
كان المكان دائما مولدا للكثير من الأفكار الكبيرة، سواء في الفيلم التسجيلي، الوثائقي، أم الفيلم الروائي.
وقد التقطت ناهد عواد بذكاء، قصة كاملة يمكن القول إنها قصة البحث الشاق عن الحرية، من خلال صورة فوتوغرافية لمطار القدس القديم الذي أغلقته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد احتلالها للضفة الغربية في 1967، وأصبح اليوم مجرد أطلال، أو منطقة عسكرية إسرائيلية تجول فيها الدوريات العسكرية، وامتلأت المنطقة المحيطة به بالمباني السكنية.
لكن الذكريات بقيت راسخة ومحفورة في عقول وأذهان وقلوب الكثيرين، الذين ارتبطوا بالمكان، كمكان للعمل، وكرمز للحرية، للقدرة على السفر، والتواصل مع العالم. واليوم انتهى زمن مطار القدس، وأصبحت السلطات الاسرائيلية تحظر على فلسطينيي الضفة اسخدام مطار بن جوريون في القدس، القريب منهم، وترغمهم على اللجوء إلى مطار عمان بكل ما يقتضيه هذا من تصاريح للعبور والسفر وغير ذلك.
لكن لعل أهمية فيلم ناهد عواد، تكمن أيضا في الشكل الفني الذي تصوغ من خلاله موضوعها، أي تلك "الرؤية" التي نضجت ونمت تدريجيا حتى بلغت مرحلة الاكتمال.
يتكون نسيج الفيلم من عشرات الذكريات التي يروها الكثير من الأشخاص، من الطبقة الوسطى، ومن البسطاء، من النساء ومن الرجال، من الذين ارتبطت ذاكرتهم بالمطار في مرحلة زمنية سابقة تبدو الآن كحلم بعيد زائل، كما ارتبطت بتاريخ طاغ بقسوته، تاريخ احتلال غاشم، لكن هذه الذكريات تنتقل أيضا وتنقلنا معها، عبر الصور الفوتوغرافية العديدة التي تستخدمها المخرجة، وشهادات الشهود الذين عاصروا الماضي، إلى تأمل ما وقع من تغير أيضا على صعيد البنية الاجتماعية الفلسطينية نفسها: كيف كانت صورة المرأة وكيف أصبحت، كيف تراجعت الحداثة، وكيف أصبح الناس اكثر تشككا، وأكثر انغلاقا وانعداما للثقة فيما يجري حولهم.
هذا الفيلم البديع يعيدنا إلى منطقة ظلت طويلا مهمشة أو متغاضى عنها، إلى جوهر الحياة الاجتماعية الفلسطينية: كيف كانت وكيف أصبحت، إلى علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بالمكان ومدى إدراكه لمغزاه ومعناه وافتقاده له، وإلى الماضي في علاقته الوثيقة بالحاضر مهما كان قاسيا.
في هذا الفيلم عشرات الصور والمقابلات، اللقاءات والافتراقات، منها ما هو عفوي، التقطته كاميرا ناهد عواد لحظة وقوعه، كما التقطت الكثير من وثائق الفترة المصورة وشهادات الشهود عليها، وهذا هو العنصر الوثائقي. ومنها ما أعيد تجسيده وتوليفه باستخدام مفردات شعرية: النسيج الذي تحمل لقطاته الكثير من الدلالات: الطيور التي تحلق في السماء، وهي "موتيفة" متكررة عبر الفيلم، اللقطات المصورة من مسافة، للمطار حاليا والأسلاك الشائكة تحيط بها، بما يشي بفكرة "المحظور"، وبفكرة غياب الحرية.. القدرة على المحافظة على الذكريات من خلال الاحتفاظ بصور وأغاني الفترة، من الخمسينيات والستينيات عندما كان الوضع مختلفا.
وتربط ناهد عواد ببراعة في فيلمها، بين الخاص والعام، أي بين القصص الشخصية لأبطال فيلمها الذين يتذكرون، ومنهم من كانوا يعملون كطيارين أو كمضيفات، أو موظفين أرضيين أو في وكالات للسفر، بما في ذلك استعادة لحظات السعادة الشخصية، في الحب والزواج وقضاء شهر العسل في الخارج (عبر مطار القدس الذي كان)، وبين المغزى العام للوضع الحالي بعد إغلاق المطار (وتدمير إسرائيل مطار غزة في 2002) اي زوال فكرة التنفس، أو القدرة على النفاذ إلى العالم الخارجي بسبب غياب أبسط شكل من أشكال التواصل مع العالم أي المطار، الذي يتوفر في كل بلدان العالم فيما عدا الأراضي الفلسطينية التي يقولون إنها تتمتع بالحكم الذاتي الفلسطيني!

وتعتمد المخرجة في بناء رؤيتها أيضا على شريط صوت يتمتع بالحيوية والجاذبية ويعيدنا إلى الماضي الذي تروي عنه شخصيات الفيلم، إلى زمن فريد الأطرش وعمرالشريف وفاتن حمامة، وسميرة توفيق ونجوى فؤاد، وكل هذه الشخصيات كما نعرف من الفيلم، كانت تأتي إلى مطار القدس، وكان عمرالشريف يشارك وقتها، بالتمثيل في فيلم "لورنس العرب" أول أفلامه خارج مصر، وكان لايزال متزوجا من فاتن حمامة. وكان الملك حسين ملك الأردن، يستخدم المطار أيضا "وكان شابا يرتدي الملابس العسكرية". وهناك الكثير من الصور لهذه الشخصيات يستعرضها الفيلم من خلال استعراض أرشيف "يوسف جحار" الذي كان يعمل ضابطا من ضباط المراقبة في المطار (كان يتأكد من المسافرين ومن توفر الوقود للطائرة ومن كل ما يتعلق بالشحن الجوي ومن سلامة الطائرة وغير ذلك.
وكانت "هانية ياسمينة" مضيفة بشركة عالية الأردنية (حينما كانت الضفة تابعة للأردن)، وقد تركت العمل بالمطار عام 1964. ومن خلال مثل هذه الشخصيات المتعددة التي تظهر في الفيلم، نعود إلى ذكريات الماضي، من خلال حكاياتها أو صورها الشخصية، دون أن يخرج الفيلم عن مساره، أي عن موضوعه الأساسي، أي بعيدا عن الوضع العام، أي المشكلة الإنسانية العامة القائمة.
الصور في الفيلم ليست مجرد طرق وبيوت وشخصيات تروح وتجيء، وشخصيات تروي للمخرجة التي تقف وراء الكاميرا توجه الأسئلة أحيانا، بل نسيج متكامل من الصور والأصوات والموسيقى والأغاني التي تعيدنا إلى أجواء الماضي: أغاني فريد الاطرش وفيروز، ثم نقفز إلى الحاضر القريب، كيف أقام الكويتيون مسجدا في المنطقة أصبح يعرف بمسجد المطار، ثم نصل إلى الجدار الفاصل الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية، والذي أصبح يغطي اليوم على منظر المطار.
وتختتم المخرجة فيلمها فتقول إنها لا تريد أن تراه، لأن من الأفضل أن تظل صورة المطار في ذهنها رغم أنها لا تستطيع أن تسافر منه!
والفيلم الذي تبلغ مدة عرضه 52 دقيقة، يتجاوز طابع الريبورتاج التليفزيوني المعروف، الذي يعرض ويقارن، إلى الفيلم التسجيلي الحديث الذي يحلل، ويناقش وينقب ويبحث ويعرض ويتوقف أمام الكثير من النقاط والشخصيات، يمزج بين الشخصي وغير الشخصي، وبين التاريخ والحاضر، ويعبر أيضا عن الرؤية الذاتية لمخرجته، همومها وأحلامها وتطلعاتها الخاصة، في الحرية، كمعادل لتطلعات شعبها كله. وهو ما يجعل الفيلم يصل برسالته إلى مشاهديه، دون أن تكون الرسالة مقحمة.
1 comments:
مجهودك با أستاذنا في تغطية كافة ألوان الفن السينمائي الوثائقي منها و الروائي ...يُجلي أبصارنا و ينقيها من غث المقالات و البرامج التافهةالذي يكاد أنا يُغرفنا رغم أنوفنا و ينير قلوبنا العطشى لهذه المقالات الرائقة و التغطيات الوافرة ،
ليوسف إدريس مقولة عن الشعر واصفا إياه "بالأدب المقطر" و أنا هنا الأن أستعير عبارة أستاذنا الكبير ببعض التصرف..
لأصف مقالاتك و تدويناتك البديعة بأنها
"النقد السينمائي المقطر"
أدام الله عليك نقائك و تجردك يا سيدي الفاضل و تفضل بقبول تحياتي
إرسال تعليق