكرى العشرين على سقوط جدار برلين في نوفمبر عام 2009 ، وبعد أن استمعت لكلمات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التي يقول فيها إنه يشعر بالسعادة بأننا أصبحنا نعيش في أوروبا ببعد زوال الحدود والجدران، أصبحت لدي رغبة شديدة في أن أرسل إليه شريطا من هذا الفيلم لكي يرى بنفسه حقيقة أوروبا المعاصرة، والمآسي الشخصية المستمرة التي يعيشها الناس".
إن "الحدود" ليس فقط مغامرة في تصوير الفيلم التسجيلي ونموذجا على قوة السينما التسجيلية، بل هو كتابة للتاريخ بالكاميرا، وهي كتابة تستحق أن تبقى شاهدة على عبث التاريخ.

الأربعاء، 7 أبريل 2010

"نصف ملليجرام نيكوتين": نموذج لسينما الفن والتجريب

أعجبني كثيرا جدا الفيلم السوري "نصف ميللجرام نيكوتين" للمخرج الشاب محمد عبد العزيز، واعتبرت عرضه في مهرجان دبي السينمائي السادس (2009) مفاجأة سارة لكل عشاق السينما الفنية، تلك السينما التي تعبر بمفردات الصورة، والكلمة، والإيماءة، والنظرة، والإشارة، أي التي تستخدم مفردات الشعر، ولكن ليس من خلال ترجمة الشعر إلى صورة، بل من خلال البناء، والعلاقة بين اللقطات، والطريقة التي يتعامل بها فنان الفيلم، مع النص، ومع الكاميرا، ومع الشخصيات التي تقف أمامها تؤدي بحساب، ما يطلبه منها، يبتكر من المشاهد ما يحرض على التفكير، ويصوغ من اللقطات، ما يتطلب منا جهدا للإلمام بأبعاده التشكيلية والاستمتاع بها.

هذا فيلم يتجاوز كل ما ظهر في السينما السورية من أفلام خلال العقد الأخير على الاقل، فهو يبتعد عن "الرسالة"، و"النقد السياسي المستتر"، و"الدراما الأدبية"، مقتربا من التعبير البصري الذي يتحرر من كل القيود والحدود السابقة، محلقا في سماء السينما الخالصة، كنموذج فذ على الفيلم التجريبي.أعجبني أيضا في هذا الفيلم البديع، الجرأة على تجسيد الخيال، ونسج الرؤية الشخصية، المشغولة بالبعد الفلسفي في علاقته بالاجتماعي، والابتعاد عن التعبير المباشر، حيث يتلاعب السينمائي هنا بالأسلوب ويطوعه لرؤيته الجامحة، مهما بلغت، ودون حسابات للسوق أو حتى للذوق السائد الذي يرغب في مشاهدة قصة درامية تدور داخل ديكورات نمطية لشخصيات تتصارع ثم تتصالح.
المأزق الحالي

لا يروي الفيلم قصة تتصاعد في خط درامي واضح حتى تصل إلى الذروة ومنها إلى ما يعرف بـ"التطهير". ليست هناك قصة واحدة بل مزيد من القصص القصيرة، والشخصيات الكبيرة، بحجم الحياة نفسها ومن قلبها: ربما تنتمي بعض هذه الشخصيات إلى الواقع العربي، وربما أيضا تنتمي للواقع الإنساني عموما، وهي تلخص لنا المأزق الحالي في ثقافتنا الذي ينبع من الاعتداء على البراءة.. براءتنا التي يعبر عنها الفيلم من خلال شخصية الطفل "زين" وهو صبي في الثانية عشرة من عمره، أحلامه بارتفاع السماء: أن يطير، وأن يصبح طيارا، لكنه في الواقع، ملتصق بالأسفل، فهو نازح من الريف إلى المدينة، يقوم بمسح وتلميع الأحذية.. كل الأحذية، لكنه لا يكف عن أحلامه بصحبة صديقته الصغيرة التي تتبعه أينما يذهب، يقص عليها عما يقابله في حياته اليومية من شخصيات، بما في ذلك من أساطير تحيط ببعض هذه الشخصيات مثل الشيخ الذي يقال إنه يطير بين المساجد لكي يؤم المصلين.

وهناك "زكريا" سائق التاكسي الذي كان يشك في زوجته بعد أن أنجبت ابنة لكونه يعتقد أنه عاجز جنسيا، وهو ما يدفعه إلى قتل الإبنة ثم محاولة الانتحار باستمرار دون أن يتمكن من تحقيق ذلك إلى ان يموت في حادث قدري.أما الزوجة (الممثلة الكبيرة مي سكاف) فقد تحولت بعد افتراقها عن الزوج الذي فقد رشده، إلى عاهرة، لكنها تشعر بالفراغ والعذاب والوحدة القاتلة، تعيش وقد امتلأت نفسها بالمرارة، طيبة ولكنها أيضا تقوم بإغواء الطفل، ويصبح التفاح الأحمر الذي تلقي به في كل مكان من حولها، رمزا لهذا الإغواء .وإمام المسجد الشيخ رازي، هو الزبون الأول عند زين، وهو أعمى، يعيش لكي يكفر عن خطيئته، فقد أراد أن يرسم الله، فأصيب بالعمى، وفي عالم الظلمة أدرك، كما يقول، ان اللون الأساسي للرؤية ليس الأبيض، بل الأسود، لون الظلام الذي يعيش داخله لكي يرى ما لم يره وهو صحيح البصر.
وللشيخ رازي ابنة منقبة، هي "أروى" التي ترتبط بعلاقة حب عذري مع شاب مسيحي هو "كمال"، وتحرم عليه رؤية وجهها أو لمسها. وهو رسام أقرب إلى الشاعر الملهم الذي يستوحي من غموض صورة "أروى" النقية رسومات تشبه العذراء مريم. ورغم اختلاف الأديان، يقوم كمال باصطحاب الشيخ رازي يوميا لكي يلحق بالمصلين، ويتخاطب خفية مع أروى. وتتفجر المشاعر بينهما ذات يوم، عندما يقودها إلى مرسمه بعد أن فرش الطريق كله بالورود الحمراء.. رمز الحب.
تداخل القصص
هذه القصص الثلاث تتداخل وتتقاطع معا في خطوط تثري السرد السينمائي وتستدرج المتفرج لكي يشارك في تلك "الرؤية" الجريئة الجامحة: هذه المرأة- العاهرة – الضحية، وهي تقوم بإغواء الصبي "زين"، يجمعهما معا في الفراش دخان النيكوتين- أي السجائر التي تحترق في الفيلم بدون توقف، ويتصاعد دخانها دلالة على اضطراب الحياة، واشتعال الرغبة في الانتقام لدى المرأة- الزوجة- الأم التي فقدت ابنتها، والزوج الذي يشك في نفسه وفي زوجته والعاجز عن مواجهة الحياة، أو الغياب عنها بالانتحار.زين .. المتشرد الهارب إلى المدينة الفسيحة من بلدته، ثم يواصل الهرب من واقعه المزري في المدينة عن طريق التمسك بأحلامه في التحليق، يصر باستمرار على رسم سمكة كبيرة يعتبرها رمزا لنجاته، وهو يدمن التدخين كوسيلة للتغلب – دون جدوى- على الشعور بالنقص في مواجهة الكبار- ثم ينتهي بالموت في حادث مأساوي علىالطريق، في اللحظة التي يكمل فيها رسم السمكة على أرض الطريق قرب نهاية الفيلم. آروى التي ترغب بمشاعرها، في الامتزاج مع كمال في علاقة شرعية حقيقية كاملة، لكنها تكتفي بالوقوف على العتبات، توحي كل حركات جسدها بالرغبة في الاكتمال بالآخر، لكن الدين يحظر، واختلاف الدين يعوق التوافق بين الإثنين، بل إن مجرد التعبير عن الحب هنا، محرم، ومحظور في هذا السياق.
كمال يعجز عن إقناع الشيخ رازي برغبته في الاقتران بابنته أروى حتى بعد أن يبدي استعداده لاعتناق الإسلام، فالشيخ يريده أن يتخذ قراره، ليس تحت أي ضغط، بل استجابة لضميره ولرغبته ولشعوره الحقيقي، فينصحه بأن يعود إلى المسيح، ويفكر، ويتأمل قبل أن يتخذ قراره، في تسامح ديني يعكس "رؤية" فنان الفيلم لعلاقة الدين بالبشر.
لكن أمنية "كمال" أن يرسم أروى. وتشترط هي عليه قبل أن تكشف له عن وجهها لكي يرسمها، أن تكون تلك المرة الأخيرة التي
يراها، بعدها يفترقان، وتتحرر أروى من النقاب، ربما بعد أن تدرك أنه ستار كبير لحجب النور، نورالحياة، ويعتزل كمال الحياة الدنيا ويغرق في الرسم والتأمل، وكأنما يتبادل الإثنان الأدوار!
دلالات شعرية

ولاشك أن الفيلم يمتليء بالدلالات الشعرية التي لا يصلح إيجازها أو تقديم تفسير مباشر مختصر لها، بل تأتي على شكل إشارات كامنة تحت جلد الصورة، التي تخفي أكثر مما تبوح، وتلمح اكثر مما تفضح.غير أن المتفرج يمكنه أن يرى بوضوح، كيف يعرض الفيلم لتعقد العلاقات في المجتمعات العربية اليوم: النظرة إلى الدين، والعلاقة بين الصغار والكبار، وكيف أن الصغار ليسوا على هذا النحو من البساطة التي يتصورها الكبار: هناك مشهد ساخر في الفيلم نرى فيه مجموعة من الصبية يصطفون، يدخنون السجائر، ويشاهدون أحد أفلام الجنس بينما يمسكون في أيديهم بكتب ومجلات، كلها تتناول موضوع الجنس!
وهناك مشهد آخر- يدور على صعيد الخيال- لزين وهو يحتضن فتاته الصغيرة داخل سيارة، تأثرا بأفلام "الكبار" التي يشاهدها. وهناك بالطبع ذلك المشهد ذو الدلالة الخاصة، الذي يجمع المرأة- العاهرة، مع زين في الفراش، قبل ثم بعد اللقاء الجسدي وهما يدخنان. ولاشك أن هناك جرأة كبيرة في التعبير عن العلاقة بين الحب والدين والجنس، واستخدام "موتيفة" الإدمان.. أي إدمان التدخين وحرق السجائر، ربما دلالة على الرغبة في الارتكان على عامل "وهمي" لا يزيد الأمور إلا اشتعالا. و"نصف ميللجرام نيكوتين"- عنوان الفيلم، يشير إلى ما تحتويه السيجارة الواحدة من تلك المادة.
ويمضي الزمن في الفيلم إلى أن نرى العاهرة، الطيبة، الضحية، التي تحيط نفسها بالتفاح الأحمر في كل مكان، دلالة على رغبتها في الاحتفاظ بالقدرة على الإغواء على الدوام، بعد أن يتقدم بها العمر، دون ان تكف لحظة عن التدخين، فهو فعل مواز للرغبة في الانتحار أيضا.في الفيلم سيطرة مدهشة على الحركة، والإيقاع داخل المشهد: التحكم في زمن المشاهد واللقطات بمقياس دقيق، كما يمتلك المخرج القدرة على التحكم في أداء الممثلين وتطويعهم، واستخدام التنويع في الزوايا والاستفادة من الديكورات التي تشكل رؤيته الخاصة للعالم الداخلي للشخصيات، في سياق سينمائي يبدع فيه جميع الممثلين ويتميزون.

ولاشك أن المخرج محمد عبد العزيز، في أولى تجاربه السينمائية، يكشف عن حس تشكيلي رفيع، وعن قدرة كبيرة على استخدم التكوين وحركة الكاميرا والتلاعب بالزمن، واستخدام الديكورات المبتكرة التي تعبر عن رؤيته الجامحة، واستخداماته للورد الأحمر والتفاح الأحمر، والألوان القانية القوية التي تعكس حسه السيريالي المتفجر، بالدنيا وبالعالم. ورغم أي ملاحظات سلبية قد تبدو على هذا الفيلم من حيث الجنوح إلى المبالغة في بعض الأحيان خاصة في شخصية "زكريا"، إلا أن من المهم النظر إلى هذا الفيلم باعتباره نموذجا فذا على تلك الروح التي تميل إلى التجريب، وإلى اختبار لغة خاصة جديدة، والبحث عن أسلوب بصري في معالجة موضوع مهم، بجرأة، ومن خلال شكل جديد يحطم الشكل التقليدي.

و"نصف ميللجرام نيكوتين" في هذا السياق، فيلم تجريبي بلا شك، يلعب مخرجه الفنان، في المساحة بين الوعي واللاوعي، وبين الاجتماعي والنفسي، والديني والدنيوي، وأخيرا.. بين الجنة والنار. ولاشك أنه سيصبح أكثر نضجا وأكثر انشغالا بمحتوى الصورة في أفلامه القادمة.

وأن يأتي هذا الفيلم من إنتاج شركة تنتمي للقطاع الخاص في سورية، لهو أمر يستوجب التحية والتقدير.وتحية أيضا إلى الممثلين خالد تاجا ، مي سكاف ، رهام عزيز ، زين حمدان ، عبد والفتاح مزين، وإلى مدير التصوير الكبير غازي واكيم، صاحب الحس التشكيلي العالي.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger