السبت، 12 سبتمبر 2009

يوميات مهرجان فينيسيا 2009



((هذه هي اليوميات التي كتبتها في مهرجان فينيسيا لم أبدأها من اليوم الأول والثاني لوجودي هناك إلى أن أصبحت قادرا على الكتابة بعد ترتيب الأوضاع والأمور وفهم ما يدور)).
الجمعة 4 سبتمبر
اليوم الجمعة العرض الصحفي (قبل العرض العام بيوم) للفيلم التونسي "أسرار دفينة" لرجاء عماري في برنامج "آفاق"، وفيلم "حراقة" للمخرج الجزائري مرزاق علواش في قسم "أيام فينيسيا". وينظم المهرجان على الثانية والنصف مؤتمرا صحفيا لمخرجة الفيلم التونسي.
أما علواش فيناقش فيلمه مع جمهور "أيام فينيسيا" وهو مهرجان مواز مستقل على غرار "نصف شهر المخرجين" في كان. وينظمه اتحاد مخرجي السينما، كما تنظم جمعية نقاد السينما الايطاليين قسم "اسبوع النقاد".
وجدير بالذكر أنه لا يوجد قسم تحت عنوان "اسبوع النقاد" لا في مهرجان القاهرة السينمائي ولا في مهرجان قرطاج العريق رغم وجود جمعيتين للنقاد عضوين في الاتحاد الدولي في كل من مصر وتونس.
ولعل في هذا ما يكشف موقف المهرجانات العربية عموما من النقاد السينمائيين ومن الحركة النقدية عموما. وكنت قد تقدمت (عندما كنت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين) بمشروع لتنظيم اسبوع للنقاد على هامش مهرجان القاهرة السينمائي إلى رئيس المهرجان وقتذاك (2002) الصحفي شريف الشوباشي لكن الشوباشي لم يهتم حتى بمناقشة الموضوع، وكل ما اهتم به أنه عاد في العام التالي أو ما بعده لكي يدعو لجنة من الاتحاد الدولي لحضور مهرجان القاهرة مع الاغداق على أعضائها (من مأكل ومشرب!) تحت تصور أن هذا يكفي للحصول على "العالمية" أما النقاد المحليون فليذهبوا إلى الجحيم.
ذهب الشوباشي، وجاء أبو عوف، ولم يتغير شيء لأن "العصمة" ظلت طيلة الوقت، أي منذ رحيل سعد الدين وهبة في يد "الست" التي أطلقت عليها قبل سنوات "المرأة الحديدة" التي تربطها بعض صلات بامرأة فرعون والعياذ بالله!

السبت 5 سبتمبر

اليوم هو يوم منتظر بشدة على شاطيء الليدو، ليس لأن ماركو موللر يدخر لنا مفاجأة أخرى غير مفاجأة الأمس السيئة مثل "الليفتنانت السيء" تماما، بل لأنه اليوم الذي سنشاهد فيه في عرض صحفي فيلم مايكل مور المنتظر "الرأسمالية: قصة حب" لنرى كيف سيتمكن الساحر من الكشف عن ألغاز الامبراطورية المالية الكونية التي انهارت وانهارت معها الكثير من الآمال.شاهدنا أمس الفيلمين التونسي والجزائري، وكلاهما متوسط المستوى، بالتأكيد ليس على مستوى العرض بالمسابقة وإن كانت هناك أفلام أقل بكل تأكيد في المسابقة، وسنعود تفصيلا إلى الفيلمين لاحقا.
مجلة "فاريتي" تنشر لليوم الثاني على التوالي عن السينما المصرية وما يحدث فيها وأفلامها الثلاثة المشاركة في فينيسيا. على الصفحة الأولى موضوع كتبه الشاب النشيط جدا علي جعفر الذي يمكنك أن تشم من كتاباته رائحة الترويج المدفوع بعد أن خصصته المجلة لإرضاء غرور البسطاء في الشرق الأوسط الذين يدفعون مقابل نشر الأخبار والتحقيقات عنهم.
جعفر هذا (من أصل لبناني يقيم في لندن ويعمل بمؤسسة السينما البريطانية) يكتب مقالا بعنوان "المصريون يعثرون على بؤرة جديدة" وكنت اتصور أنه يقصد بالطبع مهرجان فينيسيا الذي لم يكن أحد من المصريين يوليه اهتماما إلى أن وجدوا ذات يوم ثلاثة من أفلامهم في البرنامج الرسمي للمهرجان، إلا أنني فهمت مما كتبه أنه يقصد أن الأفلام المصرية أصبحت تركز على مواضيع أكثر علاقة بالمشاهدين مما كان خلال الثلاثين عاما الماضية على حد قوله، وهو قول خاطيء بكل تأكيد خاصة وأنه يقول إن هذه الافلام الثلاثة تشير إلى استعادة السينما المصرية ما كانت عليه من مجد في عصرها الذهبي في الأربعينيات والخمسينيات، وهو ما يعني أنه لا يفهم جيدا تاريخ السينما المصرية، فمعظم ما كان ينتج من افلام في الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات كانت من أفلام التسالي والتهريج. وقد نسي هو أن السينما المصرية أنتجت في السبعينيات والثمانينيات عددا من أفضل ما أنتجته في تاريخها من افلام.
على أي حال، جميل أن تكتب فاريتي، وأن تقتنع الشركات المصرية بل ووزارة الثقافة أيضا، بأهمية أن تدفع مقابل الاعلان المباشر وغير المباشر في فاريتي وغيرها، وجميل أن يكون هناك اهتمام بالتواجد والتأثير والتأثر.ولكن هل سيستمر هذا الزخم عاما بعد عام أم أنه طفرة مفاجئة استثنائية؟
علمت أيضا أن وزير الثقافة مول حضور وفد صحفي مصري مكون من 23 صحفيا واعلاميا بينهم منى الشاذلي صاحبة البرنامج الشهير "الساعة العاشرة مساء" وهي في رأيي الشخصي وبحكم خبرتي الإعلامية المتواضعة لا تصلح مقدمة لبرنامج محوري على هذا النحو، أو أنها على الأقل في حاجة إلى تدريب طويل وشاق على الحديث واستخدام الألفاظ واجادة اللغة العربية بدون تلعثم، وأن تتعلم كيف تنظر إلى الضيف الذي تحاوره وليس إلى عين الكاميرا، أي إلى عين المشاهد وكأنها تتطلع إلى نفسها في المرآة طوال الوقت، كما يتعين عليها أن تتعلم أيضا ان تتوقف عن الإعجاب الزائد بنفسها واللعب بشعرها الهفهاف طول الوقت، وأن تركز أكثر على الموضوع، وتكف عن نفاق المسؤولين في حين أنها تريد أن توحي لنا أنها تتخذ موقفا صلبا منهم، واللعبة مكشوفة تماما، بل وقد ثبت من حكاية فينيسيا أن منى الشاذلي ترس صغير من تروس الآلة الاعلامية الرسمية رغم أنها تعمل لقناة "مستقلة" أو بالأحرى "مستغلة" يملكها رأسمالي متزوج من أحد فروع السلطة السياسية.
الشاهد أن الشاذلي وغيرها من الصحفيين والصحفيات من صحف الحكومة وصحف بنت أخت الحكومة، أي المعارضة المستقلة جدا جدا، سيصلون لقضاء الأيام الأربعة الأخيرة من المهرجان، أي تحديدا للاحتفال والاحتفاء بالفيلم الذي أنتجه الوزير فاروق حسني وهو فيلم "المسافر" في عروضه الصحفية ثم عروضه العامة بالمهرجان، لكي يكتبوا في الترويج للفيلم وللوزير في الصحافة المصرية.. فهل رأيتم خيبة أكبر من هذه؟الخيبة تأتي من كون الدولة لاتزال تؤمن بالصحافة الموجهة الدعائية التي يمكن توظيفها، والانفاق على صحفييها، حتى لو كانوا من الصحف التي تعتبر نفسها (حرة، مستقلة، معارضة) وهو ما يعكس إهانة ما بعدها اهانة للصحفيين والنقاد الذين سيتمتعون بالنزول لأربعة أيام في أغلى فندق على شاطيء الليدو وهو فندق "إكسليسيور" على حساب الوزير من أموال دافعي الضرائب المساكين طبعا!
ثانيا: كان من باب أولى أن يخصص الوزير- الفنان الحملة الدعائية المنظمة له ولفيلمه وجماله وحلاوته، في الخارج حتى تنفعه في ترشحه لليونسكو، بدلا من أن يدعو لنفسه ولانجازاته أمام شعب لم يعد يبالي أصلا بموضوع الثقافة بعد أن يأس من حل مشكلة رغيف الخبز.. وللحديث بقية.

الأحد 6 سبتمبر
* التساؤلات بدأت مجددا حول مستوى أفلام المسابقة التي لا يبدو أنها تحظى بإعجاب معظم النقاد الحاضرين هنا حتى الآن، بعيدا بالطبع عن الفيلم التايواني "أمير الدموع" الذي أراه "تحفة" رائعة وعملا جديرا بالتكريم، وطبعا الفيلم الصادم والمنير "الرأسمالية: قصة حب" للعبقري مايكل مور الذي أحدث ثورة حقيقية في علاقة الجمهور بالفيلم التسجيلي. وأتصور أيضا أن الوقت لايزال مبكرا للحكم على مستوى المسابقة عموما فلايزال هناك 14 فيلما لم تعرض بعد سنشاهد منها اليوم فيلمين هما الفيلم القادم من سيريلانكا "بين عالمين"، والفيلم الفرنسي "المادة البيضاء".
* مجلة فاريتي في عدد أمس السبت، نشرت إعلانا على صفحة الغلاف الأمامي من القسم الإيطالي (هناك أيضا قسم إنجليزي) عن الفيلم المصري "المسافر" تتصدره بالطبع صورة لعمر الشريف.لاتزال هناك حالة من الغضب على ضم فيلمين (عاديين) للمخرج الألماني فيرنر هيرتزوج في المسابقة دون أي مبرر حقيقي، وما يعكسه هذا من خلل في مبدأ تكافؤ الفرص بين السينمائيين، خاصة وقد اعتبر فيلمه الثاني الفيلم المفاجأة في المسابقة!* فيلم مايكل مور عن الأزمة المالية العالمية عمل كبير غير مسبوق، ولاشك أنه أيضا يفتح عيون البشر في العالم إلى حقائق لا يتكلم عنها أحد. ولاشك أنه سيكون هناك مقال خاص تفصيلي عن هذا الفيلم.
* إدارة مهرجان فينيسيا خصصت للضيوف والنقاد عددا من المطاعم التي تقدم لهم خدمة بأسعار ليست رخيصة لكنها على أي حال في المتناول أي قريبة من دائرة النشاط. والمباني الجديدة التي تشمل قصرا جديدا للمهرجان بدأت في الإنشاء قبل فترة، لذا تم إغلاق المنطقة المحيطة تقليديا بقصر المهرجان والمكتب الصحفي وابتدعت طرق فرعية جديدة ومسارات ومداخل ملبدة بالحراسة الأمنية وتخضع للتفتيش الدقيق. هناك بالمناسبة هوس خاص لدى الإيطاليين بالأمن. حراس بل وجنود أمن وطني في كل مكان قرب منشآت المهرجان. ولكن إذا كان المهرجان يهتم كثيرا بالتوسع في قاعات العرض ويخص مطاعم لضيوفه فلماذا لا يستثمر أيضا في إنشاء مجمع فندقي يشمل مثلا 1500 غرفة من مستويات معقولة وبأسعار تنافسية حتى يحد من تضاعف أسعار الغرف الفندقية في جزيرة لم تشهد أي توسع فندقي منذ أكثر من ثلاثين عاما، فأنت هنا تدفع أرقاما فلكية وتحصل على خدمة فندقية أقل من المتوسط. إنه موسم الاستغلال النشيط من جانب أصحاب الفنادق. ومعظمها بالمناسبة صغيرة وقديمة والكثير منها في منازل كانت ملك عائلات أرستقراطية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. الكثير من النقاد والصحفيين أصبحوا حاليا يفضلون الاقامة في جزر أخرى بعيدة ويستخدمون الحافلات المائية يوميا عدة مرات.. ومستقبلا ربما يلجأ البعض إلى السباحة أيضا من أجل الوصول إلى الليدو.. فمن يدري!
* الجلسة المسائية الطويلة مع محمد رضا للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة بعيدة، كانت مفيدة بوجه خاص لتوضيح الكثير من الأمور التي تساعد على إزالة أي شائبة من سوء التفاهم أو سوء التقدير.. ولعلم كل الذين يستثمرون في الخلافات بين البشر.. نحن بشر، نخطيء ونصيب، كما ننفعل بحكم مشاعرنا الجامحة، لكن طيبة القلب تتغلب دائما في النهاية.. وسنظل أصدقاء رغم كل شيء وسنبقى كذلك.

الإثنين 7 سبتمبر
* الفيلم الفرنسي الثاني في المسابقة هو فيلم "36 منظر لجبل سانت لوب" لكبير السينما الفرنسية أو أحد كبرائها جاك ريفيت، مسرحية بالمعنى الحرفي للكلمة، وقد اختار هو لذلك أن يضع على الشاشة اسمه ليس كمخرج للفيلم بل كمسؤول عن "الميزانسين" أي تحريك الممثلين في الديكورات، سواء الطبيعية أو المصنوعة. والحوار هو العنصر الأول في توصيل مفهوم الفيلم الوجودي.
* السينما الفرنسية لا تبشر بخير بعد الفيلم الأول من بين أربعة أفلام، في المسابقة وهو فيلم "مادة بيضاء" للمخرجة كلير دينيس. هذا الفيلم يدور في بلد افريقي يشهد انقلابا عسكريا قوميا على نظام موال للفرنسيين، ويعكس حيرة وتخبط وعجز أسرة فرنسية (زواج وزوجو وابن) عن المغادرة، عن الانضمام للثورة أو الهرب إلى بلادهم مع الهاربين. هناك حب للبقاء في البلد تجسده الزوجة- الأم تحديدا التي تقوم بدورها إيزابيل أوبير، وعجز يؤدي إلى الدمار من جانب الزوج والابن، الإبن يقتل في حريق يشعله العسكريون الثوار في المنزل، والزوج يقتل على يدي الزوجة، والأخيرة تضل وتفقد القدرة على التفكير السليم.
لكن مشكلة هذا الفيلم أنه لا يتجاوز مجرد وصف الحالة والدوران حول الفكرة وتكرارها، مع خواء مثير للدهشة والاستغراب في باقي الفيلم الذي يخلو من الحبكة والصراع والتطور الدرامي، كما يخلو من أي عمق سياسي في طرح الموضوع بحيث أن الأمر يختلط على المتفرج أحيانا، فهل يدين الفيلم الثوار المحليين الذين يصورهم في صورة قتلة همجيين، أم الفرنسيين المستوطنين الذين كانوا ينتفعون من فساد النظام الذي سقط للتو. إن حير البطلة الضائعة روحيا ونفسيا، تنتقل إلى المتفرج فيفشل في اتخاذ وجهة محددة أثناء متابعة الفيلم، فيفقد بالتالي القدرة على المتابعة وتتوه الخيوط من بين يده.
وهذا نموذج للتحذلق المفتعل في السينما الفرنسية، لكن هناك، لايزال، فيلمان من فرنسا في المسابقة علينا أن ننتظر إلى أن ننتهي من مشاهدتهما قبل اصدار حكم على الوضع الرهن لأفضل ما في تلك السينما حسب القديس ماركو "موللر" الذي أتى إلينا بتلك الأفلام هو وفريقه.

الثلاثاء 8 سبتمبر

موضوع تأخر عروض الأفلام يتفاقم يوما بعد يوم. فبعد أن وقفنا قبل أيام لمدة 40 دقيقة تحت الشمس الحارة في انتظرا دخول قاعة العرض لمشاهدة فيلم "الحياة في زمن الحرب" ثم تأخر عرضه داخل القاعة، ثم عرض نسخة عليها ترجمة ايطالية غير متوافقة مع الصورة مما أدى إلى احتجاج الجمهور الايطالي الغفير وانسحاب الكثيرين منه، وقفنا بعد ذلك ننتظر أكثر من نصف ساعة لمشاهدة الفيلم النمساوي "لاودرز" بدون أن نحصل على أي تفسير مقنع علما بأن قاعة العرض في الداخل كانت خالية!
ويجب أن يكون واضحا أنني عندما أكتب عن الوقوف لمدة 40 أو 30 دقيقة خارج قاعة العرض فالمقصود أن الموعد المحدد لعرض الفيلم يكون قد تم تجاوزه بهذا الزمن وليس الانتظار الطبيعي قبل الدخول!
وقد تكرر الأمر مساء أمس أيضا مع الفيلم الإسرائيلي "لبنان" الذي كان مقررا أن يبدأ في السابعة و45 دقيقة مساء إلا أنه لم يبدأ سوى في الثامنة و45 دقيقة، أي متأخرا عن موعده ساعتين كاملتين لأن القاعة كانت مشغولة بعرض الأفلام القصيرة المشاركة في المسابقة، وقبلها كانت ندوة للاحتفاء بستديو بيكسار التابع لشركة ديزي المتخصص في إنتاج أفلام الرسوم المجسمة مثل "إلى أعلى" Up قد امتدت فيما يبدو خارج الوقت المحدد لها وهو ما يعكس فوضى إدارية يتحمل مسؤوليتها دون أدنى شك مدير المهرجان ماركو موللر، ففي الوقت الذي تبذل فيه كل الجهود لجعل هذا المهرجان يعود إلى موقعه القديم المتقدم بعد كان مباشرة، يأتي هذا الاضطراب لكي يقوض سمعته مجددا.
* حتى الآن عرض من أفلام المسابقة 15 فيلما من 24 هي أفلام مسابقة الأفلام الطويلة، أفضلها على الإطلاق بفارق كبير بينها وبين باقي الأفلام فيلم "أمير الدموع" التايواني للمخرج يونفان، وفيلم "الرأسمالية: قصة حب" التسجيلي لمايكل مور، ثم "باريا" لتورناتوري. أما الأفلام الأخرة فتحصيل حاصل أو ملىء فراغ بما فيها فيلم جاك ريفيت الذي يبدو أنه أصبح يصنع الأفلام لمزاجه الشخصي، ولست أدري حقا لماذا يميل المخرجون الفرنسيون عندما يتقدم بهم العمر إلى المسرح المصور، مثلما يفعل جاك ريفيت وآلان رينيه وإريك رومير!

الأربعاء 9 سبتمبر

* مناقشة الفيلم الإسرائيلي في المؤتمر الصحفي بحضور مخرجه وعدد من الممثلين ومنتج الفيلم شهدت زحاما غير عادي، ليس بسبب اهتمام خاص بالفيلم الإسرائيلي بل بسبب أنه يسبق مباشرة المؤتمر الصحفي لنجوم الفيلم الأمريكي "الرجال الذين يحدقون في الماعز" وهما جورج كلوني وايان ماكريجور ومخرجه هيرسوف.المخرج الإسرائيلي يتحدث انجليزية غليظة جدا ويجيب اجابات أحيانا توحي بالبلاهة، فعندما سئل ما اذا كانوا سيترجمون إلى العبرية الكلام الفظ الذي يوجهه الكتائبي اللبناني في الفيلم إلى السجين السوري وكلام السجين بعد ذلك لآسريه الإسرائيليين (وهو بالإنجليزية فقط في الفيلم) أجاب المخرج أنه لا يعرف، وأن هذا الأمر يعتبر إشكالية أو مأزقا وإنهم لم يقرروا بعد ماذا سيفعلون!
أما منتج الفيلم (الذي يتحدث بطريقة أكثر غلاظة وخشونة ويبدو مثل ضابط في الجيش الصهيوني) فما أن وجه إليه سؤال حول الوضع الراهب للسينما الإسرائيلي إلا وانبرى على الفور في نغمة فظة غير مبررة يقول إن إسرائيل دول ديمقراطية وإنه لاتوج رقابة في اسرائيل على تصوير الأفلام السينمائية، وكأنه يود التأكيد لى أمر مشكوك فيه أو يشعر أنه موفد حكومي يتعين عليه التأكيد على ديمقراطية إسرائيل التي تعتقل نحو مليون ونصف مليون شخص، كما تفرض على 2 مليون آخرين من سكان غزة حصارا دمويا.. لكنها الدعاية الشرسة بأي ثمن. يالها من ديمقراطية تلك التي أقامت حاجزا عنصريا لتديمر حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية.. لكن هذلاء في نظر أغلبية يهود إسرائيل أدنى من مستوى البشر، والأغلبية لا تصنع أفلاما تتحدث عن نبذ الحرب!
* أثناء مناقشة الفيلم الثاني وجه أحد الشباب الايطالي الذي قدم نفسه باعتباره من المثليين (الشواذ) سؤالا إلى جورج كلوني عما اذا كانت العلاقة بينه وبين ماكريجور في الفيلم فيها نوع من المثلية الجنسية أو توحي بذلك، فتهرب كلوني من الإجابة، فما كان من شاب آخر إلا أن انبرى يقول لكلوني: أنا مثلي.. وأحبك ياجورج.. أرجوك خذني.. خذني حبيبا لك.. قبلني ياجورج. ثم أخذ الشاب في خلع ملابسه وأظهر صدره وقد ربط ربطة عنق غليظة تدلت فوقه. وكان تعليق كلوني أن ضحك قائلا إن الشاب لا يجب أن يتصور أنه بخلع قميصه سيحقق أي شيء، وأخذ يسخر منه بهدوء، ثم ضحك وقال إنه يسمع صوت سيارة طواريء في الطريق (في اشارة إلى سيارة شرطة) لكن الشاب استمر في هذيانه الأجوف ثم ابتسم لكاميرا تليفزيونية وبدأ يتخذ لنفسه أوضاعا للتصوير والشهرة الزائفة!ووجه ثالث لكلوني سؤالا يقول فيه إن كلوني كان عادة يأتي بصحبة امرأة حسناء إلى فينيسيا، لكنه أتى وحده هذه المرة، فمتى سيتزوج بعد أن تجاوز الخامسة والأربعين؟
فرد كلوني قائلا إنه للمرة الأولى يوجه إليه مثل هذا السؤال خلال 25 عاما، وإن الإجابة التقليدية في مثل هذه الحالة هي أنه لا يعرف!
* بدأت أتشكك في سلامة أحكام عدد كبير من النقاد والصحفيين الإيطاليين الذين كنت أتوقع أن يطلقوا صيحات الاستهجان مثلا بعد الفيلم السخيف "نجاة الموتى" The Survival of The Dead لجورج روميرو الذي يمكن اعتباره بحق، أسخف الأفلام التي شاهدتها، ليس فقط في مسابقة فينيسيا، وما كان يجب أن ينضم للمسابقة أصلا، بل الأسوأ في عام 2009 كله، ولا أظن أنه سيتفوق عليه أي فيلم آخر. لكن هؤلاء الصحفيين فاجأوني بالتصفيق، كما صفقوا أيضا بعد الفيلم الإيراني الفاشل "الحفرة" الذي يصلح لتدريب طلاب السينما على ما يتعين عليهم تفادي ارتكابه أثناء صنع أفلامهم مستقبلا، لكن للمهرجانات أحكامها.. إنها حالة الاحتفال. ولا يشترط أبدا كما نعرف، أن تحصل الأفلام الجيدة على الجوائز بل عادة ما تحصل أفلام شديدة الردءاة على جوائز تحقيقا لتوازنات معينة. بالمناسبة أفضل الأفلام تظل فيلم مايكل مور "الرأسمالية"، والفيلم التايواني "أمير الدموع". وهناك إعجاب بالفيلم الإسرائيلي الجديد في تقنيته وأسلوبه وقد ينال إحدى الجوائز.. ولكن هل ستتبع لجنة التحكيم منهج التوازن في هذه الحالة!

الخميس 10 سبتمبر

السينما الإيطالية تعود بقوة إلى المسابقة بفيلم ميشيل بلاسيدو "الحلم الكبير" الذي يمكن جدا أن يحصل على إحدى الجوائز المهمة في فينيسيا.الموضوع سياسي تماما يدور في 1968- 1969 في تلك الفترة الصاخبة، والمعالجة شفافة تتميز بالرقة والجمال، مع كل تضاريس الفترة بادية في الصورة. سيكون هناك مقال خاص بالتأكيد حول هذا الفيلم بعد أن ينتفض المولد.اليوم العرض الصحفي لفيلم "المسافر". وزير الثقافة المصري فاروق حسني منتج الفيلم تغيب عن الليدو، كما غاب أيضا وكيله علي أبو شادي.
كاملة أبو ذكري حضرت المؤتمر الصحفي لفيلمها "واحد صفر" الذي لقي استجابة جيدة من جانب الصحفيين الإيطاليين.إلهام شاهين وخالد أبو النجا وانتصار وكاتبة السيناريو مريم ناعوم حضروا المؤتمر الصحفي للفيلم.النجم الكبير عمر الشريف سيحضر غدا المؤتمر الصحفي لفيلم "المسافر" مع الحسناء سيرين عبد النور و"الأخ" خالد النبوي. لم أشاهد الفيلم بعد لكني سأكتب عنه بعد مشاهدته مباشرة.
المسابقة بدأت معالمها تتضح بشكل كبير فلم يبق من أفلامها سوى ثلاثة أفلام لم تعرض بعد، ثم يتحدد امصير.لدي إحساس خاص داخلي بأن الفيلم الإيطالي "الحلم الكبير" سيحصل على إحدى الجوائز الرئيسية (هناك اثنان من المخرجين الإيطاليين في لجنة التحكيم). كما لدى أيضا إحساس بأن فيلم "أمير الدموع" التايواني سيخرج أيضا بجائزة، وكذلك الفيلم الإسرائيلي "لبنان". لكن ليست هذه نبؤات أو تنبؤات، فلا أحاول هنا أن أقرأ الغيب، وقد تأتي النتيجة عكس توقعاتنا تماما، وقد يحقق فيلم "المسافر" مفاجأة ويفوز بجائزة رئيسية.. من يدري!
بيرلسكوني يواجه حاليا هجوما شديدا في إيطاليا من جانب المثقفين، وفيلم "فيديوقراطية" الذي رفض المهرجان إدراجه في البرنامج الرسمي يعرض عروضا عامة حاليا في دور العرض الإيطالية ويحقق نجاحا كبيرا، وهو الفيلم التسجيلي الذي أخرجه مخرج ايطالي يقيم في السويد ويوجه فيه سخرية مريرة من بيرلسكوني، ويتهمه باقامة امبراطورية تليفزيونية تلهي الشباب عن الواقع، تجعله يعيش في وهم الصورة، وتفرغ المجتمع من القيم الحقيقية، ويصور بيرلسكوني وسط فتيات الاستعراض محاطا بعدد من هواة الشهرة والظهور الإعلامي في قنواته التليفزيونية المتعددة.بيرلسكوني يحكم رغم أنف اليسار الذي عجز عن تشكيل ائتلاف قابل للحياة طوال تاريخه السياسي المتأرجح في إيطاليا منذ أن انقضت سنوات "الحلم الكبير"!

الجمعة 11 سبتمبر




* مجلة "فاريتي" التي تصدر يوميا خلال المهرجان بالإيطالية والإنجليزية نشرت للمرة الثالثة إعلانا على صفحة كاملة عن فيلم "المسافر". المجلة تنشر عروضا نقدية سريعة للأفلام التي تعرض بالمهرجان ولكن باللغة الإيطالية فقط، اما القسم الإنجليزي فيهتم بتسليط الأضواء على بعض المحاور والأحداث.العرض الصحفي المخصص لنقاد الصحافة اليومية في قاعة "بيرلا" لفيلم "المسافر" لم يشهد اقبالا كبيرا ربما لأنه عرض في العاشرة والربع مساء، ولكن عددا كبيرا من الصحفيين والنقاد انسحبوا أثناء العرض، بعضم بعد أقل من 15 دقيقة من بدايته. هذه حقيقة وليست "إشاعة" مغرضة، وأنا شخصيا لا أعرف السبب، لكن عندي بعض التصورات التي تتعلق بمفهوم مسبق لدى هؤلاء الأوروبيين عن سينما "الآخر". لكن ليس معنى هذا أنني من المهووسين بهذا الفيلم الذي سأكتب عنه مقالا خاصا ينشر بعد أن تهدأ الضجة.
* الفيلم الإيطالي "الساعة المزدوجة" مزيج من الفيلم البوليسي المثير، وفيلم الرعب، لكنه مصنوع بدقة شديدة ويقدم جرعة جيدة من التسلية والإثارة. وجوده في المسابقة غريب على أي حال تماما مثل وجود الفيلم الأمريكي "نجاة الموتى" لجورج روميرو وهو يندرج فيما أطلق عليه صديقنا مدحت محفوظ "أفلام التقزيز" إشارة إلى الأفلام التي تتخصص في إثارة القرف والتقزز كنوع من الأثارة والرعب أيضا مثلما هو الحال عندما ترى مجموعة من الجثث ردت فيها الحياة لكنها ليست من الأحياء تماما بل مما يطلق عليه الأدب الغربي zombies وهي تنقض على جثة رجل ميت تنهش أحشاءه وتلغ في دمائه وتخرج أعضاءه الداخلية تلتهمها والدم يسيل من أفواه أفرادها جميعا في مشهد رهيب تقشعر له الأبدان وتتقزز النفوس.بالمناسبة مدحت محفوظ معروف أيضا بتفننه في نحت مصطلحات جديدة مثل كلمة "موجه الفيلم" أي مخرجه وهي ترجمة حرفية لكلمة film director وكلمة توجيه أي إخراج.
* الفيلم الأمريكي "الحياة في زمن الحرب" (وهو فيلم مسرحي تماما يعتمد على الحوار الطريف) لايزال يتربع على قمة الاستفتاء اليومي الذي تجريه مجلة فاريتي ويشمل عددا من النقاد الإيطاليين الذين يكتبون لأهم الصحف الإيطالية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ويأتي فيلم مايكل مور "الرأسمالية: قصة حب" في المرتبة الثالثة في هذا الاستطلاع بعد الفيلم الإسرائيلي "لبنان".
* الفيلم الألماني "مطبخ الروح" من اخراج التركي فاتح أكين يعتبر من أسوأ الأفلام التي شهدتها أنا شخصيا في هذه الدورة رغم أن كثيرين رأوا أنه مضحك، وأنا أتفق معهم في أنه مضحك أي مثير للسخرية، وفيه نغمة "استهبال" لو شاهدنا مثيلا له في فيلم مصري بطولة عادل إمام مثلا (مثل بوبوس) لأهلنا التراب على السينما المصرية كما يفعل كثير من أشقائنا العرب بعد أن أصبحوا يعتبرون السينما المصرية (هكذا بشكل عام وفي المطلق) "حمالة خطايا" السينما العربية كلها، فهي المسؤولة عن كل أشكال التدني والانهيار، في السينما وفي الحياة، وقد سبق أن حملها المخرج الجزائري الأخضر حامينا مسؤولية هزيمة 1967 أيضا!
(ملحوظة: يجب ملاحظة أن كاتب هذه السطور ليس من المعروفين بالتحدث بلسان السينما المصرية بل من أشد نقادها).أستطرد فأقول إن مستوى "مطبخ الروح" (وهو عنوان سخيف لفيلم أسخف) لن يمنع بالطبع من أن يأتي بعض الكاتبين بالعربية لكي يمتدحوا الفيلم الألماني (التركي الإخراج) فقط لأنه لمخرج تركي (يعتبرونه من أبناء عمومتهم) تماما كما أصبحوا يعتبرون كل فيلم إيراني فيلمهم، والسنيما الإيرانية بديلة لسينماهم. بالمناسبة الأفلام الإيرانية الأربعة في فينيسيا (وعلى رأسها فيلم المسابقة "نساء بدون رجال") أفلام من النوع الهزيل المفكك المتحذلق، وهي أساسا أفلام من التمويل الغربي، تبحث بأي شكل من الأشكال عن رضا الغرب.. وهذا موضوع لابد أن نتطرق إليه قريبا بصراحة كاملة.

السبت 12 سبتمبر

لم أر في حياتي شيئا مشابها لما حدث في مهرجان فينيسيا هذا العام، فقد انساق مدير المهرجان ماركو موللر مع نزواته وأدخل فيلمين من أفلام المفاجأة، وليس فيلما واحدا فقط كما أعلن المهرجان من قبل أن يبدأ، وبذلك أصبح هناك فيلمان اضافيان في المسابقة لم يعلن عنهما مسبقا: الأول الأمريكي "يابني.. يابني.. ماذا فعلت" للمخرج الذي يهبط مستواه بشكل مدهش فيرنز هيرتزوج، والثاني الفيلم الفليبيني "لولا" للمخرج الذي اثار فيلمه الأخير في مهرجان كان الكثير من الاستياء لكنه حصل على احدى الجوائز، وهو بريلانتي ميندوزا، وعنوان الفيلم هو "لولا" الذي لم أشاهده لأنني ببساطة رحلت عن المهرجان قبل أن يعرض في اليوم الأخير، كما لم أشاهد فيلم "رجل أعزب" الأمريكي للمخرج توم فورد الذي لاقى اعجاب الكثيرين كما علمت.
من "المفاجآت" الأخرى في المهرجان أن تمنح لجنة تحكيم المسابقة الخاصة بالأفلام القصيرة جائزة الترشيح لجوائز الاتحاد "الأوروبي" 2009- لاحظ التشديد على الأوروبي هنا- للفيلم "الإسرائيلي" القصير "الخاطئ" لمخرج يدعى ميني فيليب، وهو ما يعني أن المهرجان يعتبر إسرائيل دولة أوروبية بينما تصر اسرائيل نفسها على اعتبار نفسها جزءا من آسيا، ومن الشرق الأوسط، بل ومن أمريكا أحيانا، وفي كل الأحوال، حسب ما يخدم مصلحتها وادعاءاتها الكثيرة التي لا تنتهي. ولاشك أنها أيضا يمكن جدا الآن، أن تعتبر نفسها جزءا عضويا لا يتجزأ من العالم العربي.. بعد أن تخلت دول عربية كثيرة عن التمسك بالعالم العربي وأصبحت تتطلع إلى كيانات أخرى أو إلى مجرد التواجد على الخريطة، أي خريطة!

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

"أمير الدموع": أنشودة عذبة عن الحب والصداقة والخيانة في زمن القهر

يعتبر فيلم "أمير الدموع" للمخرج يونفان، وهو فيلم من الإنتاج التايواني المشترك مع هونج كونج، من أفضل وأهم الأفلام التي شهدتها مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة السادسة والستين من مهرجان فينيسيا السينمائي.
لماذ نعتبر هذا الفيلم عملا متميزا؟
الأسباب هي أولا توفر سيناريو جيد شخصياته مرسومة ببراعة والعلاقات المتداخلة المركبة فيما بينها، تتطور بشكل سلس ومقنع، والعلاقة بين الخاص والعام في هذا السيناريو منسوجة ببراعة، وبدون إقحام أو خطابة.
ثانيا: الإخراج المتميز بلمسات شاعرية رقيقة كالنسيم، مما يجعل الفيلم رغم قتامة موضوعه وقسوته، يبدو كالقصيدة الجميلة التي تخاطب العقل والقلب والوجدان، كما أن الأداء التمثيلي يتميز كثيرا من جانب جميع الممثلين الذين اشتركوا في الفيلم، من الأطفال إلى الكبار.
ثالثا: التصوير السينمائي البديع الذي يجعل الإنسان يتماهى مع الطبيعة، ويجعل الطبيعة شاهدا على ما يحدث من قهر للإنسان، كما أن المخرج يعرف أين ومتى يتوقف عن الاستمرار في السرد وتطوير الحبكة، لكي يتيح لأبطاله وجمهوره بالتالي، لحظات من الأمل وطرح التساؤلات التي لا نسمعها وإنما نشعر بها تحت جلد الصورة.
رابعا: الموسيقى المصاحبة المتميزة بكلاسيكيتها ورونقها الخاص، والتي تضفي جوا من السحر على الصورة فتساهم في تكثيفها، كما تتناسب مع أجواء العلاقة البارزة في الفيلم بين عالمي الأطفال والكبار.
موضوع الفيلم يدور في تايوان الخمسينيات أي في الفترة التي شهدت أجواء سياسية محمومة، حينما كانت السلطة السياسية تشم رائحة الخيانة والتسلل الشيوعي في كل مكان، وكان لابد في تلك الأجواء المشوبة بالتوتر والقلق وانعدام الثقة، أن تكثر الوشايات ويسقط الكثير من الضحايا الأبرياء أو يدفع الكثيرون ثمنا باهظا لغير ذنب ارتكبوه. وكانت جزيرة "فورموزا" التي أصبحت "تايوان"، قد أصبحت محورا لنزاع سياسي لايزال قائما حتى اليوم، منذ أن لجأ إليها الزعيم الصيني القومي تشانج كاي تشيك بعد خلافه مع حلفائه الشيوعيين بزعامة ماوتسي تونج وبعد انتصار الشيوعيين وسيطرتهم على السلطة عام 1949، ثم ما أعقب ذلك من إعلان الأمريكيين ضمانهم لنظام تايوان (الرأسمالية) ولبقائها بعيدة عن خطر الزحف الأحمر، مع استمرار الصين في التلويح بضرورة ضمها إليها باعتبارها كما تقول، جزءا لا يتجزأ من أراضيها.
وعلى العكس تماما من معظم الأفلام التي شاهدناها من قبل حول الصراع بين الصين وتايوان، خصوصا في تلك الفترة المشحونة من أوائل الخمسينيات، يدور فيلم "أمير الدموع" حول "القمع الأبيض" في مقابل "القمع الأحمر" المعهود. فنحن هنا أمام تصفيات تقوم بها أجهزة الأمن في تايوان (الديمقراطية) ضد كل من تتصور أنه قد يكون لديه أي نوع من التعاطف مع نظام بكين، بل وتستخدم هذه الذريعة، من أجل تصفية حسابات شخصية.
محور الفيلم قصة حب بين طيار شاب مخلص لبلاده، وزوجته الحسناء المخلصة التي تربي ابنتيه.
لكن هناك من يحيك لهما المؤامرات هو صديق الزوج ورفيقه في الماضي الذي أصبح الآن عميلا للشرطة السرية، والذي يرغب في الاستيلاء على قلب الزوجة، لذا فإنه يدبر مؤامرة تبعد الزوج لكي يتم إعدامه رميا بالرصاص، وتبعد أيضا الزوجة لبعض الوقت إلى السجن لكي يبدو الأمر مقنعا، إلى أن يتم اخراجها لكي يتزوجها الصديق الواشي (الذي سقا الخمر بيديه لصديقه قبل إعدامه مباشرة).

الذريعة هنا أن الزوج الطيار عاد إلى منطقة يسيطر عليها الشيوعيون في الصين لأنه جاسوس، بينما الحقيقة أنه اضطر للعودة لانقاذ ابنته الكبرى.
الأم تتنكر في لحظة ما لابنتها لأنها السبب في اعدام الأب، والإبنة لا يمكنها أن تغفر للأم أن صديق العائلة، تخلص من والدها رغبة في الاستيلاء على الأم، بل والأم أيضا توافق وتقرر العيش معه.. أي مأساة!
إنه فيلم عن الصداقة والحب والخيانة والتآمر، وعن الجنرال الذي يملك قلب شاعر، وزوجته الحسناء التي تقع ضحية لتناقضاتها بين الرغبة في امتلاك الأشياء الثمينة وتذوق طعم الأشياء، وقناعاتها بالوقوف مع النظام الجديد في الصين الأم.. النظام الذي يتحدث باسم الفقراء والمطحونين، وعن التضحية الكبرى عندما تكون مطلوبة من أجل النجاة في زمن الموت الذي قد يأتي بدون ميعاد ولا مبرر، أو التجويع والتشريد لأصغر الأسباب.
أسلوب إخراج موضوع من هذا النوع يغري بالوقوع في التبسيط واتخاذ موقف أحادي هنا أو هناك، كما يغوي بالوقوع في الميلودراما الأخلاقية المباشرة.
أما الفيلم الذي شاهدناه، فينجح مخرجه يونفان بعبقرية، في تقديم عمل يفيض بالمشاعر دون أن يصبح ميلودراميا عالي النبرة، يبتز المشاعر بدون حساب، كما يفلت من توجيه الإدانة أو الشطب على شخصية لحساب أخرى.
إن كل شخصياته تبدو ضحايا تلك الفترة بأحداثها الصاخبة، ضحايا الصراع السياسي الذي لا أخلاق له ورغم أن هناك من يدفع الثمن بشكل مباشر إلا أن الجميع يدفعون، على نحو أو آخر.
وأسلوب الإخراج ينجح تماما في التحرر من الحبكة التقليدية، ويترك لنفسه العنان في التحليق بالموضوع فوق الماضي والحاضر، والانتقال من العالم الصغير، إلى العالم الكبير، كما يجيد استخدام الرمز الكامن في قصة "أمير الدموع" التي تروى في احدى كتب الأطفال المصورة، عن ذلك الأمير الذي جمدت دموعه وتحول هو نفسه إلى تمثال من الجماد احتجاجا على الشر المحيط به في العالم.
هذه الفكرة الرومانسية هي التي تغلف الفيلم وتروى من وجهات نظر مختلفة، وتتخذ أيضا طابعا فلسفيا إنسانيا عندما ترويها زوجة الجنرال قبل أن تقرر العودة إلى الصين الأم.
هناك دفء كبير يربط أيضا بين الشخصيات النسائية في هذا الفيلم على نحو لم يسبق أن شاهدناه في أي فيلم صيني، وهناك وجود قوي ومؤثر للأطفال، مع تمتع الفيلم بطاقم شديد الموهبة من الممثلين والممثلات.
إنه سباحة في التيار العكسي لفيلم "العيش" لجانج ييمو الشهير الذي كان يروي مأساة أسرة في زمن "القمع الأحمر". وهو أيضا مثله يستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية يكشف عنها الستار في نهايته عندما يشير إلى مصائرها التي امتدت طويلا. ورغم أنه يعتبر فيلما سياسيا إلا أنه مصنوع لكي يلقى قبولا لدى الجمهور العام في اطار موضوعه الانساني.
وهو أخيرا، درس في الاستفادة من ذكريات الطفولة، مما حدث في الواقع، لتقديم "رؤية" خاصة شديدة السحر والجمال.. أليس هذا هو جوهر السينما كفن!

الأحد، 6 سبتمبر 2009

أفلام من مهرجان فينيسيا


* باريا (أو باغيريا) Barria:
الفيلم الذي استثمر فيه الإيطاليون (من إنتاج شركة يملكها ابن رئيس الحكومة بيرلسكوني) 35 مليون دولار واعتبر أضخم إنتاج في تاريخ السينما الإيطالية، يعكس محاولة للعودة بهذه السينما إلى عصرها الذهبي عندما كانت تنتج الأفلام التاريخية المبهرة التي تدور في ديكورات ضخمة، وتستخدم مئات من الممثلين الثانويين (الكومبارس) الذين تجاوز عددهم في هذا الفيلم ألف ممثل ثانوي، وشيدت للفيلم ديكورات لقرية في ريف صقلية أهمها بالطبع الشارع الرئيسي بمبانيه التاريخية، وبنيت الديكورات في تونس حيث دار التصوير الخارجي في معظمه.
فيلم "باريا" بعكس أيضا رغبة مخرجه عاشق السينما الكبير جيوسيبي تورناتوري، في صنع "ملحمة" عن البشر وعلاقتهم بالمكان، عن الزمن، وكيف ينعكس على العلاقات وعلى البشر، عن العلاقة بين الأجيال وكيف تنتقل الأفكار وتكبر، وكيف تحبط وتصاب بالهزيمة دون أن يكف الإنسان أبدا عن التطلع إلى المستقبل، إلى الأفضل.
بطل الفيلم طفل يكبر يصبح شابا ثم رجلا ينجب عدة أطفال، وهو ينشأ في عائلة فقيرة تنتمي سياسيا إلى اليسار الشيوعي تحديدا، ويصبح من قيادات الحزب في البلدة، ويمر بفترة من التشكك أحيانا، عندما يعجز عن تقديم حل لمشاكل العمال، وبعد أن يعود من زيارة إلى موسكو، ويقول لرفيقه إنه رأى هناك أشياء سيئة مخجلة. وربما يكون هذا كما يرى بعض النقاد الإيطاليين، السبب في حماس بيرلسكوني تحديدا للفيلم، أي الجانب الذي يوجه انتقادات واضحة للتجربة الاشتراكية أو لقدرات الحزب الشيوعي.
والفيلم باختصار يروي قصة تلك الأسرة، التي محورها ذلك الشاب، ويطمح إلى تقديم صورة مكثفة في فصول متعاقبة لإيطاليا المعاصرة من خلال خصوصية تلك البلدة وأناسها، من الحقبة الفاشية إلى عصرنا الحالي، مع مزج الموضوع بقصة حب مغرقة في الرومانسية.
ولاشك أن في الفيلم الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالسيرة الذاتية لتورناتوري نفسه، الذي يبدو وهو يطرق دروبا يعرفها جيدا، ويصور اناسا خبرهم وعاش بينهم.
الصورة السينمائية للفيلم على أروع مستوى ممكن، واستخدام حركة الكاميرا للربط طيلة الوقت، بين الشخصيات والمكان، ناجحة خاصة في استخدام مدير التصوير للرافعة "الكرين"، في المشاهد الضخمة التي تستخدم فيها المجاميع. وموسيقى العبقري إنيو موريكوني (الذي يجب أن نفخر بأننا نعيش في عصره) موسيقى تعبيرية تتدرج من الطابع الشعبي (الفولك) إلى الكلاسيكية، وتتميز بنغماته الخاصة المكتوبة للناي أو الكلارنيت ثم البيانو والتشيللو.
غير أن ما يعيب الفيلم الاستطرادات الكثيرة، وهبوط الإيقاع خاصة في الثلث الأخير من الفيلم حيث تفلت الحبكة من بين يدي المخرج فلا تفهم تحديدا أين يتجه لأنه يفشل في الوصول بفيلمه إلى ذروته الطبيعية.
ومن عيوب الفيلم أيضا تعدد الشخصيات بطريقة محيرة ومربكة أحيانا، والجرعة السياسية الزائدة كثيرا عن حاجة الفيلم، وعبوره على بعض الأحداث عبورا سريعا في حين أنه يتوقف أمام غيرها طويلا بلا مبرر.
وكان مستغربا بالفعل أن كل هذه اللقطات والمشاهد الجميلة تجعل مخرجا كبيرا بحجم موهبة تورناتوري (صاحب سينما باراديزو، ومكتشف المواهب) يسقط في حبائلها بحيث جعلته يعجز عن التوقف والقطع والانتقال من مشهد إلى آخر في الوقت المناسب، بل واستبعاد الكثير من المشاهد والشخصيات الزائدة واختصار الفيلم إلى زمنه الطبيعي الذي لا يتجاوز الساعتين (في حين أنه جاء في ساعتين ونصف تماما).

* الطريق The Road
توقعنا الكثير من فيلم "الطريق" المأخوذ عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه للكاتب كورماك مكارثي تدور في المستقبل (الأمريكي تحديدا) حيث ينتهي العالم ربما بعد ضربة نووية، ويرتد الإنسان إلى الهمجية الأولى وإلى أكل بعضه بعضا.. بشكل حرفي أي تصبح هناك جماعات من أكلة اللحم البشري، وتنتشر الفوضى والخراب في الأرض، ويبحث الذين بقوا على قيد الحياة (ولم يؤكلوا بعد!) عن أي مصدر غذائي للبقاء على قيد الحياة.
المخرج الاسترالي جون هيلكوت Hillcoat تناول الموضوع بشكل تجريدي بغرض توصيل فكرة فلسفية عن التماسك الإنساني والحب بين رجل وابنه، رغم كل مظاهر الانهيار والتدهور والتفكك. إنه يبدأ بتعليم ابنه اطلاق النار من بندقية لا للدفاع عن النفس بل لكي يتمكن كلاهما من قتل بعضهما البعض عند الضرورة، وفي أحد المشاهد عندما يحاصر مجموعة من آكلي اللحم البشري الاثنين ويوشكوا على اللحاق بالإبن للفتك به وابتلاعه، ويكاد الأب أن يقتل ابنه بالفعل إلا أنه يتراجع تحت تأثير عاطفة الأبوة، لكي يواصل الإثنان معا رحلة الهروب. ولكن إلى أين؟
يتحول الفيلم بعد ذلك إلى أحد أفلام الطريق، ولكن في شكل رحلة كابوسية في عالم لم يعد قائما، يلتقيان خلالها ببشر لم يعودوا بشرا، وبضحايا لم يعد هناك أمل في إنقاذهم، بل إن رحلة الهروب نفسها تبدو عبثية، بعد أن تخلت الزوجة الحسناء (تشارليز ثيرون) عن الأسرة هربا من المصير البشع وحتى لا تضطر لقتل ابنها. ويلقى الأب مصيره بالموت، فيما تتبنى أسرة هاربة من الكارثة الإبن لينضم إليها في رحلة الهروب إلى الأمام.. لعلها تعثر على منفذ للنجاة.
المشكلة أن الفيلم يبدو خاويا، لا تطور كبير في أحداثه، والحبكة تعاني من فراغ وتكرار، بعد البداية القوية، لا نرى سوى تكرار لنفس الفكرة، واستطرادات تغذيها دون أن تضيف جديدا إليها، مع تهاوي الإيقاع العام للفيلم، وفقدانه أي قدرة على إثارة الاهتمام. ويبدو أن المشكلة الأساسية تنحصر في السيناريو الذي فشل في تقديم معادل سينمائي قوي يتمتع بالقدرة على التدفق والجاذبية، ربما أيضا بسبب القتامة الشديدة في الموضوع.

* "الحياة في زمن الحرب" Life During Wartime
فيلم أمريكي آخر من أفلام المسابقة (التي بلغت الآن 7 أفلام بعد عرض مفاجأة هيرتزوج!).
هذا الفيلم الذي أخرجه تود سولوندز، بدا أيضا أنه ضل طريقه إلى مسابقة فينيسيا، فهو يحاول التفلسف حول فكرة الغفران والسماح في مقابل النسيان ربما دون غفران، وأيهما أفضل، وهل من الممكن أن ينسى المرء دون أن يغفر لأن في هذا حلا أفضل بالنسبة لكل الأطراف، أم يغفر (ذلك الغفران المسيحي الموصى عليه في الكتاب المقدس) دون أن ينسى، وما فائدة الغفران في مثل هذه الحالة إذن إذا كنا سنظل نحمل في داخلنا ضد هذا أو ذاك أي دون أن ننسى ونسامح.
علاقات متفسخة بين ثنائيات، وعلاقات أخرى تنشأ على أمل إصلاح ما فسد في الماضي، لكنها مهددة بشبح الماضي نفسه.
شخصيات غير سوية في معظمها، منها من يعاني من الميل إلى الجنسية المثلية، ومنها من سبقت إدانته بالاعتداء على الأطفال، ومنها من فشلت في العثور على السعادة مع زوجها الذي أنجبت منه لكنها وجدت أنه لم يكن "رجلا بما فيه الكفاية" وتتخيل الآن أنها عثرت على الرجل الذي يثير كل مشاعرها بلمسة واحدة منه.
هذا الموضوع "الأدبي" أيضا يعالجه سولوندز بطريقته التي تعجب البعض، أي من خلال الحوارات الطويلة الساخرة، والمشاهد المسرحية الجامدة، إلا أنه يمزج فيما بينها، ويجعل شخصياتها تتداخل وتتقاطع، باعتبارها شخصيات متصلة ببعضها، باستثناء شخصية امرأة متقدمة في العمر (شارلوت رامبلنج بعد أن فقدت أنوثتها الطاغية القديمة!) تصطاد رجلا في أحد البارات، يتصادف أنه عاشق الأطفال الذي خرج لتوه من السجن، ويريد العودة إلى أسرته لكنه لا يعرف كيف، لكي تقضي معه ليلة من الجنس المرهق، تنتهي بمحاولته أن يستولي من حقيبة يدها على مبلغ من المال، فتضبطه متلبسا لكنها بدلا من أن تنهره، تمنحه كل ما معها من مال، وتقول له إن الذي يطلب الشفقة هو الوحيد الجدير بعدم السماح.
الكوميديا في الفيلم تنبع من خلال الحوار الطريف والتعليقات الساخرة وليس من خلال المواقف والأحداث، والأداء التمثيلي مسرحي نمطي في معظمه، باستثناء أداء الممثل الأيرلندي شياران هندز (في دور اللواطي المغرم بالأطفال) وشارلوت رامبلنج في أكثر أدوارها توحشا وعنفا بدون أي عنف!
هذا الفيلم الذي يعد استمرارا لفيلم "سعادة" Happiness للمخرج نفسه، يعاني أيضا من ثقل الإيقاع، ومن المبالغات في رسم بعض الشخصيات، ولكن هذا النوع من الدراما يبدو قريبا من جمهور الطبقة الوسطى الأمريكية، ويناسب ذوق واهتمامات تلك الشريحة العريضة من الجمهور التي تدمن على مشاهدة التليفزيون، ولذلك فمكانه الطبيعي أن يستقر في المحطات التليفزيونية.

السبت، 5 سبتمبر 2009

مفاجأة "الفيلم المفاجأة" في فينيسيا

أصبح حديث الساعة في جزيرة ليدو حيث تجري أحداث الدورة السادسة والستين من مهرجان فينيسيا السينمائي ما يسمى بـ"الفيلم المفاجأة".
هذه البدعة التي يهواها مدير المهرجان ماركو موللر، شملت 4 أفلام، أعلن عن اثنين منها رسميا قبل بدء المهرجان (وانتفت بالتالي فكرة المفاجأة منهما)، وظل هناك اثنان أهمهما بالطبع هو الفيلم المدرج في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة الذي يجعل عدد أفلام المسابقة 24 فيلما في سابقة غير مسبوقة خلال العقدين الأخيرين (أقصد من حيث عدد أفلام المسابقة).
أما ما حدث واعتبر أيضا أمرا غير مسبوق، ليس فقط في تاريخ مهرجان فينيسيا السينمائي كما اعترفت إدارته في بيان وزع اليوم على الصحفيين، بل وفي تاريخ مهرجانات السينما في العالم على حد معرفة كاتب هذه السطور.
الفيلم المفاجأة في المسابقة عرض ضمن عروض الصحافة الدولية مساء أمس وظل عنوانه مجهولا حتى آخر لحظة على العكس من العام الماضي الذي عرفنا فيه اسم الفيلم قبل بدء عرضه بعد أن تسرب عمدا على الأغلب.
وجاء الفيلم المفاجأة.. مفاجأة غير سارة على الإطلاق فهو فيلم "يابني.. يابني.. ماذا فعلت؟" My Son.. My Son.. What Have You Done للمخرج الألماني الشهير من جيل السبعينيات في السينما الألمانية فيرنر هيتزوج، وإن كان فيلمه من الإنتاج الأمريكي ويدور على أرضية أمريكية وناطق باللغة الانجليزية.
غير أن الأمر المثير للاستهجان والاستياء بل والتساؤل عن "الموضوعية" و"المصداقية" أيضا هو: كيف يمكن تبرير عرض فيلمين لنفس المخرج في المسابقة الرسمية؟ فهناك فيلم آخر لهيرتزوج يتنافس على الأسد الذهبي والفضي وغير ذلك من جوائز، هو فيلم "اللفيتنانت السيء" أو من الأفضل أن نطلق عليه بوضوح "الضابط السيء: مرفأ نيو أورليانز" The Bad Leiutenant: New Orleans
وليت الأمر انجلى في النهاية عن فيلم يمكن قبوله باعتباره عملا غير مسبوق، أي "تحفة" من تحف السينما العالمية، بل تمخض الأمر بأسره عن فيلم شديد الضعف والهزال، مثير للملل بل وللاستنكار أيضا.
الفكرة التي ينطلق منها هذا الفيلم فكرة نظرية تماما، ربما يمكن أن تصنع عملا "إذاعيا" مثيرا للاهتمام في نصف ساعة أو نحو ذلك، أما في السينما فالأمر يتطلب سياقا للسرد يمكنه أن يجذب المتفرج من أول لحظة ويدخله مباشرة إلى العالم الذاتي للشخصية الرئيسية.
لكننا هنا أمام فكرة تقوم على أن العالم سيء ومليء بالشرور (وهذا ليس جديدا) وأن الإنسان الأكثر حساسية يمكن أن يقع ضحية لمشاعره وأحاسيسه المرهفة وقد ينتهي أيضا إلى ارتكاب جريمة تبدو بشعة وتجعله يبدو كوحش في عيون الرأي العام، إلا أنه في الحقيقة، ضحية هذا التدهور المحيط بالعالم، وقد ارتكب جريمته ليس رغبة في ابداء الشر بل في اطار نوع من "التكفير" أو تقديم "القربان" ربما.
ويجب أولا أن أؤكد لقراء هذا المقال من الشباب المحب للسينما، أن التذرع، كما يفعل هذا الفيلم في مقدمته، بأن أحداث الفيلم مبنية على حادثة حقيقية، لا يجب أن يرهبنا أو يجعلنا نسلم بالضرورة بخطورة الفيلم وأهميته، فلا يكفي أن تكون الأحداث قد وقعت في الواقع، بل الأهم أن تبدو مقنعة وأنت تجسدها في السينما، بل ويجب أن يكون تجسيدها أيضا، كما أشرت، يتمتع بالجاذبية والرونق والسحر الداخلي والجمال.
أما في فيلم هيرتزوج الذي تروق له كثيرا فكرة العلاقة بين الإنسان والعالم وكيف يمكن أن يؤدي التدهور الحاصل في العالم إلى تدهور في سلوكيات الانسان الفرد "النقي" "المعذب" "الأكثر حساسية"، فإننا لا نرى نجاحا في تجسيد الفكرة والأحداث.
إننا أمام رجل يدعى "براد" (يقوم بالدور مايكل شانون) وهو ممثل مسرحي يؤدي دورا رئيسيا في احدى التراجيديات الاغريقية لسوفوكليس، لكنه يصل في تقمصه إلى درجة خطيرة تجعله ينتهي إلى القتل بالسيف.
ويبدأ الفيلم والشرطة تحاصر بيت براد الذي تحصن داخله مهددا بقتل رهينتين معه. ونعود في مشاهد "فلاش باك" طويلة ومملة ومليئة بالثرثرة اللفظية واللقطات الطويلة المتوسطة، إلى علاقة براد بالمسرح وبالمخرج وبصديقة له (الاثنان حضرا بناء على طلب الشرطة للمساعدة في "تشخيص" حالة براد مع ضابط الشرطة "وليم دافو") ثم نرى مشاهد طويلة أخرى تدور بين براد وأمه التي تحبه ويحبها هو كثيرا جدا مما يستبعد وجود اي دافع لقتلها.. إلى أن نصل إلى لحظة الجنون التي تجعله يقتلها بالسيف دون أن نشاهد فعل القتل.
الفيلم من البداية يعلن مسبقا عن موضوعه وعن نهايته لذا فليس من المتوقع على الاطلاق أن فيلما بهذا الشكل سيجعل أي جمهور يقبل على مشاهدته خاصة وأن مخرجه يقدمه باعتباره فيلما من أفلام الرعب، ويقول إنه مع ذلك "يخلو من الدماء".
أسلوب الفلاش باك المتكرر بطول الفيلم ممل ولا يثري الفيلم بل يزيد كما ذكرت من جرعة الملل بسبب بطء الإيقاع والاعتماد على الحوارات المكثفة أمام الكاميرا وكأنك تشاهد برنامجا تلفيزيونيا لتشريح حالة مريض نفسي (بسبب ولعه بالمسرح هنا، ونفوره مما يحدث في العالم من نفاق وتدهور وغش!).
لكن يبدو أن هيرتزوج الذي لم يكن يكاد يجد عملا في السينما في بلاده أصبح فجأة من المرغوب فيهم بشدة (لأسباب أجهلها) في السينما الأمريكية.. وقد أخرج فيلمين في العام الجاري وحده هما اللذان يعرضان في فينسيا، وقد منح فرصة اعادة إخراج فيلم سبق إنتاجه وحقق من النجاح ما حققه هو فيلم "الضابط السيء".
وكنت قد شاهدت "الطبعة" الأولى من هذا الفيلم عند عرضه في مهرجان كان عام 1992 من إخراج أبيل فيرارا، وكان يقوم بدور البطولة فيه الممثل الكبير هارفي كايتل.
أما في الطبعة الهيرتزوجية (نسبة إلى هيرتزوج) فيقوم بدور ضابط الشرطة المنحرف الممثل نيكولاس كايج بدون أي نجاح يذكر. وإذا قارنا أداءه بأداء كايتل لبدا كايتل شخصية من لحم ودم ومشاعر أما كايج فهو مثل "روبوت" مفتعل يتحرك في تهالك وتكاسل ويؤدي بطريقة روتينية وبدون حرارة أو صدق.
الموضوع بالطبع قد يكون معروفا لهواة هذا النوع من افلام الصدمة الأمريكية (الصدمة بمعنى الإغراق في العنف والجنس أو بالأحرى الانحرافات الجنسية) وهو يدور حول ضابط يجد كل ما حوله فاقدا للمعنى، يعيش حياة شاردا كالكلب الأجرب، منبوذا لا أسرة له ولا مستقبل، الفساد داخل قسم الشرطة الذي يعمل به بلغ القمة، ولكن يتم التستر عليه بطريقة أو بأخرى، وهو على علاقة بعاهرة تبيع جسدها للأثرياء، وقد أدمن معها تعاطي الكوكايين، وهو على استعداد لارتكاب أي مخالفات من أجل الحصول عليه: السرقة والتهديد والابتزاز، ويتعقب ضحاياه من الشباب لتهديدهم ثم يستولي على ما معهم من مخدرات. لكنه يقع في مأزق تلو آخر، وينجو بأعجوبة من القتل لكي يقوم بتصفية خصومه من المجرمين في العالم السفلي، ثم ينال في النهاية ترقية من رؤسائه الذين يعتبرونه قد نجح في القضاء على عصابة من الأشقياء والمجرمين!
ويبدو البطل/ اللابطل في نهاية الفيلم وقد أصبح وحيدا أكثر عن ذي قبل، وربما يعود ليكرر أفعاله ولا ندري ماذا يمكن أن يحدث له!
لاشك أن فيلم فيرارا كان أكثر جرأة وحيوية في الايقاع والأحداث، أما هنا فنحن أمام مجموعة من "الكليشيهات" أو القوالب النمطية المعروفة والمألوفة الشائعة في الأفلام البوليسية. وإن كانت العلاقة بين الضابط ووالده من ناحية، والضابط وصديقته العاهرة، مرسومة بشكل أكثر حساسية.
وليس هناك في أسلوب الإخراج ما يوحي بنجاح هيرتزوج في تجاوز ما قدمه فيرارا في فيلمه، بل لقد قام أيضا باستبعاد بعض المشاهد التي ميزت الفيلم السابق ربما رغبة في الوصول إلى قطاعات أكبر من الجمهور.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger