الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

"أمير الدموع": أنشودة عذبة عن الحب والصداقة والخيانة في زمن القهر

يعتبر فيلم "أمير الدموع" للمخرج يونفان، وهو فيلم من الإنتاج التايواني المشترك مع هونج كونج، من أفضل وأهم الأفلام التي شهدتها مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة السادسة والستين من مهرجان فينيسيا السينمائي.
لماذ نعتبر هذا الفيلم عملا متميزا؟
الأسباب هي أولا توفر سيناريو جيد شخصياته مرسومة ببراعة والعلاقات المتداخلة المركبة فيما بينها، تتطور بشكل سلس ومقنع، والعلاقة بين الخاص والعام في هذا السيناريو منسوجة ببراعة، وبدون إقحام أو خطابة.
ثانيا: الإخراج المتميز بلمسات شاعرية رقيقة كالنسيم، مما يجعل الفيلم رغم قتامة موضوعه وقسوته، يبدو كالقصيدة الجميلة التي تخاطب العقل والقلب والوجدان، كما أن الأداء التمثيلي يتميز كثيرا من جانب جميع الممثلين الذين اشتركوا في الفيلم، من الأطفال إلى الكبار.
ثالثا: التصوير السينمائي البديع الذي يجعل الإنسان يتماهى مع الطبيعة، ويجعل الطبيعة شاهدا على ما يحدث من قهر للإنسان، كما أن المخرج يعرف أين ومتى يتوقف عن الاستمرار في السرد وتطوير الحبكة، لكي يتيح لأبطاله وجمهوره بالتالي، لحظات من الأمل وطرح التساؤلات التي لا نسمعها وإنما نشعر بها تحت جلد الصورة.
رابعا: الموسيقى المصاحبة المتميزة بكلاسيكيتها ورونقها الخاص، والتي تضفي جوا من السحر على الصورة فتساهم في تكثيفها، كما تتناسب مع أجواء العلاقة البارزة في الفيلم بين عالمي الأطفال والكبار.
موضوع الفيلم يدور في تايوان الخمسينيات أي في الفترة التي شهدت أجواء سياسية محمومة، حينما كانت السلطة السياسية تشم رائحة الخيانة والتسلل الشيوعي في كل مكان، وكان لابد في تلك الأجواء المشوبة بالتوتر والقلق وانعدام الثقة، أن تكثر الوشايات ويسقط الكثير من الضحايا الأبرياء أو يدفع الكثيرون ثمنا باهظا لغير ذنب ارتكبوه. وكانت جزيرة "فورموزا" التي أصبحت "تايوان"، قد أصبحت محورا لنزاع سياسي لايزال قائما حتى اليوم، منذ أن لجأ إليها الزعيم الصيني القومي تشانج كاي تشيك بعد خلافه مع حلفائه الشيوعيين بزعامة ماوتسي تونج وبعد انتصار الشيوعيين وسيطرتهم على السلطة عام 1949، ثم ما أعقب ذلك من إعلان الأمريكيين ضمانهم لنظام تايوان (الرأسمالية) ولبقائها بعيدة عن خطر الزحف الأحمر، مع استمرار الصين في التلويح بضرورة ضمها إليها باعتبارها كما تقول، جزءا لا يتجزأ من أراضيها.
وعلى العكس تماما من معظم الأفلام التي شاهدناها من قبل حول الصراع بين الصين وتايوان، خصوصا في تلك الفترة المشحونة من أوائل الخمسينيات، يدور فيلم "أمير الدموع" حول "القمع الأبيض" في مقابل "القمع الأحمر" المعهود. فنحن هنا أمام تصفيات تقوم بها أجهزة الأمن في تايوان (الديمقراطية) ضد كل من تتصور أنه قد يكون لديه أي نوع من التعاطف مع نظام بكين، بل وتستخدم هذه الذريعة، من أجل تصفية حسابات شخصية.
محور الفيلم قصة حب بين طيار شاب مخلص لبلاده، وزوجته الحسناء المخلصة التي تربي ابنتيه.
لكن هناك من يحيك لهما المؤامرات هو صديق الزوج ورفيقه في الماضي الذي أصبح الآن عميلا للشرطة السرية، والذي يرغب في الاستيلاء على قلب الزوجة، لذا فإنه يدبر مؤامرة تبعد الزوج لكي يتم إعدامه رميا بالرصاص، وتبعد أيضا الزوجة لبعض الوقت إلى السجن لكي يبدو الأمر مقنعا، إلى أن يتم اخراجها لكي يتزوجها الصديق الواشي (الذي سقا الخمر بيديه لصديقه قبل إعدامه مباشرة).

الذريعة هنا أن الزوج الطيار عاد إلى منطقة يسيطر عليها الشيوعيون في الصين لأنه جاسوس، بينما الحقيقة أنه اضطر للعودة لانقاذ ابنته الكبرى.
الأم تتنكر في لحظة ما لابنتها لأنها السبب في اعدام الأب، والإبنة لا يمكنها أن تغفر للأم أن صديق العائلة، تخلص من والدها رغبة في الاستيلاء على الأم، بل والأم أيضا توافق وتقرر العيش معه.. أي مأساة!
إنه فيلم عن الصداقة والحب والخيانة والتآمر، وعن الجنرال الذي يملك قلب شاعر، وزوجته الحسناء التي تقع ضحية لتناقضاتها بين الرغبة في امتلاك الأشياء الثمينة وتذوق طعم الأشياء، وقناعاتها بالوقوف مع النظام الجديد في الصين الأم.. النظام الذي يتحدث باسم الفقراء والمطحونين، وعن التضحية الكبرى عندما تكون مطلوبة من أجل النجاة في زمن الموت الذي قد يأتي بدون ميعاد ولا مبرر، أو التجويع والتشريد لأصغر الأسباب.
أسلوب إخراج موضوع من هذا النوع يغري بالوقوع في التبسيط واتخاذ موقف أحادي هنا أو هناك، كما يغوي بالوقوع في الميلودراما الأخلاقية المباشرة.
أما الفيلم الذي شاهدناه، فينجح مخرجه يونفان بعبقرية، في تقديم عمل يفيض بالمشاعر دون أن يصبح ميلودراميا عالي النبرة، يبتز المشاعر بدون حساب، كما يفلت من توجيه الإدانة أو الشطب على شخصية لحساب أخرى.
إن كل شخصياته تبدو ضحايا تلك الفترة بأحداثها الصاخبة، ضحايا الصراع السياسي الذي لا أخلاق له ورغم أن هناك من يدفع الثمن بشكل مباشر إلا أن الجميع يدفعون، على نحو أو آخر.
وأسلوب الإخراج ينجح تماما في التحرر من الحبكة التقليدية، ويترك لنفسه العنان في التحليق بالموضوع فوق الماضي والحاضر، والانتقال من العالم الصغير، إلى العالم الكبير، كما يجيد استخدام الرمز الكامن في قصة "أمير الدموع" التي تروى في احدى كتب الأطفال المصورة، عن ذلك الأمير الذي جمدت دموعه وتحول هو نفسه إلى تمثال من الجماد احتجاجا على الشر المحيط به في العالم.
هذه الفكرة الرومانسية هي التي تغلف الفيلم وتروى من وجهات نظر مختلفة، وتتخذ أيضا طابعا فلسفيا إنسانيا عندما ترويها زوجة الجنرال قبل أن تقرر العودة إلى الصين الأم.
هناك دفء كبير يربط أيضا بين الشخصيات النسائية في هذا الفيلم على نحو لم يسبق أن شاهدناه في أي فيلم صيني، وهناك وجود قوي ومؤثر للأطفال، مع تمتع الفيلم بطاقم شديد الموهبة من الممثلين والممثلات.
إنه سباحة في التيار العكسي لفيلم "العيش" لجانج ييمو الشهير الذي كان يروي مأساة أسرة في زمن "القمع الأحمر". وهو أيضا مثله يستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية يكشف عنها الستار في نهايته عندما يشير إلى مصائرها التي امتدت طويلا. ورغم أنه يعتبر فيلما سياسيا إلا أنه مصنوع لكي يلقى قبولا لدى الجمهور العام في اطار موضوعه الانساني.
وهو أخيرا، درس في الاستفادة من ذكريات الطفولة، مما حدث في الواقع، لتقديم "رؤية" خاصة شديدة السحر والجمال.. أليس هذا هو جوهر السينما كفن!

الأحد، 6 سبتمبر 2009

أفلام من مهرجان فينيسيا


* باريا (أو باغيريا) Barria:
الفيلم الذي استثمر فيه الإيطاليون (من إنتاج شركة يملكها ابن رئيس الحكومة بيرلسكوني) 35 مليون دولار واعتبر أضخم إنتاج في تاريخ السينما الإيطالية، يعكس محاولة للعودة بهذه السينما إلى عصرها الذهبي عندما كانت تنتج الأفلام التاريخية المبهرة التي تدور في ديكورات ضخمة، وتستخدم مئات من الممثلين الثانويين (الكومبارس) الذين تجاوز عددهم في هذا الفيلم ألف ممثل ثانوي، وشيدت للفيلم ديكورات لقرية في ريف صقلية أهمها بالطبع الشارع الرئيسي بمبانيه التاريخية، وبنيت الديكورات في تونس حيث دار التصوير الخارجي في معظمه.
فيلم "باريا" بعكس أيضا رغبة مخرجه عاشق السينما الكبير جيوسيبي تورناتوري، في صنع "ملحمة" عن البشر وعلاقتهم بالمكان، عن الزمن، وكيف ينعكس على العلاقات وعلى البشر، عن العلاقة بين الأجيال وكيف تنتقل الأفكار وتكبر، وكيف تحبط وتصاب بالهزيمة دون أن يكف الإنسان أبدا عن التطلع إلى المستقبل، إلى الأفضل.
بطل الفيلم طفل يكبر يصبح شابا ثم رجلا ينجب عدة أطفال، وهو ينشأ في عائلة فقيرة تنتمي سياسيا إلى اليسار الشيوعي تحديدا، ويصبح من قيادات الحزب في البلدة، ويمر بفترة من التشكك أحيانا، عندما يعجز عن تقديم حل لمشاكل العمال، وبعد أن يعود من زيارة إلى موسكو، ويقول لرفيقه إنه رأى هناك أشياء سيئة مخجلة. وربما يكون هذا كما يرى بعض النقاد الإيطاليين، السبب في حماس بيرلسكوني تحديدا للفيلم، أي الجانب الذي يوجه انتقادات واضحة للتجربة الاشتراكية أو لقدرات الحزب الشيوعي.
والفيلم باختصار يروي قصة تلك الأسرة، التي محورها ذلك الشاب، ويطمح إلى تقديم صورة مكثفة في فصول متعاقبة لإيطاليا المعاصرة من خلال خصوصية تلك البلدة وأناسها، من الحقبة الفاشية إلى عصرنا الحالي، مع مزج الموضوع بقصة حب مغرقة في الرومانسية.
ولاشك أن في الفيلم الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالسيرة الذاتية لتورناتوري نفسه، الذي يبدو وهو يطرق دروبا يعرفها جيدا، ويصور اناسا خبرهم وعاش بينهم.
الصورة السينمائية للفيلم على أروع مستوى ممكن، واستخدام حركة الكاميرا للربط طيلة الوقت، بين الشخصيات والمكان، ناجحة خاصة في استخدام مدير التصوير للرافعة "الكرين"، في المشاهد الضخمة التي تستخدم فيها المجاميع. وموسيقى العبقري إنيو موريكوني (الذي يجب أن نفخر بأننا نعيش في عصره) موسيقى تعبيرية تتدرج من الطابع الشعبي (الفولك) إلى الكلاسيكية، وتتميز بنغماته الخاصة المكتوبة للناي أو الكلارنيت ثم البيانو والتشيللو.
غير أن ما يعيب الفيلم الاستطرادات الكثيرة، وهبوط الإيقاع خاصة في الثلث الأخير من الفيلم حيث تفلت الحبكة من بين يدي المخرج فلا تفهم تحديدا أين يتجه لأنه يفشل في الوصول بفيلمه إلى ذروته الطبيعية.
ومن عيوب الفيلم أيضا تعدد الشخصيات بطريقة محيرة ومربكة أحيانا، والجرعة السياسية الزائدة كثيرا عن حاجة الفيلم، وعبوره على بعض الأحداث عبورا سريعا في حين أنه يتوقف أمام غيرها طويلا بلا مبرر.
وكان مستغربا بالفعل أن كل هذه اللقطات والمشاهد الجميلة تجعل مخرجا كبيرا بحجم موهبة تورناتوري (صاحب سينما باراديزو، ومكتشف المواهب) يسقط في حبائلها بحيث جعلته يعجز عن التوقف والقطع والانتقال من مشهد إلى آخر في الوقت المناسب، بل واستبعاد الكثير من المشاهد والشخصيات الزائدة واختصار الفيلم إلى زمنه الطبيعي الذي لا يتجاوز الساعتين (في حين أنه جاء في ساعتين ونصف تماما).

* الطريق The Road
توقعنا الكثير من فيلم "الطريق" المأخوذ عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه للكاتب كورماك مكارثي تدور في المستقبل (الأمريكي تحديدا) حيث ينتهي العالم ربما بعد ضربة نووية، ويرتد الإنسان إلى الهمجية الأولى وإلى أكل بعضه بعضا.. بشكل حرفي أي تصبح هناك جماعات من أكلة اللحم البشري، وتنتشر الفوضى والخراب في الأرض، ويبحث الذين بقوا على قيد الحياة (ولم يؤكلوا بعد!) عن أي مصدر غذائي للبقاء على قيد الحياة.
المخرج الاسترالي جون هيلكوت Hillcoat تناول الموضوع بشكل تجريدي بغرض توصيل فكرة فلسفية عن التماسك الإنساني والحب بين رجل وابنه، رغم كل مظاهر الانهيار والتدهور والتفكك. إنه يبدأ بتعليم ابنه اطلاق النار من بندقية لا للدفاع عن النفس بل لكي يتمكن كلاهما من قتل بعضهما البعض عند الضرورة، وفي أحد المشاهد عندما يحاصر مجموعة من آكلي اللحم البشري الاثنين ويوشكوا على اللحاق بالإبن للفتك به وابتلاعه، ويكاد الأب أن يقتل ابنه بالفعل إلا أنه يتراجع تحت تأثير عاطفة الأبوة، لكي يواصل الإثنان معا رحلة الهروب. ولكن إلى أين؟
يتحول الفيلم بعد ذلك إلى أحد أفلام الطريق، ولكن في شكل رحلة كابوسية في عالم لم يعد قائما، يلتقيان خلالها ببشر لم يعودوا بشرا، وبضحايا لم يعد هناك أمل في إنقاذهم، بل إن رحلة الهروب نفسها تبدو عبثية، بعد أن تخلت الزوجة الحسناء (تشارليز ثيرون) عن الأسرة هربا من المصير البشع وحتى لا تضطر لقتل ابنها. ويلقى الأب مصيره بالموت، فيما تتبنى أسرة هاربة من الكارثة الإبن لينضم إليها في رحلة الهروب إلى الأمام.. لعلها تعثر على منفذ للنجاة.
المشكلة أن الفيلم يبدو خاويا، لا تطور كبير في أحداثه، والحبكة تعاني من فراغ وتكرار، بعد البداية القوية، لا نرى سوى تكرار لنفس الفكرة، واستطرادات تغذيها دون أن تضيف جديدا إليها، مع تهاوي الإيقاع العام للفيلم، وفقدانه أي قدرة على إثارة الاهتمام. ويبدو أن المشكلة الأساسية تنحصر في السيناريو الذي فشل في تقديم معادل سينمائي قوي يتمتع بالقدرة على التدفق والجاذبية، ربما أيضا بسبب القتامة الشديدة في الموضوع.

* "الحياة في زمن الحرب" Life During Wartime
فيلم أمريكي آخر من أفلام المسابقة (التي بلغت الآن 7 أفلام بعد عرض مفاجأة هيرتزوج!).
هذا الفيلم الذي أخرجه تود سولوندز، بدا أيضا أنه ضل طريقه إلى مسابقة فينيسيا، فهو يحاول التفلسف حول فكرة الغفران والسماح في مقابل النسيان ربما دون غفران، وأيهما أفضل، وهل من الممكن أن ينسى المرء دون أن يغفر لأن في هذا حلا أفضل بالنسبة لكل الأطراف، أم يغفر (ذلك الغفران المسيحي الموصى عليه في الكتاب المقدس) دون أن ينسى، وما فائدة الغفران في مثل هذه الحالة إذن إذا كنا سنظل نحمل في داخلنا ضد هذا أو ذاك أي دون أن ننسى ونسامح.
علاقات متفسخة بين ثنائيات، وعلاقات أخرى تنشأ على أمل إصلاح ما فسد في الماضي، لكنها مهددة بشبح الماضي نفسه.
شخصيات غير سوية في معظمها، منها من يعاني من الميل إلى الجنسية المثلية، ومنها من سبقت إدانته بالاعتداء على الأطفال، ومنها من فشلت في العثور على السعادة مع زوجها الذي أنجبت منه لكنها وجدت أنه لم يكن "رجلا بما فيه الكفاية" وتتخيل الآن أنها عثرت على الرجل الذي يثير كل مشاعرها بلمسة واحدة منه.
هذا الموضوع "الأدبي" أيضا يعالجه سولوندز بطريقته التي تعجب البعض، أي من خلال الحوارات الطويلة الساخرة، والمشاهد المسرحية الجامدة، إلا أنه يمزج فيما بينها، ويجعل شخصياتها تتداخل وتتقاطع، باعتبارها شخصيات متصلة ببعضها، باستثناء شخصية امرأة متقدمة في العمر (شارلوت رامبلنج بعد أن فقدت أنوثتها الطاغية القديمة!) تصطاد رجلا في أحد البارات، يتصادف أنه عاشق الأطفال الذي خرج لتوه من السجن، ويريد العودة إلى أسرته لكنه لا يعرف كيف، لكي تقضي معه ليلة من الجنس المرهق، تنتهي بمحاولته أن يستولي من حقيبة يدها على مبلغ من المال، فتضبطه متلبسا لكنها بدلا من أن تنهره، تمنحه كل ما معها من مال، وتقول له إن الذي يطلب الشفقة هو الوحيد الجدير بعدم السماح.
الكوميديا في الفيلم تنبع من خلال الحوار الطريف والتعليقات الساخرة وليس من خلال المواقف والأحداث، والأداء التمثيلي مسرحي نمطي في معظمه، باستثناء أداء الممثل الأيرلندي شياران هندز (في دور اللواطي المغرم بالأطفال) وشارلوت رامبلنج في أكثر أدوارها توحشا وعنفا بدون أي عنف!
هذا الفيلم الذي يعد استمرارا لفيلم "سعادة" Happiness للمخرج نفسه، يعاني أيضا من ثقل الإيقاع، ومن المبالغات في رسم بعض الشخصيات، ولكن هذا النوع من الدراما يبدو قريبا من جمهور الطبقة الوسطى الأمريكية، ويناسب ذوق واهتمامات تلك الشريحة العريضة من الجمهور التي تدمن على مشاهدة التليفزيون، ولذلك فمكانه الطبيعي أن يستقر في المحطات التليفزيونية.

السبت، 5 سبتمبر 2009

مفاجأة "الفيلم المفاجأة" في فينيسيا

أصبح حديث الساعة في جزيرة ليدو حيث تجري أحداث الدورة السادسة والستين من مهرجان فينيسيا السينمائي ما يسمى بـ"الفيلم المفاجأة".
هذه البدعة التي يهواها مدير المهرجان ماركو موللر، شملت 4 أفلام، أعلن عن اثنين منها رسميا قبل بدء المهرجان (وانتفت بالتالي فكرة المفاجأة منهما)، وظل هناك اثنان أهمهما بالطبع هو الفيلم المدرج في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة الذي يجعل عدد أفلام المسابقة 24 فيلما في سابقة غير مسبوقة خلال العقدين الأخيرين (أقصد من حيث عدد أفلام المسابقة).
أما ما حدث واعتبر أيضا أمرا غير مسبوق، ليس فقط في تاريخ مهرجان فينيسيا السينمائي كما اعترفت إدارته في بيان وزع اليوم على الصحفيين، بل وفي تاريخ مهرجانات السينما في العالم على حد معرفة كاتب هذه السطور.
الفيلم المفاجأة في المسابقة عرض ضمن عروض الصحافة الدولية مساء أمس وظل عنوانه مجهولا حتى آخر لحظة على العكس من العام الماضي الذي عرفنا فيه اسم الفيلم قبل بدء عرضه بعد أن تسرب عمدا على الأغلب.
وجاء الفيلم المفاجأة.. مفاجأة غير سارة على الإطلاق فهو فيلم "يابني.. يابني.. ماذا فعلت؟" My Son.. My Son.. What Have You Done للمخرج الألماني الشهير من جيل السبعينيات في السينما الألمانية فيرنر هيتزوج، وإن كان فيلمه من الإنتاج الأمريكي ويدور على أرضية أمريكية وناطق باللغة الانجليزية.
غير أن الأمر المثير للاستهجان والاستياء بل والتساؤل عن "الموضوعية" و"المصداقية" أيضا هو: كيف يمكن تبرير عرض فيلمين لنفس المخرج في المسابقة الرسمية؟ فهناك فيلم آخر لهيرتزوج يتنافس على الأسد الذهبي والفضي وغير ذلك من جوائز، هو فيلم "اللفيتنانت السيء" أو من الأفضل أن نطلق عليه بوضوح "الضابط السيء: مرفأ نيو أورليانز" The Bad Leiutenant: New Orleans
وليت الأمر انجلى في النهاية عن فيلم يمكن قبوله باعتباره عملا غير مسبوق، أي "تحفة" من تحف السينما العالمية، بل تمخض الأمر بأسره عن فيلم شديد الضعف والهزال، مثير للملل بل وللاستنكار أيضا.
الفكرة التي ينطلق منها هذا الفيلم فكرة نظرية تماما، ربما يمكن أن تصنع عملا "إذاعيا" مثيرا للاهتمام في نصف ساعة أو نحو ذلك، أما في السينما فالأمر يتطلب سياقا للسرد يمكنه أن يجذب المتفرج من أول لحظة ويدخله مباشرة إلى العالم الذاتي للشخصية الرئيسية.
لكننا هنا أمام فكرة تقوم على أن العالم سيء ومليء بالشرور (وهذا ليس جديدا) وأن الإنسان الأكثر حساسية يمكن أن يقع ضحية لمشاعره وأحاسيسه المرهفة وقد ينتهي أيضا إلى ارتكاب جريمة تبدو بشعة وتجعله يبدو كوحش في عيون الرأي العام، إلا أنه في الحقيقة، ضحية هذا التدهور المحيط بالعالم، وقد ارتكب جريمته ليس رغبة في ابداء الشر بل في اطار نوع من "التكفير" أو تقديم "القربان" ربما.
ويجب أولا أن أؤكد لقراء هذا المقال من الشباب المحب للسينما، أن التذرع، كما يفعل هذا الفيلم في مقدمته، بأن أحداث الفيلم مبنية على حادثة حقيقية، لا يجب أن يرهبنا أو يجعلنا نسلم بالضرورة بخطورة الفيلم وأهميته، فلا يكفي أن تكون الأحداث قد وقعت في الواقع، بل الأهم أن تبدو مقنعة وأنت تجسدها في السينما، بل ويجب أن يكون تجسيدها أيضا، كما أشرت، يتمتع بالجاذبية والرونق والسحر الداخلي والجمال.
أما في فيلم هيرتزوج الذي تروق له كثيرا فكرة العلاقة بين الإنسان والعالم وكيف يمكن أن يؤدي التدهور الحاصل في العالم إلى تدهور في سلوكيات الانسان الفرد "النقي" "المعذب" "الأكثر حساسية"، فإننا لا نرى نجاحا في تجسيد الفكرة والأحداث.
إننا أمام رجل يدعى "براد" (يقوم بالدور مايكل شانون) وهو ممثل مسرحي يؤدي دورا رئيسيا في احدى التراجيديات الاغريقية لسوفوكليس، لكنه يصل في تقمصه إلى درجة خطيرة تجعله ينتهي إلى القتل بالسيف.
ويبدأ الفيلم والشرطة تحاصر بيت براد الذي تحصن داخله مهددا بقتل رهينتين معه. ونعود في مشاهد "فلاش باك" طويلة ومملة ومليئة بالثرثرة اللفظية واللقطات الطويلة المتوسطة، إلى علاقة براد بالمسرح وبالمخرج وبصديقة له (الاثنان حضرا بناء على طلب الشرطة للمساعدة في "تشخيص" حالة براد مع ضابط الشرطة "وليم دافو") ثم نرى مشاهد طويلة أخرى تدور بين براد وأمه التي تحبه ويحبها هو كثيرا جدا مما يستبعد وجود اي دافع لقتلها.. إلى أن نصل إلى لحظة الجنون التي تجعله يقتلها بالسيف دون أن نشاهد فعل القتل.
الفيلم من البداية يعلن مسبقا عن موضوعه وعن نهايته لذا فليس من المتوقع على الاطلاق أن فيلما بهذا الشكل سيجعل أي جمهور يقبل على مشاهدته خاصة وأن مخرجه يقدمه باعتباره فيلما من أفلام الرعب، ويقول إنه مع ذلك "يخلو من الدماء".
أسلوب الفلاش باك المتكرر بطول الفيلم ممل ولا يثري الفيلم بل يزيد كما ذكرت من جرعة الملل بسبب بطء الإيقاع والاعتماد على الحوارات المكثفة أمام الكاميرا وكأنك تشاهد برنامجا تلفيزيونيا لتشريح حالة مريض نفسي (بسبب ولعه بالمسرح هنا، ونفوره مما يحدث في العالم من نفاق وتدهور وغش!).
لكن يبدو أن هيرتزوج الذي لم يكن يكاد يجد عملا في السينما في بلاده أصبح فجأة من المرغوب فيهم بشدة (لأسباب أجهلها) في السينما الأمريكية.. وقد أخرج فيلمين في العام الجاري وحده هما اللذان يعرضان في فينسيا، وقد منح فرصة اعادة إخراج فيلم سبق إنتاجه وحقق من النجاح ما حققه هو فيلم "الضابط السيء".
وكنت قد شاهدت "الطبعة" الأولى من هذا الفيلم عند عرضه في مهرجان كان عام 1992 من إخراج أبيل فيرارا، وكان يقوم بدور البطولة فيه الممثل الكبير هارفي كايتل.
أما في الطبعة الهيرتزوجية (نسبة إلى هيرتزوج) فيقوم بدور ضابط الشرطة المنحرف الممثل نيكولاس كايج بدون أي نجاح يذكر. وإذا قارنا أداءه بأداء كايتل لبدا كايتل شخصية من لحم ودم ومشاعر أما كايج فهو مثل "روبوت" مفتعل يتحرك في تهالك وتكاسل ويؤدي بطريقة روتينية وبدون حرارة أو صدق.
الموضوع بالطبع قد يكون معروفا لهواة هذا النوع من افلام الصدمة الأمريكية (الصدمة بمعنى الإغراق في العنف والجنس أو بالأحرى الانحرافات الجنسية) وهو يدور حول ضابط يجد كل ما حوله فاقدا للمعنى، يعيش حياة شاردا كالكلب الأجرب، منبوذا لا أسرة له ولا مستقبل، الفساد داخل قسم الشرطة الذي يعمل به بلغ القمة، ولكن يتم التستر عليه بطريقة أو بأخرى، وهو على علاقة بعاهرة تبيع جسدها للأثرياء، وقد أدمن معها تعاطي الكوكايين، وهو على استعداد لارتكاب أي مخالفات من أجل الحصول عليه: السرقة والتهديد والابتزاز، ويتعقب ضحاياه من الشباب لتهديدهم ثم يستولي على ما معهم من مخدرات. لكنه يقع في مأزق تلو آخر، وينجو بأعجوبة من القتل لكي يقوم بتصفية خصومه من المجرمين في العالم السفلي، ثم ينال في النهاية ترقية من رؤسائه الذين يعتبرونه قد نجح في القضاء على عصابة من الأشقياء والمجرمين!
ويبدو البطل/ اللابطل في نهاية الفيلم وقد أصبح وحيدا أكثر عن ذي قبل، وربما يعود ليكرر أفعاله ولا ندري ماذا يمكن أن يحدث له!
لاشك أن فيلم فيرارا كان أكثر جرأة وحيوية في الايقاع والأحداث، أما هنا فنحن أمام مجموعة من "الكليشيهات" أو القوالب النمطية المعروفة والمألوفة الشائعة في الأفلام البوليسية. وإن كانت العلاقة بين الضابط ووالده من ناحية، والضابط وصديقته العاهرة، مرسومة بشكل أكثر حساسية.
وليس هناك في أسلوب الإخراج ما يوحي بنجاح هيرتزوج في تجاوز ما قدمه فيرارا في فيلمه، بل لقد قام أيضا باستبعاد بعض المشاهد التي ميزت الفيلم السابق ربما رغبة في الوصول إلى قطاعات أكبر من الجمهور.

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ماذا يحدث في مهرجان فينيسيا؟



افتتاح صاخب يتحدى كان وغير كان، وحشد غير مسبوق من الأفلام الأمريكية (17 فيلما منها 6 في المسابقة)، وتنوع شديد يثري المهرجان بأعمال من بلدان لم يسمع أحد أنها تنتج أصلا أفلاما سينمائية (هناك فيلم من سيريلانكا في المسابقة)، وبلدان أخرى كان وجودها شبه معدوم لعقود كاملة (السينما المصرية التي تعود بثلاثة أفلام داخل وخارج المسابقة).
ليس من المضمون على الاطلاق أن تكون الأفلام الأمريكية على المستوى الفني المنتظر، والفيلمان اللذان شاهدناهما بالفعل وهما "الطريق" لجون هيلكوت، و"الحياة في زمن الحرب" لا يبشران بأي أما، ليس من الناحية الحرفية كما يتصور البعض أحيانا، فالـ"الصنعة" أو الحرفة لا غبار عليها، وهي لم تعد أصلا موضوعا للمناقشة في السينما الأمريكية التي تمتلك أعظم أدوات تكنولوجية في العالم، لكننا حين نقول أن الفيلم ردئا أو ضعيفا، لا نقصد أنه رديء من الناحية الحرفية، فهذا لايزال أمرا مطروحا في تناول الأفلام العربية من المغرب إلى لبنان، ومنها الكثير جدا مما نطلق عليه "أفلاما" تجاوزا أو على سبيل المجاز والتشبيه!
المهم.. لكي لا نتوه كثيرا، أعود لأقول إن الضعف قد يكون مرتبطا بطريقة صياغة الموضوع وأسلوب الحكي ولغة الفيلم واستخدام لغة السينما في التعبير عن موضوع معين، وبدرجة أساسية هنا، استخدام المونتاج بطريقة فنية تجعل الصور واللقطات والمشاهد المؤتلفة معا، تعبر عن "رؤية" بصرية وذهنية تثير من المتعة، بقدر ما تثير من الاهتمام.
وأما فيلم الافتتاح الايطالي "باريا" Barria أو "باغيريا" طبقا للهجة المحلية (أو ربما العمس هو الصحيح) فقد أثار ردرد فعل متباينة. يعتبره الكثيرون هنا أضخم انتاج في تاريخ السينما الايطالية (35 مليون دولار)، وأنا شخصيا معجب كثيرا جدا بتسخير هذه الميزانية الطائلة (ليس بمفاهيم هوليوود بل بمفاهيم أوروبا والبلدان المتقدمة والمتخلفة معا!) من أجل التعبير عن فكر سينمائي مجنون عاشق للسينما عن حق، يعبر عن ذكرياته ويروي تاريخ أسرته المرتبط وخلال ذلك يروي تاريخ ايطاليا من زمن الفاشية حتى عصرنا هذا.
الصورة والحركة (حركة الكاميرا والممثلين وتعاقب اللقطات) والتكوينات المدهشة، والموسيقى العبقرية لموريكوني، هي أبرز ما يميز هذا الفيلم. لكنه يسقط في الاختبار تحديدا بسبب سقوط مخرجه ومبدعه في التكرار والاستطرادات وعدم قدرته على السيطرة على الإيقاع والتركيز في السرد في الثلث الأخير من الفيلم.
الطريف أن "باريا" من انتاج شركة يملكها رئيس الحكومة الايطالية بيرلسكوني الذي امتدح الفيلم كثيرا وأثنى على اختياره لافتتاح المهرجان رغم أنه يروي قصة تتقاطع فيها مصائر الأفراد على خلفية سياسية محددة تنحصر في انتماء بطله بل وعائلته كلها إلى الحزب الشيوعي.
وهناك من سخر من تعليقات بيرلسكوني على الفيلم وطالبه بالكف عن القيام بدور "الناقد السينمائي" أيضا، أو بالأحرى، المنتج والناقد!
يمكنني القول أننا حتى الآن لم نر أي مفاجأة حقيقية. لكننا شاهدنا عملا أصيلا لامعا هو الفيلم البالغ الرقة والرونق والجمال "أمير البكاء" (تايوان- هونج كونج- الصين) الذي أتوقع أن يظهر في النتائج النهائية للمهرجان عند إعلان الجوائز. وسيكون لي وقفة تفصيلية أمامه فيما بعد.
أخيرا.. وعلى الرغم من التجديدات والاضافات الكبيرة التي طرأت على المهرجان إلا أن هناك فوضى لم أشهد لها أنا شخصيا، مثيلا منذ سنوات بعيدة.. فالنقاد والصحفيون يضطرون للانتظار أكثر من 30 دقيقة بعد موعد عرض الفيلم مرتين يوم الخميس فقط. وعندما بدأ عرض فيلم "الحياة في زمن الحرب" الأمريكي بعد 45 دقيقة من التأخر عن موعده، فوجيء الجمهور الايطالي بعدم مطابقة الترجمة مع حواره، وأخذ الجمهمر يطلق صيحات الاستهجان والاحتجاج ولكن بلا جدوى بالطبع، وهنا نقول أن هناك خللا (ليس فقط في النسخة التي أرسلت للمهرجان) بل في اللجنة المشرفة على سلامة واستقامة النسخ التي كان يجب أن تفحصها بدقة قبل اقرار عرضها (في المسابقة ايضا)!
وكلا الأمرين: التأخير المخل، والعيب في ترجمة الفيلم، ليس من الممكن تصور حدوثهما في مهرجان "كان" مثلا وإلا انقلب المهرجان كله واضطرب جدوله، لكنه يحدث في فينيسيا دون أن تقع أي كارثة.
لكن لا يجب أن ننسى أبدا أننا في إيطاليا: بلد العشق اللاتيني والمشاعر المتدفقة الحارة.. ألا يعوض هذا عن كل الأخطاء الصغيرة!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger